في عرجان: أسرٌ تتعكّز على الزراعة

قرية عرجان في محافظة عجلون. تصوير مؤمن ملكاوي.

في عرجان: أسرٌ تتعكّز على الزراعة

الخميس 27 شباط 2025

بعد عشرة أعوام على زيارتي الأولى لقرية عرجان في عجلون، التقيت من جديد بأبو رسمي (79 عامًا). في الزيارة الأولى كان الرجل وزوجته عائديْن من الحقل بعد يوم من العمل المضني، أمّا اليوم فلم تعد صحتهما تسمح لهما بهذا النوع من العمل، ولذا أحيلت المهمّة إلى أكبر الأبناء، رغم أن أبو رسمي وزوجته لم ينقطعا عن العمل في الحقل ومتابعته حتى الآن. 

تقاعدَ أبو رسمي من الخدمة العسكرية عام 1988. ومنذ ذلك الوقت عمل مثل بقية أرباب الأسر في القرية مزارعًا. المختلف في هذه القرية ومحيطها أن الزراعة تأخذ الطابع الأسريّ. وقد أسهم عملُ الأسرة في الزراعة في تنشئة الأولاد وتعليمهم وتزويجهم وبدئهم عملهم الخاص به، وكان آخرهم المهندس الزراعي مهند، الذي صدف أن التقيته مع والديه قبل عشرة أعوام، وكان حينها خريجًا جديدًا يبحث عن عمل. قالت لي والدته يومها إن رسوم دراسته دُفِعت من «من وَرَا لْقاطة الفاصوليا». ذلك أن أم رسمي إلى جانب عملها مع زوجها في حقل التين والرمان، فإنها تزرع قطعة أرض مجاورة ببعض الخضروات وخاصة الفاصوليا في موسمها. وأذكر أن أبو رسمي قال لي وقتها إنه يعمل وفق مبدأ صاغة لنفسه: «إن المال الذي يحققه من الزراعة مهما كان قليلًا فإنه لو لم يتحقق لكان مضطرًا لاستدانته».

مزارع عائلية صغيرة في عرجان.

يبلغ عدد سكان بلدة عرجان الآن نحو تسعة آلاف نسمة، يتوزعون على نحو 1700 أسرة. ووفق أرقام مديرية قضاء عرجان (يشمل قضاء عرجان بلدة عرجان وراسون وباعون وأوصرة)، فإن حوالي 75% من الأسر تعمل في الزراعة كمصدر دخل إضافي. وبحسب من قابلناهم فربما تكون النسبة أعلى من الأرقام الرسمية. وفيما يمتلك معظم المزارعين الأراضي التي يعملون فيها، هنالك مزارعون منهم أبو رسمي يتضمّنون الأرض التي يزرعونها. 

الحيازات في القرية صغيرة الحجم تتراوح بين دونم وثلاث دونمات في الغالب. والسبب في هذا يعود لتتالي عمليات التوريث. ففي المنطقة لا تزال الأسرة موحدة زراعيًا على مستوى الأسرة الممتدة، أي الجد والأبناء والأحفاد، وعندما يموت الجد تتوزع الأرض بين الأبناء الذين يصبحون جدودًا في أسر ممتدة جديدة، وهكذا.

هناك بالطبع بعض الحيازات الأكبر، كحالة المزارع عثمان الذي يملك أرضًا بمساحة ثمانية دونمات في منطقة تزرع بالزيتون وثلاثة دونمات بالتين والرمان والعنب.

في أواخر خدمته العسكرية التي امتدت 24 عامًا، عمل عثمان في صالون حلاقة، وعندما بلغ الستين تفرّغ للزراعة، وهو عمل يمارسه كذلك مع أسرته، إذ لديه ستة أبناء وثلاث بنات. يؤكد عثمان أن جميع الأبناء والبنات يشاركون، وفق ظروفهم، في العمل الزراعي بلا أجر مباشر، سوى حصتهم من المنتج والدخل المالي الذي يدار ويوزع من قبل الأب. لقد ورث عثمان حصته من الأرض بعد وفاة والده عام 2005، وحينها بدأ العمل منفردًا بعد أن كان سابقًا يعمل مع إخوته بإشراف والده. وكباقي الأسر، تزرع أسرة عثمان بعض أصناف الخضروات، مثل البندورة والكوسا والفقوس لتغطية استهلاك أسرته وأسر أبنائه، إضافة لما تبيعه في السوق.

إن حالتيْ أبو رسمي وعثمان حالتان ممثلتان لباقي الأسر. وفي هذا النوع من الزراعة، لا تجري حسابات المنفعة والتكلفة بالطريقة التقليدية. إن أسرة المزارع لا تُدرِج جهد أفرادها ضمن التكاليف، ويخضع معنى التكلفة والمنفعة هنا للبعد الاجتماعي الثقافي أكثر منه المالي الاقتصادي. وبالتالي لا يذهب الأولاد إلى الحقل كعمال منتظرين أجرًا ماليًا مباشرًا، وإنما ينخرطون بالعمل الزراعي منذ سنوات الطفولة ويتدربون على مختلف خطوات الزراعة، كل حسب طاقته ورغبته واستعداده. وفي حالة الأبناء المتزوجين، فإنهم يتلقون حصتهم من المنتج لغايات الاستهلاك، وفق ترتيبات الأم والأب، الذين يوزعون كامل المردود حسب معرفتهم بحجم أسر أبنائهم واحتياجاتها. 

مثل غالبية مزارعي القرية، يسوّق أبو رسمي وعثمان إنتاجهم مباشرة للتجار في سوق البلدة الصباحي الذي يتكرر يوميًا في الموسم، ويبدأ السوق من السادسة صباحًا وحتى الثامنة أو التاسعة، حيث يحضر التجار من المحافظات الأخرى، كعمان وإربد، ويشترون المنتج من مزارعيه الذين يكونون قد بدأوا مع أسرهم القطاف منذ ساعات الفجر الأولى. ويجري البيع بالمزاودة البسيطة، ويحصل المزارع على ثمن بضاعته بحسب السوق. ومع هذا فإن هذه الطريقة توفر للمزارع أفضل نسبة ممكنة من المردود، ذلك أن البديل الآخر هو إرسال المنتجات إلى السوق المركزي في إربد، وهو ما يعني مرور المنتجات بعدة مراحل تستهلك نسبة كبيرة من المردود المحتمل.

التنظيم المتوارث

تتوزع الأراضي الزراعية حول محيط البلدة، وهناك صنفان من الزراعة: مروية وبَعْليّة (تعتمد على مياه الأمطار). ذلك أن القرية تقع بجوار وادٍ يحمل اسمها، تسيل فيه مياه مصدرها عدة ينابيع على مدار العام. ويطلق السكان على الينبوع اسم «عين»، ونظرًا لتعدد هذه العيون، فقد سميت بلدية المنطقة ككل: «بلدية العيون». وعبر الزمن شق المواطنون أقنيتهم الفرعية من المجرى الرئيسي نحو مزارعهم على جانبيْ الوادي، وفي فترة لاحقة أنشئت شبكة من الأقنية الإسمنتية الرئيسة على طول الوادي، على أن يقوم كل مزارع بشق أقنية خاصة بقطعة أرضه تتمكن من خلالها جميع الأشجار من الحصول على الري المناسب.

إحدى عيون الماء في عرجان وقنوات المياه المتفرعة منها بين المزارع والبيوت.

عرف المواطنون نظامًا لترتيب أدوارهم في السقاية، فلكل دونم 37 دقيقة كل ثمانية أيام، وفي بعض الأقنية تصل المدة إلى 45 دقيقة للدونم، وعلى المزارع أن يحضر في الوقت المخصص له ويفتح «المَكْسَر» نحو أرضه، (بمعنى أنه يكسر مجرى القناة نحو أرضه). وعلى المزارع أن ينظف المجرى في المنطقة الموازية لقطعته. ووفق جميع من التقيناهم، فإن الأمور تسير بانتظام لأن فيها مصلحة الجميع.

في الأراضي المروية، تزرع أشجار مثمرة مثل التين والرمان واللوز، أما المناطق البعلية فهي مزروعة بالزيتون وفي بعض الأحيان بالقمح، وبالبقوليات كالحمص والبازيلاء، وباقي الزراعات الصيفية. 

العالم يهتم

تُعرّف المنظمات الدولية الزراعة الأسرية بأنها «وسيلة لتنظيم الإنتاج الزراعي تديرها وتُشغّلها أسرة واحدة تعتمد في الغالب على العمل غير المأجور لأعضائها من نساء ورجال. والأسرة والمزرعة مترابطتان وتتطوران معًا وتجمعان الوظائف الاقتصادية والبيئية والإنجابية والاجتماعية والثقافية».

وقد أعلنت الأمم المتحدة العقد الممتد بين 2019 و2028 بصفته عقد الزراعة الأسرية، بهدف التركيز على معنى أن تكون مزارعًا أسريا في عالم سريع التغير، وللتأكيد على الدور الذي يؤديه المزارعون الأسريون في القضاء على الجوع وتشكيل مستقبل غذاء العالم. وترى الأمم المتحدة في الزراعة الأسرية فرصة لضمان الأمن الغذائي وتحسين سبل العيش وإدارة الموارد الطبيعية بشكل أفضل.

وبحسب بيانات منظمة الفاو، تنتج المزارع الأسرية أكثر من 80% من الأغذية في العالم من حيث القيمة، ما يؤكّد أهميتها في حاضر الأمن الغذائي ومستقبله. وقد بلغ عدد المزارع الأسرية حول العالم 570 مليون مزرعة. وتشكّل المزارع التي لا تتجاوز مساحتها الهكتارين (20 دونمًا) نسبة 84% من مجموع المزارع، لكنها تشكّل 12% فقط من إجمالي الأراضي الزراعية.

وقد أنشأت الفاو منبرًا للمعارف متخصصًا بالزراعة الأسرية يجمع ويقدم معلومات بشأنها من مختلف أنحاء العالم؛ بما في ذلك القوانين واللوائح الوطنية، والسياسات العامة، وأفضل الممارسات، والبيانات والإحصاءات ذات الصلة، والأبحاث والمنشورات. 

ذكريات وحسرات

محليًا، لا إشارات على وجود اهتمام رسميّ بموضوع الزراعة الأسرية، ولا الزراعة صغيرة الحجم عمومًا. ولا تملك مديرية زراعة عجلون، المشرفة على منطقة عرجان، إلّا بعض البيانات العامة عن القضاء بقراه مجتمعة من حيث المساحات المزروعة، ولكن لا معلومات عن الحيازات وعن طبيعة العمل الزراعي. 

في الزيارة التي أجريتها قبل عشر سنوات، قابلت في المديرية موظفين قدامى كانوا يتذكرون ويتحسّرون على أيّام كانت الوزارة فيها على اطلاع وافٍ وتشرف على القطاع، بحيث كان يحدَّد لكل موظف من القسم المعني قائمة من أربعين حالة أي أربعين أسرة زراعية، وعليه أن يُعدّ تقارير منتظمة عن حالهم ومشاكلهم، واليوم لم يعد هناك من يتذكر ولا من يتحسر. كل موظف يرسل بك إلى موظف آخر، ويعتذرون عن عدم توفر معلومات. فيما يتركز دور المديرية على متابعة الشؤون الإدارية.

مع ذلك فإن الأهالي في المنطقة يؤكدون أن الأجيال الجديدة من شباب البلدة يواظبون على محاولاتهم تطوير عملهم في الزراعة. هذه مثلًا حالة أبو علاء الذي يعمل مع أسرته في الزراعة في وادي عرجان، لكنه أنشأ باسمه واسم ابنته استراحة (مقهى ومطعم وجلسات) إلى جانب أرضه التي تضمّنها ويزرع فيها أشجار التين والرمان والعنب ويبيعها في السوق، إضافة إلى بعض الخضروات لاستهلاك الأسرة.

مدخل استراحة أبو علاء.

تتكوّن أسرة أبو علاء من سبعة أفراد، يعمل واحد منهم معه بشكل منتظم وبعضهم يتضمّن أرضًا بشكل منفرد، فيما ساهمت الابنة وهي خريجة إدارة مشاريع سياحية في تأسيس الاستراحة والعمل فيها. وقد دخل جيل الأحفاد إلى العمل، وبالفعل كان عدد منهم بقربه، خلال تواجدي، وكان يكلفهم ببعض الأعمال، ويؤكد أنهم يساهمون في متابعة الري وفي التعشيب واللقاط.

وفق أبو علاء وآخرين، فإن مديرية الزراعة أسهمت بتقديم بعض الخدمات، مثل الرش والحراثة باشتراط توفير المبيدات ودفع أجرة العامل المرافق، وقد ساهمت أحيانًا في تحديث خبرات المزارعين في بعض المجالات بما يطور خبراتهم. ولكن لا توجد علاقة منتظمة بين المزارعين والمديرية.

أبو علاء وأفراد من عائلته الممتدة في أرضهم

في آخر دراسة لتقدير الفقر في الأردن، دخلَ قضاء عرجان إلى قائمة جيوب الفقر بنسبة 27%. لكن هذه الدراسة من العام 2010، ولا تتوفر معلومة جديدة رسمية. غير أن الأهالي لا ينتظرون الدراسات، فَهُم أمام مقتضيات عيشهم وعيش أسرهم يعرفون وضع الفقر في القضاء. وتفترض المعالجة التنموية الحصيفة أن يسارع المستوى الرسمي نحو الالتقاء مع تجارب الناس في منتصف الطريق والبناء على تجربتهم واستعداداتهم. ولا زال ممكنًا البناء على الموقف من الزراعة، سيما وأنه مجال عمل مكتظ بالأبعاد الاجتماعية والثقافية. 

في عرجان، لا يزال المشهد العام يقول إن المواطنين يتعاملون بجدية مع حياتهم ويبذلون جهدهم. لقد قال كثر ممن التقيناهم بأن الجميع «يتعكز» على الزراعة، بمعنى أنه يستند إليها كدخل إضافي لكنه ضروري. 

قلت لأحد المزارعين: لعل أولادك ينزلون معك للحقل بهدف التسلية. فرد على الفور: لا أبدًا. إنهم يشتغلون وبجدية.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية