ما بين خمسينيات القرن التاسع عشر والحرب العالمية الأولى، لجأ حوالي مليون مسلم من شمال القوقاز إلى الإمبراطورية العثمانية. أنشأ هؤلاء الشركس والشيشان والداغستانيون وغيرهم مئات قرى اللاجئين في جميع أنحاء البلقان والأناضول وبلاد الشام. بالنسبة لفلاديمير حامد-ترويانسكي، مؤلف كتاب «إمبراطورية المهاجرين: مسلمو شمال القوقاز والدولة العثمانية المتأخرة» الصادر حديثًا عن جامعة ستانفورد، لم يكن هؤلاء اللاجئون مجرد بيادق، يُطردون ويُعاد توطينهم بناءً على إرادة الحكومات، بل كانوا فاعلين نشطين، عملوا بالزراعة، وساهموا في تحويل الاقتصادات لمناطق بأكملها وتشكيل الأنظمة المحلية لتراكم رأس المال، وأسهموا في انتشار الأشكال الجديدة من الرأسمالية والتوسع الزراعي وتسليع الأراضي.
في منطقتنا، تمت إعادة توطين النسبة الأكبر من الشراكسة وسائر القوقازيين الشماليين على طول الحدود البدوية في بلاد الشام. ورغم أن قرى اللاجئين كانت تقع على مسافات متباعدة من بعضها، إلا أنه كان يمكن رسم خط طولي يمر بمعظمها، من المستوطنات المجاورة لحمص وحماة شمالًا وحتى عمّان وناعور جنوبًا. لم يكن هذا الخط الوهمي عشوائيًا؛ فقد امتد على طول الحافة الغربية للصحراء السورية (بادية الشام) وفصل المجتمعات الشامية المستقرة عن المجتمعات البدوية. وكان هذا الخط يتداخل في بعض الأحيان مع طريق قوافل الحج الذي يربط حلب بدمشق والمدينة المنورة.
سعى العثمانيون إلى تحقيق عدة أهداف مترابطة في توطين المهاجرين هناك، منها توسيع الإنتاج الزراعي باتجاه الشرق، وتأكيد سيطرة الدولة على أراضي البدو، وتعزيز أمن الطرق في تلك المناطق، وفي نهاية المطاف، فرض الضرائب على مجتمعات البدو والفلاحين في المناطق المحيطة.
جاءت هذه المساعي في سياق ما بعد مؤتمر برلين عام 1878 وخسارة الدولة العثمانية أراض واسعة في البلقان، وسعيها للتعويض عبر التركيز على تعزيز حضور الدولة وتعزيز استثمارها للمناطق الأخرى ضمن أراضيها، وتزامن ذلك مع زيادة التغلغل البريطاني في البحر الأحمر بعد افتتاح قناة السويس (عام 1869)، وزيادة تهديدها للحجاز وشبه الجزيرة، والذي تصاعد منذ الاحتلال البريطاني لعدن (عام 1839). نتيجة لكل ذلك، سعت الدولة العثمانية لإحكام سيطرتها في الواجهات الجنوبية، وذلك لتعزيز حضورها بها وربطها بالمركز، ورفع الواردات القادمة منها لخزينة الدولة، ضمن مسعى للتصدي الاستباقي لأي مشاريع ومحاولات استعمارية في هذه المناطق.
وقد وجدت الدولة في القوقازيين خير من يعينها على تحقيق هذه الغايات، إذ كان ينظر لهم باعتبارهم موالين للدولة، فنظرًا إلى أنهم غريبون عن محيطهم في المناطق الجديدة، كانت القناعة أن ولائهم سيكون ليس لقاعدة اجتماعية محلية، بل للمركز الإمبراطوري.
يدرس حامد-ترويانسكي في أحد فصول كتابه الجديد حالة استقرار المهاجرين القوقازيين، وتحديدًا الشركس، في عمّان والبلقاء، وتأثيراتها على الأنظمة والبنى العمرانية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية لعمّان والبلقاء وشرق الأردن خلال فترة العصر العثماني المتأخر ووصولًا إلى زمن قيام الإمارة. فبحسب حامد-ترويانسكي أنشأ اللاجئون، بدعم من الدولة العثمانية، قرى حدودية حيوية، وعملوا في الزراعة، وعززوا التجارة الإقليمية، واجتذبوا الاستثمار الخارجي، وأسهموا في تدشين الطفرات العقارية، إضافة لكونهم ميسرين لتوسيع شبكات رأس المال العثمانية باتجاه الجنوب.[1]
من خلال التركيز على الجانب الاقتصادي لإعادة توطين اللاجئين في شرق الأردن والبلقاء، يستكشف الكاتب عملية التكامل هذه، ويضع قرية عمّان كجزء من شبكة اقتصاد منطقة البلقاء وبلاد الشام العثمانية الأوسع. في حين أن دراسات تأريخ عمّان المعهودة تركز في كثير من الأحيان على فترة الانتداب البريطاني، فإن الكاتب يبحث في ظهور مجتمع حضري نابض بالحياة اقتصاديًا في القرن التاسع عشر والعقدين الأولين من القرن العشرين، حين اندمج المهاجرون مع المجتمعات المحلية والمحيطة والمجاورة -من شرق الأردن وسوريا وفلسطين- في المدينة الناشئة.

خارطة القرى الزراعية التي أسسها الشركس والشيشان في شرق الأردن
الشركس يؤسسون عمّان
جاء بدء توطين الشركس في شرق الأردن (عام 1878) بعد نحو عقد من تأسيس قائممقامية السلط (عام 1866)، والتي بات يوجد معها -ولأول مرة- مركز إداري عثماني في شرق الأردن، وذلك في سياق اعتماد تنظيم بلاد الشام وتعزيز حضور الدولة ضمن عملية إعادة التنظيم الإداري. وكان إنشاء المراكز الحضريّة قد تسارع في شرق الأردن العثماني في فترة ستينيات القرن التاسع عشر وما بعدها، بما في ذلك تأسيس قرى مسيحية كمأدبا، والفحيص، ورميمين. كما أنشأت المجتمعات البدوية العشرات من القرى الزراعية في محاولة لترسيخ مطالباتهم بأراضي أجدادهم والاحتفاظ بها.
أسّسَ اللاجئون الشركس عمّان بعد وقت قصير من نهاية الحرب الروسية العثمانية (1877-1878). وفي ذلك الوقت، كانت الحكومة العثمانية تعطي الأولوية لإعمار البلقاء (المنطقة الممتدة بين سيل الزرقاء ووادي الموجب)، بل وفكرت ف3ي إنشاء «ولاية عمان»، وجاء هذا التفكير الاستراتيجي العثماني في حينه بعد أقل من عشر سنوات على افتتاح قناة السويس، عام 1869، وبداية دخول الأساطيل الإنجليزية إلى البحر الأحمر، ومن ثم الاحتلال البريطاني لمصر (1882)، وكل ما ولّده ذلك من استشعار لدى الدولة بتهديد مناطقها الجنوبيّة، وبالتالي إدراك لضرورة إعمارها والتوجه لتوطين المهاجرين وتوطين البدو. وكل ذلك بهدف التحول بالمنطقة نحو أنماط اقتصادية جديدة تقوم على أساس انتشار القرى الزراعية المنتجة، والتي تندمج في الدوائر الاقتصادية الإنتاجية الإمبراطورية، وتقوم بالمحصلة برفد خزينة الدولة بمزيد من الضرائب.
وفي موقع قرية عمّان، التي أسسها الشراكسة وأعادوا إحيائها بعدما كانت عبارة عن خرائب مهجورة لقرون، كان عامل الجذب هو توفّر الموارد المائية: سيل عمّان، والينابيع المحيطة بمجراه. وكان المستوطنون الأوائل هم من الشركس الغربيون، من «الشابسوغ»، والذين كانت هذه هي هجرتهم للمرة الثانية، بعدما طردوا من بلغاريا بالبلقان في 1877-1878 (آنذاك وبموجب معاهدة برلين لعام 1878، أصبحت بلغاريا إمارة ذاتية الحكم ضمن الإمبراطورية العثمانية، وقد قام البلغار بطرد الشركس، إذ نظروا لهم كمستوطنين مسلمين دخلاء).
وكما تصاعد الخلاف بين اللاجئين الشركس والبدو حول حقوق المياه والأراضي الخصبة في البلقاء، أدى توسع عمّان الشركسية باتجاه ينابيع عمّان (منطقة رأس العين) إلى تعريض إمكانية الوصول إلى المياه للعشائر البدوية القريبة للخطر، مما أدى إلى مواجهات مسلحة بين المهاجرين والمجتمعات البدوية المحلية التي نظرت للمهاجرين كمستوطنين أرسلتهم الحكومة العثمانية لاحتلال أراضيهم. وقد توسطت في هذا الصراع قبيلة بني صخر، بعدما كانت قد أقامت مع الشركس تحالفًا عسكريًا في أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر.
شكل الشراكسة القبرطاي والأبزاخ، الذين وصلوا ما بين أعوام 1880 و1892، موجة اللاجئين الشركس التالية التي قدمت واستقرت في قرية عمّان الناشئة. وقاموا بتأسيس الحيين: القبرطاي (وكان يمتد باتجاه قاعدة وسفوح الجبل المعروف بـ «جبل عمّان» اليوم)، والأبزاخ (وكان يمتد باتجاه قاعدة «جبل اللويبدة»)، في حين كان المهاجرون الأوائل قد استقروا في المناطق المحيطة والمقابلة للمدرج الروماني (جبل القلعة اليوم). وتأسس الحي الشركسي الأحدث على يد مهاجرين من القبرطاي جدد قدموا حوالي عام 1902، واستقروا بالقرب من ينابيع عمان (رأس العين)، والذي عرف بـ«حي المهاجرين».
كانت قرية عمّان محاطة بغابات الصنوبر والبلوط، وسرعان ما جرد الشراكسة التلال الحرجية واستخدموا الأخشاب لبناء المطاحن، ومخازن الحبوب، والعربات ذات العجلات التي تجرها الثيران. وكانت هذه العربات جديدة على المنطقة، ومنحت للشركس ميزة في مجال الخدمات اللوجستية الزراعية. وقد بنوا الطرق التي تربط قراهم ببعضها البعض وبمدينة السلط، وزرعوا الحبوب، فكانت عمّان والقرى الأخرى محاطة بحقول القمح والشعير. وبذلك، بدأ الشركس بالإسهام في تحويل الشطر الشرقي من البلقاء إلى مناطق زراعيّة تعج بالإنتاج والحركة والحياة.
ومع دخول سنوات الحرب العالمية الأولى، كانت عمّان بلدة قارب عدد سكانها الخمسة آلاف نسمة. وكانت مركزًا إقليميًا، وقد تأسست بها بلدية، ومحطة بريد وبرق (تليغراف). وفي آذار 1921، عندما وصل عبد الله بن الحسين إلى عمّان، ومن ثم أُعلن حاكمًا لإمارة شرق الأردن، لم تكن عمّان أكبر مدن البلاد، ولكن ما خدمها كان موقعها الاستراتيجي على سكة حديد الحجاز، وإمكانية الوصول السريع منها إلى دمشق، المركز التجاري المهم على مستوى بلاد الشام، وميناء حيفا، وكذلك قربها من مناطق بني صخر، الذين أصبحوا حلفاء الأمير عبد الله الأوائل، وبُعدها عن أصحاب السلطة المحلية الآخرين في شرق الأردن.

منزل قديم مهجور من حي القبرطاي، في سفح الجبل المعروف اليوم بجبل عمّان. تصوير خالد بشير.
محكمة السلط الشرعية: المهاجرون يثبّتون وجودهم قانونيًا
استفاد اللاجئون الشركس في شرق الأردن من تشريعات الأراضي العثمانية والبنية التحتية الجديدة الهادفة لدعم مساعي توسع الدولة العثمانية والأشكال الجديدة لعلاقات السوق في بلاد الشام. وقد استخدم الشراكسة مؤسستين عثمانيتين هما محكمة السلط الشرعية، وسجل أراضي السلط، لزيادة وتوحيد رأس مالهم وضمان حقوقهم القانونية في الأرض والعقارات الأخرى.
فمن خلال هاتين المؤسستين، أكد المهاجرون حقوقهم في الملكية وتفاوضوا حول وضعهم كشركاء متساوين في النسيج الاجتماعي والاقتصادي الناشئ للبلقاء. في سنواتهم الأولى من الذهاب إلى المحكمة، كان الشراكسة يهتمون في المقام الأول بمسألة الزواج. كان الزواج القانوني، الذي توثقه المحكمة، أداة اقتصادية للعائلات المهاجرة الأكثر ثراءً لتعزيز التحالفات التجارية فيما بينها. تعامل المهاجرون مع المحكمة باعتبارها امتدادًا للدولة، واعتبرت بمثابة أمين سجل رسمي لتاريخهم العقاري حتى بعد أن تولى سجل أراضي السلط وظيفة تسجيل الأراضي.
ذهب المهاجرون إلى المحكمة لإضفاء الشرعية على معاملاتهم الاقتصادية، وخاصة نقل حقوق الانتفاع بالأرض، أو لحل النزاعات الاقتصادية داخل المجتمع الشركسي ومع المجتمعات المحيطة. ويعود حامد-ترويانسكي للأرشيفات ليجد بأنه بين عامي 1901 و1903، كانت 34% من القضايا المعروضة على المحاكم في القرى الشركسية تتعلق بالميراث، و25% بسداد القروض، و23% ببيع أو نزاع حول الملكية. كما يلاحظ أنه وبحلول ذلك الوقت، بدأ المهاجرون في الظهور كشهود في الدعاوى القضائية بين جيرانهم العرب، وبذلك ساعدتهم المحكمة على ترسيخ مكانتهم كشريك جدير بالثقة وجزء من النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلقاء.
يبيّن حامد-ترويانسكي كيف أن الشركس واستملاكهم تسبب في توجه الملاك من السلط ومن البدو إلى تسجيل الأراضي بشكل رسمي، وبالتالي كيف ساهم الشركس بطريقة أو بأخرى ببسط نفوذ الدولة العثمانية ونُظُمها شرق الأردن، وبما أسهم في تعزيز وتطبيق قانون الأراضي لعام 1858 وتحوّل المنطقة نحو اقتصاد رأسمالي.
بحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، بدأ مهاجرو شمال القوقاز في تسجيل أراضيهم في سجل الأراضي العثماني وفقًا للقانون، مما أدى إلى ترسيخ نظام الأراضي العثماني الجديد. وبالمقابل، أدت إعادة توطين اللاجئين إلى ما أسماه حامد-ترويانسكي «التسجيل الدفاعي» للأراضي، إذ سعت المجتمعات المحلية إلى استباق مطالبات المهاجرين بالأرض من خلال تسجيل عقاراتهم رسميًا في سجلات الأراضي العثمانية الجديدة.
كانت عملية الانتقال إلى نظام الأراضي الجديد تتم بشكل غير متساوٍ في أنحاء الإمبراطورية، ولم يتم فتح سجل الأراضي في السلط إلا في عام 1891. وقد دفع إنشاء قرى المهاجرين البدو إلى تسجيل أراضيهم بشكل استباقي لضمان عدم قيام العثمانيين بإعادة تخصيصها للاجئين. كانت عمان واقعة ضمن أراضي مجتمعين بدويين متنافسين: العدوان، الذين قادوا اتحاد قبائل البلقاوية، وبني صخر. في عام 1879، في غضون عام من وصول أول اللاجئين الشراكسة، سجّلت عشائر العدوان وبني عباد والعجارمة والدعجة حوالي 780 دونمًا في محيط عمان. وكانت الحكومة العثمانية قد أكدت أنه وفقًا لقانون الأراضي العثماني لعام 1858، لا يستطيع البدو الاحتفاظ بملكية أراضيهم إلا إذا قاموا بتسجيلها لدى السلطات ودفعوا الضرائب عليها. في ثمانينيات القرن التاسع عشر، سجل سطام الفايز، شيخ بني صخر، مساحات كبيرة من الأراضي في وسط البلقاء. وبحلول أواخر القرن التاسع عشر، سجلت المجتمعات البدوية الآلاف من الدونمات حول قرى المهاجرين الجديدة. وهكذا، دفع قدوم المهاجرين من شمال القوقاز المجتمعات المحلية إلى الإسراع في تسجيل حقوق الانتفاع الخاصة بهم على الأرض في سجلات الأراضي الجديدة، وبالتالي الموافقة على ضرائب الدولة ونظام الأراضي الجديد القائم على قانون الأراضي لعام 1858.

عدد من وجهاء السلط أمام مبنى سرايا السلط، عام 1940. كان هذا المبنى مقر الحاكم الإداري للسلط منذ تأسيس قائمقامية السلط عام 1866، وقد تمت إزالته بحجة التنظيم والتوسعة منتصف ستينيات القرن الماضي.
حفزت المعاملات التجارية داخل وخارج مستوطنات المهاجرين على المزيد من تسجيل الأراضي من قبل مجتمعات العرب والمهاجرين المحليين، مما أعاد التأكيد على نظام الملكية الجديد القائم على قانون الأراضي. وهكذا لعب لاجئو شمال القوقاز دورًا حاسمًا في تنفيذ الانتقال إلى نظام جديد للأراضي. وبالتالي زاد المهاجرون من مساحة الأراضي المزروعة وعدد أصحاب الملكية الصغيرة في الإمبراطورية.
في البلقاء خصصت السلطات للمهاجرين الأراضي الزراعية والمراعي في فئة الميري (الأراضي الأميرية)، والتي كانت في السابق غير مزروعة ولكن طالبت بها المجتمعات المحلية، مما أدى في كثير من الأحيان إلى نزاع على الأراضي. منحت الحكومة 12 ألف دونم للمهاجرين الوافدين حديثًا، وعندما افتتح أول سجل للأراضي في البلقاء في السلط عام 1891، أصبح الشركس في عمان من أوائل عملائه، وسارعوا إلى إضفاء الطابع الرسمي على حقهم في الأرض. في المقابل، اعتبرت المجتمعات البدوية المحلية شرق البلقاء منطقة تابعة لها، وفي عام 1894 هاجموا الشراكسة في عمان ووادي السير، ودمروا محاصيلهم واقتلعوا أشجارهم، كما طالب وجهاء السلط بالأراضي.
كان نظام الأراضي العثماني الجديد يشترط تسجيل الأراضي في السجلات الجديدة التي تم إنشاؤها في جميع أنحاء الإمبراطورية. منح نظام الأراضي الجديد الرعايا العثمانيين حق الملكية الفردية، وليس الملكية الجماعية للأرض. وفي البلقاء، كانت معظم الأراضي الزراعية تنتمي إلى فئة الميري، في حين أن الممتلكات الحضرية، مثل المنازل والحدائق والاسطبلات والكهوف، تنتمي إلى فئة الملك. أما أراضي الميري فعند بيعها يتم نقل حق الانتفاع بها فقط لأن الدولة تظل مالكة الأرض. وكانت حقوق الانتفاع غير محددة وقابلة للتوريث طالما تمت زراعة الأرض ودفع العشور للحكومة.
ترافق ترسيخ نظام الأراضي العثماني الجديد مع انتشار الزراعة الجماعية وملكية الأراضي الصغيرة. والمحصلة هي تعزيز سلطة وحضور الدولة، وإنجاز تحول نحو نمط رأسمالي، وتفكيك «نظام الالتزام» الذي ساد المنطقة طوال قرون، وهذا هو التحوّل الأهم، كما يؤكد حامد-ترويانسكي، الذي أحدثته هجرة الشراكسة واستقرارهم في شرق الأردن.
عمّان تتحول إلى نقطة جذب تجاري على مستوى بلاد الشام
مع نشوء عمّان وبروزها كقرية زراعية وما صاحب ذلك من تحقيق الاستقرار والأمن بمحيطها، بفضل ما نسجه الشراكسة من تحالفات وتفاهمات مع المحيط البدوي، ومع تثبيت الشراكسة لنظام الملكيات، بدأت هذه الأوضاع الجديدة بتحفيز وتشجيع التجار من بلاد الشام؛ من السلطيين والدمشقيين والنوابلسة وغيرهم، للقدوم إلى عمّان، للتملك والمتاجرة في القرية الناشئة.
سرعان ما اجتذبت قرية المهاجرين في عمّان المستثمرين من المناطق المجاورة، وتم دمجها في شبكات رأس المال في بلاد الشام. وكان عامل الجذب الرئيسي في البلقاء بالنسبة للتجار الإقليميين هو الحبوب الرخيصة التي يمكنهم إعادة بيعها بأسعار أعلى في القدس ونابلس ودمشق. وبحلول تسعينيات القرن التاسع عشر، كان قد زاد الطلب على الحبوب، خاصة في موانئ المشرق المزدهرة، مثل يافا وحيفا وبيروت، والمدن الداخلية الكبرى مثل نابلس ودمشق. وكانت محاصيل الحبوب من المناطق النائية في ولاية دمشق تستحوذ على اهتمام العائلات الدمشقية الرائدة بهذه التجارة منذ فترة طويلة. ووفقاً لحامد-ترويانسكي دفعت المنافسة الشرسة في سبعينيات وثمانينيات القرن التاسع عشر تجار الحبوب إلى تطوير سلاسل توريد جديدة، خاصة في البلقاء. كان التجار الحضريون في بلاد الشام في السابق حذرين من الاستثمار في البلقاء، مع عدد سكانها المتناثر ومعظمهم من البدو، وفائضها الزراعي الضئيل. لكن إنشاء قرى منتجة للقمح والشعير من قبل الشراكسة كان العامل الأول الذي رفع درجة الإقبال على الاستثمار في البلقاء.
تدريجيًا، أصبحت عمّان مركزًا إقليميًا مهمًا للمنتجات الزراعية. بحلول العقد الأول من القرن العشرين، كانت القرى الشركسية في عمّان ووادي السير قد أنتجت فائضًا من الحبوب للبيع. وقد عمل الشراكسة كوسطاء لتسويق الإنتاج الزراعي والحرفي من أجل التصدير. ويؤكد التاريخ الشفهي أن الشراكسة أقاموا روابط تجارية مع المشترين في القدس وسافروا إلى هناك للعمل في تجارة القمح والشعير (وهنا يستحضر حامد-ترويانسكي ما كتبه أحد المبشرين الأنجليكانيين عام 1893 من أن «الشراكسة يرسلون معظم ذرة البلقاء إلى القدس»)، وقد استمرت هذه العلاقات حتى فترة الانتداب.
جاءت طلائع التجار المستثمرين إلى عمّان من السلط، ومن ثم جاء النوابلسة وغيرهم. ويذكر الكاتب هنا مثال راغب بن عبد القادر شموط، وهو تاجر سلطي من أسرة تعود لنابلس، اشترى أربعة متاجر في حي الشابسوغ مقابل 2300 قرش لكل منها. كان شموط من بين المقرضين الرئيسيين في السلط ولعب دورًا في الإدارة العثمانية للمنطقة. ويبيّن أن العديد من التجار السلطيين والنوابلسة جمعوا ثرواتهم المالية والعقارية من خلال إقراض الأموال لقرويي وقبائل البلقاء، الذين تخلف بعضهم في نهاية المطاف عن الوفاء بالتزاماتهم وسلموا أراضيهم. وقد ارتبطت التجارة السلطية بشبكات أوسع من رأس المال في وسط وشمال فلسطين، واستفاد التجار العاملون في البلقاء من اقتصاد نابلس المتنامي في أواخر العصر العثماني.
ازدادت الأهمية التجارية لعمّان بعد إنشاء خط سكة حديد الحجاز، الذي يربط دمشق بالمدينة المنورة، والذي بدأ العمل وسط شرق الأردن منذ عام 1903. عززت سكة حديد الحجاز التجارة الإقليمية وقدمت مزايا قوية لعمّان مقارنة بالمركز الإداري القديم في السلط، الذي لم تكن تخدمه السكك الحديدية. ومن دمشق، ومن خلال شبكة السكك الحديدية التي بنتها فرنسا، كان يتم إيصال منتجات البلقاء إلى بيروت وحمص وطرابلس وحلب. كما تم ربط عمان بحيفا عبر فرع من سكة حديد الحجاز.
أدى افتتاح هذا القسم من سكة حديد الحجاز إلى جلب التجار من دمشق إلى عمّان، مما أسهم، مع قدوم المستثمرين من السلط ومن فلسطين، إلى حدوث طفرة عقارية. عمل تغلغل رأس المال غير المحلي على زيادة عمليات تسجيل وبيع العقارات في المنطقة. وفي هذا السياق شهدت عمّان طفرة في بناء المحلات التجارية وبيعها للمشترين القادمين من مدن بلاد الشام. فبين عامي 1904 و1909، اشترى التجار الدمشقيون وحدهم 13 محلًا تجاريًا، أي ما يعادل 43% من إجمالي المعاملات. وبالعودة إلى سجلات البيع والشراء، يتتبع الكاتب كيف تضاعف متوسط سعر المتجر في حي القبرطاي بين تسعينيات القرن التاسع عشر والعقد الثاني من القرن العشرين، فكانت هذه هي الطفرة العقاريّة الأولى في تاريخ عمّان.
أدى افتتاح خط سكة حديد الحجاز كذلك إلى حدوث طفرة في قيمة العقارات السكنية. فقبل عام 1903، نادرًا ما كانت تباع المنازل في عمان بأكثر من ألفي قرش. وبحلول أوائل العقد الأول من القرن العشرين، دفعت العائلات الدمشقية والسطليّة والنابلسية، مثل حتاحت ودرويش والسكر وعصفور، 10 آلاف قرش أو أكثر مقابل مساكن عائلاتهم في حي الشابسوغ والأبزاخ.
كان شراء المستثمرين العرب للعقارات الشركسية جزءًا من ظاهرة أوسع لتوسع رأس المال السوري والفلسطيني في شرق الأردن. في عام 1912، على سبيل المثال، اشترى حنا أفندي بن فرنسيس بطاطو، وهو تاجر كاثوليكي مقدسي، حصة في قطعة أرض تبلغ مساحتها 12,500 دونم في قرية الطنيب التابعة لبني صخر، من عائلة أبو جابر السلطية. تنتمي هذه العائلات وغيرها إلى طبقة ملاك الأراضي -المنتمية إلى فضاء مدن بلاد الشام- التي سيطرت في أوائل القرن العشرين على الحياة الاقتصادية في السلط، وبدرجة أقل، في إربد وعجلون. وغالبًا ما تُرجمت قوتهم الاقتصادية إلى سلطة سياسية في الإدارة العثمانية، مما عزز موقعهم على رأس مجتمع شرق أردني ناشئ.
وهكذا، بحلول أوائل القرن العشرين، حوّل السكان الشركس والتجار السوريون والفلسطينيون والمجتمعات الحضرية والريفية والبدوية في شرق الأردن عمّان وضواحيها إلى سوق ذي أهمية متزايدة. وبذلك عزز اللاجئون من شمال القوقاز الاقتصاد وحسّنوا أمن السفر، مما ساعد على تعزيز الحكم العثماني في شرق الأردن، واستقطاب التجارة من مدن مختلفة من بلاد الشام. وبالتالي، اندمجت القرى الشركسية في شبكات رأس المال في بلاد الشام.
أدى صعود عمان إلى ظهور ملاك الأراضي الشركس الأثرياء. إذ بنى المهاجرون الشركس رأس مالهم الأولي من خلال تصدير القمح، واستخدموا أرباح بيع الحبوب لشراء الماشية من البدو، مما ساعدهم على توسيع حقولهم الصالحة للزراعة. ومع ذلك، ورغم امتلاكها لبعض أفضل الأراضي في عمان، لم تتمكن العائلات الشركسية من التنافس مع رؤوس أموال التجار العرب والوصول إلى الأسواق الكبيرة في دمشق ونابلس.
يعزو الكاتب ذلك إلى ارتباط الشراكسة بالزراعة والجيش، وليس بالتجارة. ويبيّن أحد الأسباب التي جعلت المهاجرين يجدون صعوبة في احتلال المجال التجاري هو افتقارهم إلى رأس المال المالي والاجتماعي اللازم لإنشاء عمليات تجارية ناجحة. فقد كان التجار من السلط ونابلس ودمشق الذين انتقلوا إلى عمّان يتمتعون بموارد نقدية كبيرة وإمكانية الوصول إلى الأسواق القائمة في فلسطين وسوريا. علاوة على ذلك، لم يكن الشراكسة في وضع يسمح لهم بالتعامل مباشرة مع أكبر مشتري الحبوب في دمشق وحيفا وبيروت. وهكذا ظلوا غير مرئيين إلى حد كبير، لأنهم خدموا قرى المهاجرين المحلية، ونادرًا ما مارسوا التجارة لمسافات طويلة أو بكميات كبيرة.

دورية من الشركس في عمّان عام 1906. أسهم تأسيس هذه الدوريات في تعزيز الأمن في عمّان وتحويلها لنقطة جذب تجاري على مستوى جنوب بلاد الشام.
يقول حامد-ترويانسكي في مقابلة أجريتها معه بعد قراءة الكتاب، إن هناك عاملين يميزان الاستيطان الشركسي في شرق الأردن العثماني عن تجارب الاستقرار في المناطق الأخرى من أنحاء الدولة العثمانية. أولاً وجود سكة حديد الحجاز، التي ربطت عمان بدمشق عام 1903 وبالمدينة المنورة عام 1908 ورسمت اقتصاد المنطقة، وصلت الاستثمارات السورية والفلسطينية مع السكك الحديدية، وحولت عمان من قرية شركسية وسط الآثار الرومانية إلى مدينة عثمانية مزدهرة.
ثانيًا، التحالفات التي أقامها اللاجئون الشركس والشيشان مع المجتمعات البدوية، والتي كانت تحالفات استراتيجية. ويعود النجاح المبكر الذي حققته عمان إلى التحالف القوي بين الشراكسة وبني صخر، والذي يعود تاريخه إلى أواخر تسعينيات القرن التاسع عشر. كان المهاجرون في جميع أنحاء بلاد الشام يقاتلون ويعقدون معاهدات مع المجتمعات المحلية، لكن تحالف بني صخر-الشركس صمد أمام اختبار الزمن، حيث توسط بني صخر بين الشراكسة والمجتمعات البلقاوية في عام 1910 وحافظوا على علاقات اقتصادية قوية في عصر الإمارة. لقد حدّد هذا التحالف السياسة في منطقة البلقاء في أوائل القرن العشرين، مما سهّل صعود عمّان.
ختامًا، كان الشراكسة في شرق الأردن لاجئين، ولكنهم كانوا أيضًا مواطنين عثمانيين ومزارعين وحرفيين. بنوا أول كتاتيب ومساجد وطرق في عمان ومحيطها، وكانوا أول نجارين وطحانين وحدادين وصاغة في عمان. وبعد أن أثبتت قرية عمان نجاحها، فإن التجار العرب من السلط ودمشق ونابلس انتقلوا إليها وانضموا إلى الشراكسة في بناء المدينة التي ستصبح لاحقًا عاصمة الأردن. وقد شجع استقرارهم على تسجيل وإعادة بيع الأراضي من قبل مجتمعات شرق الأردن، وجذب التجار من مدن بلاد الشام، الذين استثمروا رؤوس أموالهم في التجارة وأنشأوا عقارات زراعية.
لقد لعبت الدولة العثمانية دورًا حاسمًا في نجاح المهاجرين الشمال قوقازيين لأنها وفرت إطارًا قانونيًا واقتصاديًا، استنادًا إلى قانون الهجرة لعام 1857 وقانون الأراضي لعام 1858، الذي كان ملائمًا للمستوطنين الزراعيين الجدد. كما كان لبناء خط سكة حديد الحجاز، دور فعال في جلب رأس المال السوري إلى عمان. إذ استفاد اللاجئون من الإصلاحات الزراعية العثمانية وسكة حديد الحجاز التي رعتها الدولة وبنوا قرى مزدهرة على حافة الصحراء، مؤسسين ثلاثًا من أكبر أربع مدن في الأردن الحديث، بما في ذلك عاصمتها عمان.
يبين البحث الذي أجراه حامد-ترويانسكي كيف أسهم المهاجرون القوقازيون، وبخاصة الشركس، في تسريع التحول الاقتصادي في وسط وشمال شرق الأردن، ووضع أساس البنية التحتية للدولة الأردنية الحديثة. إننا أمام استكشاف مثير لجذور جانب من النظام الاقتصادي القائم في الدولة والنسيج الاجتماعي-الاقتصادي-السياسي الأردني المعاصر، بأسلوب بحثي تاريخي توثيقي معمّق، ينطلق من نظرة للتاريخ باعتباره امتدادًا متصلًا لحقب زمنية متعاقبة ومتصلة ذات منتج تراكمي، ولا يعطي الأولوية للحقبة الاستعمارية الأوروبية وتأثيراتها فحسب، كما نجد عند الاتجاه الما بعد كولونيالي، ضمن منطق قطائعي.
إن هذه الدراسة تستكشف عملية ولادة الاقتصاد والاجتماع-الاقتصادي الأردني في سياق العصر العثماني المتأخر، فقد كانت الدولة الأردنية، الناشئة عام 1921، استمرارًا وبناءًا على هذا الإرث القانوني والمؤسساتي والاقتصادي، الذي كان للمهاجرين القوقازيين الدور الأساس في إطلاق وإحداث سيرورة تشكّله وصياغته.
-
الهوامش
[1] بين عامي 1878 و1914، أنشأت مجتمعات المهاجرين المسلمين من روسيا قراهم الخاصة، وكانت كلها واقعة إلى الشرق من السلط. إذ استقر التركمان في الرمّان (1884)، واللجون (1905). وأسس الشركس عمان (1878)، ووادي السير (1880)، وجرش (1884)، وناعور (1901)، والرصيفة (1904). وأسس الشيشان الزرقاء (1902)، والسخنة (1905)، وصويلح (1906).