بالصور | لواء الهاشمية: أعمدة الدخان تكتم الأنفاس

الأدخنة المتصاعدة من مصفاة البترول فجرًا. تصوير مؤمن ملكاوي.

بالصور | لواء الهاشمية: أعمدة الدخان تكتم الأنفاس

الأحد 03 تشرين الثاني 2024

«منكوب بيئيًا»، هكذا يصف بعض السكان منطقةَ الهاشمية الواقعة على بُعد حوالي 10 كم عن مركز محافظة الزرقاء. لم يأتِ هذا الوصف من فراغ، فعند الوصول إلى المنطقة يسهل ملاحظة السماء الداكنة والغيوم المثقلة بانبعاثات الدخان الكثيف، فيما يضيق النفَس إلا من رائحةٍ نفاذةٍ ملء المكان.

«بحس بإشي كاتم على نفسي»، تصف وصال (37 عامًا) حالتها عند بدء المصانع بثّ أدخنتها. هي أمّ لخمسة أطفال، وتعمل مع زوجها في رعي الماشية، وقد سكنوا منذ سبع سنوات منزلًا قريبًا من مصانع الحديد في المنطقة. وإضافة إلى ضيق النفس، فإنها عادة ما تكون مصابة بسيلان الأنف وحرقة العينين، وتتزايد حدة هذه الأعراض مع ازدياد كثافة الدخان المتصاعد من المصانع المجاورة.

لا يقتصر الأمر على الأعراض الصحية، إنما يطال كذلك سير يومها وعملها، فهي تربط مواعيد رعي الماشية بأوقات توقف المصانع عن نفث أدخنتها، وإذا أحرق أحد المصانع بعض الخردوات لاستخلاص النحاس منها، فإن الدخان الخانق الناتج عن هذه العملية يجبرها على تغطية نوافذ المنزل للتخفيف من الأدخنة وآثارها، فيما تظل مع أطفالها حبيسة المنزل حتى توقف الدخان.

أطفال في طريقهم للمدرسة صباحًا في حي الفيحاء في منطقة الهاشمية

أطفال في طريقهم للمدرسة بالقرب من مصانع الحديد

يعد لواء الهاشمية من أكثر مناطق الأردن تلوثًا بسبب النشاطات الصناعية المتمثلة بعمليات تكرير النفط في مصفاة البترول، وتوليد الكهرباء في محطتيْ السمرا والزرقاء، ومعالجة المياه العادمة في محطة السمرا، فضلًا عن الأنشطة المختلفة لما يقارب 22 مصنعًا تغطي سماء الهاشمية بالأدخنة والغبار والروائح ما يجعل أهالي المنطقة أكثر عرضة للأمراض.

قد يصعب -دون فحوصات مخبرية- إثبات أن التلوث في الهاشمية هو السبب الرئيسي للأمراض التنفسية عند بعض السكان، لكن الطبيب العام عمار هلال، الذي يملك عيادة في المنطقة، يلاحظ أن أعداد مرضى الجهاز التنفسي في الهاشمية أعلى من أماكن أخرى سبق له العمل فيها، مثل المفرق وعمّان، مضيفًا أن التلوث قد لا يكون السبب المباشر في إصابة شخص ما في الهاشمية بالربو مثلًا، إلا أن سكنه في أجوائها الملوثة يزيد من حدة المضاعفات والأعراض.

صورة الأدخنة المتصاعدة من أحد مصانع الحديد

ليست المصانع مصدر التلوث الوحيد، فمصفاة البترول أيضًا تطلق الدخان ذا الرائحة الكريهة المحمل بالملوثات الغازية والجسيمات الصلبة. يسكن أشرف* (35 عامًا) في منطقة الفيحاء بالقرب من المصفاة، ويتذكر كيف تأثرت طفولته بشدة بهذه الروائح والأدخنة، إذ يعاني منذ صغره من حساسية موسمية خلال فصلي الربيع والخريف، لكن الأعراض التي تصيبه عادة ما تكون أكثر حدة مقارنةً بغيره من المرضى كما يقول، إذ يضيق نفسه أحيانًا لحد شعوره بالاختناق، ويسعل باستمرار سعاًلا جافًا، ويصدر صفيرًا من صدره. يُذكر أن دراسة أجريت عام 2021 على منطقة الهاشمية أظهرت أن العيش بالقرب من صناعة تكرير النفط يؤثر سلبًا على صحة السكان ويزيد من احتمالات المشاكل التنفسية وحالات الإجهاض والأمراض الجلدية والسرطانات.

مصفاة البترول كما تظهر من بين المنازل، والانبعاثات التي تطلقها فجرًا وخلال النهار

يقول مخلد العموش، مختار الهاشمية وعضو مجلس بلدية سابق، إن التلوث يقيد حركة أهالي الهاشمية فيمنعهم أحيانًا من الخروج من منازلهم أو النوم على أسطحها لو أرادوا ذلك، خصوصًا أن الانبعاثات والأبخرة الكثيفة من بعض المنشآت الصناعية تزيد ليلًا.

إلى جانب الأبخرة، تمنع الحشرات المنتشرة في المكان أشرف من ارتداء ملابس خفيفة أو حتى الجلوس على شرفة المنزل التي يعتبرها المتنفس الوحيد في ليالي الصيف. يقول العموش إن سبب انتشار الحشرات هو محطة السمرا لتنقية المياه العادمة، والمياه الراكدة على مساحة 20 دونم تقريبًا في بركة التبريد التابعة لمحطة الحسين للكهرباء، ما يجعلها بيئات ملائمة لتكاثر الحشرات.

صحيح أن جسده لا يتكيف مع الأجواء الملوثة، لكن أشرف الذي يعيش في الهاشمية منذ طفولته صار معتادًا على الأدخنة والروائح المنبعثة. على عكس زكريا الصمادي (45 عامًا) الذي انتقل إليها مؤخرًا قادمًا من إربد، إذ سرعان ما لاحظ اختلافات في الجو العام أثارت في نفسه شيئًا من الكآبة، حيث تزعجه بشدة الرائحة الكريهة المنبعثة من المصفاة خصوصًا في ساعات الصباح، مشبهًا إياها برائحة تسريب الغاز، مشيرًا إلى أنها تشتد في فصل الشتاء بسبب الرطوبة وتغير اتجاه الريح. وعندما تخفّ الرائحة صيفًا، ينهال عليه البعوض.

محطة الزرقاء لتوليد الطاقة الكهربائية وبركتها بالقرب من المساكن

في ظل هذه الأوضاع، يستنكر العموش الحديث عن  مشروع محطة تنقية من المقرر إنشاؤها بين منطقتي السخنة وقرى بني هاشم على بعد 10 كم من مركز الهاشمية، قائلًا إنها ستشكل عبئًا إضافيًا، وستؤثر كذلك على مناطق دوقرة وعين النمرة التي تعتبر مناطق جميلة وسياحية ومتنفسًا لأبناء الهاشمية، قائلًا إن المحطة الجديدة ستكتم أنفاسهم.

أخيرًا، يرى العموش أن بعض المناطق في الهاشمية صارت طاردةً لسكانها، وقد انخفضت أسعار الأراضي فيها، وهجرها بعض أهلها إلى مناطق أخرى، ومن بينهم مثلًا بعض سكان الحي الغربي في الهاشمية الذين انتقلوا للعيش في قرية غريسا؛ المرتفعة والمطلة على السهول والأودية، إذ صار الناس كما يقول يفضلون صعود الجبال للحصول على هواء نقي بعيدًا عن منغصات المصانع وتلويثها.


* اسم مستعار بناءً على رغبة صاحبه.

هذا التقرير جزء من زمالة حبر للصحافة الصحية، الممتدة من أيلول 2023 حتى أيلول 2024، وفيها تنخرط سبع زميلات من خلفيات معرفية متنوعة في إنتاج تقارير صحفية بقوالب مختلفة حول قضايا صحية تتقاطع مع الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية