بين مصدق ومشكك، كان الحديث عن الاحتباس الحراري والتغير المناخي مثيرًا للجدل. حتى زمن ليس ببعيد، بدا للبعض وكأنه نبؤة استشرافية من أفلام الخيال العلمي. لكن ارتفاع درجات الحرارة في السنوات الأخيرة أشعرنا كأفراد بتسارع وتيرة التغيّر المناخي. فقد سيطر الحر على أحاديث هذا الصيف، وأصبح أثره مرئيًا في جفاف بعض الأنهار، وانخفاض إنتاج المحاصيل الزراعية، وحدوث الوفيات بالآلاف.
بحسب منظمة الصحة العالمية، كان عدد الوفيات عالميًا من 1998 حتى 2017 بسبب موجات الحر حوالي 166 ألفًا ويتوقع أن يزداد مع ارتفاع درجات الحرارة في الأعوام القادمة، خاصة بين كبار السن، كما حدث في أوروبا في السنوات الأخيرة. وفي منطقتنا، يتوقع أن نكون من بين الأكثر عرضة للحر الشديد بشكل يؤثر على غالبية الأشخاص في الشرق الأوسط بحلول عام 2050. بينما أشارت دراسة نشرت في المجلة الطبية البريطانية «ذا لانسيت»، إلى ارتفاع عدد الوفيات المرتبطة بالحرارة إذا استمر الاحتباس الحراري في التصاعد. فبحسب الدراسة، من المرجح أن يرتفع العدد من وفاة أو وفاتين لكل 100 ألف شخص في الوقت الحالي إلى 123 وفاة في العقدين الأخيرين من القرن. وهذا يعني أنه بحلول عام 2100، من المحتمل وفاة حوالي 138 ألف شخص سنويًا في بلد كالعراق بسبب ارتفاع الحرارة.
في ظل هذا الواقع، أصبحت أسئلة الاستجابة للتغيرات المناخية أكثر إلحاحًا. ورغم أن حل مشكلة التغير المناخي بشكل جذري يتطلب تغيرات جوهرية على نطاق عالمي، إلا أن هناك عددًا من أساليب التكيف المتاحة التي يمكن أن تحد بشكل ملموس من أثر الحرارة على السكان. وفي سياق المدن، يبرز التشجير الحضري كأحد أهم -وربما أسهل- هذه الحلول.
كيف نستجيب للتغيرات المناخية؟
تقول الباحثة في التخطيط الحضري، رزان خلف، إن علينا فهم «المناخ» أولًا، قبل محاولة الاستجابة لمتغيّراته، وذلك من أجل تقديم منهج شامل ومتكامل للاستجابة لارتفاع درجات الحرارة، يراعي مختلف الجوانب البيئية الحضرية، من تشجير واستعادة للغطاء النباتي، وحصاد مائي، وتعديل مواصفات البناء.
وتوافق على ذلك المعمارية ومهندسة الغابات الحضرية، ديمة عساف، التي تشير إلى أن نمط البناء الحضري السائد في منطقتنا لا يعكس هذا الفهم للطبيعة المناخية للمنطقة أو التحديات التي تواجهها. «الأبراج والأبنية بالواجهات الزجاجية العاكسة لا تناسب دول المنطقة على الإطلاق. حتى المباني الاسمنتية، فإنها تجمّع الحرارة وتخزّنها، بحيث يبقى أثر الحر حتى بعد انقضاء ساعات السطوع مساءً»، مشيرة إلى ظاهرة جزر الحرارة الحضرية التي تحتّم استهلاك المزيد من الطاقة للتبريد والتكييف.
شارع مشجّر في منطقة الخالدي في جبل عمّان.
تميل المدن إلى أن تكون أكثر حرارة بسبب ما يُعرف بتأثير «الجزر الحرارية الحضرية». حيث تتسبب مجموعة من العوامل في رفع درجات الحرارة في المدن مقارنة بالريف، بسبب تقارب المباني المبنية من الخرسانة والزجاج العاكس، والشوارع الأسفلتية الداكنة التي تمتص الحرارة، وحركة المركبات، ونقص في النباتات والمساحات المظللة، الأمر الذي يجعل درجات الحرارة أعلى بدرجتين إلى تسع درجات مئوية مقارنة بالمناطق الريفية المحيطة.
«نحن أكثر قدرة على التكيّف مما نظن. تاريخيًا تعايش أجدادنا مع درجات حرارة عالية وتمكنوا من إيجاد حلول لها قبل وجود المكيّفات»، تقول عساف. فقد كان المهندسون يراعون الاعتبارات المناخية عند تحديد موقع البناء وشكل التصميم والمواد المستخدمة، ويستخدمون تصاميم وتقنيات معمارية مثل ملاقف الهواء، التي توجه مسارب هوائية إلى الغرب محدثة جريانًا في الغرف لتلطيف حرارة الصيف وتنقية الهواء. وعلى خلاف المكيّفات، فإن ملاقف الهواء صديقة للبيئة وأوفر ولا تحتاج للكهرباء.
التشجير الحضري كجزء من الحل
استجابةً لارتفاع درجات الحرارة وتداعياتها الخطيرة، تعتمد المدن حول العالم استراتيجيات لزيادة المساحات الخضراء. هناك العديد من الفوائد الصحية والبيئية والاجتماعية والاقتصادية لتشجير المساحات العامة. حيث تعمل النباتات على تنقية الهواء من خلال التقاط الملوثات، وتحويل ثاني أكسيد الكربون إلى أكسجين في عملية البناء الضوئي. كما تقلل من تأثير الجزر الحرارية الحضرية، وتمتص الغازات الدفيئة، وتقلل جريان مياه الأمطار، وتمنع تعرية التربة. كما أنها تقلل من التلوث الصوتي، وتوفر الظل للمساحات العامة المفتوحة والمباني لتجعل الصيف أبرد نسبيًا. ووفق دراسات، فإن لكل ذلك أثره على صحة ورفاه قاطني المدن، فهو يقلل الإجهاد والتوتر، ويزيد النشاط البدني ويحسن الصحة النفسية ويساعد على التشافي.
من جهة أخرى، عند مراعاة الجوانب الجمالية، يمكن للمساحات العامة أن تصبح معالم معروفة وجزءًا من هوية المنطقة، فالمساحات العامة تعزز التناغم الاجتماعي، حيث تتيح التقاء وتفاعل الناس من مختلف الخلفيات.
اقتصاديًا، يتماشى التشجير مع مشاريع التنمية، حيث يعمل على توفير الطاقة وتخفيض تكاليف تدفئة وتبريد المباني بنسبة 20%. على سبيل المثال، أشارت دراسة ضمن «خطة سان فرانسيسكو للغابات الخضرية» إلى أن كل دولار ينفق على الأشجار في الشوارع يعود بفائدة مقدارها 4.37 دولار على المدينة. كما أن العائد الاستثماري السنوي قد يصل إلى 100 مليون دولار.
حديقة شارع الثقافة في الشميساني.
من أين نبدأ؟
ترى زينة الجعجع، الباحثة في التصميم الحضري وتخطيط المدن والمتخصصة في تصميم المساحات العامة والحدائق، أنه يمكن تقسيم المساحات العامة المفتوحة في مدينة كعمّان إلى خمسة أقسام رئيسية وهي الشوارع، والحدائق العامة والساحات والميادين، والأدراج، والغابات الحضرية، والحارات. تشمل الشوارع الأرصفة، والدواوير، والجزر الوسطية المتواجدة على الطرقات. وفي سياق عمّان، يمكن التعامل مع بعض الدواوير التي يجلس فيها الأهالي كحدائق، مثل الدوار الثاني على سبيل المثال.
«بدايةً، علينا حماية الموجود»، تقول العسّاف في إشارة إلى المحافظة على الأشجار الموجودة وصونها وحمايتها من الاعتداءات. توافق الجعجع التي ترى حالات من الاستقواء و«عدم مراعاة حرمة الرصيف بما عليه من أشجار كمساحة عامة»، فهو ليس امتدادًا لمنزل أو مقهى، بل حق لجميع المواطنين وعلى الأفراد التعامل معه على هذا الأساس.
أما بما يخص التشجير، من المهم التفكير بشكل استراتيجي مع مراعاة الاعتبارات الفنية لضمان نجاح العملية.
أشجار على الأرصفة في منطقة أم السماق.
كيف نختار النباتات المناسبة؟
بالتعاون مع أمانة عمان ووزارة البيئة، طورت الجعجع دليلًا لاختيار أنواع النباتات المناسبة للمساحات العامة المفتوحة في عمان، يضم العديد من النصائح والمعلومات التي تساعد في اختيار النباتات الملائمة. تقول الجعجع: «علينا اختيار الشجرة المناسبة في المكان المناسب»، فالأشجار المناسبة لمناطق شرق عمان مختلفة عن أنواع الأشجار لمناطق أكثر ارتفاعًا عن سطح البحر، كالجبيهة ودابوق.
بحسب الدليل، هنالك أربعة معايير يُسترشد بها عند اختيار النباتات للمساحات الحضرية وهي: المناخ العام للمنطقة، والمناخ المحلي للموقع، ونوع المساحة العامة، والفوائد البيئية والجماليات المرجوة.
يعتبر كل من المناخ العام والمحلي عاملين رئيسيين يؤثران على بقاء النبات المختار. فالمناخ المحلي يؤثر على الغطاء النباتي لارتباطه بالارتفاع عن مستوى سطح البحر الذي يحدد درجات الحرارة والرطوبة ومعدل هطول الأمطار.
مراعاةً للسياق البيئي والاقتصادي للأردن، ينصح باختيار نباتات مقاومة ومتكيفة مع ظروف الجفاف وانخفاض الرطوبة وطبيعة التربة. حيث تعتبر التربة في عمان عمومًا كلسية ويرتفع مؤشر الحموضة في الماء لأن كليهما يحتويان على كربونات الكالسيوم. لذلك، ينصح باختيار نباتات أصيلة لقدرتها العالية على التكيف، فضلًا عن قدرتها على تعزيز التنوع الحيوي، حيث توفر الأشجار والشجيرات الأصيلة مأوى للكائنات الحية وتدعم استعادة الأنظمة البيئية الأصيلة. فقد تجذب أنواع الحياة البرية كالطيور وتجذب الأزهار الحاملة للرحيق الطيور الشبيهة بالطيور الطنانة والفراشات.
شارع مشجّر بجانب مدارس الدر المنثور في خلدا.
أما من ناحية وظيفية، ينصح باختيار أشجار قابلة للتقليم بشكل تاجي دائري على الأرصفة لتوفير الظل وتسهيل المشي في أيام الشمس الساطعة. كما ينبغي تجنب الأشجار المتهدلة والمتدلية ذات الأغصان الضعيفة لأنها قد تتسبب بإيذاء أعين ووجوه المشاة. على سبيل المثال، يُستثنى الصنوبر من تشجير الأرصفة لمخلفاته الصمغية وأوراقه التي قد تحتاج تنظيفًا مستمرًا، ويمكن اعتماد أشجار أصيلة مثل الخروب والدلب والتي لديها قدرة عالية على التكيف مع الظروف الجوية. ورغم استيراد الأمانة لأصناف إيطالية من البلوط، تقول عساف إن أصناف البلوط الأصيلة كالملّول والسنديان خيارات أكثر ملاءمة، كما أن بعضها مثل الزرّود والعبهر من أشجار الزينة التي تضفي جمالية على المساحات العامة لإزهارها في الربيع ونشرها روائح زكية دون مخلفات مزعجة للمارة.
فيما يخص الدواوير والجزر الوسطية، يجب مراعاة مدى الرؤية بحيث يكون طول الشجيرات المختارة قصيرًا وأن يسمح طول جذع الأشجار بالرؤية للسائقين، خاصةً عند التقاطعات. هناك خيارات من الشجيرات الأصيلة التي تحتاج حدًا أدنى من العناية أيضًا مثل القريضة، ونبات الآس، والزعتر البري والميرمية البرية.
في مناطق الازدحامات، تستطيع الأشجار والشجيرات أن تفرق الغبار عن طريق الإمساك بجزيئاته على أوراقها وأغصانها. وتخفف الأشجار ذات الشكل التاجي والمستدير والمتدلي من حدة تأثير جزر الحرارة الحضرية وتعطي تأثيرًا باردًا.
وبينما تحجب الأشجار متساقطة الأوراق في الأماكن المرصوفة الشمس في الصيف وتسمح بوصول أشعة الشمس إلى المساحات العامة في الشتاء، فإن الأشجار والشجيرات دائمة الخضرة ذات الشكل التاجي الهرمي والبيضوي تساعد في حجب الرياح الباردة في المساحات العامة، فتحمي النباتات الأخرى الحساسة من الريح الباردة وتشجع الناس على ارتياد المساحات في فصلي الشتاء والخريف.
القوانين موجودة، لكن ماذا عن التنفيذ؟
لكن السؤال يبقى حول كيف ستُطبق هذه المعايير ومن المكلف بذلك. تضم أمانة عمان وحدة للاستدامة، وعند النظر إلى الأبحاث والشراكات والقوانين الموجودة -نظريًا- يبدو أن الأمور تسير على المسار الصحيح. لكن ما الذي يحصل على أرض الواقع؟
يكمن جزء من المشكلة في أن القوانين الموجودة اختيارية وغير مُلزمة. فمثلًا، تنص المادة (9) من قانون نظام الطرق والأرصفة ضمن حدود منطقة البلدية على أنه «يسمح بزراعة الأشجار على الأرصفة التي لا يقل عرضها عن مترين» موضحةً مواصفات الأشجار والأحواض، وهنا تبرز أيضًا مشكلة أن الكثير من الأرصفة قد لا تكون بهذا العرض، إن وجدت أصلًا. كما أن المادة (34) من قانون الزراعة 2015 تحدد الأشجار المعمرة والنباتات البرية المهددة بالانقراض وتحظر قطعها، لكننا نسمع بشكل متكرر عن الاعتداءات على الأشجار خاصة الحرجية في مختلف المحافظات ولا نرى عقوبات رادعة لها.
«من المسؤول عن الرصيف؟» تسأل الجعجع سؤالًا مباشرًا، إلا أن الإجابة عنه ليست بهذه السهولة. «هل هي وزارة الأشغال أم وزارة البيئة؟ أم وزارة الزراعة أم أمانة عمان؟». عند الوصول إلى مرحلة التنفيذ، لا يكون هناك رؤية عملية مستدامة للتطبيق، ويعود ذلك لضعف التنسيق بين الجهات الرسمية.
شارع مشجّر في منطقة الخالدي في جبل عمّان.
لإحداث تغييرات جادة في المشهد البيئي، قد يتطلب الأمر إضافة اشتراطات خاصة بزراعة الأشجار في المشاريع الإسكانية والتجارية والصناعية. تحدد هذه الاشتراطات نسبة معينة من مساحة المشروع التي يجب أن تغطى بالأشجار والمسطحات الخضراء، وتحدد أيضًا نوع وحجم وموقع وتباعد الأشجار التي يجب زراعتها. كأن يشترط في المشاريع الإسكانية أو التجارية زراعة شجرة لكل 50 متر مربع من مساحة المشروع، أو زراعة شجيرات لكل 10 متر مربع من مسطحات التزيين.
لكن الأمر لا يقتصر على القطاع العام، فالقطاع الخاص يجب أن يكون معنيًا بالمساهمة من خلال الكوادر والخبرات الفنية والمخصصات المالية. تقول الجعجع: «عند رؤية موقع بناء لمشروع سكني أو مجمع تجاري، فإننا نرى على اللافتة تصميمًا مثاليًا بأشجار خلابة إلى جانب كلمة «قريبًا الافتتاح»، لكن عند الافتتاح الرسمي ما بنشوف عرق أخضر».
قد تكون أشجار الحي بالنسبة لكثيرين منا مجرد إضافة جمالية محببة، وربما تمثل للبعض مصدرًا مزعجًا للأوراق أو الأزهار التي قد يرى البعض أنها تحتاج تنظيفًا مستمرًا، إلا أن تأثيرها على بيئتنا في ظل التغيرات المناخية تدفعنا لإعادة التفكير بها كجزء أساسي من محيطنا الحضري، في وقت سنحتاج فيه كل ما يمكن أن يلّطف الجو.