«الوالة»: سيرة محطة زراعية أنهكها الإهمال

محطة الوالة الزراعية. تصوير مؤمن ملكاوي.

«الوالة»: سيرة محطة زراعية أنهكها الإهمال

الثلاثاء 07 كانون الثاني 2025

في الطريق من مأدبا نحو الجنوب على الطريق المعروف باسم الطريق الملوكي، وبعد حوالي 25 كيلومترًا، ستهبط واديًا عميقًا نسبيًا اسمه وادي الوالة، وذلك قبل الصعود نحو ذيبان على الضفة الأخرى. يبلغ طول الوادي شديد التعرّج 15 كيلو مترًا، ويبتدئ شرقًا من سد الوالة، قبل أن يلتقي بوادٍ آخر إلى الغرب في منطقة «الهيدان» الذي بدوره يلتقي بوادي الموجب في الطريق نحو البحر الميت. أي صورة علوية للمنطقة ستوضّح أن الوادي يشهد حياة زراعية على جانبيه، تشمل الزراعة النباتية والحيوانية، وكذلك تربية الأسماك.

في المنطقة عمران ملحوظ وفيها مبانٍ أثرية، فمثلًا لا تزال آثار طاحونتين حجريتين تعملان بطاقة المياه صامدة إلى الآن، وكانت إحداهما عاملة حتى عقود قريبة وتسمى طاحونة الهواوشة، وفق الحاج عبد ربه جدوع، والذي يعيش في المكان منذ 75 عامًا، ويتذكر كيف كان في شبابه يجلب الحبوب إلى هذه المطحنة.

اليوم، يمكن القول إن أبرز منشآت المكان على مدى السبعين عامًا الفائتة هي محطة الوالة التي أنشأتها وزارة الزراعة.

المبنى الرئيسي لمحطة الوالة

سيرة المحطة

تختزن الذاكرة الحادة للحاج عبد ربه سيرة عقود من عُمر قاع وادي الوالة، وذلك منذ أن حضرت أسرته إلى المكان من فلسطين عام 1950، وكان عمره حينها 14 عامًا، وعملت الأسرة في الرعي وتربية الحلال.

مطلع الخمسينيات، أقيمت في الوادي بعض الأنشطة الزراعية المدعومة من الولايات المتحدة، ضمن مشروع «النقطة الرابعة»، وكان هذا المشروع يقدّم الدعم المالي والاستشاري للسكان واللاجئين في أعمالهم الزراعية.

عام 1954 أنشأت وزارة الزراعة محطة الوالة كمحطة زراعية حكومية، بعد أن اشترت الأرض من عشائر بني حميدة. وبدأت المحطة تقدم الخدمات الزراعية المتنوعة في الشقين: النباتي والحيواني، وقد اشتهرت في سنواتها الأولى بإنتاج الأشتال الحرجية، ثم بدأت بإنتاج أشتال الأشجار المثمرة، وسرعان ما أخذت تتوسع في تقديم هذه الخدمات لتشمل المملكة ككل. ووفق المهندس محمود أبو ربيحة، مراقب المحطة الأسبق، فإن المحطة أنتجت في سنواتها الأولى ما يَقرب من نصف مليون شتلة حرجية، مضيفًا أن كل الأشجار على جوانب الطرق وبعض سفوح المرتفعات هي من أشتال حرجية أنتجتها المحطة.

كانت محطة الوالة واحدة من مشاريع مماثلة أقيمت في مواقع مختلفة؛ أشهرها محطات دير علا في الأغوار، ومحطة الشوبك في الجنوب، وفي الضفة الغربية أقيمت محطة الفارعة حيث أُسّست كذلك كلية زراعية في الربة، إضافة إلى كلية خضوري، وتلاها لاحقًا محطات أخرى شمالًا وجنوبًا.

شهدت تلك الفترة قدرًا ملحوظًا من الاهتمام الرسمي بالزراعة؛ وفي أرشيف وزارة الزراعة نجد أنه في العام 1966 كان عدد موظفي «دائرة البحث العلمي الزراعي» 61 موظفًا، ما بين باحث وخبير زراعي، كما نجد قائمة ثانية بأسماء عشرات آخرين كانوا قد علموا سابقا في تلك الوحدة ذات المهام الفنية الميدانية. وقد انتقل العديد من هؤلاء، بحسب وزير الزراعة الأسبق عاكف الزعبي، للعمل في سنوات لاحقة في مؤسسات زراعية دولية وفي دول أخرى كخبراء.

ما هو أبعد من الاقتصاد

تحتل المحطة مساحة طولية على جانبي الوادي بمسافة تمتد لنحو 1.5 كلم وبأعماق مختلفة. وقد اختلفت مساحة المحطة بين زمن وآخر، نقصًا أو زيادةً وفقًا لقرارات إدارية. ومساحتها الآن نحو 700 دونم وتتوزع منشآتها على ضفتي الوادي.

لا يجب النظر إلى المحطة بعين الاقتصاد أو الجدوى المالية فحسب (وإن كانت هذه متحققة إجمالًا)، بل بنظرة شاملة ترى البعد الاجتماعي العامّ بما فيه السكاني التنموي، فالمحطة كانت ولا تزال لصيقة بحياة المجتمعات المحلية المحيطة، وعملت بوصفها بؤرة تَجمعُ حولها عناصر الاستقرار والاستيطان البشري، وهي اليوم مركز الوادي وبؤرة النشاطات الزراعية الجارية على ضفتيه وعلى امتداده.

محاصيل متنوعة في بيوت بلاستيكية تجريبية

توفر المحطة حاجة المجتمع المحيط من الغراس والأشتال، وتقدم ميدانا للتجريب للمزارعين المبتدئين وللباحثين الزراعيين ولطلاب كليات الزراعة. ولا تزال بقايا المصطبة الدائرية الإسمنتية على شكل مسرح صغير، والمُعدّة لجلوس طلبة الجامعة الأردنية منذ ستينيات وسبعينيات القرن الماضي قائمة إلى الآن.

كما توفر المحطة البيئة والظروف والمعدات اللازمة لما يعرف بـ«المشاهدات»، وهي التجارب العملية التي تجري في المحطة على أصناف المزروعات بما في ذلك بعض الزراعات الجديدة، مثل الزراعة المائية.

اليوم، يمرّ عابر المحطة بمنشآت بعضها تهالك وبعضها هُدم فعلًا وأخرى لا تزال قائمة، وغيرها أجري عليها بعض التحديث والتطوير والإنشاء مجددًا.

المصطبة الدائرية الإسمنتية التي كانت مخصصة لجلوس الطلبة.

جولة بين الأطلال

التجوّل بين أجزاء المحطة سواء الفاعلة أو المعطلة يعطي فكرة ليس عن الماضي فحسب، بل عن المسارات الممكنة في المستقبل أيضًا فيما لو توفرت الإرادة وبُذل الجهد اللازم لاستعادتها واستعادة دورها.

في زيارة المحطة، يشير مرافقنا إلى تلك الأجزاء، فيقول هذا الموقع كان مخصصًا لتربية الأرانب ولا تزال بيوت الأرانب ذات التصميمات الخاصة قائمة، وهذه بركسات كانت للدواجن، وهذه الهناجر كانت للأبقار. وقد انتهت هذه الأنشطة منذ زمن، وأفرغت المباني فيما جرى تحويل بعضها لمستودعات.

كما اشتملت المحطة على منامات للموظفين، وبعضها كان مخصصًا لاستيعاب الموظف وأسرته، كما ضمّت مخبزًا كان يخدم موظفي المحطة وعمالها والمجتمع القريب، لكنه انتهى وبقي بناؤه فارغًا. وتوفرت فيها جاروشة حبوب خدمت المنطقة بأسعار زهيدة دومًا.

مبان ومستودعات مهجورة داخل المحطة

لكن النشاط الأبرز المستمر يتمثل بتربية الماعز وتطوير سلالاتها. واليوم يجري بيع رؤوس الماعز للمربين وتزويدهم باللقاحات اللازمة وفق الأسس والتعليمات الخاصة بهذا القطاع. والمحطة في هذا المجال تَخدم المربين في عدة محافظات، وتتعاون وتتبادل الخبرات مع محطات أخرى، فضلًا عن صلاتها بالمنظمات الدولية ذات العلاقة. وتتوفر المحطة على مختبر لفحص وحفظ عينات اللقاح. وفي مواسم الحليب تنتج المحطة الجبن من حليب الماعز، وجرت العادة أن يباع للموظفين والعمال وإذا كان هناك فائض يباع للمواطنين.

الماعز الأحمر (الإسباني) الذي يجري تكثيره في المحطة.

من المنتجات الرئيسة للمحطة منذ نشأتها وإلى الآن أشتال الزيتون، وهي من عدة أصناف: نبالي، ونبالي بلدي، وإيطالي، وتركي وغيرها. وتنتج المحطة كل موسم عشرات ألوف أشتال الزيتون، وتبيعها بأسعار مخفضة (35 قرشًا للشتلة). وقد حققت درجة عالية من الثقة بمنتجاتها من الأشتال، ويقصدها المزارعون واثقين من الأصناف المعروضة. وفي المحطة الآن نحو ألف شجرة زيتون، يجري تضمينها بالمزاد وتُدرّ دخلًا للمالية العامة بعشرات الألوف سنويًا.

كما تقدم المحطة أشتال بستنة أخرى، مثل الليمون والبرتقال والرمان، وحديثًا أقيم مشتل لأشجار التين الشوكي (الصبر) الذي أصبح أحد منتجات محافظة مأدبا الشهيرة. وتوفر المحطة التي استفادت من خبرات إيطالية في هذا المجال خبرات في رعاية أشجار التين الشوكي وتقليمه.

كيف يفسر تراجع أدوار المحطة؟

يحمل أبو ربيحة في ذاكرته تاريخ المحطة منذ عام 1984 عندما كان موظفًا، ثم منذ عام 1995 عندما أصبح مراقبًا مسؤولًا عنها. ففي ذلك العام كان عدد موظفيها الثابتين أكثر من 250 موظفًا، يساعدهم عشرات عمال المياومة وعشرات العمال الموسميين. ولكن كادر المحطة تقلص كثيرًا ولا يتجاوز اليوم 70 موظفًا ثابتًا، بمن فيهم الإداريون.

يعزو أبو ربيحة السبب في نشاط المحطة سابقًا وفي ركودها إلى القرار الإداري، أي إلى الاهتمام الرسمي، لأن المحطة تحتاج لأجواء عمل حيوية وليس فقط موظفون يقومون بعملهم شكليًا. لا بد لمن يعمل في الزراعة أن يدرك أهمية عمله واحتياجات ذلك العمل التي تتطلب القدر الكبير من التفاعل، يقول أبو ربيحة.

يؤكد ذلك محمد السنيد المراقب الحالي للمحطة، والذي يشير إلى أن العمل الزراعي يحتاج إلى المهتمين المتفاعلين، وهو عمل بطبيعته غير مرتبط بأوقات دوام محددة، وخاصة ما يتعلق بالثروة الحيوانية، ففي موسم الولادات مثلا، يتطلب الأمر المتابعة المتواصلة على مدار الساعة. يضيف السنيد إن المجتمع المحيط اعتاد على اعتبار موظفي المحطة وخاصة مراقبيها، على رأس عملهم حتى وهم في بيوتهم، وعليهم أن يكونا مستعدين للأسئلة دومًا.

يقول السنيد إن ارتفاع تكاليف مدخلات الزراعة في القطاع الخاص يُشعِر المزارعين بالفائدة التي تعود عليهم من المحطة التي تقدم خدماتها بأسعار رمزية. فمثلًا، تُوفّر المحطة للمزراعين بعض الآليات، مثل معدات الرش والحصاد والحراثة، مقابل أجور بسيطة مقارنة بخدمات القطاع الخاص.

كما يعتبر موظفو المحطة وعمالها والمتدربون فيها من الطلاب وحديثي التخرج، بمثابة شبكة لتعميم المعلومات عن خدمات المحطة. أمّا المنتج الفعلي من الحليب والجبن، ومحصول البرتقال والرمان والليمون، فيباع للموظفين والعاملين بأسعار مخفضة جدًا، وعندما يكون هناك فائض فإنه يباع للأهالي بسعر رمزي، وقد اعتاد السكان المجاورون زيارة المحطة طلبًا لمنتوجات مثل حليب الماعز أو الجبنة، ويورّد العائد إلى المالية العامة.

يشير أبو ربيحة إلى أن تراجع الاهتمام الرسمي بالمحطة وبالزراعة عمومًا بدأ يظهر منذ نحو 20 عامًا. ولكنه بالمقابل يشير إلى أن جائحة كورونا لفتت الانتباه إلى أهمية القطاع الزراعي، وظهرت بالتالي موجة جديدة من الاهتمام بالزراعة وبالمحطات الزراعية.

يقول أبو ربيحة إنه بين زمن وآخر تظهر دعوات الخصخصة عبر الترويج لفكرة بيع المحطة وإنهائها بحجة عدم الجدوى. وفي بعض الحالات لم تتراجع فكرة البيع إلا بعد أن نظم الأهالي والمزارعون موقفهم الرامي للإبقاء على المحطة.

يتفق العاملون في الميدان سواء داخل المحطة أو في المجتمع المحيط، حول فوائد المحطة المتشعبة وحول دورها التنموي في الماضي والحاضر. كما يتفقون على الاحتمالات والمسارات الممكنة في المستقبل.

ينظر الحاج عبد ربه جدوع، والذي عمل في المحطة لثلاثين عامًا، إلى قطيع الماعز الذي يملكه ويتحرك الآن أمامه، ويقول: هذه الرؤوس هي من سلالة رؤوس الماعز التي حصلت عليها من المحطة قبل 30 عامًا. لقد جلبوا وقتها صنفًا ممتازًا معروفًا باسم «الماعز الأحمر»، وله إنتاجية عالية في الحليب وفي اللحوم، ولكن أساسًا في المواليد فهو مشهور بولادة التوائم. ويضيف الحاج بسرور واضح: «أول أمس عنزتين عندي جابت كل واحدة اثنين. والأسبوع الماضي بعت من غنمي بتسعة آلاف دينار». ويختم بالقول: «الحمد لله، لَلْيوم ما مدّيت إيدي حتى لأولادي، أهم شي للواحد إنه «يِسْلَم من الدين ومطاليب الرجال»».

الحاج عبد ربه جدوع راعي أغنام وماعز كان يعمل قديمًا في المحطة.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية