«فتحوا هالشارع ويا ريتهم ما فتحوه. صارت الأراضي تنباع، وصاروا يقطعوا في هالشجر»، تقول أم زيد، التي بعد ثلاثة عقود من رعي الأغنام في ضواحي عمان، أصبح الزحف العمراني يهدد آخر المراعي الطبيعية التي تعتمد عليها وعائلتها لتغذية أغنامهم. وبعدما خطط الجيران الجدد لطردهم من المنطقة التي سكنوا فيها آخر 15 عامًا، عرفت أم زيد وعائلتها أن التحدي لم يعد يقتصر على تقليص مساحات المراعي.
أم زيد (58 عامًا) وزوجها (65 عامًا)* كانا من أهالي صويلح، وكان أكبر أبنائهم التسعة لا يزال في الصف السادس عندما اضطر أبو زيد لترك مهنته السابقة في مجال البناء بسبب إصابته بمشاكل في الظهر والقلب سنة 1996. قررا العودة للرعي حينها، لتصير مهنة العائلة التي حققت لهم دخلًا جيدًا، وكان لأبو زيد خبرة في هذا المجال حيث كان يساعد والديه في رعي الحلال في صغره.
بدأت العائلة بشراء عشرين رأس غنم، يأكلون منها ويبيعون منتجاتهم لتأمين تكاليف معيشتهم وتعليم أبنائهم. نصبوا خيمة على الأرض التي خصصوها للأغنام بالقرب من منزلهم، ينام فيها الوالدان بينما ينام الأطفال في المنزل. اعتادت أم زيد أن تصطحب أطفالها إلى المدرسة في الصباح، ثم تساعد زوجها في تربية الغنم خلال اليوم، ثم تصطحبهم إلى المنزل مرة أخرى بعد المدرسة، قبل أن تعود ليلًا للنوم في الخيمة.
بالنظر إلى صويلح اليوم، يصعب تصور أن معظم أراضيها قبل عشرين عامًا فقط كانت مناطق حرجية وزراعية ومراعي. اشتهرت صويلح تاريخيًا بتربتها الخصبة وينابيعها وبرودة صيفها لارتفاعها مقارنة ببقية عمان. حتى إن تسميتها تعود إلى عين ماء على طريق عمان-السلط-القدس، كان يسكن بالقرب منها شخص اسمه صالح، يلقبونه «صويلح»، فسميت العين والمنطقة المحيطة باسمه. يقول سعيد*، أحد أبناء أم زيد وأبو زيد «بس نقول للناس إنه كنا نربي غنم بصويلح بآخر التسعين وأول الألفين ما حدا بصدق. هسا البناء صار قديم محل ما كنا نسكن».
أغنام الراعي خليل نصيرات ترعى في منطقة صافوط بجانب صويلح.
نجح أبو زيد وأم زيد في توفير حياة كريمة لأطفالهم من الرعي، وبدأت الأغنام تتكاثر ونما القطيع تدريجيًا على مر السنين، نتيجة لما كانت تتمتع به صويلح من خصوبة أراضيها ورحابة مراعيها. لكن عندما بدأ توسع عمان بابتلاع هذه الأراضي والمساحات الخضراء، ضاقت بهم الخيارات حتى وجدوا أنفسهم أمام واقع الرحيل القاسي في عام 2007، فاضطروا إلى مغادرة حيهم وبيتهم وعائلتهم للبحث عن أرض جديدة تناسب تربية الأغنام.
وجدوا أرضًا في مناطق الفحيص الحرجية الغنية بأشجار البلوط المعمرة وغيرها من النباتات والحيوانات والطيور الأصيلة. تقول أم زيد: «ما كان في لا شارع ولا كهرباء ولا إشي، نبقى كلنا بالخيمة قبل ما تعتم». وما قد يعتبره كثيرون أراضٍ «فارغة» أو «غير مستغلة» أو «غير مخدومة»، كانت بالنسبة لأم زيد وعائلتها موردًا طبيعيًا لا غنى عنه.
وفر هذا الموقع مراعٍ واسعة للأغنام، لكن اضطر أبو زيد وأم زيد إلى إعادة بناء شبكة زبائنهم. عُرفوا مع الوقت والجهد، وصار زبائنهم يأتون من الفحيص وعمان ومناطق بعيدة أخرى بعد تذوق منتجاتهم لدى أقربائهم أو معارفهم. بالإضافة إلى بعض زبائنهم القدامى الذين استمروا بالوصول إليهم رغم انتقالهم لأنهم عرفوا جودة منتجاتهم. وتحسنت أحوالهم في هذه الأرض، حيث وصل حجم قطيعهم إلى ما يقارب 500 رأس غنم. كانوا يستأجرون الأرض سنويًا ويعيشون عليها من الربيع حتى الخريف، ويمضون شهور الشتاء في الأغوار لتوفير بيئة دافئة للأغنام. أصبحت هذه الأرض موطنهم ومكان ولادة عدة أجيال من أغنامهم. كبر أبناؤهم، ورغم أنهم جميعًا كان لهم دور في رعي الأغنام، إلا أن الإخوة الأكبر سنًا تركوا الرعي لصالح مهن ووظائف أخرى، فتولى ابنهم سعيد هذه المسؤولية بشكل رئيسي، وبمساعدة أخيه الأصغر.
يحتاج الرعي الصديق للبيئة الذي يزودنا بمنتجات الألبان الغنية والصحية إلى مراعي واسعة ومهارات عالية في الرعي، «الأعشاب كلها أدوية، وفيها أشياء كثير مفيدة للحلال. أنظف كثير من الشعير»
في الربيع وأوائل الصيف، تحلب الأغنام مرة في الصباح الباكر ومرة بعد الظهر، ويتبعها رعي لمدة ثلاث ساعات في كل مرة. تسرح الأغنام في المراعي الطبيعية، وتأخذ قسطًا من الراحة في ظل أشجار البلوط. تتقاسم العائلة مهام الغنم، فبينما يتعاون سعيد وشقيقه في الرعي، تبدأ أم زيد وابنتها بتحضير اللبن واللبنة والشنينة والجبنة والجميد ومنتجات أخرى من الحليب الطازج الذي حلب للتو. في هذه الفترة من السنة، يموّن أغلب الناس منتجات الألبان بسبب جودة حليب الأغنام التي تتغذى على النباتات البرية المتنوعة والخالية من أي مدخلات كيميائية صناعية.
يحتاج الرعي الصديق للبيئة الذي يزودنا بمنتجات الألبان الغنية والصحية إلى مراعٍ واسعة ومهارات عالية في الرعي، وهو ما يدركه سعيد، مقدرًا أهمية الأرض والغطاء النباتي، فهي توفر الغذاء والبيئة المثالية لأغنامهم، «الأعشاب كلها أدوية، وفيها أشياء كثير مفيدة للحلال. أنظف كثير من الشعير»، يقول سعيد. لذا يحرص على الحفاظ عليها من خلال إدارة المرعى بنظام يمكن وصفه بالرعي الدوري، حيث يتم توجيه القطيع للرعي في مساحة محددة في يوم معين، وتُترك الأرض في الأيام التالية لترتاح بما يسمح باستعادة العشب. هذا بالإضافة إلى أن المساحة التي يحددها سعيد توفر نباتات أكثر من احتياجات الغنم اليومية لتجنب الرعي الجائر.
اُكتسبت المهارات الرعوية في بلاد الشام على مدى تسعة آلاف سنة على الأقل، حيث تشير الأدلة الأثرية إلى أن تطور أقدم أشكال الرعي في العالم كان في جنوب غرب آسيا في النصف الثاني من الألفية السابعة قبل الميلاد،[1] حيث تم تدجين الأغنام والماعز والماشية لأول مرة.[2] استمرت هذه المهارات في التطور والتكيف مع البيئة الإيكولوجية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية عبر الزمن والأجيال. وأصبحت الماشية جزءًا لا يتجزأ من نظمنا البيئية الطبيعية لأنهما تطورا معًا. فالإدارة الجيدة للرعي لها العديد من الفوائد البيئية وتدعم حياة برية غنية، فهي تحفز نمو المراعي والتنوع البيولوجي، وتحد من النباتات الغازية، وتحسن التغطية، وتنشر البذور، وتخصب الأرض، وتعزز تدوير المعادن والمياه، وتنظم الآفات والأمراض، وتحد من حرائق الغابات.[3] بالإضافة إلى إمكانات الرعي في الحفاظ على النظم البيئية المتنوعة، تُظهر الأبحاث أن لديه القدرة في التخفيف من آثار التغير المناخي أيضًا عن طريق تحفيز نمو النباتات، مما يساعد على عزل الكربون في التربة وتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في الغلاف الجوي، خاصة عند مقارنته بمزارع الماشية المعتمدة على مدخلات أكثر بكثير. كما وجد أن تحويل الأراضي من مراعٍ وغابات برية إلى أراضيَ زراعية، أسفر عن خسائر تاريخية للكربون في التربة في جميع أنحاء العالم.
العمران في منطقة الفحيص، حيث تقام المنازل على الأراضي الزراعية والرعوية والحرجية.
تقول أم زيد مشيرة الى أرض الفحيص «والله هذيك [الأرض] كانت الرزقة. صارت فلل». أرض الفحيص، الشبيهة بأراضي صويلح قبل البناء، كانت بالنسبة للعائلة مثالية لتربية الأغنام. لكن، في أحد الأيام، وبينما كانوا يشربون الشنينة الطازجة في خيمتهم المطلة على الأراضي الحرجية التي تجلب النسيم المنعش خلال شهر آب «اللهاب» من عام 2021، اكتشفت العائلة فجأة مجيء فريق من المسّاحين. بدأوا بمسح الأرض التي يقيمون عليها، ولم تتمكن أم زيد من حبس دموعها ومشاعرها. حاول سعيد وشقيقته طمأنتها بأن كل شيء سيكون على ما يرام، رغم إدراكهم أيضًا لخطورة الوضع. وسرعان ما تحول اليوم المشمس إلى أحد أكثر الأيام قتامة بالنسبة لأم زيد وعائلتها.
قبلها بحوالي ست سنوات أنشئ أول شارع في المنطقة، وشق الأراضي التي احتضنت الطبيعة والحياة البرية. تقول أم زيد «فتحوا هالشارع ويا ريتهم ما فتحوه. صارت الأراضي تنباع، وصاروا يقطعوا في هالشجر». كان الشارع هو الخطوة الأولى في التضييق على أم زيد وعائلتها، فبعد إنشائه بدأ الناس ببيع أراضيهم وانتشرت بسرعة مشاريع تطوير فلل باهظة الثمن في المنطقة. بدأوا يفقدون جزءًا تلو الآخر من المراعي والتنوع البيولوجي الذي كان أحد أهم ميزات هذه المنطقة. تتحسر أم زيد على الحيوانات والطيور، وبشكل خاص على أشجار البلوط التي كان يبلغ عمرها مئات السنين والتي اقتلعت بشكل قانوني بعد الحصول على تصاريح البناء على هذه الأراضي.
الإدارة الجيدة للرعي تدعم حياة برية غنية، فهي تحفز نمو المراعي والتنوع البيولوجي، وتحد من النباتات الغازية، وتحسن التغطية، وتنشر البذور، وتخصب الأرض، وتعزز تدوير المعادن والمياه، وتنظم الآفات والأمراض، وتحد من حرائق الغابات.
بدأ الناس بالانتقال إلى الفلل، وتعرف البعض على سعيد وعائلته. أحبوا منتجاتهم واشتروا منهم بشكل منتظم. لكن لسوء الحظ، بدأ بعض الأشخاص، الذين انتقلوا إلى المنطقة على حساب تدمير النظم البيئية الطبيعية، يشكون من وجود راعي أغنام في المنطقة «يضر بالبيئة». في البداية، طلب البعض من سعيد عدم المرور في الشارع تفاديًا «للتلوث» ولتجنب إصابة كلابهم بالبراغيث. ثم أخبره أحد السماسرة أنهم يؤثرون على مبيعاته لأن المشترين القادمين لا يحبون وجود راعي أغنام في المنطقة. بدأت الشكاوى تتراكم حتى وصلت إلى حد أن الجيران نسقوا اجتماعًا لإيجاد طرق لطرد سعيد وعائلته من المنطقة. لحسن الحظ، دافع بعض الجيران عنهم، موضحين أن سعيد وعائلته كانوا هنا قبلهم وأن الجيران هم من قرروا الانتقال إلى هذه المنطقة لجمال طبيعتها.
تمكن سعيد وعائلته من تجاوز هذه العقبات، لكن لم يكن أمامهم خيار عندما وصل الدور إلى الأرض التي أقاموا عليها مع أغنامهم، والتي غذوها وغذتهم لمدة 15 عامًا، وتم بيعها وطُلب منهم المغادرة حتى يتمكنوا من البدء في الحفر. لم تكن هذه المرة الأولى التي تنهمر فيها دموع أم زيد على أرض عاشوا فيها، فقد عاشت موقفًا مشابهًا في صويلح وعرفت قسوة هذا المشهد. لكن هذه المرة كان الأمر أخطر، حيث إن تقدم الزحف العمراني في ضواحي عمان لم يترك لهم خيارات كثيرة.
تمكنوا من البقاء بضعة أيام إضافية في المنطقة، قبل الانتقال إلى الأغوار لقضاء أشهر الشتاء كالمعتاد. لكن أحوالهم اختلفت هذا العام، إذ لم يعرفوا إلى أين سيذهبون عند قدوم الربيع بعد أشهر قليلة. وهكذا دخلوا في دوامة العثور على أرض مناسبة وبسعر معقول، ومع إمكانية الوصول إلى مراعٍ كافية، وبعيدة عن المناطق السكنية لكن قريبة نسبيًا من الزبائن كي يكسبوا لقمة عيشهم.
لكن الأمر لم يكن سهلًا. مرت الأشهر واقترب الربيع ولم يجدوا أرضًا بعد. ثم لحسن الحظ نجحوا في العثور على أرض مناسبة بالقرب من أرضهم القديمة والمراعي التي اعتادوا عليها. ورغم أن الوصول إليها كان أصعب للزبائن بسبب الطريق الترابي، إلا أنها كانت قريبة من بعض المنازل الجديدة، لهذا بعدما انتقلوا إليها ونصبوا خيمهم واستقروا، انزعج أحد الجيران من رائحة الغنم ورتب مع 15 أسرة أخرى لتقديم شكوى ضدهم إلى المتصرف، مع أن علاقة سعيد بمعظم هذه الأسر كانت جيدة جدًا، وكانوا من زبائنه. أحيلت القضية إلى وزارة البيئة وأمروا زيد وعائلته بإخلاء المنطقة كونها منطقة سكنية ولم يعد يسمح بتربية الماشية فيها. أمهلوهم مدة 14 يومًا للإخلاء وجعلوهم يوقعون على تعهد بعدم العودة أبدًا. بعد عناء طويل، تمكنوا من تمديد الموعد بضعة أسابيع، قبل العودة إلى الأغوار.
أغنام الراعي باسل الجهالين في منطقة الفحيص.
بالعودة إلى الأغوار هذه المرة كان أفراد العائلة في حالة نفسية صعبة، وكأنهم عالقون في حفرة عميقة يكافحون للخروج منها، لكنهم يُسحبون إلى قاعها مع كل محاولة، فيما تتناقص طاقتهم شيئًا فشيئًا. لم يكن أمامهم خيار سوى الاستمرار في الرعي، إذ حاول سعيد الحصول على وظيفة لسنوات، لكن دون جدوى، فهو لم يكمل دراسته المدرسية، وأغلب الوظائف الرسمية لا تعترف بخبرته. والدا سعيد شجعاه للحصول على وظيفة، رغم تعلّقهما بالأغنام وتمسكهما بالرعي الذي امتهناه لما يقرب من ثلاثة عقود، والذي وفر للعائلة دخلًا في الأيام الجيدة أفضل بكثير من الوظيفة الحكومية التي يطمح لها سعيد.
واصل سعيد محاولة التسلق للخروج من الحفرة رغم تعبه، وذهب يبحث من جديد عن أرض مناسبة للسنة المقبلة، أي سنة 2023. أصبحت هذه المهمة أصعب، وبعد البحث الطويل، كان عليهم التنازل والقبول بأرض لا تلبي جميع حاجاتهم. الأرض التي عثروا عليها تقع في الفحيص، لكن في منطقة بعيدة ومختلفة تمامًا عن منطقة الأرض السابقة، فالطريق طويل ما يجعل الزبائن يستصعبون الوصول إليها. أما المراعي، فيتوفر حولها أراضٍ عشبية واسعة، لكنها أقل تنوعًا من منطقتهم السابقة وتفتقد الأشجار التي كانت بمثابة ملجأ من أشعة الشمس الحارقة في الصيف التي اعتاد سعيد والأغنام على الاستراحة تحتها، ولو لفترة قصيرة أثناء الرعي. ومن حيث الإيجار، فكان السعر مناسبًا لكن النظام اختلف. في الماضي، كانوا يستأجرون الأرض سنويًا، ويزرعونها بأنفسهم، فكانوا أسياد قراراتهم، يرحلون إلى الأغوار في الوقت الذي يناسبهم ويعودون في الربيع في الوقت الذي يناسبهم. أما الأرض الجديدة، فهم لا يستأجرون الأرض بأكملها، بل يتضمنون المحاصيل المزروعة، التي عادة ما تكون شعيرًا، أي أن عليهم إخلاء الأرض في موعد محدد في الخريف، حتى يتمكن المسؤول عن الأرض من حرثها وتجهيزها لموسم الزراعة المقبل.
تشير الأدلة الأثرية إلى أن تطور أقدم أشكال الرعي في العالم كان في منطقتنا في النصف الثاني من الألفية السابعة قبل الميلاد، حيث تم تدجين الأغنام والماعز والماشية لأول مرة.
ومع انخفاض عدد الزبائن وزيادة تكاليف المعيشة، شعرت العائلة أن الحفرة تزداد عمقًا. كلما ضاق وضعهم المادي وتقلصت المراعي حولهم لصالح المشاريع العقارية، كانوا يبيعون بعض الأغنام. وانخفض حجم القطيع تدريجيًا في السنوات الأخيرة من حوالي 500 رأس إلى 260 رأس غنم. كل ذلك حصل في ظل ارتفاع مصاريف تربية الأغنام، ففي الأشهر التي يضطرون لشراء الأعلاف لأغنامهم بسبب جفاف المراعي، والتي تشكل ثمانية أشهر من السنة بالنسبة لسعيد، كان العلف وحده يكلفهم أكثر من ألفي دينار شهريًا عندما كان حجم القطيع 500 رأس. وهذا مع الأخذ بعين الاعتبار أن الشعير والنخالة مدعومة من وزارة الزراعة.
قبل تقليص المساحات الخضراء حولهم، كانوا قادرين على الاعتماد على المراعي إلى حد كبير لغاية شهر أيلول أو تشرين الأول من كل عام، لكن الآن تكفي المراعي فقط لشهر حزيران أو تموز. بالإضافة إلى الأعلاف، الأغنام بحاجة إلى لقاحات وأدوية روتينية ورعاية صحية. تغطي وزارة الزراعة عددًا من اللقاحات والأدوية، لكن نسبة كبيرة منها تكون دائمًا غير متوفرة لديهم بحسب سعيد. لذلك يضطرون إلى العمل مع طبيب بيطري خاص يشترون منه معظم اللقاحات والأدوية، ويدفعون له كشفيات باهظة الثمن.
بالإضافة إلى بيع الأغنام عند الحاجة، أصبحوا الآن يعتمدون على القروض أيضًا. جاء ربيع هذا العام واستطاعوا العودة الى الأرض التي عاشوا عليها العام الماضي. علاقة سعيد بصاحب الأرض جيدة، وكان هو نفسه يمارس الرعي ويتفهم وضعهم واحتياجاتهم، وقد اتفقوا على السعر لهذا العام أيضًا. لكنهم لا يعرفون إلى متى سيتمكنون من البقاء على هذه الأرض، فهذا مرهون بالاتفاق مع صاحب الأرض سنويًا على السعر والشروط، وبألا يقرر صاحب الأرض بيعها، وألا تتعرض المنطقة للزحف العمراني أو غيره، إذ سبق أن رأوا مساحين يمسحون أراضي قريبة منهم.
في الوقت نفسه الذي يتحدث فيه الناس حول العالم عن أهمية منتجات الحليب «العضوية» أو تلك المأخوذة من الماشية «التي تتغذى على العشب»، ويدفعون مبالغ مرتفعة لشرائها -مع أن هذه النماذج في أغلب الدول «المتقدمة» لا تزال صناعية- يواجه سعيد وعائلته تحديات متزايدة في إنتاج وبيع منتجاتهم ذات القيمة الصحية والبيئية التي لا مثيل لها. عند المقارنة مع النماذج الصناعية التي تحصر الماشية في المزارع وتطعمها العلف المزروع، فإن النظم الرعوية التي تعتمد على المراعي الطبيعية شبه خالية من المدخلات الكيميائية مثل المبيدات والأسمدة، تقلل الاعتماد على المضادات الحيوية والأدوية، ولا تتطلب حرث الأرض وإزالة النباتات المحلية الأصيلة. علاوة على ذلك، فالرعي على النباتات البرية المتنوعة يعزز قيمة الحليب الغذائية ويزيد نسبة الدهون الصحية ومضادات الأكسدة وغيرها من الفيتامينات والمعادن فيه.
سعيد من الرعاة القلائل المتبقين في ضواحي عمان، والذين لديهم معرفة رعوية ثمينة ومتناغمة مع بيئتنا وثقافتنا المحلية ومواردنا الطبيعية المهمة لسيادتنا على غذائنا وصحتنا. يعتقد سعيد أنه لن يتمكن من الاستمرار في الرعي لأكثر من عامين أو ثلاثة أعوام كحد أقصى. وهو الوضع ذاته الذي يمر به معارفه من الرعاة في شفا بدران وأبو نصير وغيرها من ضواحي عمان والمدن الكبرى في الأردن التي خنقها الزحف العمراني.
أم وأبو زيد محتاران فيما يتعلق بالاستمرار بمهنة الرعي، فبينما ينصحهم أولادهم المتزوجون بتركها والرجوع إلى منزلهم في صويلح لأنه يصعب عليهم رؤية والديهم في هذه الحالة، إلا أن أم زيد غير مقتنعة وتقول إن الرعي يعيل خمسة أشخاص حاليًا، هي وزوجها وأبنائها الثلاث غير المتزوجين. أغلب أبنائها المتزوجون يملكون سيارات بيك أب ويعملون في النقل، وعندها ابن يعمل في وظيفة حكومية، لكنهم جميعًا بالكاد يستطيعون تغطية نفقات أسرهم. تقول أم زيد: «مين بده يصرف علينا؟ بعنا هالغنمات وأكلنا بحقهم، بعدين وين نروح؟». سعيد اليوم عمره 26 عامًا، ويشعر أنه تأخر عن الزواج وهو الذي لا يستطيع الزواج وإنجاب الأطفال قبل أن يضمن لهم منزلًا. ورغم أن البدائل غير واضحة، فإنه لا يرى مستقبلًا في الرعي، ويريد أن يوفر فرصًا مختلفة لأبنائه، «ما بدي ولادي يمروا بنفس التجربة».
هذا التقرير جزء من زمالة حبر للصحافة الصحية، الممتدة من أيلول 2023 حتى آب 2024، وفيها تنخرط سبع زميلات من خلفيات معرفية متنوعة في إنتاج تقارير صحفية بقوالب مختلفة حول قضايا صحية تتقاطع مع الأسئلة الاجتماعية والاقتصادية والبيئية.
-
الهوامش
[1] Arbuckle, B.S. and Hammer, E.L. (2018) The rise of pastoralism in the Ancient Near East. Journal of Archaeological Research, 27(3), pp. 391–449. doi:10.1007/s10814-018-9124-8.
[2] Abdi, K. (2015). Towards an Archaeology of Pastoralism: The Near East and Beyond. International Journal of the Society of Iranian Archaeologists. 1 (2).
[3] Pastoralism and the Green Economy – A Natural Nexus? Available at: https://portals.iucn.org/library/sites/library/files/documents/2014-034.pdf (Accessed: 7 February 2024).