لطالما عرف المزارعون ومربو الثروة الحيوانية في بلاد الشام المواعيد الزمنية للمواسم الزراعية وارثين ذلك عن خبرة الأجداد والتراكم المعرفي للأجيال السابقة. فالقول إن «أيلول ذيله مبلول» يشير إلى موعد تساقط الأمطار، وعليه يهيئ المزارعون أراضيهم ويخطط الرعاة حركة قطعانهم. وفصل الشتاء مقسم إلى «مربعانية» تمتد على أربعين يومًا بين 21 كانون الأول و30 كانون الثاني، يتلوها «الخماسينية» التي تمتد على خمسين يومًا من 31 كانون الثاني حتى 21 آذار والتي تنقسم بدورها إلى أربع «سعودات» ترتبط كل منها بأحوال جوية محددة تستخدم كدليل للمزارعين.
لكن الحال لم يعد كما كان عليه، إذ يشهد المزارعون منذ عقد تقريبًا تغيرًا في الطقس ومواعيد الفصول ودورة الأمطار، من ذلك مثلًا ما يتذكره المهندس الزراعي مشهور الصقور عن المربعانية التي يفترض أن تكون أبرد أيام السنة عندما «كنا قبل سنوات نسمع أزيز وصفير الجرافات التي تشيل الثلوج على الطرقات»، لكنها اليوم تشهد ارتفاعًا نسبيًا في درجات الحرارة: «الآن شوي وبدي أنزل على البحر بشهر 12 و1».
يتذكر فهد* وهو مزارع في البادية الشمالية في الأردن، كيف كانت الأرض في صغره تعطي القمح والشعير بوفرة كل عام، وكيف كان الحصاد ثابتًا لا يخلف موعده معهم كل عام. أما في العقدين الأخيرين فصارت الأمطار تتأخر وموعد هطولها غير منتظم ما يجعل المواسم الزراعية قصيرة، والحصاد مرة كل ثلاث أو أربع سنوات رغم أنهم يزرعون الأرض سنويًا.
منذ فجر الحضارة كان الشرق الأوسط، ومنطقة الهلال الخصيب خصوصًا، مهد زراعة الحبوب والبقوليات كالقمح والشعير والعدس التي تعتبر محاصيل استراتيجية للأمن الغذائي، وذلك لما كانت تتمتع فيه المنطقة من مناخ شتوي معتدل وممطر على مدار ستة أشهر تتغذى منه الحبوب في دورة نموها الطويلة، يتلوها صيف حار وجاف يضمن نضجها وحصادها دون الرطوبة التي قد تفسدها. إن انتظام الأمطار أمر أساسي لهذه الزراعات البعلية الشتوية، لكن ثمة هطولان حاسمان بالنسبة للمزارعين، الأول في تشرين الثاني حيث يروي الأرض لتبدأ دورة إنبات الحبوب مع ضمان حصولها على الرطوبة طوال فترة النمو، والثاني في آذار أو نيسان ودوره الأساسي ملء الحبوب وإمداد المحاصيل بالمياه عند ارتفاع درجات الحرارة، لذلك كان يقال عن شهر آذار: «ثلاث يا يغلّها يا يِمْحِلها».
هكذا كانت أمطار الخريف والشتاء تروي عطش الأرض بعد الصيف اللهاب وتجدد المخزون المائي، ويتعزز بالتالي الغطاء النباتي والمراعي الطبيعية لتنعش بدورها المواشي والحياة البرية كما تطيل فترة إزهار النباتات ما يتيح للنحل -على سبيل المثال- مدة أطول لإنتاج العسل. ولطالما اعتمد المزارعون على انتظام هذه الدورة من أجل الزراعات البعلية التي تشكل 70% من القطاع الزراعي في منطقتنا والتي تشمل إلى جانب الحبوب والبقوليات الزراعات الصيفية البعلية أيضًا مثل البندورة والفقوس والبامية والأشجار المثمرة كالزيتون التي تعتمد على رطوبة الأرض المخزنة من الندى وموسم الشتاء.
وفق هذا الإيقاع الطبيعي تعيش الكائنات الحية في العالم بتناغم مع الفصول، فتعتمد النباتات والحيوانات على الإشارات المناخية مثل درجات الحرارة وطول النهار ومستويات الرطوبة لتنظيم دورات حياتها، وتتحدد بذلك مواعيد الإزهار والإثمار وهجرة الطيور وسبات بعض الحيوانات ومواقيت نشاط الحشرات المُلقِّحة. ورغم أن بعض الكائنات تصنف بين نافعة وضارة إلا أن لكل كائن منها دورًا حيويًا في الحفاظ على التوازن البيئي بما في ذلك المحلّلات مثل البكتيريا والفطريات التي تعيد العناصر الغذائية إلى التربة لتبدأ الدورة من جديد.
عندما تفقد الطبيعة تناغمها
في مسارها الطبيعي تحافظ الإشارات المناخية على دورة النباتات وتوازن النظم البيئية، فتُزهر الأشجار عندما تنشط الملقحات، وتتوفر الثمار عند حاجة الطيور إليها. لكن، عندما يختل هذا التوازن كأن يحضر الربيع مبكرًا في غير موعده الاعتيادي فإن أزهار الأشجار قد تتفتح قبل أوانها دون أن تجد حشرات ملقحة لها، وقد يجعل الإزهار المبكر الأشجار أكثر عرضة للصقيع فتذبل الأزهار قبل أن تصير ثمارًا، كما قد تفقس بيوض الحشرات قبل توافر المصادر الغذائية النباتية، وهكذا يتأثر الإنتاج النباتي وتختل النظم البيئية بأكملها.

شجرة لوز بري مزهرة مبكرًا في شهر كانون الثاني 2025 في تل الرمان. تصوير بانا سلامة.
على سبيل المثال، مع ارتفاع درجات الحرارة في الشتاء وتقلبات الخريف والربيع تواجه أشجار الفاكهة صعوبة في الإزهار وإنتاج الثمر، خصوصًا الأشجار متساقطة الأوراق مثل المشمش والدراق والعنب والتفاح واللوزيات الأخرى. يقول المهندس الصقور إن الأشجار في الخريف -حوالي تشرين الأول والثاني- تكون قد أسقطت ثمارها في حين يحفز انخفاض درجات الحرارة الأشجار على إسقاط أوراقها ودخول «طور السكون» الذي يشبه النوم العميق في الشتاء حيث تخزن الأشجار في هذه المرحلة الطاقة والعناصر الغذائية، كما تراكم «ساعات البرودة» اللازمة لكسر طور السكون حتى تكون مستعدة للإزهار وإنتاج الثمر في الربيع التالي. ويحصل الخلل عندما لا تحصل الأشجار على ساعات البرودة الكافية خلال الشتاء، وهو ما صار يلحظه الصقور، مشيرًا إلى ارتفاع نسبي في حرارة شهري تشرين الأول والثاني يحرم الأشجار من «نومها»، ثم تتفاقم المشكلة مع تقلبات الحرارة خلال الفصول حيث تنخفض الحرارة في الخريف -مثلًا- عن معدلاتها فتُبدأ الأشجار مبكرًا بتهجير العناصر الغذائية إلى الجذور استعدادًا للشتاء، ثم ترتفع الحرارة فجأة فيحاول النبات استئناف عملياته الطبيعية ما يشتت النبات ويصيب عمليات طور السكون بخلل يؤثر على محصول الفاكهة.
وعلاوة على أهمية انتظام مواعيد الثلوج والأمطار في الحفاظ على درجات الحرارة منخفضة في الشتاء، فإن الثلوج تحديدًا توفر المياه للنباتات تدريجيًا أثناء ذوبانها للحفاظ على رطوبة الأرض وإطالة موسم نمو النباتات في المناطق الجافة وشبه الجافة. فضلًا عن أهمية الحرارة المنخفضة في الحفاظ على توازن الحشرات ومكافحة الآفات، خصوصًا أن العديد من الحشرات التي تعتبر ضارة ببعض المحاصيل تفضل درجات حرارة أعلى.
يؤكد عبد الله* أحد المزارعين في الشونة الجنوبية في الأغوار الأردنية أن فصل الشتاء الماضي تأخر في الوصول، ما جعل بعض الحشرات تظل موجودة في غير موعدها، وهو ما يجعل محاصيل الخضروات تتطلب كميات أكبر من مواد الرش لمكافحة هذه الحشرات. يضرب مثلًا على ذلك محصول الذرة الذي كان يرشّه مرتين في الموسم لكنه صار في السنوات الأخيرة يرشه 12 مرة في كل موسم. ما يزيد من الكلف بمقدار أربعة إلى خمسة آلاف دينار سنويًا، فضلًا عن العبء البيئي واختلال توازن الكائنات الدقيقة في التربة. يضاف إلى ذلك استهلاكه كميات أكبر من المياه، حيث كان في كانون الثاني الماضي يسقي محصوله مرة كل ثلاثة أيام كما لو أننا في فصل الصيف، فيما كان يفترض أن يسقيه مرة كل أسبوع أو عشرة أيام كما هو المعتاد في فصل الشتاء.
اقرأ/ي أيضا:
وبحسب مديرية التغير المناخي في المركز الوطني للبحوث الزراعية فقد أدى التغير المناخي إلى انخفاض معدلات هطول الأمطار في الأردن بنسبة تصل إلى 5% مقارنة بمستويات ما قبل الثورة الصناعية. وللتغلب على انخفاض هطول الأمطار زاد طلب المزارعين على المياه واستخدام الري بشكل مكثف ما أدى إلى تدهور جودة المياه المستخدمة وزاد بالتالي من ملوحة التربة في المناطق الجافة وشبه الجافة مثل الأغوار التي تشهد زيادة خطيرة في الملوحة بسبب ممارسات زراعية غير مناسبة متعلقة بالري والتسميد جراء قلة الأمطار وزيادة معدل تبخر المياه.
ويُلاحظ الخلل في مواعيد الفصول وتأخير الأمطار في أماكن تقع ضمن مناخ البحر المتوسط -مثل عمّان- التي تحظى عادة بكميات أكبر من الأمطار مقارنة مع المناطق الصحراوية والغورية. يقول المزارع الستيني خلدون* والذي يعتمد على زراعة المحاصيل البعلية وتربية الأغنام في عمّان إنه لم يشهد طوال عمله في الزراعة موسمًا مثل الموسم الفائت، إذ كان يشهد أحيانًا تأخر أول هطول مطري حتى تشرين الثاني ما يتسبب بخسائر في المحصول، لكن لم يسبق أن تأخر إلى شباط مثلما حصل هذا العام، فقد كانت الفترة التي يعتمد عليها لترطيب التربة وبدء نمو النباتات أشبه بفترة صيفية، ما قصر من دورة الحبوب وعرقل قدرتها على النمو والنضج قبل حلول الصيف. أما المحاصيل البعلية الصيفية فتتقلص مدة إنتاجها في السنوات التي تشهد شحًا في الأمطار كما يقول، فينتج الفقوس لعشرين يومًا فقط بدلًا من شهرين، وينتهي موسم البامية في حزيران بدلًا من تشرين الأول. والحال الصعب نفسه ينسحب على المراعي الطبيعية التي يعتمد عليها مربّو المواشي ابتداء من كانون الثاني أحيانًا، إذ كان نموها ضعيفًا ما اضطر خلدون إلى تغذية أغنامه من الأعلاف المزروعة المكلفة.
تهدد التغيرات المناخية، إلى جانب العديد من الممارسات الزراعية والعمرانية الحالية، قدرتنا على إنتاج الغذاء في المستقبل، وهو ما يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالنظم البيئية الأصيلة كما يوضح محمد الغرايبة، الباحث في علم تصنيف النباتات والبيئة في جامعة العلوم والتكنولوجيا الأردنية، قائلًا إن النباتات البرية الأصيلة تطورت على مدار مئات وآلاف السنين بما يمكنها من التكيف مع تغيرات الظروف الجوية، وعندما تكون النظم البيئية في توازنها الطبيعي فإنها تحافظ على الغطاء النباتي ورطوبة الأرض وتوفر البيئة والغذاء المناسبين لجميع الكائنات مثل الطيور والثدييات والحشرات، وتحد من انتشار الآفات ومخاطر الحرائق وانجراف التربة والفيضانات الوميضية.
مضيفًا أن الارتفاع السريع في درجات الحرارة يهدد دورة النباتات البرية، فأصبحنا نلاحظ أحيانًا تنافرًا زمنيًا بين سرعة نضوج حبوب اللقاح في الأشجار الذكرية واستعداد الأشجار الأنثوية لاستقبالها ما يؤثر على خصوبة بعض النباتات. في الوقت ذاته، يساعد ارتفاع درجات الحرارة العديد من النباتات الغازيَة؛ أي التي تتكاثر خارج بيئتها الطبيعية وتضر بيئتها الجديدة عبر فرز مركبات حولها تعمل كمبيدات عشبية للتخلص من النباتات التي تنافسها، ما يسبب تدهور الغطاء النباتي وتعرية التربة.
وتمتد تقاطعات النظم البيئية الأصيلة والإنتاج الزراعي والتغيرات المناخية إلى أبعاد أعمق، فالعديد من المحاصيل الزراعية، بحسب الغرايبة، لها أقارب برية تعتبر أصولًا وراثية، ولها قدرة على التأقلم مع ظروف مختلفة لأن جيناتها تراكمت على مر مئات وآلاف السنين، وقد تُستخدم لتطوير محاصيل مقاومة للآفات والجفاف من خلال التزاوج بين المحاصيل والنباتات البرية، بالتالي فإن خسارة النباتات البرية يعني فقدان هذا المورد الطبيعي المهم.
المستقبل: جفاف أشد وفيضانات أكثر
أعلنت المنظمة العالمية للأرصاد الجوية أن عام 2024 كان الأكثر دفئًا على الإطلاق منذ بدء تسجيل درجات الحرارة. ومنذ ثمانينيات القرن الماضي كان كل عقدٍ أكثر دفئًا من سابقه حتى حطمت السنوات العشر الماضية (2015-2024) الأرقام القياسية.
يواجه العالم مشكلة الاحتباس الحراري، أي ازدياد درجات حرارة سطح الأرض بسبب ارتفاع مستوى الغازات الدفيئة مثل ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز في الغلاف الجوي التي تحبس حرارة الشمس وتمنعها من التبدد في الفضاء، ما يدفع الكوكب إلى ظروف لم يشهدها التاريخ البشري من قبل. ولم يحدث هذا الارتفاع تدريجيًا، ففي السنوات الستين الماضية وحدها كان المعدل السنوي لزيادة ثاني أكسيد الكربون أسرع بنحو مئة مرة من الزيادات الطبيعية السابقة، وعادةً ما تكون انبعاثات الفرد السنوية في الدول الصناعية أعلى بحوالي عشرة أضعاف متوسطها في البلدان النامية. ورغم أن الصين والهند والبرازيل والولايات المتحدة وإندونيسيا تعد من أكبر المساهمين في الانبعاثات الزراعية حاليًا، إلا أن الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تسببا تاريخيًا في معظم انبعاثات الغازات الدفيئة.
بالإضافة إلى ارتفاع درجات الحرارة المصحوب بموجات حر وفترات جفاف أطول، يؤدي تركيز الغازات الدفيئة إلى خلل في توزيع الضغط الجوي وتغيرات غير معتادة في أنماط الطقس وزيادة في الظواهر المناخية المتطرفة المتأرجحة بين الفيضانات الوميضية والحرائق. وإن كانت التغيرات المناخية تؤثر على قطاع الزراعة في جميع أنحاء العالم لكنها تتفاوت وفقًا للعوامل الجغرافية والمناخية، فقد تنخفض إنتاجية بعض المناطق الزراعية الخصبة في حين قد تتحسن الظروف في مناطق هامشية فيما قد تصبح مناطق أخرى غير صالحة للزراعة بالكامل.
من المتوقع أن يشهد الإنتاج الزراعي تراجعًا على المستوى العالمي، فالأماكن التي تعاني الآن من نقص هطول الأمطار ستصير أكثر جفافًا، والمناطق التي تحظى بأمطار كافية ستحصل على المزيد منها ما قد يتسبب بالفيضانات وغمر التربة بالمياه وتآكلها. لكن بعض الدول، خاصة في المناطق القطبية التي تكون فيها الزراعة محدودة بمواسم قصيرة خلال الفترات الدافئة من السنة، قد تستفيد من ارتفاع درجات الحرارة وإطالة موسم النمو النباتي فيما قد يكون ذلك مصحوبًا بمخاطر مثل انتشار أوسع للآفات والأمراض.
في مواجهة هذه التقلبات يحاول المزارعون التكيف بعدة طرق مثل اختيار محاصيل تقاوم الجفاف بشكل أقوى أو ذات فترة نمو أقصر، بالإضافة الى الاستعانة بتقنيات الري المختلفة لتنظيم المياه وتفادي فترات الجفاف الطويلة التي تؤثر على الدورة الطبيعية للنباتات، لكن يمكن لهذه التغييرات في البنية التحتية أن تكون مكلفة للغاية. وإلى جانب التكلفة، يتسبب التقلب في أنماط الطقس في تذبذب أسعار وجودة المواد الغذائية في جميع أنحاء العالم ما يهدد الأمن الغذائي العالمي.
بسبب تأخر موسم الشتاء لن يتمكن فهد -المزارع من البادية الشمالية- من حصاد نصيبه هذا العام، فأغلب زراعاته البعلية من الحبوب تأخرت جدًا في الإنبات ثم توقفت عن النمو مع ارتفاع درجات الحرارة، وهو في أحسن الأحوال سيستخدم القليل الذي نبت من المحصول في علف أغنامه. أما خلدون -المزارع من عمّان- وإن كان الهطول المطري في آذار الماضي قد أنقذ إلى حد ما محصوله إلا أنه يدرك أن كميات الإنتاج من الحبوب هذه السنة ستكون أقل من المعتاد، قائلًا عن أمطار شهر تشرين الثاني التي تأخرت هذا العام قرابة ثلاثة أشهر: «شتوة شهر 11 بنقول عنها ملح البلاد».
* أسماء مستعارة حفاظًا على خصوصية أصحابها.