في قلب مدينة عمّان، وتحديدًا في منطقة وسط البلد، علق أحد أصحاب المقاهي الشعبية لافتة كتب عليها: «الرجاء عدم الإزعاج، ممنوع دخول الحمام لغير الزبائن». هذه العبارة البسيطة تُلقي الضوء على معضلة يومية يواجهها سكان المدينة عمومًا ، لكنها تصبح عبئًا مضاعفًا على الأمهات ومقدّمات الرعاية بشكل خاص، حيث يُشكّل غياب المرافق الأساسية، مثل الحمامات وأماكن الرضاعة، تحديًا كبيرًا لهن. فبينما تبدو لافتة المقهى منطقية من وجهة نظر صاحب العمل، الذي يسعى لحماية باب رزقه، إلا أنها تعكس واقعًا أوسع: انعدام البُنى التحتية الداعمة للرعاية والأمهات في فضاءات المدينة، مما يضطرّهن للبحث عن بدائل ممكنة لتلبية حاجاتهن أو التفكير مطولًا قبل اتخاذ قرار الخروج من المنزل.[1]
هذا الاستبعاد المكاني لا يعكس مجرد حالة عفوية من الإهمال، بل يشير إلى مشكلة بنيوية في التصميم الحضري للمدينة. رغم الدعوات المتواصلة لتصميم حضري شامل، فإن مخرجات التخطيط تستثني حاجات الفئات الهشة كالنساء، والأطفال، وكبار السن، وذوي الإعاقة. ويتبنى المصممون والمخططون الحضريون رؤيةً تُركّز على خدمة الجسم الذكوري المعياري، أي الرجل البالغ، السليم جسديًا، المتحرر من أعباء الرعاية اليومية. مرةً أخرى، تعيد المدينة إنتاج الأدوار الجندرية وتعززها، فتفرض قيودًا على حركة وتواجد مقدّمات الرعاية في الفضاء العام، مما يؤدي إلى حصر الرعاية كمفهوم وممارسة داخل الفضاء الخاص. إنّ الحرمان من الحق في الوجود في المساحات العامة، كنتيجة لغياب المرافق الأساسية، لا يُمثل مجرد إزعاج عابر، بل هو أحد أشكال «العنف المكاني»،[2] حيث تُجبر الأمهات على تبني استراتيجيات بقاء يومية في مدينة تتعامل معهن كضيفات غير مرغوب بهن، بدل كونهنّ مواطنات لهن حقٌ في الفضاء العام.
تجارب متجاهلة: الرضاعة الطبيعية والفضاء العام
«إذا ما فرغت الحليب كل ثلاث ساعات بصير في عندي تحجر وألم في الصدر، ما في مكان للرضاعة فهذا الموضوع يؤثر علي وعلى جسمي»، تشاركني زبيدة تجربتها، وهي أم لطفل رضيع يعتمد بشكل كامل على الرضاعة الطبيعية، مشيرةً إلى حق أساسي يجري تجاهله في تصميم المساحات العامة المفتوحة، كالحدائق، والساحات، والمتنزهات في مدينة عمّان. الألم المصاحب لتأخير الرضاعة يشكل معاناة يومية لكثير من الأمهات، حيث يصفن شعورًا بالانزعاج الشديد وألما ووخزًا حادًا في الصدر، مما يدفع كثيرات منهن للبحث عن دورات مياه عامة أو العودة سريعًا إلى المنزل. وتتفاقم المشكلة بفعل القيود الثقافية التي تعتبر في كثير من الأحيان ممارسة الرضاعة الطبيعية في الفضاء العام، حتى مع استخدام غطاء الرضاعة، أمرًا مرفوضًا وخادشًا للحياء العام.
غياب هذه المرافق ليس مجرد إشكالية رفاهية، بل مسألة تلامس حقوقًا أساسية. حيث تشير تقارير منظمة الصحة العالمية[3] لأهمية زيادة معدل الاقتصار حصرًا على الرضاعة الطبيعية طيلة الأشهر الستة الأولى من عمر الطفل، لما لذلك من فوائد صحية للأم والرضيع. على النقيص، يشير تقرير المجلس الأعلى للسكان[4] في الأردن أن 76% من الأمهات يتوقفن عن الرضاعة الطبيعية المطلقة قبل بلوغ أطفالهن ستة أشهر، حيث تلجأ كثير من الأمهات إلى التغذية التكميلية عبر الحليب الصناعي في وقت مبكر من عمر الطفل. هذا الواقع لا يعود فقط إلى عوامل اجتماعية أو شخصية، بل يتأثر بغياب البنية التحتية الداعمة، مما يدفع العديد من الأمهات إلى الاعتماد على الحليب الصناعي لتسهيل حركتهن في الفضاء العام.
«بصراحة أريحلي، عن تجربة القنينة كتير أريح» تعلق فرح على سؤالنا عن تجربتها مع الرضاعة الطبيعية، وهي أم لطفل بعمر سنة، وتكمل: «من ناحية الطلعة كتير أريح يعني تخيلي لو طالعة مكان كيف بدك ترضعي، صعب جدًا، هلا صاروا يستخدموا الشفط، بحس إشي بغلب لأنه ما عنا أماكن للرضاعة».
دورات المياه بين الحاجة المستعجلة وإمكانية الوصول
تؤكد الأكاديمية والباحثة البريطانية كلارا جريد[5] إلى أن قلة المراحيض العامة يمكن أن تحد من حرية الحركة في الفضاءات العامة، مما يؤثر بشكل خاص على الأمهات اللواتي يصطحبن أطفالهن، واللواتي قد يجدن أنفسهن مضطرات لتحديد أماكن الخروج بناءً على توفر المرافق الصحية. وتشير إلى أن التخطيط التقليدي غالبًا ما يصمم الحمامات العامة بناءً على احتياجات الرجال، مما يجعل النساء يواجهن تحديات مثل الطوابير الطويلة، ونقص المرافق المناسبة، وقلة أماكن تغيير الحفاظات. «لو يكون في حمام محترم، يحطوا فيه كرسي، الست شو بدها مشان ترضع؟ مكان آمن وفيه كرسي ترضع فيه». بصوت يختلط فيه الغضب بالألم، تستنكر أحلام -وهي أمٌ لثلاثة أطفال- غياب أبسط مقوّمات الرعاية من المساحات العامة في عمان، من دورات مياه نظيفة وملائمة. تتفق كثير من الأمهات على أن إمكانية الوصول لدورات المياه في المساحات العامة يشكل تحديًا لهنّ ولأطفالهن.
على سبيل المثال، تغيب دورات المياه عن المشهد الحضري لوسط البلد في عمان، رغم كونه وجهة للكثيرين لما تحمله شوارعه من قيمة ثقافية وتراثية وتاريخية، بالإضافة لسوقه الشعبي الذي يستقبل آلاف الزوار يوميًا. تعلق براءة على تجربتها فتقول: «مشكلتنا بوسط البلد ما في حمامات نظيفة، بالبداية كانت المشكلة ما في حمامات نهائي، الآن في بأماكن محدودة جدًا ولا تعتبر نظيفة، هذا أكبر تحدي في وسط البلد ويمكن في عمان بشكل عام، تقريبًا المولات فقط فيها حمامات نظيفة». هذا التجاهل غير المبرر لدورات المياه هو مؤشرٌ على مدينة تُحمّل النساء عبء التكيف مع واقعٍ غير إنساني، وغياب واضح للسعي لتوفير بيئة تضمن حق الجميع في الوجود الآمن والكريم في الفضاءات المشتركة.
يتزايد التحدي في فترات الحمل وما بعد الولادة، بسبب الحاجات الفسيولوجية والرعاية الخاصة التي تتطلبها هذه المرحلة. تخبرنا صابرين عن تجربتها أثناء الحمل «الحامل بدها تستخدم الحمام كل فترة، ما كنت أعرف وين بدي أروح فكنت أختصر الروحة كلها، وإذا بدي أروح هيك نص ساعة نتناول شغلتين»، تتشابه تجربة ريم معها «بالأشهر الأخيرة مع الثقل والوزن بصير ضغط على المثانة، وما في مجال لازم تروحي على التواليت».
وفي حين قد تضبط بعض النساء حاجتهن للوصول إلى دورات المياه، يزداد قلقهن عندما يتعلق الأمر بأطفالهن. رعاية الأطفال في الأماكن العامة تزيد من شعور الأم بأهمية تلبية احتياجات طفلها الأساسية. وعلى عكس البالغين، غالبًا ما يحتاج الأطفال الصغار إلى الوصول الفوري إلى المرافق، مما يجعلها مشكلة ملحة للأمهات تترافق مع حالة من الإحراج أثناء التنقل في الأماكن العامة. تشير خولة إلى محاولتها التكيف مع واقع المدينة فتقول: «صراحة نحن حتى لما بدنا نطلع أو نروح على مكان ما بنطول فيه، حتى ما نضطر ككبار نستخدم دورات المياه. لكن الأطفال لازم بأي وقت يكون في مكان، ما بتقدري تحكيله استنى شوي لحد ما نروح على البيت». تظهر هذه الشهادات كيف تتحول الحاجة البيولوجية البسيطة إلى أزمة يومية.
كيف تعيد الأمهات تشكيل فضاءات المدينة؟
وفقًا للجغرافية النسوية ليندا مكدويل[6] لا تُعدّ المساحات العامة مجرد أماكن محايدة، بل هي انعكاس لـ«هندسة القوة»، حيث يتموضع الأفراد والجماعات داخل شبكة العلاقات الاجتماعية وفقًا للجندر والطبقة والوضع الأسري. من هذا المنطلق، تعيد فضاءات المدينة إنتاج التفاوتات الاجتماعية عبر تصميمها الحضري، وهو ما يبدو جليًا في حالة مدينة عمّان بشكل عام، ومنطقة وسط البلد على وجه الخصوص. يظهر غياب المرافق الصحية ومرافق الرعاية كأداة غير مباشرة للسيطرة على حركة النساء في الفضاء العام، حيث يجري التعامل مع احتياجاتهن وأدوارهن الرعائية على أنها مشكلات فردية لا حقوق جماعية. في المقابل، ينظر صناع القرار إلى المدينة كحيز مخصص لمن لا يشكلون عبئًا عليها، بينما يقيّد وجود غيرهم والحد من مشاركتهم في الحياة الحضرية.
تعيد النساء، ولا سيما مقدمات الرعاية، تشكيل المساحات العامة من خلال ممارسات الرعاية اليومية، والتي تتأثر بمحددات اجتماعية واقتصادية وثقافية. فعلى سبيل المثال، تلجأ بعض النساء في وسط البلد إلى استخدام مرافق المسجد الحسيني لقضاء الحاجة أو للرضاعة، أو يضطررن إلى طلب الإذن من أصحاب المحلات لاستخدام مرافقهم الخاصة، مثل غرف التبديل أو المراحيض، وهو ما يقابل بتفاوت في الاستجابة بين القبول والرفض. وفي حالات أسوأ، تبحث بعض الأمهات عن زوايا مخفية خلف السيارات أو الأشجار لتلبية الحاجة المستعجلة لأطفالهن.
في إحدى مجموعات النقاش التي أجريتها في جبل النظيف في عمان، تشارك نوال، وهي إحدى الأمهات، تجربتها في وسط البلد قائلة: «الرضاعة عادي بأي محل، كنت أفوت لما يغلبني على أي محل وأقول له: بدي أرضع». وعند سؤالها عن رد فعل أصحاب المحلات، تجيب: «لا، برضى، حتى لو كانوا شباب، بطلعوا برا وبخلوني جوه لحالي» تتفاعل بعض الأمهات في الجلسة مع كلامها، فتعلق إحداهن ضاحكة: «آه، أنا كنت أفوت ع صالون نسائي زيها!» بينما ترى أخريات أن الأمر حساس، فتقول فاطمة: «أنا بفضل الحليب الصناعي، الوحدة لما تطلع تكون عاملاه».
تعكس هذه المواقف تفاوت التجارب بين النساء في التعامل مع الفضاءات العامة، حيث تعتمد القدرة على إيجاد مساحات مناسبة للرعاية على تفهم أصحاب المحلات ومرونة الدعم الاجتماعي، مما يجعل هذه الحلول فردية وغير مضمونة، بدل أن تكون حقًا جماعيًا ميسرًا في التصميم الحضري للمدينة. وبينما تجد نساء من الطبقات محدودة الدخل في طلب مساعدة المجتمع المحلي حلًا آنيًا، تلجأ نساء من الطبقات المتوسطة والأعلى دخلًا إلى المقاهي والمطاعم للاستفادة من مرافقها وخدماتها. تقول براءة، وهي أم لأربعة أطفال، «بالنسبة للحمام، ما كنا نشرب عصير ولا ماء إلا بآخر وقت مشان ما نضطر نروح على الحمام، بس إذا اضطرينا، كنا نشتري من مطعم مرتب ونروح على الحمام».
في حالات أخرى، تلجأ النساء إلى تحويل سياراتهن إلى فضاءات تحتضن ممارسات الرعاية، مثل الرضاعة وتغيير الحفاظات. آية* وهي أم لطفلة بدأت حديثًا تجربتها مع استخدام المرحاض، تصف رحلة التنقل في فضاءات المدينة بالكابوس، مما دفعها إلى إيجاد حل عملي يتمثل في وضع حمام متنقل في سيارتها الخاصة. تقول «مع عمر بنتي هلا صرنا نستخدم حمام، فهاد إشي جديد وكابوس بالنسبة لي، لأنه ما في حمامات في أي مكان عام بعمان بقدر أفوت عليها وأنا مرتاحة ومش ماخدة معي كل عدة التعقيم، معي بالسيارة حمام متنقل مشان أبدًا ما أضطر أفوت على حمام عام». توضح هذه الشهادات كيف تتعامل النساء مع الغياب البنيوي للمرافق الملائمة في الفضاءات العامة، حيث يخلق غياب الحلول الحضرية الشاملة استراتيجيات فردية متفاوتة بين الطبقات الاجتماعية، ما يعكس الفجوة في إمكانية الوصول إلى الخدمات الأساسية في المدينة.
ورغم كون الاستراتيجيات التكيفية تتيح الاستمرار في استخدام المساحات العامة إلا أنها تثقل التجربة وتضيف عليها تحديًا نفسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا. في هذا السياق، تعيد النساء تشكيل الفراغات الحضرية في المدينة، لكن هذه الفراغات تستمر في إنتاج وتعميق التمييز الجندري بحقهن. إن عدم الاعتراف بهذه التحديات في سياسات التخطيط الحضري يعزز من التهميش الاجتماعي والاقتصادي للأمهات ومقدمات الرعاية، ويحد من إمكانياتهن في الوصول والمشاركة الفعالة في الحياة الحضرية. بالتالي، فإن أي حديث عن مدينة عادلة وشاملة لا يمكن أن يتحقق دون إدراج بُنى تحتية حضرية تراعي حاجات الأمهات ومقدمي/ات الرعاية، سواء من خلال توفير مرافق صحية ملائمة، أو إنشاء مساحات آمنة ومريحة للرضاعة الطبيعية، أو دمج مفاهيم الرعاية في تخطيط الفضاء العام. في النهاية، لافتة المقهى ليست مجرد إعلان، بل جرس إنذار لمجتمع يحتاج إلى إعادة تخطيط فضاءاته لتكون أكثر شمولًا. فالمدن الحقيقية لا تُقاس بعلو أبراجها، بل بقدرتها على احتضان كل سكانها، بمن فيهم من يحملن أطفالًا على الأكتاف، ويبحثن عن مكان آمن لرعايتهم.
-
الهوامش
* أسماء مستعارة حفاظًا على خصوصية صاحباتها.
[1] هذه المقالة جزء من عمل بحثي أكبر، نشر منه حتى الآن : Akmeel, Lama, Hebah Abu-Shamah, Haneen Ahmad, Yike Hu, and Yazhuo Zhang. 2025. «Intersecting Landscapes of Exclusion: Mothers’ Perceptions and Spatial Tactics in the Public Spaces of Amman Downtown» Sustainability 17 (4): 1424.
[2] يشير العنف المكاني إلى الاستخدام المتعمد أو المنهجي للمكان أو العمارة أو التخطيط الحضري لإلحاق الضرر أو تهميش المجتمعات أو تعزيز اختلالات السلطة. يوضح هذا المفهوم كيف تساهم البيئات المادية و الممارسات المكانية باستدامة القمع أو عدم المساواة أو الصدمات النفسية والتي غالبًا ما تتقاطع مع العنصرية أو الاستعمار أو الرأسمالية أو العسكرة.
[3] منظمة الصحة العالمية. 2023. «تغذية الرضّع وصغار الأطفال». تم الوصول في [13\3\2025].
[4] المجلس الأعلى للسكان. 2024. «الرضاعة الطبيعية حق لجميع المواليد» تم الوصول في [13\3\2025].
[5] Greed, C. Inclusive Urban Design: Public Toilets. New York, NY, USA: Routledge, 2007. ISBN 978-1-136-39619-9.
[6] McDowell, L. Gender, Identity, Place: Understanding Feminist Geographies. Cambridge: Polity, 1999.