تحتفظ الكاتبة الكندية نعومي كلاين بمكانٍ مميزٍ داخل تيار نقد الليبرالية الجديدة، سيما منذ ظهور كتابها «عقيدة الصدمة: صعود رأسمالية الكوارث» قبل سنوات، كونها تجمع بين براعة العمل الاستقصائي الصحفي وجاذبية ودقة العمل النظري. وضمن الخط النقدي نفسه أصدرت قبل سنواتٍ كتابها «هذا يغير كل شيء: الرأسمالية مقابل المناخ»، الذي ظهر قبل شهورٍ بالعربية لأول مرةٍ. وفيه تدعو إلى علاجٍ بالصدمة في الاتجاه المعاكس لليبرالية الجديدة بشأن الكارثة المناخية، التي لم تعد في الأفق كما كنا نعتقد قبل سنواتٍ، بل أصبحت واقعًا تعيشه أطراف الأرض الأربع، في أشكال مختلفةٍ من غضب الطبيعة المشوب بندرةٍ في المياه وخرابٍ للمحاصيل وهجرات جماعية على نطاقٍ واسع.
يجادل كتاب كلاين الجديد أن النموذج الاقتصادي السائد، القائم على النمو اللامتناهي وتعظيم الأرباح والاستهلاك بلا حد وفوق الحاجات، ليس الجذر الأساسي لأزمة المناخ العالمية فحسب، بل يعمل كحاجزٍ أمام تبلور سياسة مناخية جذرية، ويحاول إدماج سياسات المناخ ضمن نموذجه الربحي، ولفائدة القلة المهيمنة. فضلًا عن أن القضية المناخية، ليست مجرد قضية ضمن قضايا يجب معالجتها، بل تمثل المهمة الأساسية في عصرنا، مفترضةً أن النموذج الاقتصادي السائد لا يفشل في معالجة أزمة المناخ فحسب، بل يؤدي إلى تفاقمها بشكل فعال.
وقد كان للكتاب وقت صدوره قبل عشر سنواتٍ تأثير عميق على الحركات الاجتماعية الناشطة في المجال البيئي، وعلى الخطاب الأوسع حول العدالة البيئية والاجتماعية. حيث ظهر كأنه «مانيفستو مناخي» ساعد في نشر فكرة أن معالجة الأزمة المناخية تتطلب تغييرًا منهجيًا ألهم جيلًا جديدًا من الناشطين للضغط من أجل حلول أكثر جذرية قائمة على العدالة. وقد ساهمت أيضًا في الزخم المتزايد وراء مقترحات السياسة مثل الصفقة الخضراء الجديدة، وأثرت على المناقشات حول تقاطع العمل المناخي والعدالة الاقتصادية وحقوق الإنسان. فقد كان له دور فعال في تحويل السرد بعيدًا عن خيارات المستهلك الفردية والإصلاحات التكنولوجية نحو فهم أكثر شمولية لأزمة المناخ باعتبارها قضية كونية أولًا، وتجد جذورها في عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ثانيًا. وربما دفع هذا الزخم كلاين إلى العودة مرة أخرى في عام 2019 لتهتم بالمسألة المناخية في كتابها «القضية المشتعلة، من أجل صفقة خضراء جديدة»، والذي لا تكتفي فيه يتحليل الأزمة وجذورها بل تقدم مقترحاتٍ عمليةٍ لتجاوزها.
نقد الحلول النيوليبرالية
على نحوٍ شديد الوجاهة تدافع نعومي كلاين عن فكرة أن التدابير التدريجية السائدة لمعالجة أزمة المناخ غير كافية. وبدلًا من ذلك تدعو إلى نهج شامل ومتعدد، يجمع بين العمل البيئي والعدالة الاقتصادية والاجتماعية. وبالضدّ من العقيدة الليبرالية الجديدة التي ألغت القيود التنظيمية وكرست الخصخصة والتقشف، تعتقد كلاين أن حلّ المشكلة يجب أن يقوم على مزيدٍ من التدخل الحكومي والتنظيم والاستثمار العام على نطاق واسع. لذلك فهي توجه نقدًا جذريًا للحلول القائمة على «السوق»، مثل أنظمة تحديد سقفٍ للانبعاثات ومقايضتها، وتعويضات الكربون، والهندسة الجيولوجية. وتجادل بأن هذه الاستراتيجيات ليست غير كافية فحسب، لأنها تفشل في تحدي المنطق الأساسي للنمو والاستهلاك اللانهائي، بل تعمل في كثير من الأحيان على تعزيز النظام نفسه الذي خلق المشكلة. حيث يعطي السوق الأولوية لأرباح الشركات على التخفيضات الحقيقية للانبعاثات، ويمكن أن يؤدي إلى المزيد من الظلم الاجتماعي والبيئي. كاشفةً أيضًا عن إخفاقات وتناقضات «حلول السوق» هذه. فعلى سبيل المثال، تقوم أنظمة مقايضة الانبعاثات بالسماح للشركات بشراء وبيع أرصدة التلوث، وبالتالي تحول المناخ إلى سلعة كالديون.
لذلك فإن هذه الأنظمة غالبًا ما تسمح للملوثين بمواصلة إطلاق غازات الدفيئة، مع إعطاء صورة براقة لسياسات مناخية نيوليبرالية. كما تسلط الضوء على ما تفعله مشاريع تعويض الكربون، حيث تستثمر الشركات في مشاريع «خضراء»، في أماكن أخرى للتعويض عن انبعاثاتها، تؤدي إلى الاستيلاء على الأراضي وانتهاكات حقوق الإنسان في الجنوب العالمي. من خلال نقل بعض الشركات الغربية عملياتها الصناعية الملوثة إلى دول الجنوب، هربًا من القيود التي أصبحت مفروضة في دولها.
ويطال نقد كلاين الحلول التقنية مثل «الهندسة الجيولوجية»، والتي تتضمن تدخلات واسعة النطاق في النظام المناخي للأرض لمواجهة ظاهرة الاحتباس الحراري. وهي ترى أن هذه الأساليب هي المظهر النهائي للعقلية المتغطرسة التي خلقت أزمة المناخ في المقام الأول، وهو الاعتقاد بأن البشر يمكنهم التحكم في الطبيعة والسيطرة عليها بدل العمل في انسجام معها.
في جانبٍ ثانٍ توجه كلاين تحليلها لنقد ما تسميه بـ«العقلية الاستخراجية»، وهي رؤية عالمية ترى الأرض كمورد يجب استغلاله بدل كونها منزلًا مشتركًا يجب حمايته ورعايته. هذه العقلية، وفقا لكلاين، لا تقتصر على صناعة الوقود الأحفوري ولكنها تتغلغل في نظامنا الاقتصادي بأكمله. ويتجلى ذلك في ممارسات مثل إزالة الغابات، والزراعة الصناعية، والصيد الجائر، والتي تعطي الأولوية للأرباح قصيرة الأجل على الاستدامة والعدالة على المدى الطويل. وتستخدم الكاتبة لتوضيح الضرر الذي خلفته هذه العقلية العديد من دراسات الحالة، بدءًا من رمال القطران في ألبرتا الكندية، وصولًا إلى حقول الفحم في الهند. راسمةً روابط بين التدهور البيئي والظلم الاجتماعي، للدلالة عن الكيفية التي تتأثر بها المجتمعات المهمشة، والتي غالبًا ما تكون الشعوب الأصلية، بشكل غير متناسب بكل من أسباب أزمة المناخ وتأثيراتها.
لذلك تدعو كلاين إلى بلورة حركة جريئة ومتعددة الجوانب تجمع بين العمل المناخي والعدالة الاجتماعية، ضمن نهجٍ قائم على العدالة لفائدة الفئات الأكثر تضررًا من تغير المناخ، وأساسًا مجتمعات السكان الأصليين، والمجموعات ذات الدخل المنخفض، وشعوب الجنوب العالمي، لا على على مصالح الشركات وصناع السياسات في أعلى الهرم. ومن أجل ذلك يجب إعادة بناء الحركة الاجتماعية. حيث صاغت مصطلح «بلوكاديا» (Blockadia) لوصف الموجة المتنامية من المقاومة الشعبية ضد استخراج الوقود الأحفوري، والحملات المناهضة للتكسير الهيدروليكي في الولايات المتحدة والنضالات المناهضة للفحم في ألمانيا. فهذه الحركات هي الخطوط الأمامية لمكافحة تغير المناخ، حيث يتخذ الناس العاديون إجراءات مباشرة لحماية مجتمعاتهم والكوكب، ربما تصل أحيانًا إلى المواجهة التخريبية ضد تخريب الكوكب. لكن العمل المنفرد لهذه الحركات سيبقى قاصرًا في حال عدم قدرتها على بناء تحالف واسع وشامل يمكنه الدفع نحو التغيير المنهجي. حيث تطرح الكاتبة ما تعتبره طرقًا يمكن أن يتقاطع بها العمل المناخي مع نضالات العدالة الاجتماعية الأخرى؛ مثل النضال من أجل العدالة العرقية، وحقوق السكان الأصليين، والمساواة الاقتصادية، لإنشاء حركة موحدة وأكثر قوة.
لذلك فإن نقد كلاين الجذري، للرأسمالية في طورها النيوليبرالي، وتأثيرها الكارثي على وجود الكوكب، يكشف عن عبورها نحو منطقة أكثر صلابةٍ في نقد الاقتصاد السياسي القائم. حيث لم تعد فقط تدين وجهًا من وجوه هذه الرأسمالية وهو «رأسمالية الكوراث»، ولكن تذهب بعيدًا للمطالبة بتجاوزها كليًا. وهذه سمةٌ أصبحت شائعةً لدى قطاعٍ من المثقفين في العالم، حيث نشهد عودةً قويةً لكل أحلام ورؤى تجاوز هذا النمط من الإنتاج نحو جديدٍ لم يتشكلّ بعد.
الصفقة الخضراء الجديدة
في «القضية المشتعلة، من أجل صفقة خضراء جديدة»، تعود نعومي كلاين إلى المسألة المناخية على نحوٍ أكثر عملية وأقل تنظيرًا. لكن تحافظ على الأفكار الأساسية، وهي النهج الشامل للتعامل مع الأزمة من خلال الترابط بين العمل المناخي والإصلاحات الاجتماعية والاقتصادية الأوسع نطاقًا. وضرورة تجاوز السياسات «النيوليبرالية الخضراء» وكذلك توسيع نطاق الملكية العامة والرقابة الشعبية والمساءلة على القطاعات الرئيسية للاقتصاد، مثل الطاقة والنقل.
لكن الإضافة الأساسية لهذا الكتاب، الذي يعد بمثابة جزء ثانٍ لكتاب «هذا يغير كل شيء: الرأسمالية مقابل المناخ»، هو تقديم كلاين بديلًا لـ«الصفقة الخضراء النيوليبرالية»، التي هي مجموع السياسات والتدابير التي تحاول حلّ أزمة المناخ بناء على حلول السوق والتكنولوجيا، سمتها «الصفقة الخضراء الجديدة». تطرح الصفقة الجديدة، ليس فقط باعتبارها سياسة مناخية بل كأجندة اقتصادية واجتماعية تحويلية. فهي لا تتعلق فقط بخفض الانبعاثات الكربونية؛ بل بإعادة هيكلة الاقتصاد لخدمة احتياجات الناس والكوكب وليس مصالح قِلة من الأثرياء. وهذا يتطلب استثمارات عامة ضخمة في البنية الأساسية الخضراء والطاقة المتجددة والزراعة المستدامة، إلى جانب التدابير اللازمة لضمان العدالة الاجتماعية، مثل ضمانات الوظائف والرعاية الصحية والإسكان الاجتماعي.
في جانبٍ أساسي من جوانب الكتاب تعالج كلاين مسألة «السردية المناخية السائدة»، التي تعمل على بث الرُعب بشأن الأزمة المناخية لتمرير حلول السوق، أو الإصلاحات التكنولوجية. لذلك يجب على الحركات الاجتماعية إعادة الاستيلاء على الخطاب العام وتحويل وجهة السرد نحو النقد الجذري لنمط الإنتاج. كما توجه نقدًا واضحًا للاستجابات القومية والانعزالية للأزمة، وتزعم أنها غير كافية من الناحيتين الأخلاقية والعملية. وبدلاً من ذلك تدعو إلى «خطة مارشال كوكبية» تجمع بين العمل المناخي والعدالة الاقتصادية على نطاق عالمي.
وفي الجانب العملي، تقترح كلاين إعادة الهيكلة الأساسية للاقتصاد، حيث يجب أن تشمل الإسكان والتعليم وإعادة التأهيل من أجل الوظائف الخضراء الجديدة، ومراجعة سياسات «المجمع العسكري الصناعي الأمريكي» بوصفه أكبر مستخدم للوقود الأحفوري في العالم، ودعم الشعوب الأصلية التي تحاول الحفاظ على الأرض، والحاجة إلى نقل الثروة إلى الجنوب العالمي للتعامل مع الدمار المناخي الذي سببته الشركات الغربية هناك، والحاجة إلى السماح للاجئين المناخيين بالتحرك بحرية وبالتالي معارضة كراهية الأجانب، وإعادة توزيع الثروة من أعلى إلى أسفل، وذلك من خلال استثمارات حكومية كبيرة. وهذا يتطلب بحسب كلاين إعادة تنظيم العمل وانتقالًا عادلًا للعمال من القطاعات الأكثر تلويثًا للقطاعات الخضراء، وإنهاء السياسات العنصرية البيئية، وفرض الضرائب على الأغنياء حتى لا يقع عبء الانتقال على عاتق الأشخاص الذين يتعين على الحركة الاجتماعية حشدهم. ذلك أن جزءًا أساسيًا من السرد النيولبيرالي السائد يستهدف هذه الفئات الاجتماعية لتخويفها من التحول الصناعي.
محدودية المنظور
لكن المنظور الذي تقدم من خلاله كلاين أطروحتها حول الصفقة الخضراء الجديدة يبدو محدودًا من الناحية العملية وكذلك من ناحية الشمول الكوني، حيث نلاحظ تقليلًا من شأن التحديات السياسية المرتبطة بتنفيذ مثل هذه الأجندة التحويلية. فهذه الصفقة الخضراء الجديدة، كما تصورها كلاين، تتطلب إجماعًا سياسيًا واسع النطاق وموارد مالية كبيرة والتغلب على المصالح الراسخة التي تستفيد من الوضع الراهن. في المقابل يبدو المشهد السياسي، وخاصة في البلدان الملوثة الكبرى مثل الولايات المتحدة، شديد الاستقطاب، مما يجعل مثل هذا الإجماع الشامل صعب التحقيق. وكذلك الافتقار إلى تفاصيل واضحة للسياسات والآليات الاقتصادية، حيث تظل كيفية تحويل الصناعات بأكملها دون اضطراب اقتصادي حاد أو كيفية تمويل مثل هذا التحول الهائل دون إثارة التضخم أو أزمات الدين العام أقل وضوحًا في أطروحتها.
ومن جانب كونية هذه الصفقة لا نجد الكثير من الاهتمام بالجنوب العالمي حيث استوطنت الشركات الغربية الأكثر تلويثًا منذ عقدين. حيث تبدو كلاين مركزيةً في طرح المقترحات رغم شمولية تحليل طبيعة الأزمة الذي قدمته. فهي دائمًا ما تربط الإرادة السياسية وطليعة الحركة الاجتماعية بالمركز الغربي. فضلًا عن الغموض الذي يحيط بتعريف النمو الاقتصادي، حيث تشير بوضوح إلى ضرورة الخروج من نموذج الرأسمالية الذي يركز على النمو، لكنها لا توفر دائمًا الوضوح بشأن الشكل الذي قد يبدو عليه اقتصاد ما بعد النمو أو النمو السلبي في الممارسة العملية. وهذا ربما يضعنا أمام نوعٍ من التحول السيء قد يؤدي إلى صعوبات اقتصادية كبيرة، خاصة بالنسبة للدول النامية والمجتمعات المهمشة التي تطمح إلى تحسين مستويات معيشتها. فكلاين تغفل مسألةً أساسيةً هي السابقية التاريخية للدول الغربية في تحسين أوضاع مجتمعها وبناء قوتها الاقتصادية والعلمية في ظل اقتصاديات ملوثة.
في المقابل، بالكاد تبحث دول الجنوب عن طريقها للنمو لتحسين مستويات التنمية عندها، والتي يمكن أن يكون التحول الصناعي كارثةً عليها. لذلك تغفل مسألة أن يكون الجهد والكلفة الأكبر على دول المركز الرأسمالي. و ضمن مستوى أكثر جذرية نلاحظ تباينًا واضحًا بين تحليل كلاين للأزمة وبين المقترحات التي تقدمها لحلها. فهي تضع الرأسمالية في قلب الأزمة، لكنها في الوقت نفسه تطرح مقترحاتٍ لإدارة الرأسمالية وتاليًا الأزمة، وليس مقترحاتٍ تتجاوزها. فـ«توسيع القطاع العام والتخطيط وإعادة تنظيم الشركات وتشجيع المبادرات المحلية التعاونية وكذلك خفض استهلاك الشريحة الأعلى دخلًا من السكان وفرض الضرائب على الأغنياء»، تبقى على أهميتها تدابير جزئية، ولكنها تفترض استمرار الرأسمالية كنمط للإنتاج والهيمنة.
لذلك فإن كلاين، التي تجاوزت الرأسمالية في التحليل، ما زالت أسيرةً لنظرة التفريق بين الوجه النيوليبرالي للرأسمالية، والوجه المتحكم فيه. دون التأكيد على أن جميع أشكال الرأسمالية معادية بالضرورة للكوكبّ، وأن محاولت إصلاحها قد أصبحت غير ممكنةٍ في ظل الكارثة المناخية.