كوكبنا يتغير. تؤثر حالات الجفاف وذوبان الجليد وموجات الحرارة والفيضانات على حياة الملايين من الناس في جميع أنحاء العالم. وتعد الاقتصادات الإفريقية من بين أكثر الاقتصادات عرضة للتأثر في العالم النامي. يرجع ذلك في جزء كبير منه إلى موقع إفريقيا الجغرافي وقدرتها الاقتصادية المحدودة على معالجة الآثار المباشرة وغير المباشرة لتغير المناخ. والكثير من الأزمات البيئية التي شهدها القارة في السنوات الماضية تشهد على ذلك.
في زامبيا التي ضربها الجفاف الناجم عن ظاهرة النينيو بقوة عام 2016، أدى انخفاض مستويات المياه في سد كاريبا، وهو أكبر مصدر لتوليد الكهرباء في البلد، إلى انقطاع التيار الكهربائي لعدة ساعات في اليوم. لم تؤثر هذه الظروف على الأسر فحسب، بل أصابت العديد من الصناعات، وبالتالي، الاقتصاد الزامبي بأكمله.
وفي جنوب إفريقيا، كانت المياه على وشك النفاد من كيب تاون نتيجة الجفاف عام 2018، لدرجة أن الحكومة بدأت التخطيط لـ«اليوم صفر»، وهو اليوم الذي ستنتهي فيه احتياطيات المياه، وتُقطع جميع استخدامات المياه غير الضرورية. لذلك، بدأت الحكومة تقنين كمية المياه إلى 50 لترًا للفرد يوميًا.
أما نيجيريا، فتواجه كوارث طبيعية وبشرية بسبب التغيرات المناخية. في عام 2011، بلغ عدد ضحايا فيضانات غمرت مناطق بأكملها أكثر من ألف شخص، فيما شُرد مليون ونصف المليون شخص. وبسبب تزايد معدل التصحر بمعدل 600 متر في العام، فقدت العديد من البحيرات في البلاد 90% من مساحاتها، وهكذا، اضطر الرعاة الذين كانوا يعتمدون على هذه البحيرات إلى الانتقال بحثًا عن المراعي والمياه لتربية الماشية، ما أدى إلى اصطدامهم بمجتمعات زراعية مستقرة. أصبحت النزاعات بين الرعاة والمزارعين حول حقوق الأرض والرعي والمياه شائعة في المناطق الوسطى والشمالية الغربية من نيجيريا. وفي العام الماضي، اندلعت مواجهات دامية بين رعاة ومزارعين في ولاية «بينو» خلفت 20 قتيلًا.
باتت العديد من الشركات متعددة الجنسيات الملوثة للبيئة، ومن يدعمها من نخب سياسية، تختبئ وراء أقنعة خضراء. لكن مشاريعها على أرض الواقع لا تكافح الأسباب الحقيقية التي قد تنهي الحياة على الكوكب.
وفي السنغال، فقدت بحيرة «ريتبا» لونها الوردي، وتلوثت بشكل ملحوظ بعد أن اجتاحتها الفيضانات العام الماضي. تبعد هذه البحيرة 30 كيلومترًا عن العاصمة داكار، ويتغير لونها من الأزرق إلى الأرجواني الخفيف إلى الوردي بسبب إفراز بكتيريا «دوناليلا سالينا» (Dunaliella salina) غير الخطرة، التي تتكاثر في البحيرة منذ انفصالها من المحيط الأطلسي قبل أكثر من ثلاثة عقود بسبب ارتفاع نسبة الملوحة. فكلما كانت أشعة الشمس قوية وسرعة الرياح كبيرة، يميل لون البحيرة بسرعة إلى الوردي، ومع غروب الشمس تعود مياه البحيرة إلى لونها الطبيعي. لهذا، تعتبر المنطقة جاذبة للسياح الذين يعومون على سطح الماء الساكن شديد الكثافة بلونه الوردي، إلى جانب هواة التصوير الفوتوغرافي من الأجانب الأثرياء.
أما السكان المحليون، فالبحيرة لا تذكرهم بالترفيه والاسترخاء، بل بالعمل الشاق والجهد والعرق. فلأنها تحتوي على نسبة كبيرة من الأملاح، تصل إلى حوالي نصف كيلوغرام في اللتر الواحد، فقد تعامل معها السنغاليون الفقراء من الرجال والنساء والأطفال كمنجم يكدحون فيه بغرس العصي الخشبية بعمق في مياه البحيرة لاستخراج كتل الملح. ونظرًا لأن الحكومة السنغالية تتعامل مع البحيرة كمحمية طبيعية وتسعى للحفاظ على تصنيف اليونسكو لها كجزء من تراث الانسانية العالمي، فإن السكان المحليين لا يستطيعون استخدام الماكينات لاستخراج الملح، لذا يتعين عليهم دومًا ممارسة عملهم بصورة يدوية وتقليدية تمامًا، وهي مهمة شاقة للغاية خاصة في فصل الشتاء. بعد استخراج الملح، على حسب درجة الجودة والنقاء، يتم تصديره إلى أوروبا والولايات المتحدة، حيث يستخدم في حفظ الأسماك أو في المطاعم الفاخرة، التي تعد وجبات لن تعرف طريقًا لأفواه العمال الأفارقة. يُستخرج من البحيرة 60 ألف طن سنويًا من الملح، يصل سعر الكيلوغرام منه إلى 30 دولارًا، فيما يتلقى هؤلاء العمال الذين يعرضون أجسادهم للخطر في استخراجه خمسة دولارات في اليوم. لكن مع ذلك، تبقى البحيرة مصدر رزقهم الوحيد المهدد بالاختفاء من الوجود.
تظهر هذه الأمثلة وغيرها من تأثيرات تغير المناخ كيف أن المسألة في إفريقيا تتعدى تغير المشهد الطبيعي أو تدني الراحة الحرارية للسكان، بل تتعلق بقوتهم وأمنهم بشكل مباشر. لكن بدلًا من أن يشكل ذلك سببًا إضافيًا لأخذ أزمة المناخ على محمل الجد، خاصة في المناطق الأكثر هشاشة، باتت الأزمة في إفريقيا تمثل «فرصة» لعدد من الشركات الكبرى والنخب العالمية لمراكمة المزيد من الأرباح وغسل صورتها كملوث للبيئة.
لا يمكن للعالم أن يجد حلولًا لأزمة المناخ عبر استثمارات نفس الشركات الرأسمالية الكبرى التي تتسبب في معظم انبعاثات الغازات الدفيئة، ولن تصبح مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة رخيصة في المدى المنظور، وبالتالي لن تستخدم على نطاق واسع قريبًا.
لعل أبرز الاقتراحات التي قدمتها النخب العالمية لحل مسألة التغير المناخي والتي باتت تحظى باهتمام عدد من التيارات السياسية والاقتصادية، خاصة في الغرب، ما يسمى بـ«الصفقة الجديدة». لا يعدو هذا الاقتراح كونه مرحلة «خضراء» جديدة من الرأسمالية، تكمن جاذبيته للعديد من النخب في توليد الأرباح من التحديث البيئي التدريجي. فبحسب هذا المقترح، يمكن للتحول نحو الطاقة البديلة والممارسات الصديقة للمناخ أن تخلق فرصًا للعمل والاستثمار والربح بشكل يجعلها ذات جدوى اقتصادية، لا بيئية فحسب. ولا تتحدى هذه الصفقة شركات الطاقة الأحفورية التي تنتج أكبر حصة من الغازات التي تسبب ظاهرة الاحتباس الحراري، بل تمطرها ببساطة بأموال إضافية لمساعدتها على إدخال بعض التحسينات الضئيلة جدًا، التي تهدف للحفاظ على نِسب ربحها العالية أكثر مما تعنى بإنقاذ البيئة.
في هذا السياق، باتت العديد من الشركات متعددة الجنسيات الملوثة للبيئة، ومن يدعمها من نخب سياسية، تختبئ وراء أقنعة خضراء. لكن مشاريعها على أرض الواقع لا تكافح الأسباب الحقيقية التي قد تنهي الحياة على الكوكب، بل تحاول إعادة هيكلة قاعدتها الاقتصادية عبر مشاريع توسعية جديدة قائمة على أساس الاستغلال المتزايد للموارد الطبيعية في الجنوب العالمي، في سبيل إنتاج قاعدة بيئية جديدة يفترض أنها «خضراء»، للحد من التغير المناخي. وفي هذا الإطار، أصبحت أراضي السكان المحليين في الجنوب العالمي والسلع والموارد المشتركة التي اعتادت هذه الشعوب على الاعتناء بها، هدفًا للخصخصة والاستثمار.
ففي الكونغو الديمقراطية، نجحت مجموعة توتال إنرجي الفرنسية، عملاقة النفط والغاز، بمساعدة الحكومة الكونغولية، في طرد 400 مزارع وعائلاتهم من قراهم في هضبة باتيكي، بذريعة أنها ستستغل أراضيهم في مشروع كبير لزراعة 40 مليون شجرة، في سبيل تعزيز ما يسمى بالاقتصاد الأخضر لمواجهة التغير المناخي.
تحاول الشركة اليوم الظهور بشكل جديد داعم للطاقات المتجددة. لكن هذه الطاقات لا تمثل حتى الآن سوى 0.2% فقط من إنتاجها. فى شباط 2022، أعلنت الشركة عن اتفاقية استثمار بقيمة 10 مليارات دولار مع أوغندا وتنزانيا لبناء خط أنابيب يعرف باسم خط تيلينغا، يمتد لأكثر من 2000 كيلومتر، ويربط بين بحيرة ألبرت في غرب أوغندا بالساحل التنزاني. تشير التقديرات أن تشغيل الخط سيؤدي إلى انبعاثات تصل إلى 33 مليون طن من ثاني أكسيد الكربون سنويًا في الغلاف الجوي، وهو ما يفوق انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري في أوغندا وتنزانيا مجتمعتين بأكثر من ثلاثين ضعفًا.
ليست الصناعة والتقدم التكنولوجي المسؤولين عن التغير السريع للمناخ ولا عن التلوث البيئي، إنما تقع المسؤولية على النظام الذي يعمل أجل الربح وليس بدافع إنقاذ الكوكب وتلبية احتياجات الإنسان.
من جهة أخرى، أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي في الفترة الأخيرة عدة تصريحات تدعم حظر بيع السيارات التي تستخدم البنزين أو الديزل من أجل التحول العالمي لصناعة السيارات التي تستخدم البطاريات الكهربائية، اعتقادًا منهم بأن هذه الخطوة ستشكل منجزًا للثورة الخضراء في العالم مستقبلا وتجد حلولًا لأزمة المناخ. وفي الوقت الذي صوّت فيه البرلمان الأوروبي لحظر بيع السيارات الجديدة التي تستخدم البنزين أو الديزل اعتبارًا من عام 2035، صرح مدير عام سجل التعدين في جمهورية الكونغو الديمقراطية جين فليكس موباندي، بأن حوالي 700 ترخيص لعمليات تعدين وصلت إلى مراحل متقدمة، وسوف تؤدي قريبًا إلى مشروعات جديدة في مجال تعدين الليثيوم والكوبالت، اللذين يتم استخدامهما في صناعة البطاريات التي تقود الثورة في عالم صناعة السيارات الكهربائية. وفي هذا السياق، ستشهد البلاد العمل على عشرة مناجم جديدة للمعادن الرئيسية من أجل عملية التحول للطاقة الخضراء خلال خمس سنوات.
لكن ما لم تذكره هذه النخب وتصر على تجاهله هو أنه لا يمكن للعالم أن يجد حلولًا لأزمة المناخ عبر استثمارات نفس الشركات الرأسمالية الكبرى التي تتسبب في معظم انبعاثات الغازات الدفيئة، وأن مصادر الطاقة المتجددة والنظيفة لن تصبح رخيصة في المدى المنظور، وبالتالي لن تستخدم على نطاق واسع قريبًا. وستظل البشرية تعاني من التلوث ومن تغير المناخ وآثاره الكارثية، ما دام الربح هو المحرك الأساسي للاقتصاد العالمي، وليس مصلحة الإنسان. في هذا السياق، يبرز تعدين وتنقية الكميات الهائلة من المعادن التي تدخل في صناعة بطاريات السيارات الكهربائية (الليثيوم والنيكل والكوبالت والمنغنيز والبلاديوم) بوصفها المثال الأبرز لاستغلال موارد القارة الأفريقية من أجل تبييض صورة هذه الشركات، على حساب شعوب القارة.
لا تختلف الرأسمالية الخضراء عن سابق أشكالها في تعطشها الشديد لموارد الجنوب العالمي، من خلال تجفيف مصادر السلع الخام بطريقة تجعل البلدان المتقدمة غنية بشكل لا يمكن تصوره، فيما تترك أثرًا من التدهور البيئي، وانتهاكات لحقوق الإنسان، والتخلف الاقتصادي شبه الدائم في بلد مثل الكونغو الديمقراطية. ليست الصناعة والتقدم التكنولوجي بحد ذاتهما المسؤولين عن التغير السريع للمناخ ولا عن التلوث البيئي، إنما تقع المسؤولية على النظام الذي يعمل أجل الربح وليس بدافع إنقاذ الكوكب وتلبية احتياجات الإنسان. لذا مهما حاولت شركات الطاقة «ابتكار» سبل للتخفيف من حدة الأزمة، لن يحل ذلك المشكلة جذريًا طالما بقينا نعمل في إطار النظام نفسه، ولم نتجه نحو نظام تعاوني للإنتاج قائم على التوازن بين تلبية الاحتياجات والبيئة؛ بين الاستفادة من الموارد المتاحة والحفاظ عليها من أجل مستقبل الأجيال القادمة.