عبد الرحمن العقروق: بنّاء السلط

شرفة بيت أبو جابر الذي بناه عبد الرحمن العقروق في مدينة السلط بين عامي 1892 و1905. تصوير مؤمن ملكاوي.

عبد الرحمن العقروق: بنّاء السلط

الخميس 18 تموز 2024

لعله المعماري الأهم في الأردن خلال الفترة المتأخرة من العصر العثماني وعهد الإمارة. مثّل عبد الرحمن العقروق نموذجًا مختلفًا عن المعماريين اللاحقين ممن انطلقوا بممارسة مهنتهم استنادًا للدراسة والتعليم الهندسي الأكاديمي خارج البلاد. هو نموذج لصاحب الحرفة، الذي كانت المعرفة عنده موروثة من أصحاب الحرفة السابقين ومكتسبة من البيئة المحيطة ومن التعلم بالممارسة مع الجرأة على التجربة والابتكار والتصحيح الذاتي، دون الدراسة الأكاديمية في الجامعات كما كان الحال مع المعماريين من الجيل اللاحق، ممن برزوا في مرحلة ما بعد الاستقلال.

ولد عبد الرحمن يوسف عبد الله العقروق في مدينة نابلس عام 1851، والتحق بالكتّاب فتعلم الكتابة والقراءة وأساسيات الحساب. وكان لنشأته في وسط البلدة القديمة بنابلس -حيث بيت العائلة الواقع في قلب البلدة القديمة فيما عرف بـ«حوش العقروق»- أثر في تكوينه كمعماري، بما فيها من منازل، ومحالّ، ومساجد، وخانات، ومدارس، وحمامات، وساحات، تعود للعصرين المملوكي والعثماني، وبعمارتها التقليدية وأنظمتها الإنشائية المعتمدة على القناطر والأقبية، ومخططاتها المتميزة بالأفنية المركزية، وواجهاتها ذات العقود والأقواس المتناسقة. فكانت البلدة تمثل بكلّ ذلك معرضًا معماريًا غنيًا، وكانت بذلك المكان الذي بدأ بالتشكل ضمنه الوعي والمعرفة والإلهام المعماري لدى العقروق.

أخذ العقروق -كما يذكر الباحث في تاريخ السلط وتراثها، درويش الكاشف- صنعة البناء عن سعيد الترياقي النابلسي، وأول عمارة شارك ببنائها ‏في مدينة نابلس كانت عمارة الحاج محمود النابلسي. ومع انتقال عدد من العائلات النابلسية إلى السلط في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، انتقل العقروق معهم، وفي السلط أوكلت إليه مهمة بناء وتشييد عدد من الأبنية خاصة حول ساحة العين، بؤرة الحراك الاجتماعي والتجاري آنذاك للمدينة. وسرعان ما برز اسم العقروق، فعدا عن البناء والتصميم، كان يُختار لتقدير وتخمين قيمة العقارات والطواحين والكشف عليها.‏

حج العقروق حجته الأولى في شبابه، ثم حج الثانية في شيخوخته سنة 1943، وبعد أداء مناسك الحج ‏مرض وتوفي في ذلك العام، ودفن في نابلس.‏ وقد تتلمذ على يديه الكثير من البنائين في زمنه، من ‏أشهرهم عبد الرحمن أسعد كوكش (1876-1964)، الذي بنى مدرسة السلط الثانوية سنة ‏‏1922، كما كان من المشاركين في أعمال تصميم وبناء قصر رغدان (1924-1927).‏

شيخ البنائين، عبد الرحمن العقروق. المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي (محسنة بالذكاء الاصطناعي).

السلط مركزًا تجاريًا في جنوب بلاد الشام

جاء نشاط العقروق في فترة ازدهار مدينة السلط التجاري والمعماري، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، ما بين اختيارها كمركز قائمقاميّة عام 1866، وما رافقه من بروزها كمركز تجاري وإداري على مستوى منطقة البلقاء وجنوب بلاد الشام، وما بين قيام إمارة شرق الأردن، عام 1921، وانتقال مركز منطقة البلقاء إلى مقرّ عاصمة الإمارة الجديدة في عمّان.

عام 1866 عيّن والي دمشق، محمد رشيد باشا، الكردي الدمشقي، فارس آغا قدرو كأول حاكم للسلط، كما وضعت الدولة العثمانية حامية عسكرية ثابتة في قلعة السلط لمواجهة ايّة اعتداءات قد تتعرض لها المدينة. أسس قدرو مجلسًا إداريًا منتخبًا مكونًا من نخبة عائلات السلط. وتلا ذلك بناء دار الحكومة (السرايا) في عام 1869 في ساحة المدينة الرئيسية التي تقع في الوادي ما بين جبليْ القلعة والجدعة. وقد شكلت هذه الساحة نقطة استقطاب نمت حولها المدينة وأصبحت مركزًا للنشاطات الادارية والتجارية والاجتماعية والدينية. بذلك، دخلت السلط وعموم جوارها في مرحلة من الاستقرار، بعد فترة من الاضطرابات صاحبت حملة إبراهيم باشا على بلاد الشام -في ثلاثينيات القرن التاسع عشر- وبعدما كان حضور الدولة في عموم مناطق شرق الأردن، خلال الأزمنة السابقة على الحملة المصريّة، يتسم بالضعف وغياب حضور المؤسسات ومقرات الحكم الإداري العثماني.

ومع تعزيز الأمن وتحقيق الاستقرار، بدأت هجرة السكان من المناطق المجاورة، وخاصة من نابلس. فقدم إليها التجار والحرفيون والبناؤون، وازداد النشاط التجاري مع فلسطين عامة ومع نابلس خاصة. وشجعّ تنظيم الموازين والمكاييل على تطور الأسواق، الأمر الذي أدى بدوره إلى انتقال العديد من التجار النابلسيين إلى السلط بحثًا عن الفرص التجارية الناشئة، حاملين معهم معارفهم وخبراتهم وطباعهم وأذواقهم الحضريّة، وحاولوا تكييفها مع المكان الجديد.

كانت عائلات طوقان، والنابلسي، والمصري، ومهيار، والبلبيسي، وغيرها، من العائلات النابلسية التي انتقلت من نابلس واستقرت في السلط أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. واستقر معظمهم في المنطقة الواقعة شرق الساحة (والتي سميت فيما بعد بمحلّة النوابلسة أو محلة الأغراب). وترافقت هذه الهجرة مع توافد عدة بعثات تبشيرية مسيحية إلى السلط، فنمت المدينة وتوسعت وأصبحت مركز جذب تجاري، وباتت أكبر مركز حضري في شرق الأردن في ذلك الوقت.

تدريجيًا، بدأت الخصائص المعمارية للمباني في المدينة تتطور لتعكس وتعبر عن خبرات وأذواق وأوضاع الطبقة التجارية الصاعدة بها. ويلاحظ من خلال تطور أنماط البناء انتشار الطابع المعماري المدنيّ، بدلًا من البيوت الفلاحيّة الأبسط تصميمًا (التي كانت تنتشر في المرحلة السابقة)، وتأثره بطراز المباني في المدن المجاورة، من صيدا، وبيروت، إلى نابلس، والقدس، إلى جانب استمرار وجود نمط المباني الريفية التقليدية (الفلاحيّة). هذا بالإضافة إلى التأثير الغربي الذي بدأ يزداد، وجاء من خلال مساهمة التجار بإدخال بعض العناصر المعمارية واستعمال مواد جديدة مستوردة، مثل الخشب، والرخام، والزجاج العادي والملون، وبلاط القرميد للأسقف، والبلاط المزخرف للأرضيات، مستفيدين من شبكة المواصلات الحديثة التي كانت قد تطورت آنذاك، من موانئ وسكك حديد.

ونظرًا لتدفق الأموال والعمال المهرة، أصبح البناء متطورا أكثر في طابعه وحضريًا أكثر في تشكيله،  وبدأت تبرز أنماط بناء وتصميم جديدة وبخاصة بيوت القاعة المركزية، أو الفناء المركزي (Courtyard Houses)، والبيوت ثلاثية الأروقة (Three Aisles Houses). وشارك في تشييد المباني الجديدة بناؤون من نابلس بخاصّة، كان من بينهم العقروق. واستخدم في بناء جدرانها وواجهاتها الخارجية الحجر الأصفر الذي كان يجلب من محاجر مجاورة. وارتفعت المباني إلى ثلاثة أو أربعة أدوار، واستمر بناء العقود المتقاطعة للأسقف، واستخدمت الأسقف القرميدية لبعض المباني الهامة وذلك باستخدام الجمالونات الخشبية.

منظر عام باتجاه ساحة العين، مركز مدينة السلط، وحي الجدعة إلى الجنوب منها. تصوير خالد بشير.

أوائل الأعمال: بيت المعشر وبيت السّكر

كان بيت صالح المعشّر من أقدم بيوت الطبقة العليا في السلط، التي ظهرت خلال مرحلة ما بعد عام 1866، ويعود تاريخ بنائه إلى حوالي عام 1875، وكان مملوكًا لصلاح أبو جابر لكن ملكيته للمبنى لم تدم طويلًا، إذ اشترت عائلة المعشّر المبنى وأقامت فيه حتى مطلع الستينيات من القرن الماضي.

يقع المبنى في شارع الدير بجانب الدرج القديم الذي يؤدي إلى حي الجدعة، ويمثل البناء نموذجًا للأبنية الصغيرة المتميزة في واجهتها الأمامية، وهو يتألف من طابقين. ويمتاز تصميم الواجهة الرئيسية بالتماثل العمودي بين نصفيها، وتتألف من أربعة نوافذ في الطابق الثاني يفصلها باب، يفتح على شرفة معلّقة، وجميع الفتحات تنتهي بنهاية قوسيّة، وجميعها مصحوبة بأعمدة على شكل ضفيرة، تعلوها تيجان مزخرفة.

الواجهة الأمامية لبيت المعشّر، وإلى يسارها يظهر الدرج المؤدي إلى حي الجدعة. تصوير مؤمن ملكاوي.

وتحمل الواجهة بما فيها من انحناءات ملامح العمارة الأوروبية الباروكيّة، مجتمعة مع نسب وخصائص من العمارة المحلية الخاصة ببلاد الشام، ما يجعل التصميم ككل طرازًا انتقائيًّا (eclectic)، يقوم على أساس ضم العناصر وفقًا لما استحسنه المصمم، وما وجد بأنه يحقق نسب وتشكيل بصري ذو قيمة من حيث التناسق ومن الناحية الجماليّة البصريّة.

كان أشهر من سَكَن المبنى من عائلة المعشّر -وارتبط اسم المبنى به- هو صالح المعشر (المولود عام 1910)، والذي شغل منصب وزير الصحة في حكومة سليمان النابلسي (1956)، ومنصبَ وزير الشؤون الاجتماعية في حكومة بهجت التلهوني (1970)، ثُمَّ شغلَ منصبَ وزير الشؤون الاجتماعية والعمل في حكومة عبد المنعم الرفاعي (1970).

صورة للبيت من عام 1918. المصدر: مواقع التواصل الاجتماعي.

أما بيت السّكر، فيتكون من أربعة طوابق، وتعود ملكيته إلى يوسف السكر الذي أنشأت عائلته وكالة السكر لتجارة المجوهرات في منطقة ساحة العين، وهو مؤسس سوق السكر في وسط عمّان. شيد البيت بين عامي 1879 و1884 على يد العقروق، وقد أحضرت الحجارة المستخدمة في بنائه من محاجر السلط، في حين أحضر الزجاج والبلاط من القدس.

استخدم العقروق في الواجهة الرئيسية المطلّة على مركز المدينة أعمدة صغيرة مزدوجة، ذات نسب وأحجام صغيرة، وهي أحجام ونسب تميّزت بها العمارة الإسلامية ذات المنحى التفصيلي (خلافًا لنسب العمارة الكلاسيكية). واستخدم الشبابيك المقوّسة بذات النسب والدرجات المنتشرة في السلط وعموم بلاد الشام خلال تلك الفترة. وتميّز هذا المنزل باستخدام السقف القرميدي المنحدر الذي يناسب طبيعة المدينة باعتبار ما تتعرض له من كميات مرتفعة نسبيًا من الهطول المطري السنوي.

وقد سكن يوسف السكر الطابق الثاني من المبنى بينما أجر الطوابق الباقية. واستضاف هذا المنزل الأمير عبد الله والملك فيصل ولورانس العرب سنة 1921، حين أقاموا فيه خلال توجههم آنذاك للقدس للقاء ونستون تشرشل.

بيت السكر. تصوير مؤمن ملكاوي.

مسجد السلط الصغير؛ مركز السوق التجاري

كان مسجد السلط الصغير من أشهر أعمال العقروق في السلط. بدأ العمل على إنشائه عام 1906، وأنجز عام 1907، واستخدم في بنائه خامات مختلفة منها الجبس، والكلس، والحجارة. ويعدّ هذا المسجد من المباني الهامة في المركز التجاري للسلط والتي كان لها دور فاعل في الحراك الاجتماعي والتعليمي في مدينة السلط.

يقع المسجد في شارع الحمّام، ويتكون من طابقين أحدهما بارتفاع منسوب الشارع، وهو المستخدم للصلاة، والآخر هو طابق تسوية مخصص للخدمات، ويمكن الدخول إلى المسجد من شارع الحمّام مباشرة عن طريق مدخل بسيط عبر بوابة خشبية قديمة، وتقوم على جانبيْ المدخل محلات تجارية.

قبل هذا المسجد، لم يكن في السلط سوى مسجد آخر عرف المسجد الكبير، ليصبحا يعرفان بعدها بالمسجد القديم والمسجد الجديد. ويتألف المسجد الصغير من مصلّى، وساحة خارجية مكشوفة مرصوفة بالبلاط الحجري. أما سقف المسجد فهو عبارة عن عقود متقاطعة، وتتراوح سماكة جدرانه بين 60 و120 سم، ويحمل السقف عمودان دائريان من الحجر. وبنيت المأذنة من الحجر الجيري الأصفر وهي مفصولة عن الجامع.

مسجد السلط الصغير في شارع الحمام، والمسجد من الداخل. تصوير مؤمن ملكاوي.

ووفقًا لما يذكره الباحث في تراث وتاريخ السلط، درويش الكاشف، في كتابه «السلط: الأرض الطيبة»، فقد «كان الشيخ مطيع درويش الأسير يعمل قاضيًا شرعيًا في مدينة السلط في الفترة التي كان يبنى فيها المسجد السلط الصغير، وبحكم عمله كان يرعى بناء المسجد، ولم يبقَ منه سوى سقفه ليكون من القرميد الأحمر. وكان القرميد قد وصل إلى محطة القطار بعمّان من ألمانيا عن طريق ميناء حيفا بفلسطين، ولقد احتار في آلية نقله إلى السلط فقاده تفكيره للجوء إلى الشراكسة بعمان الذين كانوا يملكون العربات التي تجرها الثيران، فاستنهضهم، حيث قاموا بنقل القرميد الى السلط في بضعة أيام دون مقابل».[1]

واستخدمت في بناء المسجد الحجارة الصفراء المستخرجة ‏من جبال السلط ومن منطقة وادي شعيب القريبة من السلط. وبالرغم من بساطة أدوات البناء ووسائل النقل، فقد تم ‏تشيّيد المبنى بزمن قياسي، فاستغرق بناؤه أقل من عام.‏

مئذنة مسجد السلط الصغير. تصوير مؤمن ملكاوي.

بيت أبو جابر: نموذج للتصميم ثلاثي الأروقة

عام 1892، شرع صالح الناصر أبو جابر ببناء الطابق الأرضي من البيت الذي سيعرف بـ«بيت أبو جابر»، وأوكل مهمة التصميم والتنفيذ لمعماري السلط الأشهر حينها، عبد الرحمن العقروق. وجاء البناء لهذا الطابق على مرحلتين؛ في المرحلة الأولى بُنيت الجهة الشرقية (المستوى الأخفض) من الحجر الأبيض الذي جُلب من منطقة وادي شعيب. أما المرحلة الثانية فكانت من الجهة الغربية (المستوى الأعلى) وبنيت من الحجر الأصفر المجلوب من منطقة السلالم بالسلط، عام 1896. وفي عام 1902 بوشر ببناء الطابق الأول، وجهز هذا الطابق لاستقبال الضيوف وإقامة الولائم، في حين استُغل الطابق الأرضي كمضافة ومستودع للغلال ولإيواء الحيوانات، واليوم تفتح بوابات دكاكينه على الساحة الرئيسية في السلط (ساحة العين)، وفي عام 1905 تم إضافة الطابق الثاني. وقد بنيت جميع الطوابق من قبل عبد الرحمن العقروق.

الواجهة الرئيسية لبيت أبو جابر، ويظهر الفرق في المستوى بين جزئي الطابق الأرضي، وكذلك الفرق في لون الحجر. تصوير مؤمن ملكاوي.

اتبع العقروق في الطابق الأرضي النمط المعماري التقليدي السائد في تلك الحقبة، فتكون من غرف عدّة بأحجام مختلفة، يتم الوصول لها من ردهة مركزيّة، واستخدم نظام السقف بالعقود البرميلية المتقاطعة، وهو ما تطلب أن تكون الجدران سميكة، فتراوح سمكها ما بين 60-100 سم.

أما الطابق الأول، فقد اتبع فيه العقروق نظام المنزل ثلاثي الأروقة، الذي كان الأكثر تطوّرًا حينها، واستخدم كذلك أسلوب العقود البرميلية المتقاطعة كنظام إنشائي للتسقيف في هذا الطابق. وقد انعكس النمو الاقتصادي لمدينة السلط على هذا الطابق، فجاء أكثر إتقانًا في تفصيلاته المعمارية، وتميّز ببناء واجهته من الحجر الأصفر المدقق بتفصيلاته المتقنة، والشرفات البارزة التي استُخدمت الدعامات في بنائها.

وقد تطوّر البيت ثلاثي الأروقة وأصبح راسخًا وشائعًا في عمارة بلاد الشام خلال النصف الثاني من  القرن التاسع عشر. ويعتبر هذا التصميم تطورًا لنمط القاعة المركزيّة، المفتوحة أو المسقوفة. ويتضمن تخطيطه قاعات منفتحة على بعضها، مع العديد من الفتحات إلى الخارج، وبخاصة في القاعة المركزية التي تنتهي عادةً بشرفة أو نافذة كبيرة. ويعكس استخدام العقروق لهذا النمط خلال تلك الفترة ارتباطه وتأثره بعموم الحراك والتوجهات المعمارية السائدة في بلاد الشام خلال تلك الفترة، ومواكبته لها.

استخدام نظام عقود البرميلية المتقاطعة للسقف في الطابق الأول من بيت أبو جابر. تصوير مؤمن ملكاوي.

الشرفة والنوافذ التي تنتهي بها الردهة المركزية في الطابق الأول من بيت أبو جابر، حيث يظهر استخدام الزجاج المعشّق (الملوّن) والزخارف في تزيين الشبابيك. تصوير مؤمن ملكاوي.

عام 1905، أضيف الطابق الثاني للبناء، واستُخدمت فيه الحجارة الصفراء مرة أخرى، كما استُخدم في هذا الطابق مواد أخرى جُلبت من الخارج (الرخام من إيطاليا، والقرميد من ألمانيا، والزجاج من بلجيكا)، وتكوّن من ثلاثة أفنية (أروقة)، مفتوحة على بعضها. وتتميز جدران هذا الطابق بأنها أقل سماكة من الطوابق الدنيا، فلا تزيد عن ثلاثين سنتمتر. ويغطي سقف البناء القرميد الأحمر المسند إلى مورينات خشبية (عوارض) تحتها ألواح من الزينكو لمنع تسرب الماء.

الواجهة الشرقية للمبنى، ويظهر الفرق في التصميم ونوع الحجر بين الطابق الأرضي والطابقين الأول والثاني. تصوير مؤمن ملكاوي.

وتتميز واجهة المبنى الرئيسيّة (الأمامية) باستخدام أعمدة ملتصقة بالحائط ذات زخارف مقتبسة من ورق الشجر في الطابق الأول، وعمود ذو تصميم مطوّر عن تصميم العمود الأيوني الكلاسيكي (المتميز بحلزونتين في التاج) في الطابق الثاني، ما عكس جرأة عند العقروق للإبداع والابتكار في التصميم والتشكيل الفني. وتقلّ الزخارف في الواجهة الشرقية، وتغيب في الواجهتين الغربية والخلفية.

ولم تقتصر العناصر المعمارية الجماليّة على الواجهة، بل هناك عناصر معمارية متميزة من الداخل، ومنها البلاط. فكانت أرضية الطابق الأرضي مبلطة بحجارة ذات قياسات غير متساوية؛ مربعة ومستطيلة وذات أحجام مختلفة. أما الطابق الأول، فاستخدم فيه البلاط المزخرف، المتميز بالأشكال الهندسية والنباتية. في حين تم تبليط الأرضيات في الطابق الثاني بالرخام من نوع «كرارة» الذي جُلب من إيطاليا، وقد تم نقل هذا الرخام من إيطاليا إلى ميناء حيفا، ومن هناك بواسطة القطار إلى درعا، وبواسطة سكة حديد الحجاز من درعا إلى عمّان، ومن ثم حمل على ظهر جمال الجوابرة من عمّان إلى السلط.

تفاصيل من الواجهة الأمامية، الطابقان الأول والثاني. تصوير مؤمن ملكاوي.

بيت طوقان: نموذج لبيت الفناء المركزي

يقع البيت في شارع الميدان، مقابل سوق الحمام، ضمن محلة الأغراب (النوابلسة)، وقد بنته عائلة طوقان التي قدمت من نابلس إلى السلط في نهاية القرن التاسع عشر. يعتبر هذا البناء من النماذج للأبنية المختلطة الاستخدام (التجاري والسكني)، وهو نموذج لتناسق الواجهات من حيث تصميم المداخل والأقواس، ويتألف من طابقين، حيث يشغل الطابق الأرضي محلات تجارية ومستودعات للتخزين، أما الطابق الأول فيتكون من شقتين سكنيتين.

قام عبد الرحمن العقروق بأعمال التصميم والتنفيذ بناءً على طلب داود عبد الرحمن طوقان، الذي كان قد جاء من نابلس كتاجر، اشترى وبنى محلات ومستودعات لتخزين وبيع البضائع التجارية، بما في ذلك من منتجات مصنعة من فلسطين كان يجلبها للسوق المحلية، ومنتجات رعوية وزراعية من شرق الأردن يعيد بيعها في فلسطين. شيد المبنى على مرحلتين: الأولى بين 1900-1905، بني فيها الطابق الأرضي فوق طابق سفلي يعلوه قبو أقيم بمستوى الشارع بحيث يمكن استعماله للتخزين. أما المرحلة الثانية فكانت بين عامي 1910 و1915 وفيها بني الطابق العلوي المخصص للسكن.

الواجهة الرئيسية لبيت طوقان، وتفاصيل زخارفها. تصوير مؤمن ملكاوي.

نقل مبنى طوقان البناء في السلط إلى مستوى جديد من التطور والتعقيد المعماري. إذ استعمل العقروق في تصميمه نموذج المنزل ثلاثي الأروقة مع وجود الرواق أو القاعة المركزية المتمثلة بغرفة المعيشة، والتي كانت تنتهي بشرفة تواجه الوسط التجاري المزدحم وتطلّ عليه، مشكلةً سقفًا لرواق أسفلها، يتألف من ثلاثة أقواس، ويتضمن المدخل الرئيسي. وتميّز تصميم الواجهة الأمامية بالحجارة المزخرفة والأعمدة الحجرية بتيجانها دقيقة التصميم.

إن ترتيب النوافذ المحيطة بالبوابة، إضافة إلى الرواق الثلاثي الأقواس الذي يشكل المدخّل، جاء متوافقًا مع نموذج تصميم الواجهات للعمارة المدنية التي كانت سائدة في بلاد الشام خلال أواخر العصر العثماني وحتى سنوات الثلاثينات من القرن الماضي، عندما تغيّرت مواد وأساليب الإنشاء وبدأت تسيطر اتجاهات العمارة الأكثر حداثةً.

أما الجدران الخارجية فهي من الحجارة الصفراء، وتتميز بالسماكة من الداخل والخارج، ما منحها خاصيّة العزل الحراري، صيفًا وشتاءً. وتميز الطابق الثاني أيضًا بساحة خلفية (فناء داخلي)، مفتوحة على السماء، تتوزع من حولها الغرف، ليشابه بذلك التصميم التقليدي للبيوت العربي الإسلامية (منازل الفناء المفتوح). 

الفناء الداخلي لبيت طوقان. تصوير خالد بشير.

وجاءت أسقف الطابق الأول على شكل العقود المتقاطعة التي تستند على جدران سميكة، أما أسقف الطابق الثاني فقد صممت على طريقة الجسور الحديدية والأسطح المستوية. وأما البلاط المستخدم في الطابق الثاني فهو لوحات فنية اشتملت على زخارف هندسية يمتاز بها الطابع الفني الإسلامي.

من أرضيات بيت طوقان المبلّطة بالبلاط الزخرفي. تصوير خالد بشير.

يشغل المبنى اليوم متحف السلط. ففي عام 1989، قررت بلدية السلط بالتعاون مع مؤسسة إعمار السلط القيام بمشروع لترميم المبنى لتشتريه المؤسسة وتقدمه هدية للبلدية التي أجّرت بدورها المبنى لدائرة الآثار العامة لاستخدامه كمتحف للمدينة، تقديرًا للقيمة المعمارية المميزة للبناء وحفاظًا عليه.

معالم فقدناها: حمام السلط القديم

كان موقع الحمّام القديم في السلط مجاورًا لمباني دير اللاتين، على مقربة من ساحة العين، على أحد جانبي الشارع الذي سُمي باسمه لاحقًا، «شارع الحمّام». واعتمد أسلوب الإنشاء على أسطح العقود المتقاطعة المستندة على جدران سميكة.

وكانت المياه تُسحب مباشرة من نبع المدينة الرئيسي وهو عين الجامع الكبير، عبر أنابيب فخارية مسقوفة. وينقل الكاشف أنه قد ورد في أحد المصادر التاريخية عن الحمّام أنه: «بناه المرحوم عبد الرحمن العقروق. وقام المرحوم عبد الله جاموس بدق الحجارة في شارع الحمّام، وكان يُجلب الماء للحمّام من الماء المُتدفق عبر القناة الواصلة للحمّام. وكانت المياه تسخن بحرق نشارة الخشب وروث الدواب وقصاصات الأقمشة وما إلى ذلك».[2]

وكان بناء الحمّام قد تأثر بالزلزال الذي ضرب السلط والمنطقة عام 1927، فتهدمت الكثير من المباني نتيجة لذلك، ومنها حمّام مدينة السلط، فتصدع البنيان وتوقف عن العمل منذ ذلك التاريخ، الأمر الذي دعا القائمين عليه إلى هدمه، ومن ثم بنيت وأقيمت عدد من الدكاكين والمحلات التجارية على مساحة الأرض التي كان قائمًا عليها.

شارع الحمام، السوق التجاري الحيوي وسط مدينة السلط. تصوير مؤمن ملكاوي.

جاء نشاط العقروق في فترة ازدهار مدينة السلط التجاري والمعماري، وذلك في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، ما بين اختيارها كمركز قائمقام في الدولة العثمانية (1866)، وما بين قيام إمارة شرق الأردن (1921). وبعد اختيار عمّان لتكون عاصمة الإمارة الناشئة، وانتقال مركز المنطقة إلى عمان، تراجعت مكانة السلط، وتراجع النمو فيها فأخذت عملية التوسع العمراني بالتباطؤ. وتزامن ذلك مع تراجع الاعتماد على الحجر الأصفر بما كان يتيحه ويتسم به من إمكانيات وميزات فنيّة وجماليّة، والتحوّل نحو البناء بالاعتماد على مادة الأسمنت وبأسلوب إنشاء الجسور والأعمدة بدلًا من الأقبية.

لم تكن نماذج بيت القاعة المركزية ثلاثي الأروقة والبيت الفنائي التي أسهم العقروق بتطويرها وإدخالها ضمن البيئة والنسيج المعماري لمدينة السلط مجرد بناء معماري مهم وبارز، بل أنه أسهم في تحويل وإعادة تعريف المشهد الريفي، ليصبح نسيجًا عمرانيًا حضريًا يتواكب مع المركز التجاري الحضري الناشئ، السلط، التي كانت أبرز مركز حضريّ تجاري في شرق الأردن عند قيام الإمارة، مطلع العشرينات من القرن الماضي.

لقد امتازت عمارة العقروق بالجرأة والمبادرة للابتكار، والجمع ما بين الطرز المعمارية المحلية لبلاد الشام في الفترة المتأخرة من العصر العثماني، مع الارتجالات المستوحاة من اتجاهات العمارة الحديثة والعصرية، مطوّرًا بذلك طرازه الانتقائي الخاص به، الذي تجسّد في أهم الأبنية في وسط المدينة التجاري ومحيطه، والتي وقفت بواجهاتها المزخرفة وزخارفها المتطورة معبرةً عن مستوى ثراء الطبقة الاجتماعية التجارية الصاعدة في الحقبة الزمنية التي نشط بها العقروق، وعاكسةً التفاعلات مع التأثيرات الإقليمية والغربية المعاصرة لها.

  • الهوامش

    [1] درويش الكاشف، «السلط: الأرض الطيبة»، دار ورد الأردنية للنشر والتوزيع، عمان، 2019، ص 31.

    [2]  درويش الكاشف، مصدر سابق.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية