كثيرًا ما يواجه سائقو السيارات في عمّان معضلةً في العثور على أماكن لإيقاف سياراتهم، إن لم يكن عند العمارات السكنية، وفي الحارات المزدحمة بالمساكن والسيارات، فعند أماكن العمل أو الدوائر الحكومية أو المراكز التجارية والأسواق. وبات طبيعيًا أن تتكدس السيارات في بعض الشوارع لدرجة تعيق انسيابية السير وتتسبب بازدحامات واختناقات مرورية. وتكبر المشكلة مع حلول فصل الصيف وعودة المغتربين وتوافد السيّاح، لتنضمّ مركباتهم إلى حوالي 2 مليون مركبة تسير في شوارع الأردن، منها 1.2 مليون مركبة تقريبًا داخل العاصمة عمّان.
وفي حال بقاء الوضع القائم، فإن المشكلة ستتفاقم، خصوصًا مع ازدياد أعداد السيارات بين عام وآخر، وهو ما يحدث بتسارع منذ عقود، إذ لم تتجاوز أعداد السيارات في الأردن عام 1970 مثلا 21 ألف سيارة، بواقع سيارة واحدة لكل 69 شخصًا، فيما وصلت عام 2022 إلى سيارة واحدة لكل ستة أشخاص.
يمكن القول إن ملامح هذه المشكلة بدأت بالظهور في سبعينيات القرن الماضي في منطقة وسط البلد تحديدًا، حيث كانت، بالإضافة إلى أنها مركز للأسواق التجارية والشعبية مثل سوق البخارية، تضم عددًا من المؤسسات الحكومية؛ «العدلية» وزارة العدل حاليًا، و«النافعة»، وزارة الأشغال العامة حاليًا، والبنك المركزي، فضلًا عن مواقف السرفيس ومجمع رغدان، ما جعلها تشهد ازدحامات مرورية أحيانًا.
تكمن أهمية هذه المواقف، التي تمتدّ على عدة طوابق في الفراغ الرأسي بدل الأفقي، بكفاءتها في تجميع السيارات في مساحات صغيرة بعيدًا عن جوانب الطرق ما يحافظ على انسيابية المرور خصوصًا في المساحات المركزية المكتظة وقريبًا من الأسواق ومحطات النقل العام، ما يسمح للناس بركن سياراتهم فيها ومتابعه رحلتهم باستخدام النقل العام. وتقام تلك المواقف بعيدًا عن التقاطعات منعًا لازدحام الشوارع القريبة وتجنبًا لإعاقة حركتيْ الدخول والخروج من المواقف.
أول هذه المواقف في عمّان كان مبنى الشابسوغ التجاري، الذي يحمل اسم عائلة الشابسوغ، وهي واحدة من أوائل العائلات الشركسية التي استقرّت في عمّان، وقد أنشأته الحكومة بالسبعينيات في واحد من أقدم أحياء وسط البلد بارتفاعِ 15 طابقًا، خُصص تسعة منها لمواقف السيارات، وبقدرةٍ استيعابية تصل إلى 390 سيارة، فيما تضم الطوابق الأخرى محلات تجارية يعمل كثير منها في صياغة الذهب والمجوهرات. وهو ملكٌ لأمانة عمّان ووزارة المالية وبنك الإسكان.
يذكر أن فترة الستينيات والسبعينيات شهدت عدة مشاريع متعلقة بأزمة النقل والازدحامات المرورية، أبرزها تأسيس مؤسسة النقل العام (خُصخصت أواخر التسعينيات)، وإقامة مجمع رغدان، وجسور وأنفاق للسيارات والمشاة، ومشروع سقف السيل الذي صار شارع قريش، كما شهدت وصول أول إشارة ضوئية، و«العين المراقبة»؛ وهي أول كاميرا للمراقبة في البلاد.
بعد عدة أعوام على «الشابسوغ»، مطلع الثمانينيات تحديدًا، استثمرت الحكومة في مبنى آخر ارتفع على سفح جبل عمان النازل إلى وسط البلد، وهو مبنى «البرج» المكون من 22 طابقًا بارتفاع يصل إلى 90 مترًا، وكان حينها أطول المباني في عمّان. تسع من هذه الطوابق مخصصة اليوم لمواقف السيارات، فيما صممت بقية الطوابق بمساحات مختلفة لتخدم أغراضًا متعددة (صالات، مكاتب، محال تجارية).
موقف الشابسوغ الطابقي في وسط البلد في عمان.
ليست كل مرافق البرج ومساحاته مستغلة اليوم، نظرًا لتقادمها وعدم جاذبيتها للمستثمرين، أما المساحات المستثمرة منه اليوم، سيما المفتوحة على الشارع العام، محالٌ تجارية يبيع بعضها الألبسة والأجهزة الخلوية، فضلا عن مقر دائرة ضريبة الدخل والمبيعات. وكان حديثٌ قد دار في الماضي عن إمكانية تجميع كل مؤسسات وإدارات وزارة المالية في البرج. وكان البرج يضم في الماضي سينما فيلادلفيا قبل إغلاقها، فيما يضم موقعها اليوم مسرح البلد، كما ضم البرج عام 2011 بعض الاتحادات الرياضية الأردنية بينها الملاكمة والكيك بوكسينغ وبناء الأجسام وغيرها، والتي انتقلت إليه عام 2011 ثم غادرته عام 2015 بسبب رفع أجور المكاتب والمساحات المستأجرة.
تدير مبنيي الشابسوغ والبرج وتستثمر فيهما شركة المنشآت والمجمعات العقارية، المملوكة من شركة إدارة المساهمات الحكومية وبنك الإسكان، ويتقاضى الموقفان دينارًا واحدًا عن كل ساعة اصطفاف، وهو سعر يعتبر مرتفعًا بالمقارنة مع أغلب المواقف الأفقية العادية التي تتقاضى المبلغ نفسه تقريبًا لقاء الاصطفاف لساعات أكثر، كما يوفر الموقفان اشتراكات شهرية وسنوية يستفيد منها العاملون في المنطقة المحيطة والمترددون عليها بكثرة.
وهناك مبنى ثالث في وسط البلد يضم مواقف طابقية هو موقف الفحيص، الذي أنشأته عائلة صويص منتصف الثمانينيات ليكون مجمعًا تجاريًا خصصت طوابقه الستة الأخيرة لتكون موقف طابقيّة لاستيعاب أعداد السيارات المتزايدة في المنطقة المحيطة، بقدرة استيعابية تصل إلى 140 سيارة، تدخل المبنى من واجهته الأمامية في شارع الملك حسين، وتغادر من جزئه العلوي في شارع نمر العدوان بجبل اللويبدة. ما زال المجمع ملكًا للعائلة وتحت إدارتها. يستفيد من الموقف بالدرجة الأولى زبائن ثابتون مثل التجار والعاملين في المجمع نفسه، إذ يمنحهم اشتراكات تفضيلية، فضلا عن رواد وسط البلد والعاملين في المنطقة.
موقف الفحيص الطابقي في منطقة وسط البلد في عمان.
مع أن المواقف الطابقية لديها قدرة كبيرة على استيعاب عدد كبير من السيارات في مساحات موزعة عاموديًا، لكنها لم تعد الخيار الأنسب في بعض العواصم حول العالم وفي المراكز الإدارية والتجارية التي تفتقر لأراض أو مساحات فارغة يمكن البناء فوقها، وحتى إن توفرت الأراضي فإن أسعارها تكون مرتفعة في الغالب، وهذه مسألة استطاعت -إلى حد بعيد- المواقف الطابقية الآلية (أو الإلكترونية) تجاوز بعض إشكالياتها.
تعمل المواقف الآلية، مثل المواقف الطابقية التقليدية، على تخزين السيارات رأسيًا، ولكن مع قدرة أكثر كفاءةً على استغلال المساحات عبر إيواء أكبر عدد من السيارات في أصغر حيّزٍ ممكن، إذ تخزنها فوق وإلى جانب بعضها باستخدام مصاعد هيدروليكية تتحرك أفقيًا وعاموديًا عبر نظام آلي لركن السيارة، وتجري استعادتها دون تدخل بشري. وعادة ما يتم اختيار مكانها، سيّما العامة منها، بالقرب من الأسواق ومجمعات وسائل النقل العام، بحيث يركن السائقون سياراتهم فيها ثم يستخدمون وسائل النقل العام للوصول إلى وجهاتهم النهائية.
موقف بنك الاتحاد الطابقي الآلي.
منذ العام 2009، على الأقل، وأمانة عمان تعلن نيتها الاستثمار في المواقف الآلية في مناطق عدة في عمان من بينها الصويفية والشميساني والدوار السادس وغيرها، كما سبق وأعلنت عن توجهها لبناء وتشغيل مواقف عامة أوتوماتيكية في أراضٍ تملكها في حيّ عمان الطبي في منطقة زهران، لكن هذه المشاريع لم تتمّ، وعوضًا عن ذلك طرحت تلك المشاريع كفرص استثمارية للقطاع الخاص، وباستثناء مواقف الصويفية التي أتت بشراكة مع القطاع الخاص، لم تر باقي تلك المشاريع النور حتى الآن.
وكان أمين عمان قد افتتح مجمع بارك بلازا التجاري أواسط عام 2009، في منطقة الصويفية، وضمّ مكاتب ومساحات تجارية، إلى جانب موقف طابقي آلي يتسع لـ750 سيارة، ويتيح للسيارات الاصطفاف بالساعة أو من خلال اشتراكات شهرية.
ودُشن المجمع التجاري وفق نظام تصميم وبناء وتشغيل ونقل الملكيّة (DBOT)، وبالشراكة بين أمانة عمان، التي قدمت قطعة أرض تملكها ليقام عليها المجمع، وبين القطاع الخاص الذي تكفل بإنشاء المجمع لقاء تشغيله واستثماره مدة 25 عامًا تنتقل بعدها ملكية المجمع بالكامل لأمانة عمان.
بالمقابل، أسست شركات خاصة مواقف آلية عمومية، من بينها موقف سمارت بارك الذي أنشأته الشركة الأردنية لحلول المواقف الأتوماتيكية (جو بارك) عام 2011 في منطقة الصويفية، وهو مكون من أربعة طوابق تتسع لـ104 سيارات.
كما أقامت بعض الشركات الخاصة مواقف آلية لخدمة موظفيها والمراجعين، منها مثلا مواقف المستشفى التخصصي التي أنشئت في منطقة الشميساني عام 2014 بارتفاع تسعة طوابق وبقدرة استيعابية تصل إلى 104 سيارات. وكذلك بنك الاتحاد الذي أنشأ عام 2016 (في أحد فروعه) موقفًا آليا من خمسة طوابق يعتمد على الطاقة الشمسية في التشغيل ويتسع لـ110 سيارات. ويجري الآن إنشاء موقف آلي عام هو «فيو بارك» في وسط البلد، وهو مكون من أربعة طوابق تتسع لمئة سيارة.
تقرّ أمانة عمّان، في خطتها الإستراتيجية للأعوام (2022-2026)، بأن عدم كفاية نظام النقل والتنقل في عمّان يمثل تحديًا اجتماعيًا واقتصاديًا وبيئيًا رئيسيًا، وأن زيادة أعداد السكان وعدم جاذبية وسائل النقل العام أدت إلى اعتماد الناس على ملكية السيارات الخاصة ما تسبب بازدحامات مرورية مزمنة وبارتفاع الطلب على مواقف السيارات.[1]
موقف رغدان في منطقة وسط البلد.
يُذكر أن الأمانة وضعت ضمن أهدافها الإستراتيجية مشروعًا بتكلفة أربعة ملايين دينار لإنشاء موقف سيارات متعدد الأدوار في «كراجات العبدلي»،[2] سيتكون من موقف سيارات متعددة الأدوار، إلى جانب مواقف خارجية ومحلات تجارية، لخدمة المناطق المحيطة بالمشروع، بما فيها قصر العدل والبوليفارد، والتي تشهد ازدحاما في حركة السير ونقصًا في مواقف السيارات، بحيث يتضمن المشروع حافلات تمكّن الموظفين والزوار والمراجعين من إيقاف سياراتهم في المشروع والانتقال إلى المناطق المجاورة. وقد طرحت شركة رؤية عمان للاستثمار والتطوير؛ الذراع الاستثماري لأمانة عمان، مطلع العام الحالي هذا المشروع كفرصة استثمارية، ويُفترض إنجازه عام 2024.
يعتبر وزير النقل السابق، جميل مجاهد، أن عدم استيعاب الشوارع لأعداد السيارات نتيجة الوقوف العشوائي واستغلال جزء من الشوارع كمواقف للسيارات واحدًا من أهم أسباب الازدحام المروري، وأن أحد الحلول الممكنة في ظل عدم توفر مساحات أرضية كافية لاستعمالها كمواقف هو إنشاء مواقف طابقية، مع منحها الأولوية لمواجهة بعض المشاكل المرورية، قائلًا إن «مصادر التمويل متوفرة من خلال صندوق إنشاء المواقف العامة الذي تودع به المبالغ التي تستوفى من رسوم وبدلات مواقف السيارات والذي لا يجوز الصرف منه إلا لهذه الغاية»، مقترحًا إلى جانب ذلك أن تخفّض الأمانة من الرسوم والضرائب على المشاريع التي تهدف إلى بناء وتشغيل المواقف الطابقية الآلية لتشجيع الاستثمار في هذه المشاريع، وأن تدخل الأمانة في شراكة مع القطاع الخاص لتطوير وتشغيل هذه المواقف.
الازدحام المروري في منطقة وسط البلد في عمان.
-
الهوامش
[1] الخطة الإستراتيجية لأمانة عمّان الكبرى، للأعوام 2022-2026، ص 25.
[2] المصدر نفسه، ص 200.