ترجمة بتصرّف لهذا المقال المنشور بالإنجليزية في مجلة بلاديوم، بتاريخ 13 كانون الأول 2022.
حدثت العديد من الأمور الغريبة للجسم البشريّ خلال العقود القليلة المنصرمة؛ فتركيبنا البيولوجيّ قد تغيّر، دون أن نعرف كيف أو لماذا. لماذا انخفضت درجات حرارة الجسم البشريّ في الولايات المتّحدة خلال الـ150 عامًا الماضية؟ أو لماذا انخفض عمر البلوغ الأوّل بين المراهقين منذ أواسط القرن التاسع عشر، من 16.5 عامًا في عام 1840 إلى 13 عامًا بحلول عام 1995؟ أو للنظر في قضيّة أكثر إلحاحًا، لماذا ارتفعت نسب الإصابة بالتوحّد بشكل كبير؟ فبعد أن كان المرض نادر الملاحظة قبل عدّة عقود، قفز معدّل الإصابة من طفل لكلّ 150 في عام 2000، إلى طفل لكلّ 44 في عام 2018، استنادًا إلى الأرقام الصادرة عن «مركز التحكّم بالأمراض» (CDC). لا تقدِّم التفسيرات الشائعة للزيادة -الّتي تشمل التغيّر في معايير التشخيص وزيادة الوعي- تفسيرًا للتصاعد المستمرّ. في الواقع، وجدت بعض الدراسات أنّ التغيّر في معايير التشخيص يقدّم تفسيرًا فقط لربع الزيادات المسجّلّة، إذن، ثمّة شيء آخر يتسبّب بالبقيّة.
أو لنفكر بشيء يبدو وكأنّه بديهيّ مثل السُمنة؛ ففي عام 1975، وصلت نسبة الأمريكيّين البالغين المصابين بالسمنة إلى 12%، في حين يزيد هذا الرقم اليوم عن 40%. كما ثمّة جاذبيّة بديهيّة في التفسير المعياريّ لهذه الزيادة الملحوظة في معدّلات السمنة خلال العقود القليلة الماضية، والمتمثّل في «العاملين الكبيرين»؛ الزيادة في السعرات الحراريّة وقلّة النشاط الحركيّ؛ لكنّهما لا يبدوان قادرين على تفسير الصورة الكبيرة؛ فبين عامي 1999 و2017، لم يتغيّر استهلاك الفرد من السعرات الحراريّة بين الأمريكيّين، في حين أنّ معدّل السمنة زاد إلى ما يقارب الثلث. وهذه الزيادة كبيرة جدًّا بحيث أنّ انخفاضًا في النشاط الحركيّ خلال مدّة زمنيّة قصيرة لا يمكنه أن يكون التفسير الوحيد، خاصّةً وأنّ معظم استهلاك الطاقة البشريّ غير سلوكي.
لذلك، تظلّ السمنة «وباءً ملغزًا»، ولهذا السبب، سعى العديد من العلماء إلى تحديد العوامل المساهمة في الزيادة المزمنة في السمنة؛ من انخفاض استخدام السجائر وصولًا إلى ارتفاع مستويات ثاني أكسيد الكربون في الغلاف الجوّيّ.
أين ننتهي نحن ويبدأ الميكروبيوم؟
هناك العديد من الأمراض مثل الحساسيّة، ومتلازمة القولون العصبيّ، والإكزيما، وأمراض المناعة الذاتيّة مثل التهاب المفاصل عند الأطفال، الّتي تعدّ أمثلة بارزة أخرى، وهي ليست «أمراض الحداثة» المعروفة مثل أمراض القلب وداء السكّريّ من النوع الثاني، الّتي تعتبر أسبابها معروفة إلى حدّ معقول. كما يبدو أنّ هناك رابط مقلق بين كلّ هذه الأمراض؛ مثل اضطراب القناة الهضميّة المرتبط بالتهاب القولون والأمعاء التوحّديّ الّذي يشبه مرض كرون لدى الأطفال المصابين بالتوحّد، والارتباط بين السمنة والربو، والارتباط بين متلازمة القولون العصبيّ والإكزيما، والارتباط بين الحساسيّة والإكزيما.
يبدو أنّ هذه المجموعة من «أمراض ما بعد الحداثة» تأتي على شكل حزمة من الأمراض؛ فالأطفال المتوحّدون يشتكون بشكل تصاعديّ من آلام المعدة، في حين تزداد احتماليّة تطوير المصابين بالسمنة لأمراض جلديّة شبيهة بالإكزيما. وثمّة جذر مشترك بين كلّ هذه الحالات.
قد تشير ثروة من الأبحاث العلميّة الّتي ظهرت خلال العقد الماضي، واشتغل عليها علماء مثل مارتن بليزر من «جامعة روتجرز»، إلى الإجابة. يكمن الأصل في الضغط الاستثنائيّ الذي نضعه على جزء من الجسم لا نعرف عنه الكثير ولا نفكّر فيه كثيرًا؛ وهو ميكروبيوم الأمعاء البشريّة. وهو نظام بيئيّ من الميكروبات مثل البكتيريا والعتائق وحقيقيّات النوى الدقيقة، ويعتبر النظام أساسيًّا لمجموعة متنوّعة من الوظائف البيولوجيّة، من تنظيم الأيض ومستويات الهرمونات الجنسيّة، وحتّى مكافحة مسبّبات الأمراض. ولا يزال هناك الكثير من الأبحاث الّتي تُجرى حول أشكال «التقاطع» بين ميكروبيوم الأمعاء وأعضاء الجسم المختلفة، مثل «محور الأمعاء-الرئة»، أو «محور الأمعاء-الدماغ»، والذي يبدو أنّه يؤدّي دورًا مركزيًّا في الصحّة العقليّة.
الميكروبيوم غير مرئيّ بالنسبة لنا، ورغم أنّه عمليًّا يؤدّي دورًا في كلّ الوظائف البيولوجيّة، إلّا أنّه بوصفه عضوًا لا يمتلك الأهمّيّة الجسمانيّة الواضحة للأعضاء الأخرى كالرئتين أو القلب. لكنّه مع ذلك، يستمرّ في أداء وظيفته مثل أيّ عضو آخر. لم تمضِ إلّا بضعة عقود قبل أن نبدأ بفهم كيفيّة التكامل التطوّريّ، بوصفنا كائنات حيّة، بيننا وبين الميكروبات الّتي تعيش معنا. إذ لم يعد واضحًا أين ننتهي «نحن» ويبدأون «هم». لكن، فقط عندما بدأنا في تبنّي وجهة نظر بيئيّة لعلاقتنا مع الطبيعة، بدأنا نفهم أجسادنا بوصفها جزءًا من «كائن حيّ خارق»، نظام بيئيّ خاصّ، يؤدّي فيه الميكروبيوم دور «الجينوم الثاني»، ممتلكًا 150 ضِعفًا لعدد الجينات الفريدة الخاصّة بنا.
إنّ من الصعب فهم الحجم الهائل لهذا العالم المجهريّ وتنوّعه؛ لكن من المؤكّد أنّ ثمّة بعض الأنواع المهيمنة في مناطق مختلفة من الجسد؛ ففي الفم لدينا العقديّة (Streptococcus)، وفي الأمعاء البكتيريا العصوانية (Bacteroides) ومتينات الجدار (Firmicutes)؛ وعلى الجلد هناك البروبيونيّة (Propionibacterium)، والبكتيريا الوتديّة (Corynebacterium)، والمكوّرات العنقوديّة (Staphylococcus). لكن ثمّة القليل من الوحدة في هذه «الممالك» الميكروبيّة؛ فهي أقرب لأن تكون خليطًا من الإمارات الصغيرة التي قد تجد نفسك فيها تتحدّث لغة مختلفة بعد قطع مسافة قصيرة على الأقدام؛ فالميكروبات الّتي تعيش في الإثنا عشر (duodenum)، الذي يقع في بداية الأمعاء الدقيقة، تختلف جدًّا عن تلك الّتي تعيش في المستقيم. وبالعموم، تتشارك اليدان اليسرى واليمنى فقط 17% من الأنماط البيولوجيّة.
«الميكروبات المفقودة»
بشكل حاسم، هناك مجموعة متنوّعة من الأمراض، التي تشمل أمراض «ما بعد الحداثة»، مثل التوحّد واضطرابات المناعة الذاتيّة والسمنة، التي تصاحبها تغييرات في الميكروبيوم. ابتكر بليزر إطار «ما بعد الحداثة» في كتابه «الميكروبات المفقودة» (Missing Microbes). وقد وجدت دراسة تلو الأخرى أنّ الأشخاص الذين يعانون من السمنة المفرطة، يميلون إلى الإصابة بخلل التنسّج المعويّ الشديد في ميكروبات الأمعاء، مع انخفاض كبير في انتشار البكتيريا العصوانية (Bacteroides) وزيادة مكافئة في بكتيريا متينات الجدار (Firmicutes)، وهي بكتيريا من نوع آخر. وقد وجدت دراسات أخرى كثيرة علاقات مشابهة في أمراض مثل التوحّد، وداء السكّريّ المناعيّ الذاتيّ، وأمرض المناعة الذاتيّة الأخرى مثل متلازمة القولون العصبيّ والربو والحساسيّة، وفي جميع الحالات الأخرى الّتي تشكّل حزمة أمراض ما بعد الحداثة.
الكثير من هذا لم يكن معروفًا حتّى العقود القليلة الماضية، إلى أن أصبحت دراسة المايكروبيوم شائعةً مع بداية العقد الأخير. في الواقع، فقط عندما بدأنا باكتشاف أهمّيّة العالم المايكروبيّ، أدركنا كمّ الأضرار الّتي ألحقناها به، مثل بكتيريا هيليكوباكتر بيلوري (Helicobacter pylori) الّتي تعيش في القناة الهضميّة، وهي بكتيريا شُوِّهَتْ في الماضي لارتباطها بالأمراض، «الهيليكوباكتر بيلوري الجيّدة، هي بيلوري ميّتة»، هكذا كتب أحد العلماء في عام 1997 في مجلّة «The Lancet»، لكنّ أهمّيّتها اكتُشِفَتْ لاحقًا على أنّها مفيدة للوقاية من ارتجاع المريء وسرطان المريء. إلا أن هذا الاكتشاف جاء متأخّرًا، كما كتب بليزر في كتابه/ مرثيّته عن البكتيريا عام 1999، إذ لم يحصل هذا الاكتشاف إلّا بعد اختفاء الهيلوكوباكتر بيلوري فعليًّا من ميكروبات الأطفال في الغرب المتقدّم. ولأنّ هذه البكتيريّات تنتقل من جيل إلى آخر، سواء عن طريق الولادة أو الرضاعة، فمن المرجّح أن تصبح نادرة مع مرور الوقت.
المضادات الحيوية تقود حملة دمارٍ مجهريّ
إنّ فحصًا للتاريخ الميكروبيّ للقرن العشرين سيكشف عن حملة دمار مجهريّ؛ فالواقع أنّنا كنّا في حالة حرب مع نُبَيتنا المعويّ لإخضاعه لمتطلّباتنا، فيما نجد أنفسنا اليوم في أزمة ميكروبيّة مجتمعيّة، مع تأثّر كلّ جيل أكثر من الجيل السابق بعمليّة نضوب ميكروبيّ تراكميّة، وفي تلك الحرب، كان المضاد الحيويّ سلاحنا الرئيسيّ.
تعتبر المضادات الحيويّة مثل البنسلين (penicillin)، والتتراسايكلين (tetracycline)، والدوكسيسلين (doxycycline)، والسيبروفلوكساسين (ciprofloxacin)، والكوليستين (colistin)، المعجزات المركزيّة للطبّ الحديث؛ فهي فعّالة للغاية في تدمير مسبّبات الأمراض الّتي قد تشكّل مخاطر شديدة على الصحّة البشريّة، وإلى جانب اللقاحات الجماعيّة ومضادّات الفيروسات، من الممكن اعتبار المضادات الحيويّة التدخّل الصحي الأكثر أهمّيّة في القرن العشرين.
العصر الحديث هو عصر المضادات الحيويّة؛ إذ منذ أن وُضِعَ البنسلين الّذي اكتشفه ألكسندر فليمينج موضع الاستخدام الجمعيّ خلال الحرب العالميّة الثانيّة ونحن نعيش في وسط استهلاك جماعيّ مجّانيّ للمضادّات الحيويّة.
لكنّ المضادات الحيويّة تنجز هجماتها على الميكروبات المستهدفة من خلال عملها كمزيل للنبيت المعويّ؛ إذ تعمل الأدوية على الحدّ من نموّ بعض البكتيريا وتشجيع بعضها الآخر على النموّ، وغالبًا ما تغيّر من توازن النظام الميكروبيّ بطرق ضارّة. ولهذا السبب، وُجِد أنّ أنظمة المضادات الحيويّة، خاصّة المطوّلة منها، تتسبّب باختلال كبير في توازن الميكروبيوم.
والعلاقة بين المضادات الحيويّة والسمنة ليست بعيدة عن هذا؛ فنحن نعرف منذ وقتٍ طويل أنّ المضادات الحيويّة تحفّز على اكتساب الوزن بشكل سريع في جميع الكائنات، من الفئران وحتّى البشر. وقد أصبحت العمليّة المؤلّفة من تسبّب المضادات الحيويّة بخلل في التنسّج المعويّ، ما يؤدّي بدوره إلى السمنة وأمراض أخرى، أكثر وضوحًا بشكل متزايد. كما أنّ هناك دراسات مماثلة، أُجْرِيَتْ جميعها خلال السنوات الأخيرة، وجدت روابط مشابهة في أمراض مثل الربو والتهاب المفاصل عند الأطفال.
وذلك مقلق بشكل خاصّ لأنّ المضادّات الحيويّة في كلّ مكان؛ فالعصر الحديث هو عصر المضادّات الحيويّة؛ إذ منذ أن وُضِعَ البنسلين الّذي اكتشفه ألكسندر فليمينج موضع الاستخدام الجمعيّ خلال الحرب العالميّة الثانيّة ونحن نعيش في وسط استهلاك جماعيّ مجّانيّ للمضادّات الحيويّة. وقد حذّر فليمينج نفسه من «عصر إساءة الاستخدام»، الّذي من شأنه أن يَعْكِسَ كلّ المنجزات الّتي حقّقها وغيره من العلماء، وأن يؤدّي إلى ظهور نوعٍ شديد المقاومة من «الجراثيم الخارقة» (Superbugs). وقد شَهِدَت العقود الأخيرة ظهور برامج «الإشراف على مضادات الميكوربات» في العالم الغنيّ، والّتي تسعى إلى تقليل استخدام المضادّات الحيويّة، من أجل تقليل مخاطر مقاومتها.
المضادات الحيوية تجتاح طعامنا وشرابنا
لكن، بالنسبة للمهتمّين بأضرار الإفراط في استخدام المضادّات الحيويّة -سواء بسبب المقاومة الميكروبيّة أو خلل التنسّج المعويّ الميكروبيّ- ثمّة مشكلة كبيرة تتمثّل في أنّ معظم تفاعلاتنا مع المضادّات الحيويّة لا تأتي عن طريق وصفات الأدوية مثل البنسلين أو الدوكسيسلين، لكنّها تأتي عن طريق ما نشربه ونأكله. ولأنّ المضادّات الحيويّة منتشرة في كلّ مكان، فقد أصبح استهلاك المضادّات الحيويّة غير المقصود أزمة كبيرة مُهْمَلة.
أصبحت المضادّات الحيويّة ضروريّة اليوم للإنتاج الصناعيّ لبروتين الدجاج والخنازير والبقر، حتّى إنّها أصبحت تُستخدم في تربية الأحياء المائيّة خلال السنوات الأخيرة. والسبب بسيط: إذ يمكن للمضادّات الحيويّة المستخدمة بشكل وقائيّ أن تمنع وتكبح الأمراض المعدية الشائعة في المساحات الخانقة الّتي تجري فيها عمليّات تغذية الحيوانات المركّزة (CAFOs)، مثل عفن أقدام البقر والأنابالازما البقريّ. وقد استُخْدِمَتْ لأسباب أكثر خبثًا أيضًا، إذ يمكن للمضادّات الحيويّة أن تجعل حجم الماشية أكبر عن طريق تشويش عمل ميكروبات الأمعاء والأيض، ممّا يجعل من الذبح في سنّ أصغر وأوزان أكبر ممكنًا. وفي عام 2019، ذهب ثلث مبيعات المضادّات الحيويّة في الولايات المتّحدة للاستخدام البشريّ، فيما استهلكت المواشي البقيّة.
للمضادّات الحيويّة تأثير عميق وضارّ للغاية في ميكروبات الكائنات الحيّة؛ لكنّ النظاق الكامل لتأثيراتها في صحّة الإنسان ما زال لم يتّضح بعد، ناهيك عن تأثيرها في البيئة غير البشريّة.
استُخْدِمَتْ المضادّات الحيويّة في الزراعة الحيوانيّة الأمريكيّة منذ أواخر الأربعينيات، في ذلك الوقت، اكتشف توماس يوكس، عالم الأحياء في شركة الأدوية «Lederle Laboratories»، أنّ علاج الدجاج بكمّيّات ضئيلة من المضادّ الحيويّ كلورتتراسيكلين (chlortetracycline) -وهو دواء اكتُشِفَ عام 1945 في الشركة نفسها- من شأنه أن يتسبّب بزيادة وزنها. وكلّما حُقِن الدجاج بالمزيد منه، زادت أوزانه، إلى حدّ أنّ الدجاجات اللاتي حُقِّنَّ بأعلى الجرعات كانت تصل أوزانهنّ حدّ ضعفين ونصف وزن الدجاجات اللاتي لم يُحقَنّ بشيء.
شكّل الاكتشاف ثورة في كيفيّة تربية الحيوانات، كما كتبت نيويورك تايمز أنّ الدواء «وُصِفَ بالأعظم في مجال الموادّ المحفّزة على النموّ الّتي اكتُشِفَتْ حتّى الآن»، وسرعان ما لقيت المضادّات الحيويّة المستخدمة في تغذية الحيوانات تركيزًا بحثيًّا رئيسيًّا في معظم شركات الأدوية. «بعض الأخبار السعيدة للمزارعين وآكلي اللحوم»، هكذا أعلنت «مجلة فورتشين» (Fortune Magazine) في عام 1952: «توفّر المضادّات الحيويّة لحمًا أكثر بتغذية أقلّ». وبحلول عام 1955، كان المزارعون يعالجون حيواناتهم بما يقارب 220 ألف كيلوجرام من المضادات الحيويّة سنويًّا.
ثورة المضادات الحيويّة في الزراعة، إلى جانب المزيد من الابتكارات مثل مكمّلات فيتامين (د) الّتي جعلت مساحات الزراعة المغلقة ممكنة، والتحسّن اللوجستيّ الّذي جعل الذبح أسرع وأرخص، إضافة إلى التربية الانتقائيّة لأنواع أكثر لحميّة من الدجاج؛ جميع هذه العوامل أدّت إلى انخفاض سعر الدجاج الكبير الذي وصفه أحد منتجي الدواجن بالقول: «اللحم بسعر الخبز». وخلال وقت قصير، كان الدجاج أكبر حجمًا ويذبح في سنّ أصغر بكثير من قبل.
لكنّ العوائد الاقتصاديّة لهذه التجربة البيولوجيّة كانت مذهلة؛ إذ تضاعف نصيب الفرد من استهلاك الدجاج -الذي كان في يوم من الأيّام يعدّ وجبة نادرة ومكلفة من اللحوم، تُستهلك عادة في يوم الأحد- ليتضاعف إلى أكثر من ثلاثة أضعاف بين عامي 1960 و2020، وانتقل الدجاج من كونه وجبة هامشيّةً نسبيًّا في النظام الغذائيّ الأمريكيّ في العقود القليلة الأولى من القرن العشرين، إلى كونه البروتين الأساسيّ في البلاد.
كلّ هذا وضع منتجات البروتين الحيوانيّة الأخرى، خاصّة لحم الخنزير ولحم البقر، في موضع الدفاع؛ فمنذ أواسط سبعينيات القرن الماضي، دَخَل نصيب الفرد من استهلاك اللحم البقريّ مرحلة انخفاض طويلة، فيما استمرّ استهلاك لحم الخنزير في حالة استقرار. وبحلول عام 1992، أكل الأمريكيّون للمرّة الأولى دجاجًا أكثر من لحم البقر، نسبة للفرد الواحد.
عَنَى ذلك أنّه سيتحتّم على إنتاج اللحم البقريّ، أيضًا، أن يصبح أكثر فعاليّة وكفاءة من حيث سعر التكلفة؛ أي أن «يُدَوْجَنْ»، بلغة بعض المزارعين. لكنّ الأبقار كانت كائنات أكثر تحدّيًّا لهذا النوع من التكثيف الفورديّ (Fordist) من الدجاج؛ إذ اعتُبِرَ الدجاج صغير الحجم الطيّع، وسريع البلوغ، والقابل للذبح الصامت، الترس المثاليّ لنظام إنتاج غذائيّ محسّن للغاية.
على النقيض من الدجاج، فإنّ الأبقار وذوات الحوافر الأخرى، حيوانات مجترّة تحتاج إلى كمّيّات أكبر بكثير من الغذاء ومساحات أوسع من الأرض، كما أنّها تنمو بشكل أبطأ وتحتاج قدرًا أكبر من الرعاية الفرديّة؛ ما يعني أنّ حجمها يجعلها غير قابلة للاحتجاز في مكانٍ معيّن مثل المساحات الخانقة الخاصّة بالدجاج. وبالنظر إلى نسبة اللحم المُنْتَج مقارنةً بالتكلفة والوقت اللازم لإنتاجها، من الواضح أيّ مخلوقٍ يأتي في المقدّمة. اقرأ/ي أيضا:
لكنّ منتجي الأبقار يتوجّب عليهم تدجين ما يمكنهم تدجينه لإنقاذ ما يمكن إنقاذه؛ وهذا يعني المزيد من النظم الغذائيّة المركّزة والمبنيّة على الأعلاف المعتمدة على الذرة، والّتي أصبحت رخيصة بسبب فوائض محاصيل الذرة الهائلة منذ سبعينيات القرن الماضي، إضافة إلى وحدات التسمين الأكثر تركيزًا من السابق. لكنّ هذه الأنظمة الغذائيّة تسبّبت في حدوث الانتفاخات والأحماض لدى الماشية إضافة إلى خراجات الكبد، في حين أنّ ازدحام الماشية مكّن من خلق الظروف المثاليّة للأمراض المعدية مثل عفن أقدام البقر. ومع ذلك، كانت الأبقار ولا تزال أكثر تكلفة من الدجاج، ما عَنَى أنّ المضادّات الحيويّة كانت ضروريّة لكبح الأمراض من جهة وتعزيز النموّ من جهة أخرى.
في عام 1975، جرى ترخيص المضادّ الحيويّ مونينسين (Monensin)، وفي غضون عشر سنوات، جرى إطعامه إضافة إلى مضادّات حيويّة أيونيّة أخرى، لأكثر من 90% من الماشية الأمريكيّة، إلى جانب المضادّات الحيويّة الأخرى مثل التتراسايكلين والبنسلين. شَهِدَت تلك السنوات سلسلة طويلة من إساءات استخدام المضادّات الحيويّة. إذ كان بإمكان «البيطريّين على الطريق»، جني أموال طائلة من وصف المضادّات الحيويّة لحيوانات لم يروها من قبل، في حين باع الكثيرون الأدوية دون وصفات طبّيّة. وكما هو الحال مع الدجاج، كانت الآثار البيولوجيّة للمضادّات الحيويّة واضحة على الأبقار؛ ففي العام الّذي رُخّصَ فيه مونينسين كان معدّل وزن الأبقار عند الذبح يصل إلى 474 كيلوجرامًا، وبحلول عام 2005، قفز إلى أكثر من 30% ليصل إلى 620 كيلوجرامًا.
ولهذا تأثير كبير على جميع أنواع المنتجات الحيوانيّة، ومن المحتمل وصول تأثيره إلى أيّ تجمّعات للمياه أسفل أحواض المياه التي تشرب منها الماشية. رواسب المضادّات الحيويّة في مياه الشرب، كما في المنتجات الحيوانيّة مثل الحليب واللحوم والبيض، تظلّ مشكلة هامّة ومهملة إلى حدّ بعيد. ورغم أنّ الوجبات الفرديّة قد لا تحتوي إلّا على رواسب فرعيّة مثبّطة، إلّا أنّ قوّة التراكم البيولوجيّ على مدى عقود، والناتج عن الاستهلاك الكبير، لا يمكن استبعادها. ولا يزال هناك القليل من البيانات الّتي جُمِعَتْ حول مخاطر التراكم البيولوجيّ طويل الأمد المرتبط بمضادّات المايكروبات على صحّة الإنسان.
في المياه وفي كلّ مكان
نتيجة الاستخدام الجماعيّ للأدوية في الزراعة الحيوانيّة، تحتوي مسطّحات الماء الطبيعيّة اليوم على كمّيّات ملحوظة من نفايات المضادّات الحيويّة؛ فقد وجدت دراسة لنهر في كولورادو، أنّ «الموقع الوحيد الّذي لم يظهر فيه أثر للمضادّات الحيويّة كان منبع النهر في الجبال قبل قطع النهر لأيّ مساحات ريفيّة أو زراعيّة». كما جرى العثور على المضادّات الحيويّة مثل الماكروليدات والتتراسايكلين في مياه الشرب الكلوريّة، فيما وُجِدَ المضادّ الحيويّ تريكلوسان في العديد من الأنهار والجداول حول العالم. تتسرّب هذه النفايات السائلة إلى كلّ شيء آخر؛ فقد كشفت الأبحاث عن امتصاص المضادّات الحيويّة البيطريّة في الخسّ والجزر، وكذلك في حليب الثدي البشريّ.
يبدو أثر تلوّث المضادّات الحيويّة في العالم الطبيعيّ جذريًّا؛ فتسرّب المضادّات الحيويّة إلى البيئات الطبيعيّة يعمل على إحداث تغييرات قبيحة في البيولوجيا الحيوانيّة؛ فقد ثبت أنّ تركيزات المضادّات الحيويّة شبه الطبّيّة تتسبّب في تشوّهات جسديّة شديدة في سمكة الزرد، مثل وذمة كيس الصفار، وكذلك في البرمائيّات مثل الضفدع الغربيّ المخلبيّ. ولأنّ الأدوية لها تأثير في الظهور الجينيّ، فإنّ التشوّهات تمتدّ إلى السلوك والتطوّر أيضًا؛ إذ وجدت دراسة للقشريّات الصغيرة (Daphina magna)، أنّ المضادّ الحيويّ تتراسايكلين أثّر في الاستجابة العامّة للضغط وكذلك على عمليّات الأيض.
والأكثر إقلاقًا، أنّ الأثر كان عابرًا للأجيال، إذ يمتدّ من الآباء إلى الأبناء، ويستمرّ في الانتقال حتّى بعد زوال المضادّ الحيويّ تتراسايكلين من النظام البيئيّ. وليس مفاجئًا أن يؤدّي إدخال المضادّات الحيويّة في البيئة المائيّة إلى انخفاض نسب الخصوبة وزيادة معدّل الوفيّات.
خاتمة
للمضادّات الحيويّة تأثير عميق وضارّ للغاية في ميكروبات الكائنات الحيّة؛ لكنّ النطاق الكامل لتأثيراتها في صحّة الإنسان -من أمراض المناعة الذاتيّة وحتّى البلوغ المبكّر والسلوك المعادي للمجتمع- لم يتّضح بعد، ناهيك عن تأثيرها في البيئة غير البشريّة. يمكن القول إنّ المضادّات الحيويّة حاضرة في كلّ مكان بوصفها ملوّثات بيئيّة، ولأنّ السلالات الميكروبيّة تنتقل من جيل إلى جيل، مع احتمال كبير لتآكل قوّة المضادّات الحيويّة التدريجيّ، فمن المحتمل أنّه ومن دون تدخّل جادّ، ستزداد الأزمة مع مرور الوقت.
ومن الممكن، بالطبع، أنّ مُسمِّمات بيئيّة أخرى تساهم في ازدياد اضطرابات ما بعد الحداثة؛ فقد وجدت بعض الدراسات رابطًا محتملًا بين السلوك الشبيه بالتوحّد ومبيد الأعشاب غليفوسات، كما أنّ هناك نتائج أخرى، تظهر عمومًا بشكل أكثر محدوديّة، الصلة بين المواد السامّة والتوحّد، بالتركيز مؤخّرًا على المُسمِّمات «المسبّبة للسمنة» (Obesogens)، ودورها في وباء السمنة. لكن، لم يُظهِرْ أيّ عنصر آخر بمفرده القدرة على التسبّب بمجموعة متنوّعة من الحالات المرضيّة مثل المضادّات الحيويّة.