جبل الحسين: «بوليفارد» عمّان الأوّل وواجهة حداثتها

الأحد 06 تشرين الأول 2024
مشاة في جبل الحسين. تصوير مؤمن ملكاوي.

«كأنها لم تُبنَ ليسكنها الناس». فكرة تتردد كثيرًا على ألسنة أهالي عمّان، في وصف قصر النظر الذي يطبع تخطيط الكثير من أحيائها وطرقها. لكن إن صح هذا القول في الكثير من الأحياء الجديدة، التي بنيت في العقود الأخيرة لاحتواء الزيادة السكانية، أو التي طمحت لاستعارة نماذج حضرية لا تتوافق مع محيطها، فإنه ما يزال في عمّان أحياء تعكس نمطًا مختلفًا من التصميم الحضري: شوارع بنيت ليمشي فيها الناس، وأسواق أقيمت ليتسوقوا فيها، وحدائق ومساحات عامة وُجدت من أجل ترفيههم. ولعل جبل الحسين أحد أبرز هذه الأحياء.

رغم أن «العصر الذهبي» لجبل الحسين، حين كان الحي مقصدًا رئيسًا للتسوق والتنزه والتعليم، فضلًا عن السكن والعمل، انقضى تقريبًا منذ مطلع الألفيات، إلا أن ملامح من ذلك الزمن ما تزال حاضرة ومرئية حتى اليوم. في شارع خالد بن الوليد المركزي، الذي يمتد على طول الجبل من دوار الداخلية وحتى جبل القلعة، نجد كثيرًا مما لا نراه في أماكن عدة في العاصمة: أرصفة عريضة تتسع للمشاة، جزيرة وسطية واسعة تظللها الأشجار وتصطف فيها المقاعد، مساحات ترفيهية تختلط بمحال تجارية قديمة، وأنماط معمارية حديثة نسبيًا لكن منسجمة مع الطابع العام للحي.

كل ذلك يجعل النزهة في جبل الحسين تبدو أحيانًا وكأنها نزهة في عمّان أخرى سابقة، ليس فقط كونها تثير نوستالجيا مرتبطة بمعالم طبعت ذكريات كثيرين من سكان المدينة الذين شكل الحي وجهة دائمة لهم في تسعينيات القرن الماضي، بل أيضًا لأنها تحمل خصائص باتت مفتقدة في كثير من أحياء المدينة، تعكس لمحة عمّا كان يمكن أن يكون نمطًا سائدًا فيها.

نشأة حي عربي حديث

جاءت نشأة جبل الحسين في الخمسينيات من القرن الماضي استجابةً للضغط السكاني، تحديدًا مع تأسيس مخيمه للاجئين الفلسطينيين عام 1952، إضافة لتزايد الازدحام التجاري في وسط البلد والعبدلي القريبين، اللذين كانا حتى ذلك الحين يضمان جزءًا كبيرًا من الأنشطة التجارية ومؤسسات الدولة الرسمية.

في ذلك الوقت، شكلت مجموعة من المدارس والكنائس المقامة في جبل الحسين النواة الأولى التي بدأت تتمحور حولها الأنشطة والدوائر الحكومية والخدمية والتجارية، بدءًا بكلية الحسين التي تأسست سنة 1920،[1] ومدرسة سُكيُنة بنت الحسين للبنات سنة 1950، وكلية دي لاسال (الفرير) في العام نفسه، ومدرسة راهبات الناصرة،[2] ودير الراهبات الفرنسيسكان، ودير الآباء اليسوعيين، إضافة لمدرسة عبد الحميد شرف الصناعية، وهي أول مدرسة صناعيّة في الأردن، ودار المعلمين، اللتين افتتحتا في الخمسينيات وكان لهما أثر هام في المشهد التعليمي، بحسب المهندسة المعماريّة سُرى الحلالشة.[3]

صور قديمة لجبل الحسين

لكن التوسع الحضري الحقيقي في الجبل بدأ في السبعينيات وتصاعد خلال الثمانينيات، مع انتشار المطاعم والمقاهي والمحال التجارية والمهنية من عيادات ومكاتب محاماة وهندسة، وظهور أسواق ومجمعات تخصصت ببيع بضائع محددة، كالألبسة الرسمية، وفساتين العرائس، والمجوهرات. وفي التسعينيات، بلغ هذا التوسع ذروته، حيث انعكست رؤوس الأموال الأردنية العائدة من الخليج بشكل ملحوظ على الحي، فارتفع مستوى القدرة الشرائيّة ومعه مستوى جودة البضائع، وتعزّزت الأنشطة التجارية والمهنيّة، ليصبح جبل الحسين منطقة جذب تجاري وترفيهي، فضلًا عن كونه وجهة رئيسة للطبابة، بفعل وجود عيادات بعض أبرز أطباء الأردن حينها فيه، إضافة لبعض أقدم المستشفيات الخاصة، مثل مستشفى هبة، ومستشفى الأمل.

صور قديمة لجبل الحسين

في سنوات ذروته، مثّل جبل الحسين نموذجًا للحداثة والتحديث في عمّان والأردن. على المستوى المعماري، جاء تصميم الحي ليعبّر عن مسعى تطوير نموذج حداثي عمّاني مشابه للحداثة الوليدة في المراكز العربية المجاورة، في القاهرة، ودمشق، وبيروت، وبغداد، التي درس فيها كثير من معماريي ذلك الجيل ما بين الخمسينيات والسبعينيات، وتأثروا بها. وعبر أعمالهم، أخذت عمّان تبرز كمدينة عربية بطابع حديث، يختلف عن نموذج المدينة العربية التقليدية (الذي يتضمن جامعًا مركزيًا تنتشر حوله الأسواق، والأزقة، والأسوار). لذا، جاء تصميم سوق جبل الحسين متأثرًا بتصاميم أسواق عربية حديثة كالصالحية والبحصة في دمشق، والكرّادة والمنصور في بغداد، والحمرا في بيروت، سواء من حيث التنظيم والتصميم الحضري، أو تصميم الواجهات والمواد المستخدمة فيها.

البوليفارد الذي صار شريانًا

يشير رامي ضاهر،[4] أستاذ العمارة في الجامعة الألمانية الأردنية، إلى أن شارع خالد بن الوليد كان مركزيًا في تخطيط الحي، حيث كان أحد الخطوط الأساسية التي تعتلي قمم الجبال المحيطة بوسط المدينة، والتي يسميها (Crestlines of Amman). حيث تبنى مخططو عمّان في الخمسينيات فكرة وجود شارع تجاري رئيس يمتد مستقيمًا على قمة كل من هذه الجبال، وتتخلله الدواوير، لينحدر نحو أودية البلد.[5] ينطبق هذا النموذج أيضًا على شارع زهران في جبل عمان، وشارع الشريعة في جبل اللويبدة. لكن شارع خالد بن الوليد كان مختلفًا عنهما من حيث أنه صُمم على نمط البوليفارد أو الجادة، الذي يهدف لخلق فضاء مفتوح واسع ومتصل ومتفاعل مع الفضاءات الحضريّة المحيطة. بذلك، كان جبل الحسين أول حي في عمّان يضم بوليفارد من هذا النوع.

خريطة جبل الحسين

كان الهدف من نموذج البوليفارد، الذي ولد في فرنسا في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، هو إقامة طرق حضرية واسعة، تصطف الأشجار والأرصفة على جانبيها، وسط منطقة تجارية، تكون مناسبة لحركة السيارات والمشاة على حد سواء. بذلك، كان البوليفارد خروجًا عن نمط المدن القديمة بأزقتها الضيّقة وأبنيتها المتراكبة، وخلق مساحات للتهوية وإيصال أشعة الشمس للمباني، وفتح الطرق أمام السيارات التي كانت قد بدأت بالانتشار.[6] 

نجد مثل هذا النموذج في شوارع شهيرة أخرى، مثل شارع الحبيب بورقيبة في تونس العاصمة، وشارع محمد الخامس في الرباط، وشارع الاستقلال في اسطنبول، وشارع كشاورز في طهران. وكلها تشترك بأنها كانت أول وأهم الشوارع المستقيمة والعريضة التي جسدت روح التحديث في تلك العواصم عقب مرحلة الاستقلال. كما تشترك في كونها قريبة من مركز المدينة القديم، وتصله بميدان مركزي يمثل الأيقونة التحديثية للمدينة. فمثلًا، ينتهي شارع بورقيبة بميدان الساعة الذي يضم تمثال بورقيبة، وكذلك شارع الاستقلال ينتهي بنصب الجمهورية في ميدان تقسيم. وفي حالة جبل الحسين، نجد شارع خالد بن الوليد يصل ما بين جبل القلعة ووسط المدينة القديم، ومركزها الحديث المتمثّل بدوّار الداخلية.

قبل جبل الحسين، كان شارع فيصل وسط البلد قد حقق خصائص البوليفارد، وإن بشكل مبسط وأولي، كما يشير ضاهر. حيث نجد الشارع الواسع ذا الجزيرة الوسطية التي تتسع للأنشطة، والمنفتح على شوارع فرعية ترتبط بأسواق ومجمعات، مثل سوق منكو، وسوق عصفور، وسوق الذهب. لكن شارع فيصل ظل ضيقًا بسبب وقوعه بين جبال وفي مساحة محدودة، في حين أنّ جبل الحسين عبارة عن هضبة ممتدة، سهلة وواسعة، مما أهّله لضم شكل أحدث وأوسع من البوليفارد.

ورغم أن شارع زهران حمل بعض الخصائص المشابهة، إلا أنه خلا من الأنشطة التجارية ومن حركة المشاة النشطة، وهو ليس واسعًا بما فيه الكفاية،[7] ولا يحوي مقاعد للعامة، وقد سيطر عليه نمط الفلل السكنية والسفارات وبيوت الدبلوماسيين، ما أعطاه طابعًا أمنيًا وحدّ من حركة المشاة فيه.

من شارع خالد بن الوليد

المحدّد الأهم لنموذج البوليفارد هو التمشي، بحيث تكون هناك مساحة تتيح لروّاد الشارع المشي والتبضع والتنزّه في الآن ذاته، وهو ما جسّده جبل الحسين على نحو نموذجي، ولأول مرة في عمّان، عبر توفير إمكانية المشي لمسافات طويلة دون عوائق، مع وجود المقاعد التي تخلق مع الأرصفة والجزيرة الوسطيّة العريضة مساحة مفتوحة لأنشطة مختلفة، ولجميع الفئات دون أي تكلفة، ما يعزز الانتماء للمكان ويشعر المرتادين بأنه متاح مفتوح وليس حصريًا أو طاردًا لهم.

يظهر ذلك بالمقارنة مع أحياء أخرى في عمان، حيث يتمركز التصميم حول حركة السيارات لا المشاة. فلا نجد مساحات المشاة المنتظمة، ولا الأشجار، فيما تحتوي الأرصفة كثيرًا من المعوقات، كما في شوارع رئيسية مثل شارع المدينة المنورة أو مكة المكرمة (حيث لا يوجد رصيف حتى في بعض الأجزاء)، أو في أحياء مثل الصويفية (باستثناء شارع الوكالات)، أو في الأسواق التي نشأت في الأحياء التي توسعّت إليها المدينة، من طبربور، إلى الجبيهة، وأبو نصير، وشفا بدران، إلى مرج الحمام.

كما تبرز خصوصية بوليفارد جبل الحسين بالمقارنة مع بوليفارد العبدلي، الذي لا ينطبق عليه مسمى البوليفارد لأنه عبارة عن ممشى فقط، دون وجود اتصال مباشر بينه وبين حركة السيارات في الشوارع. فهو عبارة عن فضاء مسوّر ومغلق، معزول عن الحركة الحضرية في المدينة، بالتالي هو أقرب للمول المكشوف. كما أنّه محاط ببوابات وعناصر حماية وأمن، ويمارس إقصاء ناعمًا بفعل ارتفاع أسعار الأشربة والأطعمة والسلع فيه، ما يجعله أقرب لمساحة خاصة منه لفضاء مفتوح للعامة. وعلى عكس النمط الحداثي العربي الذي طبع جبل الحسين عمومًا، جاء بوليفارد العبدلي والمنطقة المحيطة به محاكاةً لنموذج معولم، كما في «سوليدير» بيروت، المتأثر بنموذج دبي، المتأثر بدوره بنمط المدن الكبرى في شرق آسيا والساحل الشرقي الأمريكي.

مساحات المشي والتنزه في شارع خالد بن الوليد

«مشوار» متكامل

إضافة للمساحات المناسبة للمشي وحركة السيارات، جبل الحسين مخدوم بشبكة من المواصلات العامة، بالتالي يمكن الوصول له بسهولة. ومع وجود المطاعم والمقاهي ومحالّ الحلويات وبائعي التسالي كالفول والحمص والذرة، يتشكّل فضاء متكامل مناسب للعائلات من أجل قضاء مساء يجمع بين التنزّه والتسوّق، بأبسط التكاليف، وضمن سياق عمومي وتفاعلي مع الأنشطة التجارية والمهنيّة وحركة النقل المحيطة، جامعًا بذلك بين المشي والفرجة والتنزه والتسوّق.

ارتبطت المحالّ المخصصة لبيع التسالي في جبل الحسين بذاكرة روّاد الجبل، وبخاصّة محلات البوظة، والتمريّة، والكنافة، وعربات الفول والبليلة. كما اشتهر في الحيّ عدد من المطاعم التي كانت لفترات من أبرز مطاعم عمّان وأنسبها للطبقة الوسطى، مثل جواد، وغيث، وعالية، وأجياد، والفارس. واشتهر من محالّ الحلويات القدسي، وعطا علي، وجبري، والقاضي.

وتعزّز النشاط الترفيهي في الجبل مع مدينة الحسين الترفيهية، أو «لونا بارك»، والتي افتتحت بالتزامن مع بلوغ شارع خالد بن الوليد ذروته بداية التسعينيات.[8] والملفت أنها كانت في قلب شارع تجاري، لا كما أصبح عليه حال المدن الترفيهيّة في مرحلة لاحقة، حين أصبحت خارج المدينة (مثل «ماك ماجيك» و«أمواج عمّان» على طريق المطار) أو في صالات مغلقة. 

أماكن ترفيهية ومطاعم ومحلات حلويات شهيرة في جبل الحسين

«كانت الروحة على جبل الحسين مشوار»، يقول أبو فؤاد* وهو يتجول حول دوار فراس العجلوني، عند تقاطع شارعي خالد بن الوليد والجليل،[9] واصفًا حال الجبل في التسعينيات. إذ كان لدى الزائر قائمة من الوجهات التي يجب المرور بها، من مطاعم كعالية وجبري والمنقل، إلى مدينة «لونا بارك»، وحتى المحامص مثل محمص شاهين الذي يقول أبو فؤاد إن الناس كانوا يأتون للجبل خصيصًا لأجله.

انسحب طابع الانفتاح والتداخل على التسوق جبل الحسين كذلك، حيث ساده نمط المجمعات التجارية التي تكون على نمط البهو المركزي المفرّغ بين الطوابق المتعددة، والمحاط بالأروقة التي يتم الوصول عبرها إلى المتاجر، الصغيرة في غالبها، مما يعزز تجربة التجول في الشوارع، والتنقل بين المجمعات والمحالّ.

تقول الحلالشة إن هذا النمط من المجمعات التي تسمح للمتجوّل المشي داخلها بدأ في الثمانينيات، وكان مجمع اشنانة التجاري القديم[10] الذي افتتح عام 1984 من أوائل الأمثلة عليه. في حين أن مجمع سُكَيْنة كان أقدم المجمعات الكبيرة، ويضمّ عددًا كبيرًا من المكاتب، إلا أنه جاء وفق نمط الطوابق مع عدم وجود البهو ومساحات التجوّل الداخلية. 

مركز اشنانة التجاري وبهوه الداخلي

مكسيم مول الذي يعتبر مثالًا على ما يمكن تسميته بـ«المول الشعبي»

الملفت في هذا السياق، أنه حتى المول الحديث الوحيد في جبل الحسين، مكسيم مول، أخذ ذات الطابع الموجود في المجمعات الأخرى، ليكون بذلك أقرب لما يمكن تسميته بـ«المول الشعبي»، حيث توجد محلات صغيرة ورخيصة للتجار الصغار المحليين، وليست ماركات عالمية مرتفعة الأثمان، كما هو في المولات الكبيرة الأرقى، مثل تاج مول، والعبدلي مول، وسيتي مول، وذلك امتدادًا لنمط التسوق الذي فرضه جبل الحسين.

هذا النمط من التسوق مغاير أيضًا لما هو موجود في وسط البلد. فرغم توفّر إمكانية التجول والتسوّق في البلد، إلا أن المحال التجارية فيها، خاصة في شارعي الملك فيصل والملك غازي وما حولهما، أخذت طابعًا سياحيًا، لتضم أكثر محلات بيع التذكارات والفولكلور والمنتجات السياحية، بينما غادرتها الكثير من الوكالات والمكاتب، فضلًا عن أنها تبقى مفتقرة لمساحات كالحدائق والمقاعد والشوارع الواسعة.

بعض المجمعات التجارية في جبل الحسين 

أفول صورة للمدينة، وبروز أخرى

بروز جبل الحسين كفضاء حداثي مفتوح للعامة من مختلف الطبقات جعله مكانًا مناسبًا للنشاط السياسي والثقافي، خاصة في مرحلة الانفتاح السياسي بعد إلغاء الأحكام العرفية. حيث تشير الحلالشة إلى أنه كان مقرًا لعدد من الأحزاب السياسية، والمنتديات الثقافية، والمكاتب التابعة لمنظمة التحرير. وتظهر الصور الأرشيفية خلال انتخابات عام 1989 تزاحمًا كبيرًا في الإعلان في جبل الحسين، ما يعكس بروز الحي كواجهة للعملية السياسية وتحوّلاتها في البلاد.

من جهة أخرى، ساهم هذا الطابع في جعل الجبل واجهة لعمّان في تلك الفترة، فكان وجهة مفضّلة لتصوير المسلسلات الدرامية. جاء ذلك مع ظهور عدد من المسلسلات الاجتماعية التي سعت لإبراز دراما أردنيّة مدنيّة، لا تقترن فقط بالمسلسلات البدوية والقروية، ولتصديرها عربيًا، وذلك في مرحلة الخروج من التصوير الداخلي في الاستديوهات إلى المشاهد الخارجية. فجرى تصوير عدد من مشاهد المسلسلات في جبل الحسين، خاصة في شارع خالد بن الوليد، ما عزز صورة الجبل باعتباره الواجهة الحديثة للمدينة.[11]

لكن مع نهاية التسعينيات، طغى منظور جديد للمدينة، لينتقل مركز صورتها إلى مناطق أخرى.

في البداية، برز حي الشميساني في التسعينيات كمنطقة أكثر حداثة وجذبًا، خاصة بعد بناء جسر دوار الداخلية، وظهور مجمع بنك الإسكان، وشارع الثقافة والمقاهي التي ضمها، والتي استقطبت كثيرًا من السياح خاصة من الخليج. يقول عصام* وهو أحد مرتادي جبل الحسين، إن الشميساني في تلك الفترة جذبت فئة جديدة من الشباب والمراهقين المهتمين بالموسيقى الغربية والموضات الجديدة. وسرعان ما أصبح هناك نوع من الثنائيّة بين منطقة جبل الحسين، ذات الطابع العربي ومتعددة الطبقات، وبين منطقة الشميساني، ذات الطابع المعولم والأعلى طبقيًا.

ثم مع بداية الألفيات، ظهرت مراكز استقطاب جديدة أخرى، خاصة في عمان الغربية. حيث تزايد ظهور المولات ومراكز التسوق، وأطلقت مشاريع جديدة جرى تركيز الدعاية عليها، كالعبدلي الجديد، بالتزامن مع تزايد مستويات التضخم وتراجع القدرة الشرائية لدى الطبقات المتوسطة التي كان أفرادها المرتادين الأساسيين لجبل الحسين. انعكس ذلك في تراجع النشاط في الجبل، وتغيّر نوعية ومستوى المعروضات من البضائع، ليصبح سوقه ذا طابع أكثر شعبية، وتتزايد فيه البسطات والباعة المتجولون. وبالتالي تراجع التوجه نحو جبل الحسين باعتباره وجهة على مستوى المدينة وواجهة للنشاط التجاري والعصري فيها.

يقول أبو حسام، وهو صاحب متجر ألبسة قرب دوار فراس، إن محلات الألبسة والأحذية في جبل الحسين كانت سبّاقة في مواكبة الموضات حتى مطلع الألفيات، ومنها ما كان مرتفع السعر نسبيًا. «محلات مثل سوداني، وبابو هيو، والفهد الوردي، والسيدة الأنيقة، كانت تعتبر وجهة على مستوى البلد للملابس الراقية»، يقول أبو حسام، مضيفًا إن هذه المحلات كانت تعرض بضاعة محلية وسورية وأوروبية وأمريكية. إلا أن التحول بدأ في العقد الثاني من الألفية، و«السبب هو ظهور محلات التصفية الكبيرة، هذه المحلات سحبت الناس». حيث عمل دخول البضاعة التركية وبضاعة التصفية الأجنبية على توزع الأسواق على عدة مراكز، ولم يعد هناك حاجة للتوجه لفروع بعينها.

مع دخول العقد الثالث من القرن الحالي، تعددت المراكز والأحياء التجارية في عمّان، وخَفَت نجم جبل الحسين. لكنه بقي يحظى بقيمة رمزية نظرًا لما اقترن به من مكانة في ذاكرة أهالي المدينة، وفي تاريخ المدينة ومراحل تحوّلاتها، وبقي نموذجًا على إمكانية خلق مساحات في المدينة تمزج بين المشي والتسوق والتنزه والفرجة، ضمن إطار فضاء مفتوح ومهيأ لكل الفئات والشرائح.

  • الهوامش

    * أسماء مستعارة بناء على طلب أصحابها.

    [1] حملت بدايةً اسم «مدرسة ذكور عمان الابتدائية»، وعام 1932 تغير اسم المدرسة إلى «مدرسة تجهيز عمان»، وعام 1949 أصبح اسمها كلية الحسين.

    [2] افتتحت في جبل اللويبدة بدايةً عام 1949 ثم انتقلت خلال الخمسينيات إلى مبناها في جبل الحسين.

    [3] كتبت المهندسة الحلالشة رسالة ماجستير عن جبل الحسين بعنوان: «فهم التراث المعماري لفترة الحداثة في جبل الحسين: ظهوره وأنماطه المعمارية وأهميته».

    [4] أشرف ضاهر على عدد من مشاريع التطوير الحضري في عمّان، من أهمها إعادة تأهيل وتطوير شارعيْ الوكالات والرينبو.

    [5] يقول ضاهر إن الفكرة ولدت في نهاية الأربعينيات حين طار مخططان حضريان بريطانيان يدعيان لوك وكينج فوق عمّان، وخرجا بمقترح تأسيس شوارع رئيسة على قمم الجبال تنحدر نحو أودية وسط البلد.

    [6] يضيف ضاهر أن نماذج البوليفاردات تطوّرت بشكل خاص مع المهندس الأمريكي فريدريك لو أولمستد، والذي خطط عددًا من البوليفاردات في مدن أمريكية كبوسطن، أواخر القرن التاسع عشر، وركز على تصميم الجزر الوسطى في الشوارع، مع إيجاد حدائق بها، وبحيث تحتضن تماثيل وأنشطة تنزه وترفيه. وفي القرن التاسع عشر أيضًا، برزت تصاميم مُخطِط المدن الإسباني إيلديفونس سيردا، الذي أخذ في الاعتبار حركة المرور والنقل بالإضافة إلى أشعة الشمس والتهوية، والحاجة إلى المساحات الخضراء، وخلق مساحات للتجوّل والفرجة، واشتهر بتخطيطه وتصاميمه لمدينة برشلونة عقب هدم أسوارها، وتصميمه لشارع باسا دي جراسيا، أحد أهم الطرق الرئيسية في المدينة.

    [7] يبلغ عرض شارع زهران حوالي 15 مترًا، بجميع حاراته ومع الجزيرة الوسطيّة؛ في حين يبلغ عرض العناصر ذاتها في شارع خالد بن الوليد في جبل الحسين، أي دون الأرصفة الجانبية، حوالي 32 مترًا.

    [8] كانت «لونا بارك» تقع قرب دوار فراس، قبل أن تنقل لموقع آخر في شارع خالد بن الوليد، أقرب لدوار الداخلية، ويبنى مجمع اشنانة الجديد في مكانها السابق.

    [9] سمي على اسم الطيار فراس العجلوني، الذي استشهد خلال حرب عام 1967.

    [10] بني لاحقًا مقابل مركز اشنانة التجاري مركز آخر عرف باسم مجمع اشنانة الجديد، أو اشنانة سنتر.

    [11] مقاطع من مسلسل الشريكان (1984)، وتظهر فيها مشاهد لمجمع سُكيْنة ومحيطه (ما بين 00:50 و 02:50). والممثل شاكر جابر في مشهد مقابل مجمع سُكيْنة، وفي حديقة جزيرة سكينة بشارع خالد بن الوليد.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية