«فجأةً، تحول مكان عملي إلى قبر»، كانت هذه الكلمات الأولى، التي قالها محمود الحسن هريدوي، العامل في مصنع «إيثر تكس» للملابس، لمراسل النيويورك تايمز، حين هرع إلى مبنى رانا بلازا، في حي سافار بالعاصمة البنغالية دكا بعد ظهر يوم 24 نيسان 2013. كانت الطوابق الثمانية للمبنى، الذي يضم عشرات الورش لصناعة الماركات العالمية، قد أطبقت ركامها الاسمنتي على أجساد العمال والعاملات.
قبل الكارثة بيوم اكتشف مفتشو السلامة المهنية شقوقًا في المبنى وطلبوا إخلاءه وإغلاقه. تم إغلاق المحلات التجارية والبنك الذي كان يشغل الطوابق السفلية على الفور، لكن إدارة ورشات الخياطة طلبت من العمال مواصلة العمل، وهددت بوقف الأجور وطرد المحتجين. وبعد ساعة، طغى صوت طقطقة قويًا ومرعبًا على أصوات آلات الخياطة؛ وبدأت أرضية المصنع الخرسانية تتدحرج تحت أقدامهم؛ ثم وقعت الطوابق الثمانية دفعةً واحدةً. وعندما فرغت قوات الدفاع المدني من عمليات الإنقاذ، كانت السلطات قد أحصت 1134 قتيلًا ذهبوا ضحية ضغوط الأسعار التي تفرضها شركات بيع الملابس، متعددة الجنسيات على المصانع المحلية، وضحية فساد السلطات الإدارية المحلية وجشع أصحاب المصانع. قبل ذلك، في عام 2005، لقي ما لا يقل عن 64 عاملًا مصرعهم في انهيار مبنى في مصنع «سبكتروم» للملابس.
منذ مطلع القرن، وتحول الصين -مصنع العالم- نحو الصناعات الأعلى جودةً، وارتفاع مستويات معيشة الطبقات العاملة فيها، أصبحت دول مثل بنغلاديش وباكستان، الوجهة المفضلة لشركات صناعة الملابس الغربية، بوصفها أرخص الأماكن لإنتاج هذه البضائع من حيث شروط الإنتاج وقيمة قوة العمل، إلى جانب فيتنام والهند. ويعمل أكثر من 4.4 مليون شخص -معظمهم من النساء- في ثلاثة آلاف مصنع في بنغلاديش، حيث يبلغ الحد الأدنى للأجور حوالي 32 سنتًا في الساعة، أو 68 دولارًا في الشهر. حيث تجني هذه الماركات المنتشرة عالميًا، ما قيمته 30 مليار دولار من الملابس الجاهزة.
بالنظر إلى الصورة الكبيرة لهذه الصناعة، فإنها تحقق 83% من العملة الصعبة لبنغلاديش، وتشغل 50 مليون شخص على نحو مباشر وغير مباشر. لكن هذه الفوائد من زاوية النظر الناقدة لعلاقة التبعية بين الرأسمال الدولي والرأسمال المحلي تخفي اختلالاتٍ هيكلية تفرزها هذه الصناعة الأجنبية. فهي لا تسرق فقط جهد القطاع الأوسع من الطبقة العاملة، بل تسرق أعمار هؤلاء العمال بالموت والإعاقات المختلفة. فضلًا عن كونها مساهمًا أساسيًا في التسليع العقاري للريف، بحثًا عن مساحات لبناء ورش ومصانع بتكاليف رخيصة ومرافق منعدمة. وهو ما يعني تقلص مساحات الزراعة ونزع الملكيات.
لكن هذه الملابس التي تحاك في مصانع الموت البنغالية تباع في الأسواق الأوروبية بفوائض هائلة عن كلفة إنتاجها. ثم تتحول إلى سلعة من درجة ثانية، عندما تجمع وتوزع على أساس أنها ملابس مستعملة، سواءً من خلال شركات تمتهن هذه العملية من منطلق تجاري أو عبر منصات العمل الخيري. وعبر هؤلاء الوسطاء تعود هذه الملابس إلى مهدها الأول في الدول التي صنعت فيها، جنوب آسيا أو في إفريقيا جنوب الصحراء. مسارات متشعبة في كل محطة منها تعيد هذه الملابس تشكيل علاقات إنتاج وتوزيع، وتشكيل ثقافات استهلاك وتداول مختلفة.
منذ العصر الوسيط وحتى منتصف القرن التاسع عشر -على الأقل- كان جزء كبير من سكان العالم يرتدون ملابس مستعملة، وكانت تنتقل من واحد إلى الآخر في إطار مجتمع منظم هرمي قوي. لكن أول ظهور للملابس المستعملة، كسلعة واسعة النطاق، ربما يعود إلى أربعينيات القرن التاسع عشر، بحسب أعمال مانويل شاربي، مؤرخ الثقافة المادية والبصرية. كانت الملابس في ذلك العصر هي ما يتخلص منه الأرستقراطيون ويلتقطه تجار الخردة، الذين يبيعون كل الأشياء المستعملة، لا الملابس فحسب. ولأن تصاميم ملابس النبلاء ليست هي نفسها تصاميم ملابس الفلاحين والعمال والحرفيين، بسبب صرامة التقسيم الاجتماعي، فلا يتم استعمال هذه البقايا كما هي، بل يتم إعادة تشكيلها، من خلال الاستفادة من قماشها وأحزمتها في تصميم ملابس تليق بكل طبقة اجتماعية في أسفل المجتمع.
يطلق الخبير الاقتصادي، جيرار بيرتوليني على هذا التداول الطبقي وصف «عملية خفض التصنيف المتتالية»، حيث تنتقل الملابس من يد إلى يد، ومن طبقة إلى طبقة، حتى تصل إلى الأكثر حرمانًا. وعندما لا تعود الملابس صالحة للارتداء، تلقى في الشارع مع بقية النفايات، وتجمع من قبل جامعي الخرق. ويقوم هؤلاء الأخيرون في نهاية المطاف ببيع هذه القطع من القماش إلى تجار السلع المستعملة، الذين يستخدمونها في صنع أشياء أخرى لا علاقة بها باللباس. وإلى حدود الحرب العالمية الثانية، وفترات الندرة التي عاشها العالم في التصنيع وتوفير المواد الأولية، شكلت الملابس المستعملة ساترًا لقطاع واسع من سكان العالم -شرقًا وغربًا- من عراء متحقق. لكن بعد الحرب وتطور صناعة الملابس الجاهزة، وتحسين مستويات المعيشة، والاعتبارات الصحية، وتكاليف التجميع والفرز، لا سيما في الدول الغربية، شهدنا تراجع تجارة الملابس المستعملة في البلدان الغنية، التي تم إعادة توجيهها بشكل متزايد نحو التصدير إلى البلدان الفقيرة والأقل تنمية، مع تزايد المنافسة لإيجاد منافذ.
الاقتصاد السياسي الدائري
نظريًا تنتمي تجارة الملابس المستعملة إلى «الاقتصاد الدائري» وهو نموذج إنتاج واستهلاك يتضمن مشاركة المنتجات والمواد الموجودة وإعادة استخدامها وإصلاحها وتجديدها وإعادة تدويرها لأطول فترة ممكنة حتى تحتفظ بقيمتها. وبهذه الطريقة، يتم تمديد دورة حياة المنتج لتقليل استخدام المواد الخام وإنتاج النفايات. من الناحية العملية، يعني هذا تقليل النفايات إلى الحد الأدنى. فعندما يصل المنتج إلى نهاية عمره الافتراضي، يتم الحفاظ على الموارد التي يحتوي عليها قدر الإمكان في الدورة الاقتصادية بفضل إعادة التدوير. وبالتالي يمكن استخدامها مرارًا وتكرارًا لإعادة خلق القيمة، وهو ما يشكل خروجًا عن النموذج الاقتصادي الخطي التقليدي، الذي يقوم على مبدأ «اصنع، استهلك، تخلص»، والذي يعتمد على كميات كبيرة من المواد والطاقة الرخيصة التي يسهل الوصول إليها.
يوفر هذا النموذج فوائد بيئية حيث من شأن إعادة استخدام المنتجات أو إعادة تدويرها أن يبطئ استخدام الموارد الطبيعية، ويساعد في الحد من فقدان التنوع البيولوجي، ويقلل كذلك من انبعاثات الغازات الدفيئة. فضلًا عن أن هذا النموذج الاقتصادي -كما يقدمه أصحابه والمدافعون عنه- يشكل رافعة للطبقات الوسطى والشعبية ولشعوب الدول الفقيرة.
لكن ما تكشفه الباحثة الأنثروبولوجية إيمانويل دوران، في كتابها «الوجه الآخر للملابس المستعملة: الملابس في ثنايا العولمة» يقول خلاف ذلك تمامًا. ضمن رحلة زمنية طويلة ومكانية شاسعة، قادتها إلى لبنان ودبي وبلجيكا وإفريقيا، تكشف الكاتبة عن وجه مختلفٍ للاقتصاد الدائري للملابس. حيث أصبحنا -عكس سردية الاقتصاد السياسي الدائري- نشهد تحولًا متناقضًا في تدفق الملابس المستعملة، في اقتصاد مزدهر للملابس المستعملة مع نمو يتجاوز 10% سنويًا في فرنسا مثلًا. حيث يتم تداول المزيد والمزيد من الملابس الجديدة غير المباعة في سوق السلع المستعملة، مما يدل على منطق الإنتاج الزائد في صناعة النسيج، ولكن أيضًا الآثار الضارة لبعض لوائح إعادة التدوير. ومن المفترض أن تؤدي هذه الزيادة في الملابس غير المباعة مباشرة إلى رفع جودة الملابس المتداولة في سوق الملابس المستعملة.
لتصبح قطعة الملابس المهملة أو المتبرع بها سلعة مرغوبة، يجب أن تمر عبر أيدي مجموعة من العمال الذين يتولون عملية الجمع والفرز والتعبئة والتقييم والنقل، التي أصبحت هي الأخرى مثل عمليات التصنيع، تجري في الدول الأكثر فقرًا.
ومع ذلك، فالواقع يضعنا أمام سلع غير مباعة وهي في الغالب معيبة، وبضائع لا تحقق المعايير المطلوبة، ولم تتمكن من العثور على مكان لها في سوق المنسوجات. ومن خلال السماح لهذه السلع الفائضة بإيجاد مخرج، أي أن قطاع الملابس المستعملة يسمح لصناعة المنسوجات ذات الموضة السريعة بمواصلة العمل بكامل طاقتها وتسييل إنتاجها دون الخوف من اختناق مخزونها، وأخيرًا، ندرك أن الملابس المستعملة والأزياء السريعة يسيران جنبًا إلى جنب.
تنسف أبحاث إيمانويل دوران أيضًا أسطورة الملابس المستعملة الصديقة للبيئة. حتى لو كان من الواضح أنها تظل أقل تلويثًا بكثير من الملابس الجديدة. إلا أن سوق الملابس المستعملة معقد للغاية ويعتمد أساسًا على سوق الملابس الجديدة، التي أصبحت بفعل فائض الإنتاج متخلفةً عنها ببضعة أشهر، لذلك فإنهما يسيران تقريبًا بنفس النسق. أما الأسطورة الأخرى حول الملابس المستعملة فهي أن عملية استعادة الملابس بسيطة. كثيرًا ما يتصور البعض خطأً أنه يكفي جمع تبرعات الملابس وإعادة بيعها بالحد الأدنى من الوسطاء. يتحدث كارل ماركس عن «فتشية السلع» لاستحضار إخفاء علاقات العمل اللازمة لإنتاج سلعة ما.
لتصبح قطعة الملابس المهملة أو المتبرع بها سلعة مرغوبة، يجب أن تمر عبر أيدي مجموعة من العمال الذين يتولون عملية الجمع والفرز والتعبئة والحجم والنقل. في نهاية المطاف، تنتشر الملابس في جميع أنحاء الكوكب قبل أن تعود إلى متاجرنا المستعملة. فعملية التجميع والفرز والتقييم أصبحت هي الأخرى مثل عمليات التصنيع، تجري في الدول الأكثر فقرًا، ضمن نفس منطق التصنيع منخفض التكلفة. وعكس ما يبشر به الاقتصاد الدائري -من وجهة نظر رأسمالية- فإن الملابس المستعملة تعيد آليات الاستهلاك المفرط من خلال ممارسات تحفيزية معينة مثل البيع بالكيلو. حيث توفر أسواق الملابس المستعملة، بنفس الطريقة التي توفر بها العلامات التجارية للمنسوجات الجديدة، إمدادات وفيرة وفائضة. إلى جانب دخول المنصات الإلكترونية على خط هذه التجارة المربحة، مثل تطبيق Vinted، الذي يغذي المنطق الليبرالي الجديد والاستهلاكي على نحو مثالي من خلال العرض الافتراضي اللانهائي. أو منصة Videdressing، التي تحولت إلى وسيط الطبقات العليا وتضم المشاهير والشرائح العليا من الطبقات الوسطى، ويتخلص من خلالها الأغنياء من ملابسهم من الماركات الباهظة.
في ثنايا العولمة والهيمنة
في ظواهرية الإدراك يشير موريس ميرلو بونتي إلى الحركة المكانية والرمزية البسيطة للملابس التي لا تغير أفقها فقط، بل تغير طبيعتها أيضًا. وهو الوجه الذي فرضته العولمة منذ ثلاثة عقود. حيث لم تعد المساحات المكانية المتباعدة للعالم تحتفظ بخصائص فريدة للباس، بل أصبح العالم يلبس نفس الملابس، بفعل عولمة الثقافة الشعبية في السينما والإعلانات والتلفزيون، وكذلك بفعل تصدير العمليات التصنيعية ضمن نموذج سلاسل التوريد. يبدو هذا المنطق العولمي متطابقًا مع تجارة الملابس المستعملة الدائرية، ولكن الباحثة الفرنسية تلفت إلى أن طبيعة الهيمنة الثقافية التي تفرضها هذه التجارة، فضلًا عن الاستغلال المادي، قديمة وسابقة للعولمة. فقد تطور تداول الملابس المستعملة، جزئيًا، في سياق استعماري. في أعقاب الحرب العالمية الأولى، نظمت الإمبراطوريات الاستعمارية عمليات تصدير واسعة للملابس المستعملة إلى المستعمرات، بدوافع مختلفة هدفها الأساسي الإخضاع، والذي كان حينها يتمثل في «الرسالة الحضارية للاستعمار»، الذي أراد إلباس سكان المستعمرات الملابس الأوروبية الحديثة، ليلحقهم «بركب الحضارة».
وما زالت الذاكرة العربية تحتفظ بصراعات فقهية حول جواز ارتداء الملابس الإفرنجية وحرمتها، ولا سيما البرنيطة. استقبل لبنان وسوريا، الخاضعين آنذاك لإشراف الانتداب الفرنسي، وبلدان المغرب العربي وإفريقيا جنوب الصحراء في ذلك الوقت المزيد من بالات الملابس المستعملة. واليوم، مع منطق الاستعانة بمصادر خارجية لمعالجة وإدارة النفايات -من الملابس المستعملة، والبلاستيك، والخردة المعدنية- إلى بلدان أخرى، يمكننا أن نتساءل عما إذا كانت هذه الأشكال من إزالة مخلفات المواد لدى الغرب لا تعيد إنتاج علاقات التبعية نفسها، التي تنتجها الصناعة، أي البحث عن كيانات تابعة تقوم بإعادة معالجة ما يستهلكه الغرب، والاستفادة من هوامش فارق سعر قوة العمل ضمن شروط غير إنسانية للعمل.
الرأسمالية التي أدت بقطاع واسعٍ من الطبقات الشعبية إلى مصائر الفقر، لا تريد أن تفوت هؤلاء الفقراء كمستهلكين، وتريد أن تستغل فقرهم في ترويج بضائعها.
أما الجانب الثاني لتطور هذه التجارة في سياق العولمة، فهو عودة السوق الغربي بقوة لاستهلاك الملابس المستعملة. حيث خلفت العقود الأخيرة من الليبرالية الجديدة حطامًا طبقيًا هائلًا من العمال بدون عمل والفقراء الجديد والمشردين ومحدودي الدخل. وقد أدى تشكل هذا السديم الشعبي، ذو المقدرة الشرائية الضعيفة، إلى عودة استهلاك البضائع المستعملة. بين عامي 2020 و2023، تم افتتاح 67 متجرًا جديدًا للسلع المستعملة في باريس وحدها. فمن ناحية، يتم ري سوق السلع المستعملة بسلع جديدة، ومن ناحية أخرى، تمتلك العلامات التجارية الكبرى للأزياء، أقسامها المستعملة أو ممارسات إعادة التدوير الخاصة بها. لأنهم يدركون المكان الذي يجب أن يشغلوه في هذا السوق المزدهر.
في الواقع، يمكن أن نعتقد أن مستقبل الملابس المستعملة سيتحرك في اتجاه المزج بين الجديد والقديم، لتشكل نماذج هجينة من العروض التجارية من حيث الملابس. فالرأسمالية التي أدت بقطاع واسعٍ من الطبقات الشعبية إلى مصائر الفقر، لا تريد أن تفوت هؤلاء الفقراء كمستهلكين، وتريد أن تستغل فقرهم في ترويج بضائعها.
في مستوى ثالث تعالج الباحثة مسألة الملابس المستعملة والعمل الخيري، حيث أدى منطق التسليع المفرط لهذه البضاعة إلى التشكيك في ممارسة العطاء الخيري. حيث يميل قطاع واسع من الناس إلى إعادة بيع الملابس بحالة جيدة بدل التخلي عنها. وعادة ما تكون الملابس المتبرع بها هي تلك التي لا يمكنك الحصول على الكثير من المال منها بسبب حالتها. في الواقع، وهو ما يتجلى في شكل تراجعٍ في جودة التبرعات. ومن ثم يتم توزيع هذه التبرعات حسب جودتها في مختلف البلدان. سوف تذهب الملابس ذات النوعية الجيدة إلى أوروبا الشرقية. أما تلك ذات الجودة الأقل فسوف ينتهي بها الأمر في أمريكا الجنوبية أو الشرق الأوسط. وأخيرًا، فإن تلك الملابس ذات النوعية الرديئة للغاية سوف ينتهي بها الأمر في إفريقيا أو آسيا.