رحلة الحزام الأخضر لبغداد من الغابات إلى العشوائيات

الأربعاء 08 كانون الثاني 2025
منطقة التاجيات في بغداد.

في القرن الثامن الميلادي بُنيت مدينة بغداد على أساس توفر الخضرة والمياه، وكانت ذات شكل دائري مرتفع عما حولها، وتتوسط العراق بين إقليمي الشمال والجنوب. يقول المعماري ومخطط المدن صبيح لفتة إن بغداد كانت مدينة دفاعية، تقع بين غابات شكّلت لها حزامًا أخضر طبيعيًا، ثم في مطلع القرن العشرين بدأ شكلها بالتغير لتصبح طوليّة ممتدة على ضفتي نهر دجلة بعدما صار فيضانه أقل ضررًا. لكن، منذ منتصف القرن الماضي حتى اليوم، تغيرت مساحة الحزام الأخضر لبغداد جراء التمدد العمراني وأضرار الحروب والتصحّر الناتج عن تلوث التربة والهواء. ورغم أن بعض أجزاء الحزام ما زالت موجودة اليوم، إلا أنه فقد وظيفته البيئية كمصدٍّ طبيعي للهواء بسبب تجزئته ونشوء ثغرات كبيرة فيه.

كانت بساتين الحزام تمتد شرقًا وغربًا حتى المدن المتاخمة مثل ديالى وبابل، ولمسافات أقل باتجاه الجنوب جهة الأنبار وباتجاه الشمال جهة تكريت، ولم تكن هذه البساتين تتطلب رعاية شديدة نظرًا لتوفر السقاية من نهر دجلة القريب، ولأن عددًا من العائلات الممتدة العاملة في الزراعة سكنت بعض مناطق الحزام التي قُسمت ملكيتها بين الخاص والحكومي والمشترك. وبحسب لفتة فإن الحزام لم يتعرض لأخطار كبيرة حتى منتصف القرن الماضي عندما ظهرت البوادر الأولى لانخفاض كثافة المساحات الخضراء في الحزام جرّاء الازدياد الطبيعي لسكان بغداد وهجرة الكثير من سكان المحافظات إلى العاصمة بغداد.

وقد شهد العراق في الأربعينيات والخمسينيات تغيرات سياسية واجتماعية أفضت في النهاية إلى تحول الحكم من ملكي إلى جمهوري. ومع ترسّخ الجمهورية ومؤسساتها سُنّت قوانين جديدة منها قانون التصميم الأساسي لمدينة بغداد عام 1971، والذي حدد التركيب الوظيفي للمدينة، وعيّن مساحة مناطق الإعمار، ووضع حدًا أدنى لمساحة الحزام الأخضر بحيث لا تقل عن قرابة 42 ألف دونم. كما حدد القانون استعمالات الأراضي بين السكني والزراعي والتجاري والصناعي والخدمات العامة كالمستشفيات والجامعات والمدارس، مراعيًا التطور الحضري المتوقع للمدينة حتى عام 1990 إذ حدد مناطق التوسع العمراني وشكله وطريقة البناء فيه، بحيث يحافظ على نمط عمراني موحّد في أغلب مناطق بغداد تكون فيها الدور أرضيةً تحوي حدائق منزلية بنسبة محددة، في حين جعل نمط البناء في مناطق أخرى على شكل مجمّعات تتكوّن من عمارات سكنية متعددة الطوابق وتُبنى بشكل مخطط لخدمة الموظفين والعاملين في المدينة.

مع تطبيق القانون خلال عقد السبعينيات، تحولت بغداد من مدينة تتمدد بشكل غير منتظم إلى مدينة تتعدد مراكزها وتتوسع بانتظام مع مراعاة البناء العشوائي السابق على القانون، حيث ضُبط شكل البناء السكني وهو ما يزال ظاهرًا حتى اليوم في بعض شوارع المدينة، فتعتمد بعض الأحياء النمط العمراني القديم -حيث الدور الأرضية والحدائق- محافظةً بذلك على هوية المدينة وروحها، فيما خُصصت أحياء أخرى للمجمعات السكنية المكونة من عمارات وأبنية طابقية، وغالبًا ما تحمل هذه الأحياء أسماء مهن حديثة مثل إسكانات الصحفيين والمهندسين والمعلمين والضباط وغيرها، وهي تقع في مناطق تشكل امتدادًا للمدينة، لا في قلبها؛ مثل مناطق الغزالية والشعلة، وتندر فيها المواقع التاريخية على عكس المناطق المسماة بأسماء قديمة أو تحمل أسماء شخصيات تاريخية مثل الرشيد والكاظمية والأعظمية والكرّادة.

بالإضافة إلى تنظيم استعمالات الأراضي، شرّع القانون العمل على مشروعين؛ الأول إدامة الحزام الأخضر الطبيعي، والثاني إنشاء حزام أخضر جديد يكون أبعد قليلًا عن مركز المدينة وتكون وظيفته الأساسية صدّ الرياح عن العاصمة، مع مراعاة البعد الإقليمي لها بصفتها تتوسط المسافة بين إقليم الشمال ومركزه الموصل وإقليم الجنوب ومركزه البصرة. كما أوجبَ القانون زيادة الأماكن المخصصة للتسلية والمساحات الخضراء لترتفع تدريجيًا من ثلاثة أمتار مربعة للفرد إلى 15 مترًا مربعًا، مع وجوب اتصال المناطق الخضراء في كل من الأطراف والمركز ببعضها بحيث تكون متخللة في المساحات العمرانية، وتنظيم الساحات المكشوفة والبساتين والحدائق في الأطراف وتهيئتها لتكون سهلة الوصول.

يقول لفتة إن إعادة تهيئة الحزام الطبيعي وإنشاء الحزام الصناعي بدأت مع إقرار القانون، وتواصلت بسرعة وانتظام طوال عقد السبعينيات، ثم بدأت بالتباطؤ مطلع الثمانينيات بعد نشوب حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، لكن العمل على الحزام الصناعي توقف قبيل إتمامه بقليل مع بدء الحصار الأمريكي على العراق. وقد تركزت جهود وزارة الزراعة خلال الحصار الاقتصادي على إدامة ما أنجز من الحزام الصناعي الذي تكوّن من أشجار كبيرة لا تعتمد المدينة على ثمارها مثل الحور والألبيزيا واليوكالبتوس والنخيل، بالإضافة إلى حماية الحزام الطبيعي الذي كان يحوي الأشجار المثمرة وبساتين الحنطة والقمح والشعير وبساتين الخضروات الورقية، وذلك في سبيل الحفاظ على الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي.

عمومًا، تعرض الغطاء النباتي في العراق لأضرار كثيرة بسبب الحروب المتتالية، وإن كانت الحرب العراقية الإيرانية قد تسبب بأضرار قصيرة المدى، إلا أن الحروب الأمريكية على العراق في الأعوام 1991 و2003 أحدثت أضرارًا بيئية دائمة أو طويلة الأمد.[1]

التدمير الأمريكي يطال الحزام الأخضر

تعرض العراق في الحربين الأمريكيتين لقصف مكثّف توزّع على مختلف المدن والقرى باستخدام أسلحة متنوعة وقنابل محرمة دوليًا، كان من أبرزها أسلحة إشعاعية سببت تلوثًا واسع النطاق، إذ تحمل الرياح ما تخلفه هذه الأسلحة من أدخنةٍ لمسافات بعيدة -حتى إنها قد تصل إلى بلاد مجاورة- ثم تتفاعل العناصر المشعة مع العناصر الموجودة في البيئة المستقبلة ما يتولد عنه مئات النظائر المشعة، فتصير كل واحدة منها مصدر إشعاع مستقل، مع احتمال انتقال هذه العناصر عبر السلاسل الغذائية من النباتات إلى الحيوانات أو الإنسان، أو مباشرة من الحيوان إلى الإنسان.

كان اليورانيوم المنضب هو السلاح الإشعاعي الأكثر استخداما في قصف العراق، وهو اليورانيوم المتبقي من عملية تخصيب اليورانيوم الطبيعي لتجهيز الأسلحة النووية أو غيرها من الصناعات النووية[2] وقد ألقت الولايات المتحدة على العراق 75 طنًا من اليورانيوم المنضب جوًا، بالإضافة إلى 19 طنًا أطلقت بواسطة الدبابات. يذكر أن الولايات المتحدة كانت قد أجرت تجاربها على هذا السلاح في سبعينيات القرن الماضي، واستخدمته للمرة الأولى بشكل محدود في حرب فيتنام، لكنها طوّرت اختباراتها له بصفته سلاحًا مدمرا عبر استخدامه بشكل مكثّف في حربيها على العراق، واعتُبر استخدام هذه الأسلحة «أرخص» طريقة للتخلص من بعض النفايات النووية لدى الولايات المتحدة.

بعد احتلال العراق، كشف تقرير الواقع البيئي الذي أصدرته وزارة البيئة العراقية عام 2005 عن وجود 93 موقعًا ملوثًا إشعاعيًا في بغداد جراء الحرب، من أبرزها منطقة التويثة[3] جنوب شرقي بغداد والتي تقع بالقرب من مقر هيئة الطاقة الذرية، حيث يُعزى التلوث هناك لقصف المكان أكثر من مرة، الأولى من قبل «إسرائيل» مطلع الثمانينيات، ومرات أخرى من قبل الولايات المتحدة في حربي 1991 و2003. وبعد الغزو، ترك الاحتلال الأمريكي المنطقة دون تأمين ما أدى لنهب محتويات مقر الهيئة من قبل بعض الجماعات، من بينها مواد مشعة[4] نُقلت بحاويات وشاحنات غير مخصصة لنقل مثل هذه المواد، ما أحدث تلوثًا هائلًا في عدة قرى قريبة[5] من نهر دجلة وفيها بعض المسطحات المائية. وقد تجاهلت سلطات الاحتلال الأمريكي حينها المناشدات بحماية المقر، كما لم تسمح للوكالة الدولية للطاقة الذرية بفحص المنطقة إلا بعد ستة أسابيع من نهب المقر، ثم تجاهلت تحديد المواقع الملوّثة إشعاعياً لتسهيل مهمة تطهيرها أو حظر الدخول إليها وحماية السكان من آثارها.

بالإضافة لاستخدام الأسلحة الإشعاعية، استخدمت الولايات المتحدة وبعض دول التحالف أسلحة محرمة دوليًا، فألقت قاذفات سلاح الجو الأمريكي حوالي ثلاث آلاف قذيفة عنقودية، فيما أنزل سلاح الجو البريطاني 66 قنبلة عنقودية، وتراوحت نسبة القنابل غير المنفجرة منها بين 5-10%، ما يعني بقاء موادها في الأرض محدثة تلوثًا بيئيًا. يُضاف إلى ذلك استخدام 77 قنبلة نابالم حارقة، سقط العشرات منها على جسور نهر دجلة جنوبي بغداد ما تسبب بتلوث النهر الذي تُسقى منه خضرة العاصمة ومدن أخرى، ولم تكشف الولايات المتحدة وقوات التحالف حتى اليوم عن كل المواقع التي استخدمت فيه هذه الأسلحة.

أثرت هذه الأسلحة وما أحدثته من دمار وتلوث على الحزام الأخضر ومصادر سقايته، يضاف إلى ذلك تخريب وحرق أجزاء منه نتيجة الاشتباكات في المعارك القتالية، ومن أبرز الشواهد على ذلك معركة أبو غريب التي وقعت في رمضان من عام 2004، حيث احترقت في هذه المعركة مساحات واسعة من بساتين النخيل في المنطقة، وظلت قوات الاحتلال الأمريكي بين فترة وأخرى تحرق البساتين في هذه المنطقة بذريعة الكشف عن المقاتلين المحتمين بها. أما نباتات الحزام التي نجت حينها من الاحتراق فقد أصيبت جراء العمليات الحربية بأمراض عديدة، من بينها مثلًا مرض التواء ساق النخيل الذي يتسبب بانعكاس اتجاه نمو النخل حتى يصبح تاج النخلة مقلوبًا على الأرض.

كانت الأسلحة والمعارك أسبابًا مباشرة مست بالحزام، لكن ثمة عوامل أخرى أحدثت فيه أضرارًا بيئية أفقدته بعض وظائفه الأساسية، من ذلك مثلًا انقطاع التيار الكهربائي خلال الحرب ما أدى إلى توقف عمل مصافي الملوحة في محطات الري وتسبب بالتالي بازدياد ملوحة التربة ما جعلها غير صالحة للإنبات. كما أدت قوة القصف وحركة الآليات والمعدات الثقيلة في مناطق الحزام بتفكيك التربة وتفتيتها فصارت تتحول إلى كثبان رملية كلما تعرضت للرياح. هذا عدا عن التلوث الحاصل نتيجة تسرب المواد النفطية وتصاعد الأبخرة والأدخنة من الآليات العسكرية والطائرات.

الزحف العمراني يوغل في الحزام

كانت الزيادة السكانية الطبيعية والنزوح الذي رافق التقلبات السياسية والحروب على العراق عاملًا أساسيًا أثّر على الحزام الأخضر في بغداد. وقد بدأ الزحف العمراني يصل إلى مناطق الحزام بشكل ملحوظ منذ الحرب الإيرانية العراقية مطلع الثمانينيات، حيث نزحت أعداد كبيرة من سكّان المدن الحدودية إلى العاصمة، لكنها لم تشكّل خطرًا على الغطاء النباتي في الحزام لأن النازحين بنوا مساكنهم في المساحات الفارغة المحاذية للمساحات المزروعة.

لاحقًا، في أواخر التسعينيات تحديدًا، تصاعد التهديد العمراني وتحول إلى مشكلة إثر قرارات حكومية قضت بتحويل صنف استخدام بعض الأراضي الزراعية إلى استخدام سكني لحل مشكلة قلة المساكن، ومن أبرزها قرار[6] صدر عام 2000 قضى بتمليك أراضٍ سكنية للعسكريين، وعلى إثره حُوّل تصنيف حوالي 12 ألف دونم[7] لتصير أراضٍ سكنية، وكان 94% من هذه الأراضي زراعية وقد اقتطع معظمها من مناطق الحزام الأخضر.

وقد تلا هذه القرارات موجة ثانية جاءت بعد الغزو الأمريكي، وذلك عندما وافقت اللجنة العليا للتصميم خلال الأعوام 2004-2007 على تغيير تصنيف حوالي 5,300 دونم، منها 90% أراضٍ زراعية، لتصير أراضي سكنية، فضلًا عن أراض أخرى تغير تصنيفها ومنحت لمستثمرين من أجل إنشاء مجمعات سكنية فارهة.

تعد القرارات الأخيرة تغييرات رسمية يمكن القول إنها كانت شبه منضبطة، لكن بالتوازي معها كان هناك توسع عشوائي ينمو بسرعة دون أية ضوابط، وقد تسبب به -إلى جانب الازدياد السكاني الطبيعي- نزوح السكان بأعداد مرتفعة لأسباب متعددة أبرزها الحرب الطائفية بين 2005-2008، وهجرة سكان الأرياف في المحافظات إلى العاصمة جراء شح المياه في مناطقهم، ثم انتشار العمليات الإرهابية واجتياح تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) شمالي العراق وتمدده حتى وصل إلى مناطق الحزام الأخضر حيث غاب آنذاك دور الدولة في ضبط العمران وتوسعه.

فرضت معظم هذه الأحداث الأمنية إجراءات وقائية منها إغلاق طرقٍ وفتح أخرى، فرض أطواق أمنية على بعض المناطق باعتبارها مناطق مستهدفة نظرًا لرمزيّتها الدينية مثل الكاظمية والأعظمية، وكذلك فصل مراكز بغداد عن بعضها بحواجز إسمنتية، فضلًا عن حواجز أخرى وضعت على مداخل ومخارج كل منطقة في المدينة، وقد شكلت هذه الحواجز فواصل ضخمة حجبت الرؤية وأعادت تصميم المدينة تبعًا للظروف الأمنية ما غيّر من تكوينها وآليات ربط مناطقها وإمكانيات الوصول والتحرك بين أحيائها.

هكذا تفتتت أنحاء المدينة، وفُصل قلب المدينة التاريخي عن الأحياء الحديثة نسبيًا، كما انتشرت الأسواق بشكل عشوائي في كل مكان بعدما كانت منظمة ضمن مناطق مخصصة يسهل الوصول إليها. أدى هذا الفصل والتفتيت إلى نمو المساكن العشوائية خارج المناطق التي تحيطها الفواصل الإسمنتية، ليبلع هذا التوسع مناطق في الحزام الأخضر، وقد صارت هذه المناطق اليوم جزءًا عمرانيًا من المدنية الكبرى الجديدة.

يقول لفتة إن هذا النمو العمراني غير المنظم أفقد المدينة حزامها الأخضر الواقي، وصارت بعض المساكن متاخمة أو محيطة بمناطق كانت معزولة سابقًا لأسباب صحية؛ مثل المصانع ومكبات النفايات. ومن أبرز الأمثلة على ذلك مصفاة الدورة النفطية التي كانت تقع خارج المدينة ويفصل بينهما الحزام الأخضر، لكن المصفاة صارت اليوم ضمن المناطق الواقعة في قلب المدينة حيث تجاوزها التوسع العمراني. ويقترح لفتة تفكيك هذا المصنع وغيره وإعادة موضعتها خارج المدينة الجديدة، والعمل على تهيئة العشوائيات ومدها بالخدمات لتصير صالحة للعيش بما يحقق كرامة الإنسان وحقه في مسكن ملائم.

وقد اتسمت المساكن الجديدة بنمط عمراني يختلف عما عهدته بغداد، فبعد أن كانت الدور تخضع لقانون التصميم الذي يوجب وجود حديقة منزلية تكاد مساحتها تساوي مساحة البناء، كما يفرض على التجمعات السكنية الطابقية وجود مساحات ترفيهية خضراء لخدمة سكان التجمع، صارت مساحات البناء في الدور تغطي كامل مساحة الأرض أحيانًا، ولا يراعى فيها التقسيم الحضري للمدينة إذ تختلط العمارات الطابقية مع الدور، حيث يضطر السكان لمثل هذه الإجراءات بسبب صعوبة شراء الأراضي أو لحصولهم على قطع أراضٍ صغيرة بأسعار مرتفعة.

بالمقابل تعجز الدولة عن ضبط تخطيط المدينة أو احتواء التوسع العشوائي فيها عبر خطط جديدة تأخذ بالاعتبار التطورات الحاصلة، من ذلك مثلًا ما حصل في منطقة الطيّ الحزامية، حيث بدأ الزحف العمراني العشوائي باتجاه الحزام مطلع عام 2012، لكنه توقف مع اجتياح داعش شمالي العراق ووصوله قرب منطقة الطيّ على أطراف بغداد، ثم عاد النمو العمراني ببطءٍ بعد انحسار داعش وظل كذلك حتى عام 2016 حين شقّت الدولة شارعًا ملاصقًا لمنطقة الكاظمية، ما أدى إلى توسع البناء من الكاظمية باتجاه الطي، وتسارعت بعدها حركة العمران دون توقف حتى اليوم.

منطقة الطي، محيط الكاظمية، ويظهر فيها جزء بسيط متبقٍ من الحزام الأخضر لبغداد.

عدد من المجمعات السكنية الحديثة تنتشر على جانبي الطريق الواصل بين الطيّ وحي الشعلة القريب من أبو غريب، وهي مناطق امتداد للحزام الأخضر

يُذكر أن تصنيف استخدامات الأرض لم يتغير في هذه المنطقة أو غيرها من العشوائيات، وظلت بذلك غير مخدومة من الدولة، فلم تزفّت شوارعها ولم تؤسس فيها شبكات صرف صحي إنما تعتمد على الحفر الامتصاصية التي تُفرّغ بصهاريج النضح أو تترك لامتصاص التربة وقد تصل الإشباع وتفيض مع كل هطول مطري كثيف. كما لا تُشمل هذه المناطق بأعمال التنظيف، ما يضطر سكانها لنقل النفايات إلى ساحات مفتوحة تُنقل في وقت لاحق إلى المحارق. ونادرًا ما ترتبط هذه المساكن بشبكة الكهرباء الوطنية إذ تعتمد بشكل أساسي على المولدات الكهربائية التي تعمل بالديزل. وهكذا تحولت منطقة حزامية مثل الطي من مكان ينقّي هواء المدينة إلى أحد مصادر تلوثها.

إن تغير شكل بغداد لم يحرم السكان من القيمة الجمالية للمدينة فحسب، بل أثّر كذلك على نمط معيشتهم وصحتهم العامة، ففقدان الحزام الأخضر جعل المدينة عرضة للأتربة التي تحملها الرياح من كل اتجاه، وبدل روائح البساتين صارت تهب على سكانها العواصف الرملية مسببة لهم الكثير من الأمراض التنفسية حتى صار الانتقال بين الفصول مواسم تكتظ فيها المستشفيات بحالات الاختناق، خصوصًا أن الرياح تأتي محملة -إلى جانب الغبار- بالملوّثات التي خلفتها الحروب وتلك المتطايرة من مكبات النفايات أو الناتجة عن الأنشطة الصناعية في محطات توليد الكهرباء ومصافي النفط وغيرها، وإذا حلّت أمطار الشتاء تساقطت الأمطار الكبريتية على المدينة وسكانها.

عام 1987 بلغ عدد المناطق العشوائية في بغداد 17 منطقة،[8] حاولت الدولة حينها استيعابها عبر دمجها بالمخطط الأساسي للمدينة. لكن الحصار الاقتصادي الذي فرضته الولايات المتحدة على العراق مطلع التسعينيات رفع العدد إلى 25 منطقة بحلول العام 1998.[9] وبعد الغزو الأمريكي للعراق عام 2003 انتشرت العشوائيات حتى طالت مناطق الحزام الأخضر وأراضي الدولة حتى بلغت نسبة سكان المناطق العشوائية في بغداد وحدها حوالي 36% من إجمالي عدد سكّان العشوائيات في العراق كله.

منذ سنوات يُطرح مشروع الحفاظ على ما تبقى من الحزام الأخضر وإنشاء حزام جديد يطوّق المدينة بحسب امتدادها الحالي، لكن المشروع لم ير النور حتى اليوم، إنما يعاد طرحه كلما اسودّت سماء بغداد بالمواد السامة أو اجتاحتها الأتربة والروائح الغريبة، ثم يطوى الحديث عنه أو يضيع في خضم النقاشات التي تعزو مشكلة المدينة إلى التغير المناخي بوصفه مشكلة عالمية، لا بغدادية فحسب.

  • الهوامش

    [1] يضاف إلى ذلك الضرر الناتج عن عملية تجفيف الأهوار التي تمت منتصف الثمانينيات بأمر من النظام السابق ونتج عنها تغييرٌ في النظام الحيوي.

    [2] يقل الإشعاع في اليورانيوم المنضب عن اليورانيوم الطبيعي بنسبة 40%.

    [3] التوزيع المكاني للتلوث الإشعاعي في العراق، نسرين هادي رشيد الكرخي، مجلة ديالى.

    [4] من أبرز ملوثات هذه المنطقة مادة مسحوق بروكسيد اليورانيوم منخفض التخصيب المستخدمة بالوقود المشع، والمعروف باسم «الكعكة الصفراء».

    [5] مثل قرى الوردية والزهور والغرّاوية.

    [6] قرار رقم 17 لعام 2000.

    [7] تم تحويل صنف 12341 دونم ، منها 320 دونم من مساحات احتياطية إلى سكني، و420 دونم مخصصة للمستشفيات إلى سكني، وما تبقى بنسبة 94% حوّل من صنف زراعي إلى سكني.

    [8] بحسب التعداد السكاني لمدينة بغداد لسنة 1987.

    [9] بحسب إحصاء سنة 1998.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية