مضى فصل الصيف هذا العام بطريقة صارت مألوفةً خلال السنوات الأخيرة. فعلى غرار الصيف الماضي، شهدت أجزاء مختلفة من العالم ظواهر لا يمكن وصفها بالطبيعية، إن كانت موجات الحر التي شهدتها منطقتنا ومناطق أخرى، أو الحرائق وموجات جفاف الأنهار التي أصابت القارة الأوروبية، أو الفيضانات في آسيا، والتي ترسم جميعها صورةً غير برّاقة على الإطلاق عن مستقبل الحياة على هذا الكوكب.
ورغم أن دور التغير المناخي في فيضانات باكستان الأخيرة لا يزال محط نقاشٍ وتخمين، إلا أن المعظم يتفقون على لعبه دورًا في هذه الكارثة التي خلّفت حتى الآن أكثر من 1600 قتيل وغمرت ثلث البلاد بالمياه. في الواقع، إن هذه المأساة، بشدتها وبنمطها وبضعف قدرة باكستان على مواجهتها، من حيث الجهوزية والبنى التحتية، يجب أن تدفعنا للتفكير بعواقب التغير المناخي على منطقتنا بالخصوصية التي تفرضها الطبيعة والمناخ، إضافة إلى العوامل السياسية والاقتصادية التي تحدد شكل الاستجابة ومداها.
هنا، قد تكون موجات الحر احتلت الحيّز الأهم من نقاشاتنا لأسباب مفهومة طبعًا، إلا أن ثمة ظاهرة أخرى تستحق الاهتمام والدراسة عن كثب وهي العواصف الرملية، وسنحاول في هذا المقال توفير مدخلٍ لهذه الظاهرة وكيف يتداخل التغير المناخي معها.
ما هي العواصف الرملية؟
بدايةً، يجب القول إن العواصف الرملية ظاهرة طبيعية لطالما شهدتها منطقتنا، إضافة إلى بقاع أخرى في العالم كالصين والولايات المتحدة وغيرها، وتحضر في تراثنا بطرق عدة ويمكن تتبعها في الموروث الديني الإسلامي. وللمفارقة فإن أحد أبرز الأحداث التي جرت في المنطقة خلال القرن العشرين حملت اسم «عاصفة الصحراء». لكن الفارق اليوم، كما سنرى، يكمن في زيادة تواتر هذه العواصف وشدتها والنطاق الجغرافي للمناطق التي تصيبها. وعلميًا، يتم تجزئة هذه العواصف إلى أنواعٍ بحسب طبيعة الذرّات التي تحملها، وتنقسم بشكلٍ مبسّط إلى عواصف رملية أو غبارية.
تختلف الأسباب التي تؤدي إلى تشكل هذه الظاهرة بحسب كل نوع، لكننا بشكل رئيسي نتحدث عن آلية ميكانيكية مشتركة. إذ تتكون هذه العملية من ثلاث مراحل، وهي تفكك الجزيئات وانطلاقها بفعل عوامل مختلفة كالملوحة، ثم نقلها في الجو بفعل التعليق، وأخيرًا ترسبها في أماكن أخرى. ولمّا كان التقسيم بين الأنواع غير واضح بشكل كامل، فإن التقسيم يتبع حجم الجزيئات وبالتالي قدرة العواصف على الانتشار، إذ تميل العواصف الرملية لأن تغطي مساحات أقل بسبب ثقل جزيئات الرمل، مقارنةً بالعواصف الغبارية. يبدأ انفصال الجزيئات ضعيفة الارتباط بالتربة وانطلاقها حين تتجاوز قوة الضغط التي تمارسها الرياح، أو ما يسمى بعامل تعرية الرياح، قدرة السطح على مقاومة انفصال الجزيئات أو تحركها. وتنتج تعرية الرياح عن خصائص ترتبط بسرعة الرياح وهبوبها، خصيصًا اضطراب سرعة الرياح بالقرب من سطح الأرض. وإضافة إلى سرعة الرياح، تلعب عوامل أخرى دورًا هامًا في تحديد قوة التعرية الريحية، مثل التغطية النباتية وطبيعة الأرض، وهو ما سنعود إليه.
لنفهم المستجِّد في هذه الظاهرة غير الجديدة، علينا العودة إلى التغطية الإخبارية التي رافقت العواصف هذا الصيف. ففي الواشنطن بوست، تصف كلير باركر وكاشا باتيل المشهد في مدينة الكويت نهاية شهر أيار الماضي وكأنه حريق غابة بلا نيران، بسبب اللون البرتقالي الذي طغى على المدينة وشوارعها، ثم تتحدثان عن مشاهد لا تقل غرابةً في إيران أو السعودية أو العراق، وذلك بالطبع مع آثارٍ لا يمكن تجاهلها، كتزايد حالات الإسعاف بسبب المشاكل التنفسية وصعوبة القيادة وتعطيل الرحلات الجوية والحياة العامة. بينما تحدثت صحيفة البيان قبل ذلك بعدة أيام عن انحجاب الرؤية في الرياض وكثافة طبقات الرمال في المدينة وخطورتها خصيصًا على الأطفال وكبار السن والمرضى، وتوقف المدارس في الكويت وإيران، وتوقف عمل الدوائر الحكومية أيضًا.
إلا أن شدة هذه الموجة لم تكن التفصيل المميز الوحيد، بل تواتر العواصف أيضًا. إذ شهد العراق هذا الصيف العشرات من هذه العواصف، التي توقع مسؤول في وزارة البيئة أن تلازم آثارها البلاد لفترة طويلة، مع تقديرات تقول إن 272 يومًا من الغبار قد تصبح الحالة العامة خلال العقدين المقبلين.
كيف يساهم التغير المناخي في ذلك؟
لا شك أننا أمام تحولٍ وتغير يصيب وضعًا سابقًا أو «طبيعيًا»، ما يدفعنا للبحث عن تفاسير تقدم رؤية مفصلة لأسباب هذا التغيّر. والواقع أن الانطلاق من التغير المناخي يبدو الخيار الأكثر منطقيةً لشرح ما يحدث.
كما أسلفنا، تلعب الريح دورًا مهمًا في تشكّل هذه الظاهرة، إلا أنها ليست الوحيدة، إذ تعد التربة الجافة أكثر عرضة للتأثر بالتعرية الريحية، ما يساهم في تشكيل بؤر جديدة للغبار ووجهات جديدة للعواصف في الآن ذاته، مع التأكيد أن النمط القديم، الذي كانت فيه الصحراء الكبرى وشبه الجزيرة العربية وأجزاء من جنوب آسيا هي مصادر الغبار الرئيسية، قد بدأ بالتغير.
في مقالة منشورة في مجلة ذا لانسيت، يحضر مثال عملي على هذه المسألة. فخلال العقود الثلاثة الماضية كانت منغوليا تشهد، بفعل التغير المناخي، ارتفاعًا في درجات الحرارة يقدر بدرجتين ونصف على مقياس سيلسيوس في الصيف، وتراجعًا على مستوى الغطاء النباتي. في الوقت ذاته، كانت المنطقة أيضًا تشهد انخفاضًا في تواتر ومدة هطول الأمطار بفعل حركة الأعاصير والتغير في حدوث ظاهرة إل نينيو. سرّع تداخل هذه العوامل مجتمعةً من خسارة التربة لرطوبتها، رافعًا نسبة التصحّر، ما خلق مصادر جديدة لحدوث العواصف الغبارية أو الرملية.
شهد العراق هذا الصيف عشرات العواصف الرملية، التي توقع مسؤول في وزارة البيئة أن تلازم آثارها البلاد لفترة طويلة، مع تقديرات تقول إن 272 يومًا من الغبار قد تصبح الحالة العامة خلال العقدين المقبلين.
رغم ذلك، ليس ثمة أدلة قاطعة تربط هذه الظاهرة بالتدخل البشري ويبقى الأمر مثارًا للنقاشات والآراء المختلفة. فعلى سبيل المثال، يقدر البعض أن 25% من انبعاثات الغبار يمكن ردها إلى أنشطة بشرية، مقابل 75% يمكن ردها لأسباب طبيعية بحتة. أكثر من ذلك، يختلف الباحثون في تقدير الأنشطة الأكثر إسهامًا في هذه المشكلة، إذ تقدر الأسباب المتعلقة بالجفاف ونقص المياه بكونها مسؤولة عن 85% من حوادث الانبعاث ذات الأصل البشري، لكن هذه التقديرات تعاني من عدم الدقة أحيانًا والتداخل بين الحوادث المدفوعة بأسباب بشرية، وتلك التي تجري في مناطق مأهولة بشريًا.
إلا أن عدم اليقين هذا لا ينفي بأي حال الدور البشري، بل يحاول الحصول على تقديراتٍ دقيقة عنه. فكما نعلم، ترتبط مسألة كحال الموارد المائية بالأزمات في عدد من بلدان المنطقة، إن كانت بفعل الممارسات الزراعية أو غياب الحلول المستدامة والقوانين الناظمة أو البنى التحتية المتآكلة أو النزاعات المسلحة وغيرها، ما يرسم للمستقبل صورةً قاتمة بشكل عام وبما يتضمنه ذلك بالعلاقة مع تفصيلٍ محدد كالجفاف والعواصف الرملية.
نجد صورة شبيهة عندما نعاين قضايا كالتغطية النباتية في المنطقة، فرغم انتباه عدد من الدول لانحسار الغطاء النباتي وبعض المحاولات لتدارك الأمر، لا تزال الحالة العامة تقول إن هذه المساحات تتضاءل بفعل بعض الممارسات الزراعية والهجرة البشرية وعوامل غير مباشرة تتعلق بالأوضاع الاجتماعية والاقتصادية لهذه البلدان، وتصل هذه المساحة في الدول العربية إلى أكثر من 553 ألف كيلو متر مربع.
ماذا ينتج عن العواصف الرملية؟
ما دمنا في معرض الحديث عن ظاهرة معقدة ومتشابكة كهذه العواصف، فإن الآثار ليست بهذه البساطة. ونظرًا لكون العواصف الرملية ظاهرة طبيعية، فإن لها بعض الفوائد التي تتعلق بالدورات البيوجيوكيميائية في الأرض. إذ يساهم الغبار المحمول في العواصف بتخصيب التربة والمحيطات والحفاظ عليها على سبيل المثال، فضلًا عن توفير المعادن المغذية لها.
إلا أن الآثار السلبية للعواصف تفوق تلك الإيجابية بكثير. فمن منظورٍ صحي، تتسبب العواصف الرملية، كما رأينا، في مراكمة الضغط على المستشفيات وغرف الطوارئ، ويتفاقم ذلك لدى مرضى الربو والأمراض التنفسية، كما ترتبط هذه العواصف بالتسبب بعدة أمراض أو مفاقمتها مثل السعال والأمراض التي تصيب المسالك التنفسية السفلى وتليف الرئة وأمراض القلب والأوعية الدموية، فضلًا عن قدرتها على حمل البكتيريا والفيروسات والفطريات والعناصر الملوثة أو المسببة للحساسية. ولذلك، ينصح الأطفال والمرضى وكبار السن خلال العواصف الرملية أو الغبارية بالتوقف عن ممارسة الأنشطة الفيزيائية المجهدة والبقاء داخل الأماكن المغلقة واستعمال التكييف وفلاتر الهواء.
بشكلٍ أوسع، تؤثر هذه العواصف على البيئة متسببةً بجفاف أوراق الأشجار والنباتات وتعطيل نموها وتضر المحاصيل والحياة البحرية أحيانًا. كما تزيد من احتمالية حوادث السير وتعطل المواصلات الجوية أو البحرية وإلحاق الضرر بالمباني والمرافق العامة، إضافة إلى التكاليف المرتبطة بإصلاح أضرارها، إذ يقدر البعض خسائر المنطقة من العواصف الرملية بـ 150 مليار دولار سنويًا.
هل تهب عاصفة الحلول؟
لا يختلف اثنان حول الازدياد في شدة وتواتر العواصف الرملية أو الغبارية، حتى لو كانت الأسباب الدقيقة لذلك محط النقاش. وبالنظر إلى الأضرار التي تحدثها على عدة مستويات فمن الطبيعي أن تظهر بعض الجهود التي تحاول تدارك المسألة وإيجاد سبل استجابةٍ ملائمة لها. إذ شُكِل تحالف الأمم المتحدة لمكافحة العواصف الرملية والغبارية عام 2018 وعقد أول اجتماع له في العام التالي، ويضم مجموعة من المنظمات المعنيّة كالمنظمة العالمية للأرصاد الجويّة وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة ومنظمة الصحة العالمي واتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر وغيرها. كما لجأت إيران إلى توقيع عدد من مذكرات التفاهم مع مجموعة من الدول في المنطقة لمكافحة هذه الظاهرة، ومنها العراق والكويت والإمارات.
في الوقت ذاته، لجأت بعض الدول لحلولٍ أكثر محلية، كمحاولات العراق إنشاء الأحزمة الخضراء، التي من شأنها أن تشكل حاجزًا طبيعيًا يعرقل العواصف الرملية، إلا أنه لم يصل إلى التوقعات المرجوة منه لأسباب طبيعية وأخرى بشرية، كالإهمال وضعف التمويل، بينما سعت دول مثل الكويت والإمارات للمضي في هذا الاتجاه.
ورغم أن الحلول المحليّة يمكن لها أن تلعب دورًا مهمًا في جهود المكافحة هذه، إلا أن هذه العواصف في الحقيقة قلّما تعترف بالحدود وتنتقل بين مناطق مختلفة، وهو ما يؤكد ضرورة البحث عن حلولٍ أشمل. ولمّا كان جزءٌ من هذه الظاهرة مدفوعًا بالأنشطة البشرية، فإن الحل سيكون كذلك، وسيتطلب في الحقيقة جهدًا سياسيًا كبيرًا وتنسيقًا دوليًا، لا للتعامل مع هذه المشكلة بالذات وحسب بل لتدارك الآثار المختلفة للتغير المناخي، التي يبدو أنها تتكشف كل يوم وتقول إن البعض قد يشعرون بالاهتزازات الأولى قبل الآخرين.
اليوم، لا يبدو هذا الاحتمال قريب التحقق. فعلاوة على كون هذه القضايا لا تنال الاهتمام ورد الفعل اللازمين، رغم كل التحذيرات، فإن العالم اليوم لا يبدو في أشد حالاته تفاهمًا واتحادًا، كما تكشف هذا العام تحديدًا مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية وقبلها في مواضع عدة، ما يعقد العمل على خطط وبرامج ذات تنسيق عالمي، بما ستتطلبه من تغييرات وتحولات هائلة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، للدرجة التي تدفع البعض لتشبيه التغيير المطلوب بـ«اقتصاد حرب» بلا عدو مرئي، بكل ما يحيل إليه المصطلح من ضرورة واضطرارية وتغييرٍ في الأولويات وأنماط الاستهلاك.