نشر هذا المقال في مدونة سايدكار، بتاريخ 18 كانون الثاني 2025.
«إنفيديا» هي أحدث شركة تكنولوجيا تصل إلى قمّة هرم الرأسمالية السيبرانية. تأسست الشركة عام 1993، وتعمل في تصنيع وحدات معالجة الرسومات (GPUs)، وهي المكوّنات الحاسوبيّة المهيمنة في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعيّ. وسُمّيت الشركة تيمّنًا بعملاقٍ حقيقيّ؛ فـ«إنفيديا» هو الاسم الرومانيّ للإله الإغريقيّ «نيميسيس» (Nemesis) المُجسِّدُ للحسد؛ ومن هنا جاء شعار الشركة المتمثّل بـ«العين الشريرة» الخضراء. تحتلّ الشركة المرتبة الثانية في ترتيب الشركات الأكبر قيمة في العالم؛ إذ تبلغ قيمتها السوقيّة 3.54 تريليون دولار، مقتربة من «آبل» ومتجاوزة لكلّ من «مايكروسوفت» و«أمازون» و«ألفابيت». وقد تضاعفت قيمتها السوقيّة نحو عشر مرّات منذ نهاية عام 2022، في ظلّ فقاعة الذكاء الاصطناعي، التي تمثّل أحدث تطوّر في صعود القطاع الماليّ الذي بدأ قبل أكثر من نصفٍ قرنٍ مع إعادة تشكّل الرأسماليّة العالميّة من خلال السيبرانية، وقد اشتدَّ هذا الصعود بفعل سياسات التسهيل الكمّي في أعقاب الأزمة الماليّة العالميّة.
قضت «إنفيديا» معظم تاريخها الممتدّ لـ32 عامًا في تصنيع وحدات معالجة الرسوم لأجهزة الألعاب، لكنّ طفرة الذكاء الاصطناعي غيّرت نموذجها التجاري كلّيًّا؛ فبعد أن كانت تعتمد على قاعدة واسعة من العملاء، باتت تعتمد على عدد قليل جدًّا من العملاء الضخمين. وقد ورد في تقريرها الماليّ الفصلي الأخير: «لقد شَهِدنا مؤخرًا فترات اعتمدنا فيها على عدد محدود من العملاء للحصول على جزء كبير من إيراداتنا، وقد يستمرّ هذا الاتّجاه». لكنّ هذا وصف معتدل للواقع؛ فالتقرير نفسه يظهر أنّ أربع شركات مجهولة تمثّل تقريبًا نصف إيرادات «إنفيديا». تشتري هذه الشركات المجهولة -المرجّح أن تكون عمالقة التكنولوجيا الآخرى- كمّيات هائلة من وحدات معالجة الرسومات لتكديسها في مراكز بيانات ضخمة، حيث تُوَظّف داخل شبكة تضمّ الآلاف من هذه الآلات الحاسوبيّة القويّة للدفع بأبحاث الذكاء الاصطناعيّ المتقدّمة. وقد تمّ بالفعل بيع كامل إنتاج عام 2025 من معالجات «بلاكويل» الجديدة البالغ سعر الواحدة منها حوالي 40 ألف دولار. وكغيرها من عمالقة التكنولوجيا، تعتمد «إنفيديا» في تفوّقها السوقيّ على البقاء متقدّمة في العلوم التقنيّة بالاعتماد على قوة قسم البحث والتطوير السيبرانيّ لديها، والذي زادت من ميزانيّته بنسبة 50% تقريبًا خلال عام 2024.
يمكننا الحصول على لمحة عن حافة الرأسماليّة السيرانية المتسارعة من خلال النظر في مصير وحدات معالجة الرسومات التي جعلت «إنفيديا» فاحشة الثراء بشكل مذهل؛ فهذه الأجهزة أساسيّة في عمليّات حسابيّة تمكِّنُ الذكاء الاصطناعيّ من طي نماذج البروتينات، وأتمتة الوظائف لتقليل تكاليف العمالة، وإعداد قوائم قتل لصالح حرب الإبادة التي يشنّها الجيش الإسرائيليّ في قطاع غزّة، وتزوير المقالات، والانخراط في المضاربات الماليّة، وإنشاء صور زائفة للديكتاتوريّين الموتى، وغير ذلك من «معجزات» الذكاء الاصطناعيّ. لكن، بعد ذلك، ستواجه هذه الأجهزة مصيرها المحتوم في التحول إلى «نفايات إلكترونيّة» سامّة بفعل التقادم المبرمَج. هذا هو الوجه المظلم لـ«قانون مور» الذي ينصّ على أنّ عدد الترانزستورات في الشريحة الحاسوبيّة يتضاعف كلّ عامين تقريبًا؛ إذًا، كلّما تزايدت قوة الحوسبة بشكلّ أسّيّ، تزايدت النفايات الإلكترونيّة بنفس المعدل. وفقًا لـ«معهد الأمم المتّحدة للتدريب والبحث»، جرى إنتاج 62 مليون طنّ من النفايات الإلكترونية عام 2022، أي ضعف الكمية المنتجة في عام 2010. وكما يصف تقريره الأخير، فإنّ هذه الكمية تعادل وزن 107 آلاف طائرة ركاب ضخمة (853 مقعدًا)، أي ما يكفي لتشكيل خطّ متّصل من نيويورك إلى أثينا، ومن نيروبي إلى هانوي، ومن هونغ كونغ إلى أنكوراج.
وكما هو الحال مع الأجهزة الحاسوبيّة عمومًا، فإنّ التركيب المادي الدقيق لوحدات معالجة الرسومات يصعب تحديده، إذ يُخفيه التعقيد الشديد لسلاسل التوريد، وحقوق الملكية الفكرية، وطابع «الصندوق الأسود» الذي يحيط بالعلوم التقنية. لكن، يكفي القول إنّها تتكوّن من مزيج معقد للغاية من المواد الكيميائية، بما في ذلك معادن الأرض النادرة (مثل التانتالوم، البلاديوم، البورون، الكوبالت، التنغستن، الهافنيوم)، والمعادن الثقيلة (مثل الرصاص، الكروم، الكادميوم، الزئبق)، والبلاستيك الصناعيّ (مثل الأكريلونيتريل بوتادين ستايرين، البوليميثيل ميثاكريلات)، والمواد الاصطناعيّة (مثل تترابوبوم بيسفينول A-، والتترافلورو سيكلوهكسانات). للمقارنة؛ يتكوّن جسم الإنسان من حوالي 30 عنصرًا من عناصر الجدول الدوري، بينما يحتوي جهاز «آيفون» على 75 عنصرًا. وهذه المواد الخام جميعها يجب أن تُستخرج من الأرض، ثم تُنقّى، ثمّ يعاد تركيبها وتُعالج بشكل مكثّف، وهي العملية التي تنتج كمّيات هائلة من النفايات السامّة، ناهيك عن الأثر الصحيّ على العمال في مختلف مراحل سلسلة التوريد؛ فآلة الرأسماليّة السيبرانية على امتدادها تعمل في ظلّ غياب مذهل لأيّ أنظمة تراعي البيئة أو المصلحة العامة.
أحد أشكال النفايات الهائلة التي تنتجها الرأسمالية السيبرانية، والتي بدأت مؤخرًا بجذب بعض الاهتمام الرئيسيّ هو استهلاك الكهرباء الهائل الذي تتطلّبه شبكات أجهزة الحوسبة. بحسب «الوكالة الدولية للطاقة»، من المتوقع أن يتضاعف استهلاك مراكز البيانات للكهرباء بين عامي 2022 و2026 إلى حوالي ألف تيراواط في الساعة؛ أي ما يعادل إضافة استهلاك ألمانيا بأكملها إلى شبكة الطاقة العالميّة. وعند أخذها مجتمعة، تستهلك مراكز البيانات طاقة أكثر من أيّ دولة في العالم باستثناء الصين والولايات المتحدة والهند. ومع ذلك، فإنّ مراكز البيانات ليست سوى جزء واحد من البنية التحتية العالميّة للأجهزة المتصلة بالإنترنت، والتي يبلغ عددها حاليًا حوالي 30 مليار جهاز. إضافة إلى ذلك، لا تشمل هذه الأرقام الطاقة المستهلكة في عملية استخراج وتنقية كميات ضخمة من المواد الخام اللازمة لصناعة هذه الأجهزة، ولا تأخذ في الاعتبار التأثيرات البيئية السامة الناتجة عن هذه العمليات.
خلقت السيبرانية كميات هائلة من النفايات السامة التي تتدفّق عبر سلاسل التوريد وتتراكم داخل سلاسل الغذاء. أحد الأمثلة الشهيرة هي المواد المشبعة أو متعددة الفلوروالكيل (PFAS)، أو ما يُعرف بـ«المواد الكيميائية الأبدية»، وهي مجموعة تضم حوالي 15 ألف مركب عضوي فلوري صناعي لا تتحلل بشكل طبيعي. صُنِّعت هذه المواد الكيميائيّة السامة لأوّل مرّة في خمسينيات القرن الماضي، وهي موجودة في جميع الآلات الحاسوبية، إلى جانب العديد من المنتجات المنزلية الأخرى. واليوم يجري اكتشافها في أجسام البشر بشكل كبير، إذ تبدأ بالتراكم داخل المشيمة قبل الولادة. ترتبط هذه المواد بقوّة بزيادة خطر الإصابة بالسرطان، وانخفاض عدد الحيوانات المنوية، وأمراض الأمعاء الالتهابية، وضعف القدرات الإدراكية والعيوب الخلقية، وأمراض الكلى، واضطرابات الغدة الدرقية، ومشاكل الكبد. وبحسب تقرير لمجلة «لانسيت» العلمية فإنّ التلوث البيئيّ يتسبّب بالفعل في وفاة واحدة من كلّ ست وفيات مبكرة، وهو رقم من المتوقع أن يزداد سوءًا مع استمرار الإنتاج والتراكم البيولوجيّ المتصاعد.
كما يؤثر التلوث الكيميائي في كائنات حية أخرى، وبالتالي على العلاقات البيئية والأنظمة والعمليات التي تشكّل نسيج الحياة. في الواقع، يشكّل الإنتاج الضخم للمواد الكيميائيّة الصناعية أحد أبرز معالم العصر الجديد الذي بدأ مع أولى الانفجارات الذرية عام 1945، مع بداية سطوع فجر «عصر الأنثروبوسين» (يصف اسم «أنثروبوسين» الفترة الزمنية التي بدأت فيها الأنشطة البشرية بالتأثير بما يكفي في البيئة لإحداث تغيير جيولوجيّ مميّز). في عام 2019، قدّرت قيمة المبيعات العالميّة للمواد الكيميائية الصناعية (باستثناء الأدوية) بحوالي 4.363 تريليون دولار. في حين أنّ حجم انبعاثات المواد الكيميائية الصناعية مذهل؛ فالتقديرات المتحفظة تشير إلى أنّه يصل إلى 220 مليار طنّ سنويًا، لا تمثل منها الغازات الدفيئة سوى حوالي 20% فقط.
ومع ذلك، لا يزال الاهتمام بهذه التداعيات ضئيلًا للغاية. على سبيل المثال، من بين 23 ألف مادة كيميائيّة سُجِّلَت في عام 2020 بموجب لائحة «الاتحاد الأوروبي» لتسجيل وتقييم وترخيص وتقييد المواد الكيميائيّة (REACH)، لا يزال 80% منها غير خاضع لإجراءات تقييم السلامة، ناهيك عن أكثر من 300 ألف مادة كيميائية صناعية قيد الإنتاج عالميًا ولكنها غير مدرجة في القائمة. الأسوأ هو محدوديّة تقييمات السلامة هذه لاستعادتها التأثيرات التراكمية والتشابكات البيئيّة. بينما خلصت إحدى الدراسات الشاملة إلى أنّ التلوث الكيميائي «يمثل خطرًا كارثيًا محتملًا على مستقبل البشرية، ويستحق التدقيق العالمي بنفس النطاق والإلحاح المخصّصين لأزمة المناخ».
إنّ من الصعب تصوّر حجم النفايات السيبرانية؛ فقد وجدت إحدى الدراسات أنّه مع بداية القرن العشرين، كانت كتلة المواد المُنتجة بشريًّا، مثل الخرسانة والطوب والأسفلت والمعادن والبلاستيك، تساوي حوالي 3% من إجمالي «الكتلة الحيوية» للأرض؛ أي الوزن الإجمالي لجميع الكائنات الحية من نباتات وبكتيريا وفطريات وطلائعيات وحيوانات. كما كشفت الدراسة أنّ الكتلة الصناعية تتضاعف كلّ 20 عامًا خلال القرن الماضي. وبهذا المعدل، يكون عام 2020 هو العام الذي تجاوزت فيه الكتلة بشرية الصنع 1.1 تيرا طن، متجاوزة الكتلة الحيوية للكوكب بأسره. وذلك يعني أنّ ما صنعه الإنسان أصبح أثقل من نسيج الحياة نفسها. على سبيل المثال، تزن الكتلة الإجمالية للمملكة الحيوانية -كل بقرة، كل شعاب مرجانية، كل سمكة، وكل إنسان وحمامة وجميع الأنواع الـ 350 ألف المختلفة من الخنافس- حوالي 0.5% فقط من الكتلة الحيوية للأرض، أي ما يعادل أربعة جيجا طن من الحياة. في حين أنتج البشر ثمانية جيجا طن من البلاستيك حتى عام 2020، وبحلول عام 2040 سيكون هذا الرقم مضاعفًا.اقرأ/ي أيضا:
هذه المنحنيات التصاعديّة تتسبّب في دمار هائل للطبيعة المحدودة. ومع ذلك، فئة قليلة من الأوساط اليساريّة الراديكاليّة تحاول تقديم تحليل شامل للإجابة على سؤال الفيلسوف الأمريكي لانغدون وينر المحوريّ: «أين وكيف بدأت الابتكارات في العلوم والتكنولوجيا بتغيير الشروط الأساسية للحياة ذاتها؟». إذ من الشائع أن يسقط الكتّاب الراديكاليّون في وهم أنّ الآلات الحاسوبيّة «عديمة الوزن»؛ فمثلًا، بعض العناوين الأخيرة في «مجلة جاكوبين» مثل «المشكلة مع الذكاء الاصطناعي هي السلطة وليس التكنولوجيا»، «المشكلة مع الذكاء الاصطناعي هي مشكلة الرأسماليّة»، «يمكن للأتمتة أن تحرّرنا لولا أننا نعيش في ظل الرأسمالية»، تعكس هذه العناوين المنظور «الأداتي» للتكنولوجيا الذي لا يرى في الآلات المتقدمة التي تنتجها الرأسمالية السيبرانية مشكلة، وأن المشكلة تكمن في رؤسائها. كما أنّ العديد من اليساريين يقترحون، صراحة أو ضمنًا، أنّ الحل يكمن في «تأميم المنصات»، أي التخلص من الرؤساء، وبذلك تُحلّ المشكلة. لكنّ هذا الطرح ينطوي على خطر تجميل الآلة الرأسماليّة السامّة من خلال التركيز على مشكلة العمل، منطلقًا من تخيّل أنّ استبدال الرئيس التنفيذيّ لشركة «إنفيديا» بمجلس عمّاليّ سيكون كافيًا لتحقيق مستقبل اشتراكيّ مستدام.
بالطبع نحن بحاجة إلى عدد كبير من المجالس العمالية في جميع المجالات الاجتماعية، ومن المحتمل أنّنا لن نرغب في التخلي عن بعض الآلات الحاسوبية المتقدمة والمواد الكيميائية الصناعية التي أنتجتها الرأسمالية السيبرانية. لكن يجب علينا إعادة التفكير في موقعها داخل عالم يمكن فيه للناس أن يعيشوا حياة مزدهرة ذات معنى في إطار حدود بيئيّة؛ فالتوسّع الأُسّيّ للتكنولوجيا السيبرانية وحالة الاغتراب التي تخلقها كارثية. إنّ من الضروريّ أن نطوّر نقدًا ماديًا لهذا النمط التكنولوجي بهدف خلق سياسة جذرية مختلفة، سياسة تأخذ نظرة أوسع لا تقتصر على علاقات القوة والملكية، بل تمتدّ لتشمل التدفقات المادية للرأسمالية السيبرانية وتغييرها لشروط الحياة نفسها. إنّ حجم الأزمة يتطلّب ذلك وأكثر.