بالنسبة لكثيرين، قد يبدو المتحف مكانًا غريبًا أو خارجيًا، يزوره السياح حين يصلون بلدًا جديدًا من أجل «تذوق» تاريخه أو فنونه، لكنه ليس مكانًا يرجح أن يخطر لسكان البلد أنفسهم أن يزوروه ويتفاعلوا معه كجزء من حياتهم اليومية. لا ينبع هذا الانطباع من قلة الاهتمام فحسب، بل له أسباب عميقة، تتصل بتاريخ نشأة المتاحف، والانفصال بينها وبين التراث المادي الأوسع للمجتمع، والنمط الحديث الذي استقرت عليه.
عن هذا الانفصال وأسبابه وسبل تجاوزه، نتحدث في هذا الحوار مع المستشارة في تخطيط وإدارة المتاحف، حنان الكردي. تركّز الكردي في عملها على ضرورة تجاوز وتطوير مفهوم المتاحف وممارسات حفظ التراث الثقافي العربي الحالية، التي تخضع لمفاهيم وتأثيرات غربية، نشرتها البعثات الأثرية العلمية والحملات العسكرية الأوروبية، ضمن منظومة «الأنماط الفنية السائدة». فقد أنشئ أول متحف في العالم العربي وأول دائرة للآثار في القاهرة عام 1858، بتأثير مباشر من غزو نابليون العسكري والثقافي لمصر.
هذه المنظومة التي أسسها الاستعمار في بلادنا ما زالت تهيمن على ممارسات الحفاظ على التراث الثقافي، وهو ما انعكس على فهمنا وتطبيقنا للمتاحف. من هنا، ترى الكردي ضرورة إحداث تحول في فهمنا وممارستنا، عبر تطوير المتاحف وتشغيلها وربطها بالحيز المكاني، الذي يحتوي كلًا من التراث المادي، المتمثل في المباني والقطع الأثريّة والنسيج العمراني المادي، بالإضافة إلى ما يرتبط بها من تاريخ وأحداث وقيم وعادات وتقاليد ومعارف وحرف وغيرها من عناصر التراث غير المادي، سواء في المدن أو في الريف أو في البادية، على أساس يتمحور حول علاقتها بالمجتمعات المحلية، بحيث تكون معبرة عنها وممثلة لها.
تحصلت حنان الكردي على درجة الماجستير في الدراسات المتحفيّة في جامعة تورنتو عام 1999، عن رسالة بعنوان «دراسة عن المتاحف في الأردن (1946-1999)؛ مسح وتحليل وتوصيات». عملت في دائرة الآثار الأردنية منذ العام 1971 وحتى العام 1993، حيث شغلت مناصب مديرة المعارض والتعليم، ومديرة البحوث، ومديرة النشر والأرشيف، ومديرة مركز تسجيل المواقع والمعالم الأثرية. وخلال فترة عملها، لعبت دورًا رئيسيًا في صياغة وتنفيذ استراتيجيات هذه الأقسام. كما عملت مديرةً لمتحف جامعة آل البيت، ومن عام 2000 إلى 2004، عملت مع مكتب الملكة رانيا العبدالله بصفتها المخطط الرئيسي ومديرة مشروع متحف الأطفال، ومنسقة لبرنامج دراسات المتاحف. بعد عام 2004، عملت كمستشارة لعدد من الوزارات والمؤسسات والمنظمات العامة والخاصة في الأردن وخارجه. كما عملت كمحاضر زائر في برنامج إدارة حفظ التراث الثقافي في جامعة الشارقة (2019)، ومستشارة لمشروع متاحف مجتمع غرب السودان (2019). ولها العديد من المنشورات الأكاديمية والترجمات.
في هذا الحوار نسأل عن المتاحف وجمهورها: من تخاطب؟ وماذا تعرض؟ وهل يمكن التفكير في فضاء وممارسة متحفيّة خارجة عن الشكل الذي تكرّس في السياق الغربي وتم تصديره لنا؟
خالد بشير: سننطلق من السؤال التأسيسي: كيف تعرّفين المتاحف؟
حنان الكردي: بالتعريف البسيط هي أماكن لجمع وحفظ وعرض المقتنيات ذات القيمة. ولكن على مستوى الوظيفة التي تقوم بها ضمن المجتمع والفضاء العام، فالمتاحف أماكن يشكّلها الوعي العام والذاكرة الجماعيّة للناس وحكاياهم، وتربط عوالم الأمس باليوم مع استشراف المستقبل.
المتاحف عوالم وفضاءات مادية أو غير مادية تهدف إلى إيصال رسائل معينة وأجندات فردية أو جماعية، ليس بالضرورة أن تكون سلبية أو ذات أهداف غير سليمة. كل ما نراه في المتاحف والعروض المتحفية يشابه عرضًا مسرحيًا متكاملًا، ابتداءً من «خشبة المسرح» أي قاعة العرض، ومن ثم القصة المتحفيّة، أي النص المسرحي، والمجموعات المتحفيّة وأساليب العرض والإضاءة، والمخرج، أيّ قيم المتحف، وأخيرًا الجمهور، أيّ زوار المتحف.
المتاحف بكافة أنواعها هي اليوم واحدة من المؤسسات والأدوات الهامة جدًا في تشكيل الوعي الإنساني والهويات الوطنية، وهي قنوات تعليمية موازية ورديفة لأنظمة التعليم التقليدية التي بدأت تعاني من الترهل.
جانب من مقتنيات متحف الأردن في منطقة راس العين، وتظهر في الصور نسخة عن مسلة ميشع وتمثال مزدوج الرأس. تصوير مؤمن ملكاوي.
الشكل الحالي هو شكل تطوّر في سياق غربي. هل تتفقين مع هذه المقولة؟ وكيف ومتى نشأ هذا الشكل؟
تعكس المتاحف الأوضاع الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والدينية للمجتمعات. فأساليب وطرق الحصول على المعارف تتغير حسب متغيرات اجتماعية وسياسية واقتصادية، ويظهر ذلك خلال المقارنة ما بين ما يُجرَّب في الشرق والغرب في تطوير نماذج المتاحف المختلفة، والتي تكشف عن الفروق ما بين الذهنيات والتصورات المحددة لشكل وتكوين ومضمون المتحف.
لم تنشأ المتاحف المعاصرة فجأة بشكلها الحالي. إذ بدأت كمجموعات خاصة بأشخاص مهتمين بجمع القطع التي اكتسبت صفة الغرائبية والعجائبية والنُدرة، كما يفعل هواة جمع التحف اليوم. بدأت في أوروبا الغربية ممارسة تجميع مجموعات من عينات التاريخ الطبيعي أو التحف المثيرة للاهتمام، وأصبحت شائعة لأول مرة خلال فترة ما عرف بـ«عصر النهضة»، ابتداءً من إيطاليا في أواخر القرن الرابع عشر، وما صاحبه من إحياء الاهتمام بالعصور الكلاسيكية القديمة. ويمكن اعتبار ما يسمى بـ«خزائن الفضول» أو «خزائن العجائب» في هذه الفترة بمثابة الجنين الأول الذي تطورت ونمت منه المتاحف الحديثة. وقد صممت هذه الخزائن لإيواء مجموعات من العناصر غير العادية، ليراها الضيوف ويعجبوا بها.
إحدى قاعات العرض في متحف الأردن، حيث يعرض التاريخ الإسلامي. تصوير مؤمن ملكاوي.
تزامن ظهور هذا النوع من الخزائن مع انطلاق حركة الكشوف الجغرافية في القرن الخامس عشر، وما جلبته لأوروبا من مجموعات متنوعة وفيرة من القطع. تألفت هذه المجموعات من النوادر الثقافية والبيولوجية، وشملت مزيجًا واسعًا من القطع، من قرن كركدن، إلى آلة موسيقية، إلى قطعة أثرية من قبيلة «بدائية» بعيدة. وكانت مجموعات من الأشياء التي تم تجميعها ليس فقط من أجل عرض الثروة، ولكن أيضًا من أجل الفضول.
تزامن ذلك مع ظهور عائلات تجارية ومصرفية جديدة، بالتحديد في شمال إيطاليا، وما قدمته من رعاية للفنون. فهناك المجموعات التي شكلها المصرفي كوزيمو دي ميديشي في فلورنسا في القرن الخامس عشر، والتي طورها نسله حتى تم توريثها للدولة لاحقًا في القرن الثامن عشر. وفي أواخر القرن السادس عشر، تحولت هذه المجموعات إلى أول متاحف مفتوحة للجمهور عندما تم افتتاح الطابق العلوي من قصر «أوفيزي» للجمهور في عام 1582.
جرى تطوير مجموعات أخرى بالطبع في أماكن أخرى من أوروبا، خاصة لدى الملوك والنبلاء، كما بدأت الجمعيات العلمية المختلفة بتكوين مجموعاتها الخاصة المرتبطة بنطاق اختصاصها. كل ذلك ترافق مع الثورة الصناعية وتوسع المدن والثورات الفرنسية والروسية وما تلاها من انتشار الأفكار الجديدة في العالم الغربي في أوروبا وأمريكا الشمالية، الأمر الذي أثر في الفكر والوجدان الغربيين وساهم في تطوير المتاحف وتحويلها إلى مؤسسات ديمقراطية تعليمية.
لوحة تصوّر «غرفة الفضول» التي ضمت مجموعة العالم فيرانتي إمبرتو في نابولي، من كتابه «عن التاريخ الطبيعي»، 1559. المصدر: ويكيميديا.
ما هو تأثير الاستشراق والتنوير في هذا التطور؟ وهل كان هناك ارتباط بالاستعمار؟
هناك بالطبع ارتباط بالاستشراق وأدبياته وبأدب الرحالة المستشرقين، فكلها كانت تتفق وتعزز النظرة للشرق، والشرق الأقصى، وإفريقيا، كأماكن سحريّة، يلتقط منها المستكشفون والتجار والرحّالة القطع والمقتنيات النادرة.
كانت هذه الممارسة مرتبطة بأخذ القطع وانتزاعها من بيئتها وسياقها التاريخي والجغرافي والثقافي، لينتهي بها المطاف بوضعها في خزانة مع ترقيم واسم. قامت هذه الممارسة على أساس انفصال المعروضات عن المكان والبيئة الأصل، وانتزاعها من سياقها والتعامل معها فقط كمعروضات عجائبية، لكي ينظر لها الغربي من أجل التعرف واكتشاف الشعوب والثقافات الأخرى دون الحاجة للسفر إليها.
كان هناك تأثير لحركة التنوير في أوروبا والعالم الغربي، التي صاحبتها فكرة الموسوعية وتثقيف العامة. ففي هذا السياق تطورت فكرة المتاحف العامة المفتوحة للجمهور بدلًا من اقتصار الممارسة المتحفيّة على اقتناء المجموعات الخاصة، وفي هذا السياق ظهر اثنان من المتاحف البارزة في أوروبا؛ المتحف البريطاني في لندن عام 1759، ومتحف اللوفر في باريس عام 1793.
جانب من معروضات متحف الآثار الأردني في جبل القلعة. ويقتني المتحف نحو عشرين ألف قطعة أثرية متنوعة ما بين فخاريات وزجاج وأدوات صوانية ونقوش وأوانٍ معدنية وحلي ذهبية إضافة للتماثيل الرخامية والحجرية والجصية، ومسكوكات ذهبية وفضية وبرونزية. تصوير مؤمن ملكاوي.
بالطبع، هناك ارتباط لهذه الممارسة بالاستعمار باعتبار أن القطع عادةً ما كانت تجلب من المستعمرات، ولكن الأهم هنا هو استمرار الأثر الاستعماري في تشكيل ونموذج المتحف الغربي الذي ساد، وهو ما يجدر بنا نقده والعمل على تجاوزه وتقديم بديل عنه. فهذا النموذج -فيما سوى المتاحف التي تعرض عناصر خاصة من البيئات المحلية الغربية- يقوم على أساس عرض القطع الأثرية المنزوعة من فضائها وسياقها. تمامًا كما ترى رسمة جدارية من قصر عمرة، أو واجهة قصر المشتى، معروضة في متحف «بيرغامون» ببرلين ضمن مجموعة مخصصة للمقتنيات الإسلامية، دون أي سياق وبعيدًا عن مكانها وبيئتها المنتزعة منها. ونفس الأمر مع مسلة ميشع وتمثال خربة التنور، والقائمة تطول.
نحن تبنينا منهم هذا الشكل حتى فما يتعلق بالمعروضات والقطع الخاصة ببلادنا! وكررنا ما صنعوه، وقدمناه بذات الشكل، وكأنها قطع مجلوبة من بلاد أخرى، وكأن بيئتها هي ليست هنا، في المحيط، مع أن البيئة الأصل ذاتها موجودة لدينا. اتبعنا ذات القالب ولم نتحرر من قالب «خزائن الفضول».
لا يفترض بنا أن نعرض القطع في صورة مجموعات متحفيّة ذات عناصر لا تنتظم بأي صلات بينها، لا بد من قصة. القصة موجودة عندنا على الأرض، لا يصح الاكتفاء بوضعها في الخزائن، لا بد من ربطها بالبيئة والجغرافيا والمجتمعات، والتاريخ والثقافة واللغة الموجودة في مكان العثور عليها نفسه، وأنا هنا دائمًا ما أقترح وأدعم فكرة «المتحف البيئي»، الذي قد لا يكون بالضرورة مقيّدًا بالجدران والخزائن.
وفي حالة الأردن، ما سياق وخلفية تأسيس المتاحف؟ وهل طرأ عليها أي تغيّرات؟
في الأردن ومع بدايات القرن العشرين، تأسست دائرة الآثار سنة 1923 كجزء تابع لدائرة الآثار الفلسطينية التي يديرها الإنجليزي جورج هورسفيلد. وقد انفصلت دائرة الآثار الأردنية عن دائرة الآثار الفلسطينية إثر صدور القانون الأساسي سنة 1928 لتصبح دائرة مستقلة، ونقلت مكاتب الدائرة من مدينة جرش إلى العاصمة عمان. وصدر في سنة 1934 قانون الآثار رقم 24 لسنة 1934 الذي كان أول قانون للآثار يشرع في الأردن.
متحف الحياة الشعبية في المدرج الروماني، ويحوي على ملابس وأدوات زراعية وحرفية وغير ذلك مما يمثل الحياة اليومية، ويعود تاريخ معروضات المتحف إلى أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين. تصوير مؤمن ملكاوي.
كان الهدف من وراء تأسيس دائرة الآثار الأردنية أن «تقي آثار البلاد من الاندثار وتجمع ما تبعثر منها في جوانب المنطقة وأيدي الأهليين»، وفقًا للقانون الذي تأسست بمقتضاه الدائرة. وفي الفترة ما بين 1939 و1956، تولى الإنجليزي لانكستر هاردنج إدارتها. وخلال تلك الفترة، وفي سنة 1951، شُرِع بإنشاء متحف الآثار الأردني في جبل القلعة بعمان، لتُعرض فيه القطع المتنوعة المكتشفة خلال أعمال التنقيب في أرجاء الأردن. واعتمد المتحف أسلوب عرض التسلسل التاريخي للحضارات والحقب الزمنية التي شهدها الأردن، بدءًا من عصور ما قبل التاريخ وحتى الفترة العثمانية.
استمر تأسيس المتاحف على ذات النمط لاحقًأ، بدءًا من متحف الحياة الشعبية في المدرج الروماني، الذي اعتمد التقسيم الموضوعي والمناطقي، وحتى المتحف الوطني (متحف الأردن)، المفتتح في رأس العين عام 2013. ولكن التحول الأهم جاء في الألفية الجديدة، حيث كان أبرز ما أنجز على الصعيد القانوني التشريعي هو إصدار قانون حماية التراث العمراني والحضري لسنة 2005 ليشمل المبانى التراثية والمواقع الحضرية وهو ما أسس لحفظ تراث النسيج العمراني، وأسس لنموذج مختلف هو «المتاحف البيئية». وتزامن ذلك مع افتتاح وتأهيل عدد من المباني التراثية، كما دارة الشهيد وصفي التل (1998)، ومتحف الحياة البرلمانية (2016)، وبيت عرار في إربد، وهو ما عبّر عن تحوّل في مفهوم المتحف وتطبيقاته.
متحف الحياة الشعبية في المدرج الروماني، الذي يجمع معروضات من التراث الأردني لدراسة التراث وتدوينه وعرضه على الجمهور. تصوير مؤمن ملكاوي.
تتحدثين في محاضرة لكِ عن وجود مؤسسات وممارسات وتقاليد متحفية مختلفة في العالم العربي الإسلامي. هل هناك ما يسمى مجموعات إسلامية؟ هل هناك نموذج خاص بـ«متحف إسلامي»؟ هل كان هناك ممارسات مختلفة؟
من المؤكد وجود أدلة على وجود تقاليد ممتدة عبر فترة طويلة، ابتداءً من الفترة الأموية وصولًا إلى الدولة العثمانية، لاقتناء وعرض وحفظ الممتلكات الثقافية والتراث الثقافي والطبيعي في العالم العربي الإسلامي. فقد قام الخلفاء المسلمون والطبقات المثقفة من أصحاب الجاه والغنى وعامة الناس بممارستها من خلال المساجد والمدارس والمكتبات والقصور وغيرها من المؤسسات المختلف ذات الطابع الاجتماعي الديني.
وبينما كان التطوير يتم على مؤسسة المتحف في الغرب، كانت هناك أمور أخرى سابقة وبالتوازي مع تجربة الغرب تجري في العالم الإسلامي. فممارسات مثل الجمع، والاقتناء، والعرض، مورست بشكل عضوي وطبيعي ضمن سياقات معرفية خاصة بالتجربة المعرفية الإسلامية، ونجد لها أماكن عدة من المدارس، إلى المكتبات، بما في ذلك مكتبات المساجد، ومكتبات المستشفيات، والمكتبات الخاصة، وفي بيت المال (الخزنة)، والخزائن السلطانية والأميرية. وتقترن بها ممارسات مثل إهداء الهدايا النفيسة والثمينة، أو الاعتناء بالمخطوطات، أو حتى جمع الآثار والمقتنيات المرتبطة بالنبي والأولياء.
قبة الخزنة في الجامع الأموي في دمشق، بنيت في العصر العباسي وخصصت لحفظ أوقاف الجامع، وحفظت فيها بعض المخطوطات القديمة اليونانية واللاتينية والسريانية والقبطية والعبرية والآرامية والجورجية.
في هذه المحاضرة تحدثت عن نماذج ملفتة هي «المراسم» و«المواكب»، هل يمكن أن تشرحي أكثر لِمَ تعدينها نماذج لممارسة متحفية يمكن أن نعاود استلهامها واستحضارها اليوم؟
نعم، دائمًا ما أحب الإشارة إلى تجارب مثل المراسم والمواكب كممارسات مميزة وخاصة جدًا بالحضارة العربية الإسلامية. لماذا أعدها ممارسات متحفية؟ لأنها ببساطة تتضمن عمليات الجمع والاقتناء والمحافظة والعرض أمام جمهور، وبالتالي هي ممارسة متحفيّة مكتملة العناصر، إذا ما أخذنا مفهوم المتحف من حيث الجوهر لا كما في الصورة التي استقرّت في أذهاننا اليوم.
لقد كانت المراسم والمواكب وسائل لعرض التحف والمقتنيات الثمينة أمام العامة. في العصور القديمة، كانت المواكب مرتبطة بطقوس دينية أو طقوس الاحتفال بالنصر على الأعداء. وفي العصور الإسلامية، أصبح هذا التقليد متطورًا، وكان الغرض الرئيسي من المواكب التأكيد بشكل أساسي على مجد وقوة الحاكم. استخدم مصطلح الموكب من قبل الأمويين والعباسيين لوصف موكب أمير، أو وزير، ولكن وبحلول القرن العاشر الميلادي، اكتسب معنىً جديدًا، ارتبط بحضور جمهور أوسع، كما أشارت إليه المصادر العباسية والفاطمية. كان لدى الفاطميين أكثر المواكب تعقيدًا مقارنة بأيّ من معاصريهم. أقام الفاطميون مواكب كبيرة في رأس السنة الجديدة، وفي اليوم الأول من رمضان، والجمعة الأخيرة من رمضان، وفي العيدين، وعند فيضان النيل.
وقد وصلتنا أوصاف دقيقة تضمنتها «وثائق الجنيزا» التي عثر عليها في معبد «بن عزرا» في القاهرة، وفي هذه الوثائق نجد توثيقًا لتعاملات التجار اليهود بين القرنين العاشر والثالث عشر الميلاديين، ممن كانوا يعملون مع الخلفاء الفاطميين كتجّار للآثار.
كما وصف تقي الدين المقريزي في خُطَطه وتاريخه المواكبَ الفاطمية بالتفصيل، ووصف المقتنيات والأدوات التي عرضت في المواكب، من التيجان والعمامات المتقنة، وصولجان الملك، الذي يمسكه الخليفة، والسيوف الخاصة، والأحبار وحملتها، والرماح، والدروع، والحافر، وهو عبارة عن ياقوتة على شكل هلال مثبتة على قطعة من الحرير ومثبتة بأعلى تاج، والمظلة المحمولة فوق رأس الخليفة، والأعلام، ومضارب الذباب، والطبول، والخيام، والسروج. كلها كانت مقتنيات حاضرة في المواكب، وكان يتم إخراجها من الخزائن المخصصة لها وتعرض أمام عامة الناس.
كذلك كانت هناك المواكب والمراسم العثمانية الاحتفالية والمهرجانيّة المميزة، والتي كانت تتجمع في كثير من الأحيان في المناسبات الاحتفالية والمهيبة. فكان البلاط العثماني يحتفل عبر إطلاق موكب بمناسبة ولادة وختان أمير أو زواج أميرة، أو انتصار الجيش، أو حملة جديدة لسلطان أو توليه العرش، أو وصول ضيف ملكي، أو سفير أجنبي مهم. وفي بعض الأحيان، كانت هناك مناسبة للاحتفال العام بعد حملة فاشلة أو هزيمة الجيش العثماني. كان القصد صرف انتباه رعايا السلطان وتزييف نتيجة المعركة. حدث هذا في عام 1457 بعد أن اضطر محمد الثاني إلى الانسحاب من بغداد وفي عام 1530 عندما اضطر سليمان القانوني إلى التراجع عن حصار فيينا، استمرت حينها المواكب والاحتفالات الإمبراطورية أحيانًا خمسين يومًا وليلة.
منمنمة عثمانية تصور مهرجانًا احتفاليًا تعرض فيه طيور عجيبة (القرن الثامن عشر). المصدر: كتاب «Surname-i Hümayun» الذي يضم ألبومًا مصورًا للاحتفالات العثمانية. المصدر: ويكيميديا.
يتوفر لدينا تصوير بصري غني لهذه المواكب من خلال المخطوطات المصورة المتضمنة للمنمنمات. وتشير المصادر الأدبية إلى وجود أنواع مختلفة من المواكب لدى العثمانيين، فهناك موكب العيد، وموكب ليلة القدر، وموكب مدرسي للاحتفال بأول يوم دراسي للأمير، وموكب المهد الذي كان يؤخذ خلاله المهد واللحاف المرصع بالجواهر والبطانية الثمينة من السراي القديم للحاكم قبل استلامه الحكم وتنقل إلى قصر توبكابي في إسطنبول، والمسيرة الإمبراطورية للاحتفال بالمولد النبوي الشريف، وموكب المحفظة الذي كان ينظم عند تبرع السلطان الخليفة لأهل مكة والمدينة.
كما عرضت حيوانات غريبة في بعض المواكب مثل الفيلة، والزرافات، وتضمنت بعض المواكب فناني الأداء من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك المصريون، والفرس، والهنود، والأوروبيون. وترافقت المواكب مع حفلات استقبال ومآدب، ومجموعة متنوعة من المسابقات الرياضية، وأعمال السيرك والعروض الموسيقية وعروض الألعاب النارية. كانت المواكب فرصة لعرض الفنون والحرف اليدوية للأمة بالإضافة إلى الإنجازات الثقافية والتكنولوجية للعصر. وتضمن الموكب النموذجي سادة حرفة معينة مع المتدربين بالمئات، مع عرض أمثلة على عملهم. وغالبًا ما كانوا يؤدون حرفتهم، في نموذج لورشتهم يُبنى ويُعرض على عجلات. كانت المواكب بمثابة وسيلة لمجموعات مختلفة لإيصال الرسائل إلى الشعب والسلطان. ونظرًا لأن الهدف الأساسي للمواكب كان عرض سلطة الدولة وإبهار رعاياها والمقيمين الأجانب، كان عدد كبير من المتفرجين حاضرًا دائمًا.
وعلى هذا، وحيث إن مفهوم المتحف الغربي لم يكن عنصرًا عضويًا نابعًا من الشرق الإسلامي وحيث إن مؤسسات هذا العالم ما زالت موجودة، فيجب إعادة إحياء دور المساجد والمكتبات والاحتفالات والمدارس كفضاءات ثقافية لعرض الفنون والحرف والثقافة، بالإضافة الى اعتبار المواقع الأثرية متاحف مفتوحة مكمّلة وموازية للزيارات المتحفية.
ولكن ما الذي يعيقنا من الاتجاه للبدء بممارسة هذا التوجه والتفكير باستئناف ممارسات متجذرة واستدخالها على نطاق أوسع؟ لماذا يستمر الاتجاه المعتمد على تبني النموذج المستورد؟
بالطبع العوائق عديدة، وأهمها استمرار تأثير المركزيّة التي تتمتع بها الجامعات والمراكز البحثية الغربية من حيث دورها في قيادة المنظومة، ابتداءً من توجيه عمليات التنقيب ومواضيع البحث في مجال الآثار وتحديد الأولويات والاهتمامات في الموضوعات والحقب المبحوثة، ووصولًا إلى شكل العرض للجمهور. تتم العملية ضمن منظومة معقدة؛ فهناك المنح، وأعداد كبيرة من البعثات، والاتفاقيات مع الجامعات، والمراكز المتخصصة التي لها فروع ومقرّات في بلادنا، أضف الى ذلك حجم الأموال المخصصة، والخبرات، والتقنيات. ليس سهلًا الانعتاق من كل هذا. وكل هذا يؤثر على الموضوعات التي تنال الاهتمام في المجال الآثاري، وبالتالي المتحفيّ. مثلًا، كان ولا يزال هناك تركيز بشكل أساسي على القصة التوراتية والدوران في فلك روايتها التاريخية. في مقابل كل هذا، هناك حاجة، متزامنة مع وجود الرؤية، لتدريب وتوعية وتأهيل العاملين في القطاع المتحفي ليكونوا قادرين على تقديم ممارسة وطرق عرض مختلفة.
ولكن، ومع الدعوة لهذا الاستئناف، أؤكد دائمًا على أهمية الانفتاح على الحوار والاستعارة الثقافية، والحوار بين النحن والآخر. لا نريد أن نغرق في محليّة وإقليمية منعزلة، لا بد أن نتذكّر دائمًا أننا بالنهاية نتشارك بقيم وتجارب مع مع سائر الحضارات.
وأنتِ تتحدثين عن حضور الجمهور للمواكب الفاطمية والعثمانية، يخطر بالبال سؤال حول سبب انفصال عامة الناس والجمهور اليوم في بلادنا وبعده عن المتاحف. هل يمكن القول إن السبب يكمن في انقطاعنا عن الممارسات الأصيلة وانتقالنا للاكتفاء بالنموذج المستورد؟
اقرأ/ي أيضا:
هذا الانفصال وراءه أسباب وإشكالات عدّة؛ أحد أسباب ابتعاد الجمهور هو عدم إحساسه بأن المعروض يمثل ذاته أو يمثل قصة وحكاية تمسّه وتعبر عنه وعن موروثه وهويته وسردياته التي يتناقلها شفاهةً ووصلته من أجداده وآبائه عبر أجيال. يظهر هذا في مدى التركيز بالمتاحف القائمة عندنا اليوم على عرض جانب معين من السيرة التاريخية للمكان، بحيث يتم تحديدًا الاكتفاء بعرض التاريخ السياسي والسردية الرسمية، في مقابل شبه غياب لتاريخ الأرض، والسكان. لا بد أن يتناول المتحف حكاية قصص وتاريخ الناس؛ الأرض، والجيولوجيا، والناس، قصة النسيج السكاني، من مورثه في الملابس والطعام، إلى الحِرَف، والعمارة والبناء، أو المعدات والأدوات المنزليّة؛ كلها مقتنيات ترتبط بالقصة والحكاية التي تهم عامة الناس وتشدّهم.
أضف إلى ذلك ما ذكرناه من أسلوب العرض في خزائن على أساس العزلة عن السياق، على طريقة «خزائن الفضول». الأفكار كثيرة لمتاحف محلية نابعة من مجتمعاتنا وتراثها ومرتبطة بسرديات وقصص الناس: الحياكة مثلًا، طقوس وتقاليد الزواج، الألعاب الشعبية التقليدية، لا نزال نفتقد حتى لمتحف يوثّق تجربة الصحافة المحلية عبر أكثر من مائة عام. الأفكار كثيرة. تجربة مثل متحف الآرمات التي رأيناها مؤخرًا في وسط البلد بعمّان، ممتازة، وتعطي دفعة لتجارب متحفيّة مشابهة، وبالطبع الناس تفاعلت معها وشعرت مباشرة بالارتباط بها، حيث هناك شعور بأنها نابعة من بين الناس وقصصهم وذكرياتهم وليست قادمة من الخارج أو هابطة من الأعلى.
جانب من الآرمات المعروضة في متحف آرمات عمان في وسط البلد. تصوير مؤمن ملكاوي.
في إحدى الورشات التي قدمتِها، تحدثتِ عن خط الحديد الحجازي وكيف يمكن التعامل معه كمتحف قائم بذاته، ضمن بيئته الطبيعية وهو في موقعه، دون تحويله إلى قطع معروضة في غرف بجدران. هل هذا التعامل هو نموذج للمتحف البيئي (Eco-Museum)؟ وهل من الضرورة أو بالإمكان التوسع به؟
نعم، كما ذكرت، بما أن مفهوم المتحف الغربي لم يكن عنصرًا عضويًا نابعًا من سياقنا الحضاري، وحيث إن كثيرًا من المؤسسات التي كانت حاضرة وفاعلة في تجربتنا الحضارية والتاريخيّة ما زالت موجودة، فيجب إعادة إحياء أدوارها، من المساجد، والمكتبات، والاحتفالات، والمدارس، والمستشفيات، والتكايا، والزوايا، والمقاهي، والكنائس والأديرة، إلخ، كفضاءات ثقافية لعرض الفنون، والحرف، والثقافة، وذلك مع إدخال رواية القصة والمسرح والدراما، بالإضافة إلى اعتبار المواقع الأثرية متاحف مفتوحة مكمّلة وموازية للزيارات المتحفية، بمعنى الخروج من إطار جدران المتاحف وربط محتوياتها بالمواقع الأثرية والتراثية وسكانها الحاليين، لخلق قصّة متحفية متكاملة لربط القطع بالموقع. ونعم، هذا هو ما حاولنا تطبيقه في خط الحديد الحجازي، وهو ما يتم مع برامج الرحلات السياحية التي لا تزال تطلقها مؤسسة الخط الحديدي الحجازي. فالركاب يعيشون تجربة القطار كما كانت، ولا يكتفون بالنظر إلى القطع المعروضة بالمتحف الخاص به.
المتاحف البيئيّة تشير بشكل خاص إلى فكرة جديدة للتفسير الشامل للتراث الثقافي باستخدام العناصر المادية وغير الملموسة (التراث الشفوي خاصة)، في مقابل التركيز على عناصر وأشياء محددة والتي تؤديها المتاحف التقليدية. تهتم المتاحف المعاصرة أكثر بتقديم الأفكار بدلًا من اقتناء الأشياء، وهنا تأتي فكرة «المتحف البيئي»؛ هو ليس متحف مرتبط بالبيئة بمعنى الطبيعة والأحياء الطبيعية، وإنما هو متحف يركز على هوية المكان، والذي يعتمد إلى حد كبير على المشاركة المحلية ويهدف إلى دعم المجتمعات المحلية وتنميتها. العنصر الأهم في المتحف البيئي هو الحيّز المكاني للتراث الثقافي بشقيّه المادي وغير المادي، ويشمل المحيط المباشر للقطع الأثريّة، والمباني والمنشآت الأثريّة والتراثية، والنسيج العمراني التراثي والمحيط بالمباني الأثريّة، والتراث غير المادي من حرف تقليديّة وفنون وألعاب شعبيّة، وغيرها الكثير مما يصعب حصره.
كبار بالسن يلعبون لعبة «المنقلة» في وسط السلط. مشاهدتهم يلعبونها كجزء من ممارسة يومية، هي مثال على تطبيق «المتحف البيئي» بدلًا من الاكتفاء بعرض القطعة في خزانة عرض بأحد المتاحف المغلقة. المصدر: صفحة مدينة السلط.
كانت هناك محاولات عدّة لتطبيق هذا النموذج في الأردن، في المحاضرة التي أشرت لها تحدثت عن عدد منها. كنت قد شاركت بتقديم دراسة عن مقترح لتحويل وسط مدينة إربد إلى متحف بيئي لكن للأسف عوائق عديدة، أهمها الأمور الإدارية، لا تزال تحول دون ذلك. يمكن القول إن وسط مدينة السلط ووادي رم هما النموذجان الأقرب والأكثر تحقيقًا لمفهوم المتحف البيئي. خط الحديد الحجازي أيضًا مثال جيد، ولكن لا يزال هناك حاجة لتطويره والتوسع بالرحلات، وتطوير المتحف المرافق له والموجود اليوم بالمحطة الرئيسية في عمّان. ولكن يبقى الإشكال بخصوصه يكمن، في تصوري، في وجود تباين وخلاف حول السرديات المتعلقة بحكاية وقصة سكة خط الحديد الحجازي، الذي جاءت إقامته في فترة حرجة عرفت تحولات مفصلية في تاريخ البلاد، ما بين أواخر الفترة العثمانية، وما مثله القطار في حينه من وصل وربط لبلاد الشام بالحجاز، ومرحلة الثورة العربية الكبرى التي كان فيها الخط هدفًا للعمليات. وبالتالي أدى ذلك لوجود ارتباك بخصوص السردية الجمعية المتبناة بخصوصه.
تنظم رحلات سياحية اليوم عبر خط الحديد الحجازي فيما يمكن اعتباره تطبيقًا لنموذج المتحف البيئي.
بالحديث عن السرديات، نلاحظ دائمًا وجود مثل هذا الارتباك والاختلافات فيما يتعلق بالأماكن ذات القيمة التراثية. كيف يؤثر هذا على المتاحف والمتاحف البيئية لدينا؟
نعم، هذه نقطة مهمة، لا يزال هناك افتقاد للرؤية الواضحة، وحاجة لمزيد من الحوارات والنقاشات العامة لصياغتها، وهو ما يتم الآن في الفضاء العام، ولكن لا يزال هناك حاجة للمزيد. المشكلة أنه كان لدينا دائمًا تغير في المنظومات الاقتصادية والاجتماعية بشكل غير متوقع. نحن في بلد ناشئ، عمره مئة سنة؛ الهوية تظل قيد التطور والتشكّل، وهذا يؤثر بلا شكّ على السرديات ومدى الاتفاق عليها. الهوية والنشأة الحديثة للدولة تجعل من الصعب إيجاد الصيغة والتوليفة الجامعة للهوية، والحكاية، والسردية، التي تحدد التقاطعات والارتباطات بين الهويات والتواريخ المتقاطعة في المكان، سواء أكان ذلك متعلقًا بالتواريخ القديمة أو الأقرب زمانيًا.
وأضيف: نحن نحب الثبات ونخاف من التغيير، وكثيرًا ما نشعر بأنه هناك حالة من عدم الثبات نتيجة التغيرات السياسية والاقتصادية من عهد لآخر، وهو ما يخلق خلخلة غير عادية، في حين نميل للالتصاق بكل ما هو ثابت، حتى لو كان خاطئًا. هذا يؤثر أيضًا على مبادرتنا وتطويرنا لنماذج المتاحف واستدخالنا للممارسات المتحفية أو نقدنا لما هو قائم وموجود لدينا منها. ليس لدينا جرأة للاستكشاف والتغير. وفي ظل الصعوبات الحياتية والاقتصادية، يزداد العبء وتتراجع المبادرة.