في منتصف السبعينيات، أنشئت ضاحية الحسين كأول إسكان في الأردن، وتأسست معها جمعية تعاونية بعضوية ممثلين عن مئات العائلات التي تقطنها، بهدف إدارة وتأمين الخدمات لسكان الضاحية البعيدة عن التجمعات السكانية آنذاك. وعبر عقود تلت، تحولت الضاحية إلى بؤرة سكانية مطلة على شارع مكة الشرياني، وتوسعت لتتصل بالمناطق المجاورة لها في الرابية والشميساني.
قبل 50 عامًا، كانت الضاحية عبارة عن «قرية صغيرة بعيدة عن عمان»، كما يصفها طاهر ملحس الذي يسكنها منذ إنشائها. ولم تكن مخدومة بالمواصلات العامة، «يعني كان إذا بتصير الساعة ستة المسا، وزائر في الضاحية، معناته انقطع ما في ترويحة». قلة من سكانها كانوا يملكون سيارات، فيقلون معهم من لا يملكونها من أهالي الحي. وكان شارع مكة في ذلك الوقت عبارة عن طريق ضيق لا يتسع عرضه لمرور سيارتين في آن.
يبدو أن مهندسي المؤسسة العامة للإسكان وقتها استشرفوا الزيادة السكانية وكثافة السيارات التي تعاني منها عمان اليوم، فخططوا مشروع الضاحية، الذي نفذته شركة زياد منكو، بحيث تكون شوارعها عريضة (14 مترًا) تدور حول الضاحية في اتجاهين، ويزيد عرض الشارع أمام البنايات لتوفير مصفات للسيارات. ولحماية الحي السكني من الازدحامات المرورية، لا يمكن للسيارات دخول الضاحية سوى من شارع يتفرع من شارع مكة باتجاهين، وممر صغير باتجاه واحد، ومخرج، يتصلان بالأحياء السكنية المحيطة بالضاحية.
خلال أربع سنوات (1969- 1973) تم إنشاء المرحلتين الأولى والثانية من المشروع، وشملتا 59 بنايةً بارتفاع ثلاثة طوابق، وأجريت قرعة لاختيار المستفيدين من موظفي القطاع العام في العام 1974.
تراوحت أثمان الشقق في حينها بين 2800 دينار و4000 دينار، بحسب نماذج الشقق التي قُسّمت إلى أ، ب، ج. سدد الموظفون المستفيدون، وهم من فئات الدخل الأدنى والمتوسط في القطاع الحكومي (وتراوحت رواتبهم الشهرية في ذلك الوقت بين 30 دينارًا و90 دينارًا)، هذه الأثمان من خلال أقساط شهرية تراوحت بين 10 دنانير و30 دينارًا، حسب رواتبهم الشهرية.
خريطة ضاحية الحسين في عمّان. تصميم ندى جفّال.
جاءت فكرة إنشاء أول مشروع إسكاني جماعي في الأردن بعد أن كانت المؤسسة العامة للإسكان تقدم للموظفين قروضًا فردية حدها الأعلى خمسة آلاف دينار، «وقسم كبير منهم كان يأخذ المبلغ بحجة البناء أو تكملة البناء الداخلي لتذهب هذه القروض في غير محلها»، حسبما كتب الباحث والمؤرخ فواز خميس الشوا، وكان موظفًا في المؤسسة العامة للإسكان حين أنشئت الضاحية.
توسعت الضاحية بتخصيص قطعة أرض لإنشاء مسجد بر الوالدين من تبرعات أفراد، ولاحقًا تم إنشاء حضانة ومركز صحي في الطابق الأول من المسجد، أيضًا بمبادرات فردية من سكان الضاحية. وألحق بالمشروع ثلاث بنايات مؤلفة من ثمانية طوابق في العامين 1981 و1982، وتم تخصيصها لوزارة الخارجية من أجل تأجيرها لموظفيها الذين يتطلب عملهم السفر المتكرر. وأجّرت المؤسسة طابقين من إحدى بنايات الضاحية لوزارة الصحة لإنشاء مركز صحي وأجرت شقة من نفس البناية لإنشاء مركز بريد.
وفي حين لم يكن في محيط الضاحية أي نشاطات تجارية، بادر السكان بتأسيس جمعية تعاونية، استأجرت من المؤسسة طابقًا من بناية الخدمات الصحية والبريد لغايات إنشاء سوق تجاري تديره الجمعية ويلبي احتياجات أهالي الحي، وفقًا لمدير إدارة الدراسات والتصميم والعطاءات في المؤسسة العامة للإسكان والتطوير الحضري.
بعد نحو عقدين من إنشاء الضاحية، تحولت المساحة المشجرة في وسطها إلى منطقة مهملة تصطف على حوافها السيارات، فارتأت أمانة عمان في عام 1992، وبإشعار من نائب الأمين في حينها، عامر البشير -الذي سكن المنطقة في فترة سابقة- تحويل المساحة إلى حديقة ضاحية الحسين. وما زالت الحديقة تحتفظ بالأشجار البرية التي كانت من قبل، كما تقول رئيسة قسم العمارة في المؤسسة العامة للإسكان والتطوير الحضري، المهندسة هند إسحاقات.
بذلك أنجز أول إسكان حضري في الأردن، بمواصفات جودة لم تضاهيها أي من الإسكانات العامة التي أنشئت في الأردن حتى اليوم، بحسب إسحاقات. وتوضح معايير الجودة التي توفرت في تنوع تصاميم ومساحات شقق الضاحية، وعددها اليوم 476 شقة، ابتداءًا من 84 مترًا مربعًا (غرفتي نوم)، ولغاية 164 مترًا مربعًا (ثلاث غرف نوم). وتشغل المساحة السكنية النسبة الأكبر من المساحة الإجمالية للضاحية، البالغة نحو 95 دونمًا، تتوزع حسب الاستخدام كما في الشكل التالي.
تصميم ندى جفّال.
هذه النسب تراها المهندسة إسحاقات، «مثالية» للمساحات الخضراء والفارغة من البناء، ونادرًا ما تتوفر في مناطق أخرى. وهي أفضل من التي صممتها المؤسسة لاحقًا، بسبب ارتفاع أسعار الأراضي وعدم توفر الأراضي المملوكة للحكومة داخل عمان وزيادة عدد السكان.
في أحياء عمان الأخرى تكون مساحة البناء أكبر من المساحات غير المبنية والكثافة السكانية عالية في مساحات صغيرة، ومساحات البنايات متقاربة ومقيدة بمساحات ارتداد معينة وبالتالي تكون متشابهة فيصبح هناك تكرار ملل، ويصبح مجال الابتكار والإبداع كشكل معماري ضيّق جدًا. «لو كان لدينا فراغات وتصميم حضري أفضل لكان تصميم الأحياء أنجح والسكان مرتاحين وتعاملهم أفضل مع الحي ومع السكان الآخرين».
الفكرة كانت جديدة على المجتمع الأردني، تقول إسحاقات، لأن السائد كان أن تبني العائلة بيتها ويعمر الأب شققًا فوق منزله لأبنائه عندما يتزوجون. فكرة العمارة المشتركة بين عائلات مختلفة كانت غريبة عن المجتمع. لكن بالتصميم المناسب أصبحت الفكرة مقبولة، كان الموظفون يأتون من المحافظات للسكن في الضاحية بالقرب من عملهم.
تصميم يشجع التشاركية
ساعد تصميم الضاحية في تطوير علاقات تشاركية بين سكان كل بناية تسكنها ست عائلات، تتشارك في حديقة محاطة بسياج، إذ لم يكن يسمح ببناء أسوار، يعتني بها سكان الطابق الأرضي. وهناك، مثلًا، سبع بنايات تتشارك مساحةً خضراء ومصفًا للسيارات. وتشارك سكان الضاحية بغرف «بويلرات» (مراجل) كبيرة تمتد منها أنابيب تصل إلى الشقق لتدفئتها في ساعات معينة صباحًا ومساءً. ولإدارة هذه الخدمة وخدمات مشتركة أخرى، اتفق سكان الضاحية على تأسيس جمعية ضاحية الحسين التعاونية. كانت كل عائلة تدفع قسطًا شهريًا موحدًا للجمعية، لقاء خدمات توفير السولار وصيانة البويلرات. وعندما ارتفع سعر السولار طالب غالبية السكان بإلغاء هذه الخدمة.
ولأن قلة من سكان الضاحية كانوا يملكون سيارات ولم تكن المواصلات العامة تصل الضاحية بالمناطق الأخرى في ذلك الوقت، تولت الجمعية تأمين احتياجات السكان من خلال إنشاء بقالة وملحمة ومغسلة ملابس وحلاق رجال، في الطابق الأول من مبنى المركز الصحي والبريد، الذي استأجرته الجمعية من المؤسسة العامة للإسكان. وكممثل لسكان الضاحية، نسقت الجمعية مع الجهات الرسمية لتأمين باصين وثلاث سيارات سرفيس، ثم ارتفع العدد إلى 10، ولتحويل ممري الضاحية، المدخل والمخرج، من شارعين باتجاهين إلى اتجاه واحد. وتابعت الجمعية صيانة وتطوير الحديقة.ظاهر ملحس، من سكان الضاحية الأوائل وأحد مؤسسي الجمعية، كان رئيس لجنة مراقبة البضائع، يراقب تواريخ انتهاء صلاحيتها وثبات أسعارها، وما زال عضوًا فيها، يروي كيف تطورت الجمعية وكيف تراجعت.
زقاق بين المباني السكنية في الضاحية، تصوير يزن ملحم.
سُجلت الجمعية عام 1975 كتعاونية تديرها هيئة إدارية تُنتخب كل سنتين، ووصل عدد الأعضاء إلى 300 عضو، يمثلون نحو 500 عائلة. وكانت الأرباح التي يحققها النشاط التجاري للجمعية توزع على الأعضاء حسب عدد الأسهم (سعر السهم دينارًا واحدًا)، ويحصل المشترون من الأعضاء على أرباح بنسبة معينة من قيمة مشترياتهم في نهاية السنة.
استمرت وتيرة نشاطات الجمعية لعقدين، ثم بدأت تقل تدريجيًا نتيجة تغيرات اقتصادية وسكانية طرأت خلال التسعينيات واستمرت إلى اليوم. بحلول عام 1995، انخفض عدد أعضاء الجمعية إلى 200 عضو، منهم من توفى ومنهم من باع منزله أو أجره ورحل خارج الضاحية. ولم تتمكن الجمعية من استقطاب القادمين الجدد؛ سواء كأعضاء أو كمشترين آثروا التسوق في المولات، وبالأخص السيفوي (1987) وكارفور (2007)، بعد أن أصبحت غالبية عائلات الضاحية تمتلك سيارات خاصة. «وضلوا الأعضاء يقلوا تدريجيًا، وبطّل حدا يشتري من الجمعية، حتى الأعضاء. وبطلت الجمعية تربح، وبلش حتى يصير عليها ديون لأنه ما في ربح بس مصاريف، الإيجارات والكهرباء ورواتب الموظفين ضلت زي ما هي».
فاجتمعت الهيئة العامة لجمعية الضاحية عام 2013، وقررت عرض عطاء تضمين البقالة والمغسلة ومحل الحلاقة، وفاز أحد المتقدمين بتضمين المحال الثلاثة. «هلأ الجمعية وضعها مأساوي ومستقبلها الله يستر، ممكن تتسكر، أعضاءها صاروا أقل من 60، وهدول شو بقدروا يعملوا. وصار الوضع أسوأ لما فتح كارفور في المنطقة [نهاية 2018]».
الجمعية التعاونية والمسجد في ضاحية الحسين، تصوير يزن ملحم.
يدير عبد الحليم حياصات حاليًا المشاريع التجارية الثلاث الخاصة بالجمعية منذ أن تضمنها والده عام 2013. كما واكبت الجمعية العديد من التحولات الديموغرافية والاقتصادية التي شهدتها الضاحية والبلد عمومًا، بما فيها أزمة جائحة كورونا والحجر وتبعاته الاقتصادية، وبقيت واستمرت في خدمة سكان الضاحية ومحيطها.
«أعضاء الجمعية تركوا لكن لهسا مقتنعين إنها إلهم، وما بشتروا إلّا من عنا. جمعية الضاحية إلها إسمها والناس بتثق فيها، وهذا اللي ساعدنا»، يقول حياصات، الذي يشير إلى أن والده أكدّه عليه منذ بداية الجائحة أن يبيع بأسعار منخفضة، حتى لو بخسارة.
لكن بقالة الجمعية لم تخسر في المحصلة، واستفادت من إغلاق المتاجر الكبيرة خلال الحجر، كغيرها من البقالات في الأردن. يوضح حياصات أن الجمعية في فترة الحجر كانت تبيع الأصناف الرئيسية من الخضار والفواكة بخسارة، لكنها عوضت خسائرها من خلال زبائنها الجدد القادمين من المناطق المحيطة بالضاحية والذين تجاوزت نسبتهم 50% من إجمالي زبائن البقالة، وأصبحوا زبائن دائمين بعد انتهاء الحجر.
ضاحية الحسين اليوم
قد تستمر تجربة الجمعية التعاونية بالتدهور أو الصعود مجددًا، متأثرةً بتحديات اقتصادية وتنظيمية من داخل وخارج الضاحية. وفي الأثناء، تظهر أشكال جديدة من التشاركية نتيجة التفاعل الإجتماعي المستمر بين السكان القدامى والقادمين الجدد في الضاحية. ففي حين كانت الجمعية تفقد أعضاءها من الجيل الأول في الضاحية، كانت مجموعات مختلطة من الجيل الثاني والقادمين الجدد يرتادون حديقة الضاحية وينظمون نشاطات اجتماعية ورياضية بشكل دوري.
في قلب الضاحية تنبسط الحديقة المكونة من ملعبين لكرة القدم والسلة/الطائرة، وساحة للدراجات والسكوترات، بالإضافة إلى مسار للمشاة والعدائين يلتف في كامل محيط الحديقة المقامة على مساحة تزيد عن 19 دونمًا، تتوسطها ساحات رملية فيها ألعاب أطفال، تجاورها مساحات خضراء مشجرة تتوزع على أطرافها مقاعد، بعضها مظلل ومحجوز دائما للمتقاعدين والمسنين من زوار الحديقة، وهم غالبا سكان الضاحية.
الحديقة العامة في ضاحية الحسين، تصوير يزن ملحم.
يرتاد الحديقة عدد من لاعبي كرة القدم والسلة المحترفين من سكان الضاحية وخارجها، يتدربون في ملاعبها ويدربون بشكل مجاني كل من يرغب من أطفال ويافعي الحديقة. مدرب كرة القدم، وأحيانا الطائرة والسلة والجمناستيك، والأشهر بين أطفال الحديقة هو «أبو إبراهيم».
عاد أحمد شهطور (56 عامًا) من الكويت وسكن الضاحية عام 1992. عمل سابقًا كلاعب ومدرب رياضي في كرة القدم والطائرة والسباحة منذ العام 1977. بعد عودته للأردن، عمل موظفًا في شركة وكان يرتاد الحديقة ليلًا للركض، ويرافق في صباح كل جمعة ابنه محمد (6 أعوام) ليلعب معه كرة القدم، فينضم أطفال آخرون للعبة. «وصرت لما ما آجي ما بلعبوا ولما يشوفوني يسألوني: عمو ما بدك تلعب وتعلمني حركاتك ولعبك؟ قلتلهم خلص بصير آجي كل جمعة الصبح وأدربكم. وكل أهل صاروا يبعتوا أولادهم عند أبو إبراهيم يدربهم. وهلأ في منهم كبروا وصاروا يلعبوا بأندية. لما بشوفهم بلعبوا بنبسط عليهم، لأني بحس إنه أولاد الضاحية أولادي، وبحب إنه يطلع من منطقتنا أولاد كويسين».
ومن رواد الحديقة الدائمين دورا (45 عامًا) وابنتيها التوأم نادين وسادين (14 عامًا)، إذ يسكنّ في منطقة قريبة من الضاحية ويذهبن لحديقتها منذ أربع سنوات. تواصل دورا المشي في مسارات الحديقة المخصصة لذلك، بينما تلعب نادين وسادين كرة القدم والسلة والتنس في ملعبي الحديقة. خلال العطلة المدرسية تمضي الفتيات 4- 5 ساعات يوميًا، تتدربان في الحديقة، وكذلك يومي الجمعة والسبت خلال الدوام المدرسي. «في العطلة وأكثر شي الجمعة بكون في كتير ناس بدها تلعب، واللي بيجي أول بحجز لفريق وكل ما يخسر فريق بدخل اللي بعده. كل واحد بلعب مباراته خسر وإلا ربح وما حدا بزعل، بس الصغار شوي بتطاوشوا لما يخسروا»، تقول نادين.
تشارك الفتاتان في بطولات السلة والريشة والتنس، التي تُنظم بين المدارس الحكومية. وفازتا بأربعة كؤوس ذهبية وعدد من الميداليات. «لو ما كانت الحديقة موجودة ما كنا عرفنا نلعب كل هاي الأشياء ونشارك في بطولات القدم والسلة. ملاعب الحديقة كتير منيحة، في المدرسة بس بنتدرب في حصص الرياضة في ساحة فيها غولين، مش زي المدارس الخاصة اللي فيها ملاعب وصالات رياضية».
ظاهر ملحس (69 عامًا) يعيش مع زوجته وأبنائه الأربعة في منزله في الضاحية منذ العام 1974، يصف التغيرات الاجتماعية في الضاحية. «كان كل اللي في الضاحية بنعرفهم وبعرفونا، وبعدين في الثمانينات بدت تكبر العائلات، وفي ناس تحسنت أحوالها واشترت برة وأجرت أو باعت بيتها، وبلش يصير الاختلاط».
«اليوم تغير الوضع كليًا في الضاحية، صار فيها اكتظاظ سكاني من كل المِلل. صارت أزمة العراقيين فإجانا عراقيين كتير، تركزوا في الضاحية والرابية اللي كانوا يقولوا عنها جمهورية عراقية، بس أكثرهم راحوا وطلعلهم على أوروبا وأميركا، وبعدين الأزمة السورية جابت سوريين والأزمة الليبية جابت ليبيين وفي يمنيين، ما هي عمان مستودع الأزمات».
جغرافيًا، توسعت منطقة الضاحية بالتمدد العمراني في محيطها وامتدت البنايات والإسكانات الجديدة، وتداخلت مع بنايات الضاحية التي بقيت متميزةً بتصميمها المعماري. كما أن عددًا من البنايات الكبيرة المحيطة بالضاحية هي عبارة عن مشاريع تجارية من شقق مفروشة للتأجير، استقطبت سكانًا من جنسيات مختلفة، مثل روسيا، الفلبين، الولايات المتحدة وبعض الدول الأوروبية. ومنها عائلات ترتاد الحديقة مع أطفالها.
المباني السكنية في ضاحية الحسين، تصوير يزن ملحم.
نشاط تجاريّ يقتطع جزءًا من الحي السكني
للوصول إلى ضاحية الحسين ننتقل فجأةً من صخب شارع مكة الشرياني في عمان، بما فيه من أزمات سير تولد توترًا عاليًا، وأدخنةً وزوامير متصاعدة، وفوضى المصطفين أمام محالّ تجارية استولت على أرصفة المشاة، إلى حي سكني هادئ نسبيًا، تغلب فيه المساحات الفارغة والخضراء على مساحة البناء، ويقتصر فيها النشاط التجاري على محالٍّ صغيرة توفر احتياجات أهالي الحي، وتتجمع في زوايا منفصلة عن البنايات السكنية.
لكن المدّ التجاري التهم سبعًا من بنايات الضاحية المطلة على شارع مكة، بعد أن تحول ترخيص استخدامها من سكنية إلى مكاتب تجارية، وتم بيعها بأسعار مرتفعة وصلت إلى 200 ألف للشقة الواحدة، مقارنة بأسعار شقق الضاحية الأخرى التي تتراوح اليوم بين 50 و80 ألف دينار. أربع من البنايات السبع تحولت طوابقها الأرضية إلى معارض للسيارات، استولت على أرصفة المشاة العريضة التي تميزت بها الضاحية، فعرضت عليها سياراتها، وأصبح المشاة يتزاحمون مع السيارات المارة في شارع مكة.
يرى مراد الكلالدة، مستشار التخطيط الحضري والأستاذ في كلية الهندسة بجامعة البلقاء التطبيقية، أن المشكلة بدأت منذ أن تحول شارع مكة إلى شارع شرياني ينفذ مباشرة إلى طريق محلي أو فرعي في ضاحية الحسين، بدل أن يتصل بشارع تجميعي يؤدي إلى شارع محلي. ويستذكر الكلالدة كيف كان شارع مكة طريقًا ترابيًا في بداية السبعينيات (عند إنشاء ضاحية الحسين).
راشد العجلوني (28 عامًا)، طالب إخراج سينمائي في برلين، عاش مراحل من طفولته في إحدى بنايات الضاحية الثلاث المخصصة لوزارة الخارجية لغاية عام 2009، وما زال والداه يعيشان فيها. في زيارته الأخيرة للضاحية عام 2019، رصد العجلوني التغيرات في الضاحية وأنتج مشروعه الجامعي، وهو فيلم عن ضاحية الحسين يعالج المسؤولية المشتركة بين السكان والحكومة حيال التغيرات التي طرأت على الضاحية نتيجة دخول النشاط التجاري.
في 2017 بدأت أمانة عمان بمنح تراخيص لمعارض السيارات في بنايات الضاحية المطلة على شارع مكة، «تحت ضغط أصحاب البنايات أنفسهم، لأن أسعار الأراضي ارتفعت بشكل كبير»، تقول المهندسة رهام بطاينة، نائبة مديرة دائرة التخطيط الشمولي في أمانة عمان.
وتوضح أن البنايات التي فيها معارض أخذت رخص مكاتب قديمًا قبل المخطط الشمولي، ولا يمكن سحب هذه الرخص. وبعد ذلك تحولت إلى معارض ضمن ترخيصها كمكاتب. ومع المخطط الشمولي في عام 2007، صنف شارع مكة كشارع شرياني وقامت الأمانة بتنظيم الشارع ابتداءً من تقاطعه مع شارع الملك عبدالله الثاني ولغاية تقاطعه مع شارع وادي صقرة، وتم تصنيفه إلى ثلاث مناطق، الأولى تجارية سمح فيها ارتفاع بناء لغاية 32 مترًا، والثانية متوسطة حول تقاطع الحرمين بسبب خصوصيتها المرورية، سمح فيها ارتفاع بناء لغاية 24 مترًا، والثالثة المحاذية لضاحية الحسين، بقيت مكاتب بكثافة منخفضة يسمح فيها فقط لأربع طوابق وبنفس أحكام السكن الموجودة فيها.
«بصراحة ما حدا بسكن على شارع عرضه 30 مترًا، وتقاطعات كبيرة مكتظة مروريًا كتقاطع وادي صقرة، فاضطرينا نلحق هذا التطور ورغبات الناس. ولذلك أوجدنا نظام مستويات للمستقبل، نظام ديمقراطي يعتمد على رغبة المطور (صاحب البناء أو المستثمر) إن كان يرغب في المستقبل بإنشاء بناء جديد ضمن الأحكام المسموحة في هذه المنطقة»، تقول البطاينة.
مع ذلك، يمكن القول إن ضاحية الحسين ما زالت محتفظة بأبرز سماتها الفريدة؛ تصميم حضري لحي متكامل، جمعية تعاونية أدارت شؤون سكانها في عقودها الأولى، وحديقة رحبة تحتضن الموجات السكانية المتجددة في الضاحية. لكن الظروف التي أوجدت إسكانًا بهذه المواصفات، كمشروع دولة لا يهدف للربح، وخدمة محصورة على موظفي الدولة، وقرار سياسي بتوفير الموارد لمبادرات السكان لتطوير وإدارة حيهم بأنفسهم، لم تتكرر وقد لا تتكرر مرة أخرى في المدى المنظور.