يتذكّر النحّال جمعة الملكاوي (أبو هيثم) المقولة الأكثر رواجًا عن تربية النحل في قرى شماليّ الأردن قبل ثمانينيات القرن الماضي: «النحل رِزق العاجز»، أيّ أنّ تربية النحل لإنتاج العسل لم تتطلب من المشتغل بها جهدًا كبيرًا بالمقارنة مع شكل الأعمال الأخرى المنتشرة في القرى مثل الفلاحة وتربية المواشي، بالإضافة إلى طبيعة سلالة النحل المنتشرة في المنطقة منذ سنوات طويلة التي لم تتطلب عنايةً كبيرة والمعروفة بالنحل السوري أو البلدي (Apis mellifera syriaca).
امتدّ موطن هذه السلالة جغرافيًا في بلاد الشام من الشواطئ الشرقية للبحر الأبيض المتوسط شماليّ سوريا إلى صحراء النقب جنوبًا.[1] تتصف هذه السلالة بقدرتها على التأقلم مع الظروف المناخية المحلية، مثل جمع العسل في المواسم التي تشحّ فيها الأمطار أو ترتفع فيها درجات الحرارة، بالإضافة إلى مقاومتها للأمراض والآفات، وقدرتها الدفاعية العالية عند تعرضها لهجمات الحشرات الأخرى.[2]
في واحدة من سنوات نهاية الثمانينيات، عاد الملكاوي في إجازة من الجيش وذهب لتفقّد مناحلهم في تخوم قرية ملكا، فلم يجد النحل في الخلايا، ووجد العسل وقد ساح منها.
لاحقًا سيعرف أن النحل تعرّض إلى جائحة تسبب بها طفيل يسمى الفاروا الذي ضرب المنطقة في الأعوام بين 1986 و1990 وقضى على معظم السلالة المحليّة التي انتشرت منذ القدم في هذه المنطقة. يقول الملكاوي: «ثلاث أربع سنين تدوّر حبة نحل تا تشوف نحلة مفيش، بعدين سنة من السنين ييجي نحل نلاقيه بالجبال منين بدريش».
سلالة النحل السوري- البلدي التي انتشرت في المنطقة قبل جائحة الفاروا، موجودة في مناحل المركز الوطني للبحوث الزراعية في منطقة وادي الريّان بالأغوار الشماليّة.
مع بداية التسعينيات بدأ تجّار ونحّالون أردنيون استيراد سلالات نحل من عدة دول منها مصر وتركيا، وعاد النحالون إلى تربية النحل من جديد، ومع السنوات استقرّ قطاع تربية النحل في الأردن على تربية سلالات جديدة هي الإيطاليّ وموطنه جنوب جبال الألب، والكرنيوليّ وموطنه أوروبا الشرقيّة، والقوقازيّ وموطنه القوقاز بما فيها جورجيا وأرمينيا وشرق تركيا وأذربيجان، والبكفاست المنتشرة في ألمانيا وإيرلندا وبريطانيا وفرنسا.
تمتاز هذه السلالات عن سلالة النحل المحلي بعدم عدوانيتّها، الأمر الذي يتيح للنحّالين الكشف على خلايا دون اتخاذ تدابير الوقاية من لسعاتها مثل لبس بدلة النحّال والقناع والقفازات، وتنتج عسلًا أكثر من السلالة المحليّة، إلّا أن فيها مشكلة التأقلم مع البيئة المحليّة مثل مقاومة درجات الحرارة المرتفعة صيفًا، وفترات الجفاف، إذ تكون عرضة للأمراض، وتتطلب عناية أكثر.
وسط مناحل محمد ربابعة في سهول إربد، ويظهر فيها ربابعة وأحد العمال يكشفان على خلايا سلالات نحل مستورد دون ارتداء اللباس الواقي من لسعات النحل.
هذه الأيّام، يملك حوالي أربعة آلاف نحّال في الأردن قرابة 80 ألف خليّة نحل معظمها من السلالات المستوردة، وفق تقدير نقابة النحّالين الأردنيين.[3] يتركّز 70% من هذه الخلايا في محافظات الشمال؛ إربد بالدرجة الأولى، ومن ثم في محافظات عجلون وجرش والمفرق، حيث تضم جغرافيا هذه المحافظات منطقة منخفضة في الأغوار الشماليّة، وسهليّة في سهل حوران، وجبليّة في امتداد جبال عجلون، وصحراوية في المفرق.
يعدّ فصل الخريف الفترة الحرجة على حياة النحل، حيث تكثر الحشرات التي تُهاجمه مثل الدبابير، والزواحف المفترسة، ويكون عرضةً للعثّ، بالإضافة إلى شحّ طعامه من حبوب اللقاح والرحيق الموجودة في النباتات لهذا يحرص النحّالون على تجهيز النحل في هذا الفصل لتجاوز فصل الشتاء بضمّ الخلايا الضعيفة إلى بعضها، واستبدال الملكات الضعيفات بأخر يافعات، وتزويد الخلايا بطعام النحل من حبوب اللقاح الاصطناعيّ، ومحلول مكوّن من الماء والسكّر، كي لا يجوع النحل في فصل الشتاء ويكون عرضة للضعف أو الموت بسبب الأمراض أو الهجرة.[4]
في بدايات الربيع حين يميل الجو إلى الدفء في شهر شباط يبدأ النحل بالدوران على الأزهار لجمع طعامه من رحيق الأزهار وحبوب اللقاح، وينقل حبوب اللقاح الملتصقة على الشعيرات المنتشرة على جسمه خلال تنقله بين النباتات في أكبر عملية تلقيح طبيعية تساعد في إنتاج ثلث طعامنا حول العالم تقريبًا. وداخل الخلايا تبدأ عدة منتجات بالتشكّل مثل حبوب اللقاح الذي يستخدمه النحل في إنتاج «خبز النحل» من اليرقات الصغيرة، والمادة الصمغية التي تسمّى العكبر التي يستخدمها لأغراض أمنيّة مثل تغطية ما لا يستطيع نقله إلى خارج الخلية في عملية التنظيف كالحشرات الميّتة، بالإضافة إلى العسل، المنتج الأكثر شهرة بينها.[5]
لقطف العسل في الشمال موسمان رئيسيان؛ قطفة الربيع التي تبدأ في شهر نيسان من مناحل منطقة الأغوار الشماليّة حيث تنتشر بيّارات الحمضيات، وفي شهر أيّار من المناطق المرتفعة، ثم قطفة الصيف بين شهري أيّار وحزيران، بالإضافة إلى مواسم فرعية مرتبطة بشجرتيْ السدر والقيقب في المناطق المرتفعة، أو موسم عسل الشوك والنباتات البرية على تخوم الصحراء. بالمحصلة يبلغ إنتاج الأردن من العسل سنويًا ما بين 700 إلى 800 طنًا، تتوزع على 19 نوعًا مختلفًا بحسب ما وثّقته نقابة النحّالين الأردنيين.[6]
تعبئة العسل عند أبو هيثم ملكاوي في منزله في ملكا.
«العسل من المرعى» كما يُقال هنا بين النحّالين في الشمال، أيّ أن جودة العسل من جودة مرعى النحل لا من سلالة النحل نفسه. يلعب تنوع الغطاء النباتي وتعدد المصدر الرحيقي الذي يتغذى عليه النحل العامل الأبرز في قيمة العسل العلاجية والغذائيّة.
يقول محمد ربابعة، أستاذ الموارد الطبيعية في جامعة العلوم والتكنولوجيا، إن العسل في العالم نوعان: عسل أحادي الزهرة، وعسل متعدد الأزهار، إذا جنى النحل الرحيق من زهرة واحدة فإن مصدر المواد الغذائيّة والعلاجية في العسل ستكون من هذه الزهرة، بينما إذا جنى الرحيق من عدة أزهار فإن المواد الغذائيّة والعلاجية في عسله ستحتوي على أكثر من مادة علاجية وغذائيّة.
تساهم الحيازات الزراعيّة الصغيرة في الأغوار الشمالية، والتنوع النباتي الكبير في الأردن الذي يضمّ أكثر من 2500 نوعًا من النبات بتعدد المصدر الرحيقي للعسل في الأردن. لكن ثمة طرفة في الأردن تتغير من شكل لآخر بحسب الموضوع، واحدة من أشكالها حول العسل، مفادها أن المستحيلات في الحياة ثلاث: الغول، والعنقاء، والعسل الأصلي، وهي تعبّر عن قلّة الثقة بالعسل المحلي الذي يعد استهلاكه ثقافةً علاجيّةً أكثر منها تغذوية.
يقرّ الربابعة، وهو رئيس نقابة النحّالين الأردنيين، بعدم ثقة بعض المستهلكين بالعسل المحلي ويعزوها إلى عدة أسباب منها إطعام بعض النحّالين النحل الماء والسكر، وعدم وجود آلية فحص للتأكد من جودة العسل المحليّ، بالإضافة إلى اعتقاد سائد لدى المستهلكين لتفضيل العسل المستورد من دول تنتشر فيها المراعي الواسعة.
في النهاية يقول الملكاوي حول كيفية التأكّد من أن العسل غير مغشوش: «العسل الأصلي مين صاحبه؟» أي أن مُربي العسل الثقة هو المصدر الوحيد للعسل الأصليّ.
خلال العمل على هذه المادة عن تربية النحل في الأردن سمعنا عن وجود خلايا نحل أقرب ما تكون إلى سلالة النحل السوري أو البلدي التي سادت قبل الثمانينيات في مناحل بحثيّة تتبع المركز الوطني للبحوث الزراعيّة. كان باحثون من المركز قد أخذوا عيّنات نحلٍ من مختلف مناطق المملكة بين العامين 2002 و2003، وبعثوا بها إلى مختبرات في أوروبا لفحصها والتأكّد من سلالتها لتأتي نتيجة بعض العيّنات بأنها أكثر شبهًا بالسلالة السوريّة المحليّة التي عاشت قبل الثمانينيات. وكانت هذه العينات قد أُخذت من نحّالين جلبوها من البريّة وكاثروها عندهم في وادي ابن حمّاد في الكرك ووادي أبو زياد في إربد.
دخلنا محطّة شرحبيل بن حسنة في الأغوار، التابعة للمركز الوطني للبحوث الزراعية، ومنذ البداية، وبخلاف سلالات النحل الأخرى، اضطر المصّور إلى لبس بدلة النحّال لاتقاء لسعات النحل، ومع ذلك كان النحل يُهاجم من فوق البدلة بشراسة للدفاع عن خلاياه. تقول بنان شقّور، مديرة مديرية بحوث النحل في المركز، إن لديهم مشاريع لدراسة صفات النحل البلدي وهجائنه للتوصل إلى التخفيف من عدوانيته ليكون مقبولًا لدى النحّالين، ولكونه الأقدر على التكيّف مع البيئة المحليّة خاصةً مع المتغيّرات المناخيّة التي تشهدها المنطقة في السنوات الأخيرة.
موظفو المركز الوطني للبحوث الزراعية في محطة شرحبيل بن حسنة في الأغوار الشمالية يلبسون الأقنعة اتقاء لسعات النحل المحلي الذي يتصف بالشراسة والعدوانية، حيث يربى هناك لأغراض بحثية.
يقع الأردن في منطقة مناخيّة جافّة إلى شبه جافّة حيث يقلّ الهطول المطري السنوي عن 50 ملم، وبحسب توقعّات وزارة البيئة حول تأثير التغيّر المناخي في الأردن، سيكون مناخ الأردن أكثر جفافًا في المستقبل، حيث يرتفع متوسط درجة الحرارة سنويًا بين 0.01 و0.03 درجة مئوية، وينخفض الهطول المطري إلى 1.2 ملم بعد 75 سنةً.[7]
عالميًا، تؤثر التغيّرات المناخيّة على تراجع أعداد النحل في بعض المناطق في العالم، بسبب ممارسات الزراعة المكثفة والمحصول الأحادي والاستخدام المفرط للمواد الكيميائية في الزراعة وارتفاع درجات الحرارة المرتبطة بتغير المناخ وهو ما يمثل تهديدًا خطيرًا لمجموعة واسعة من النباتات الحيوية للإنسان وسبل عيش البشر. بهذا الخصوص حثت منظمة الأغذية العالمية البلدان على تكثيف جهودها لحماية النحل «حلفائنا الأساسيين» في مكافحة الجوع وسوء التغذية.
لهذا تبرز أهميّة سلالة النحل السوري- البلدي وهجائنه لكونها الأقدر على المواجهة في الظروف الصعبة وكما يقول الملكاوي: «أحسن سلالة نحل، السلالة البلدية في بلادها».
تفقد خلايا نحل في منحلة محمد رباعبة في إربد.
-
الهوامش
[1] Michael S. Engel -The Taxonomy of Recent and Fossil Honey Bees (Hymenoptera: Apidae; Apis)/ J. HYM. RES. 1999, Page 185
[2] نزار حداد، الممارسات الجيدة في تربية النحل، ص 12
[3] بحسب آخر أرقام دائرة الإحصاءات العامّة 2022، هناك 49 ألف خليّة نحل من مختلف السلالات عند قرابة 1500 نحّال، تعتمد دائرة الإحصاءات العامة في أرقامها على شمول النحالين ممن يملكون أكثر من خمس خلايا وهذا ربما يفسر الفرق بالأرقام مع نقابة النحّالين.
[4] نزار حداد، الممارسات الجيدة في تربية النحل، ص 31
[5] نزار حداد، الممارسات الجيدة في تربية النحل، ص 14
[6] بحسب آخر أرقام دائرة الإحصاءات العامّة 2022، يقدّر إنتاج الأردن من العسل بـ 392 طن سنويًا.
[7] وزارة البيئة، الخطّة الوطنيّة للتكيّف مع التغيّر المناخي في الأردنّ 2022، ص 20 -21