أطعم الفلاحون مواشيهم من أسقف وجدران البيوت في قرية أم قيس شمالي الأردن في أحد المواسم، ربما كان ذلك سنة 1959. لم يشهد المزارع أبو محمد الطرزي المولود قبل قرابة ستين عامًا الحادثة، إنما سمع عنها من أهله، وما يتذكره جيدًا من الحكاية أن الفلاحين اضطروا بالفعل بسبب شح المطر وموت المحاصيل في الحقول إلى نزع القشّ المجبول بالتراب والماء المستخدم في تشييد بيوتهم ليعلفوا بها المواشي. يستحضر الطرزي هذه الحكاية وهو يتحدث عن الموسم الحالي كواحدٍ من أكثر المواسم التي شهدها شحًا بالأمطار منذ وعى على الدنيا.
قبل بداية الموسم، أخذ الطرزي جميع الاحتياطات، جهّز بركة تجميع مياه الأمطار، وتخيّر سلالة قمح من نوع «شام 3» هي إحدى أكثر سلالات القمح انتشارًا في الشمال وتتميز بمقاومتها للجفاف وقلة الهطولات المطرية، وحرث ثم بذر في تشرين الأول الماضي على مساحة 1200 دونمٍ من سهل أم قيس القمح البعلي الذي يعتمد على الأمطار، منتظرًا هطولات مطرية من 250 مليمترًا حتى تنبت السلالة بأحسن ما يكون.
بعد انقضاء أغلب فترة الشتاء، وانحباس المطر، وارتفاع الحرارة إلى أعلى مستوياتها في مثل هذا الوقت من السنة، هطل على المنطقة 161 مليمترًا من الأمطار حتى بدايات شهر شباط؛ أي قرابة ثلث المعدل العام من الهطول الموسمي،[1] وهي كمية لم تكن لتنبت زرعه -إن ظلّ موسم المطر على حاله- ليصل إلى أسنان الحصّادة عند الحصاد في منتصف حزيران، حينها سوف يكون عليه أن يبيعه على أرضه إلى مربي المواشي، بخمسة دنانير لكل دونم، وستكون خسائره قد جاوزت الـ100 ألف دينار، وهي فقط أثمان ضمان الأرض دون أجور الحراثة والأسمدة والبذور التي قد تصل إلى ربع مليون دينار قياسًا على مواسم سابقة.
شراء المياه من العيون في سهل أم قيس شبه مستحيل لارتفاع التكلفة وصعوبة النقل، والسهل دون آبار جوفية لأنها ممنوعة، لهذا ليس على الطرزي الآن إلّا أن ينتظر الندى، والرطوبة القادمة في الصباحات من بحيرة طبريا القريبة، وبقية المطر من هذا الشتاء.
من بين قرابة 2 مليون دونم تزرع في الأردن هناك مليون و162 ألف دونم تزرع بمحاصيل بعلية،[2] وتحتل إربد -بدون الأغوار الشمالية الواقعة في حوض نهر الأردن- المرتبة الأولى في إنتاج المزروعات البعلية[3] مثل القمح والشعير والحبوب الشتوية، وتواجه هذه المساحات كلها تقريبًا نفس مصير مزروعات الطرزي، إذ هطل في ألوية محافظة إربد ما بين 117-208 مليمترًا من الأمطار من أصل المعدل الموسمي العام الذي يبلغ بين 250-500 مليمترًا حسب اللواء.[4]
صحيح أن الأردن لا يعتمد في استهلاكه على زراعة هذه المحاصيل، بل يستورد أغلبها، لكن الطرزي يصر على أن يقدم المداخلة القصيرة التالية على الهامش: «وإن زعلت أمريكا، من وين نجيب قمح؟».


حقول قمح غير مكتملة النمو بسبب قلة المطر في منطقة ابو هابيل في الأغوار الشمالية
تقدّر وزارة المياه والري أن منطقة حوض نهر الأردن حيث تنتشر الزراعات المرويّة من أشجار وزراعات حقلية تعتمد على المياه السطحية في الري، مثل السدود وقناة الملك عبدالله وعيون الماء، ستشهد ازديادًا في حدة الجفاف في الأربعين سنة المقبلة، مقارنةً بالأربعين سنة الماضية.
في العقود الأربعة الماضية، تعاقبت ثلاث موجات جفاف شديدة أو متطرفة، ومن المتوقع أن يزداد تعاقب هذه الموجات ليصير كل 20-25 سنة؛ أي موجة جفاف شديدة أو متطرفة مرة كل 6-7 سنوات، بالإضافة إلى توقع حدوث موجة جفاف متوسطة كل ثلاث إلى أربع سنوات.[5] علمًا بأن الجفاف وآثاره بازدياد، وطرق الاستجابة غير مبرمجة وتفتقر إلى التنسيق، وعادة ما يجري البحث عن الحلول بعد وقوع موجة الجفاف، كما تعترف وزارة المياه في ورقة سياسة قطاع المياه وإدارة الجفاف لسنة 2023.[6]
في الوقت الراهن، لم يختلف عدد حصص المياه وكمياتها التي تزوّد بها سلطة المياه المزارعين في وادي الأردن، إذ ما زال المزارعون في الأغوار الشمالية يحصلون على ثلاث حصص مياه في الأسبوع بواقع خمس ساعات ضخ لكل حصة، ومصدرها سد الملك طلال أو قناة الملك عبدالله التي تأتي من جهة الشمال حيث نهر اليرموك وروافده، لكن الخوف يتملّك المزارعين هناك من الأشهر القليلة المقبلة حيث ستبدأ الزراعة الخمسيّة التي تبدأ من شباط وتنتهي في أيّار، بالإضافة إلى حاجة شجر البيارات إلى كميات مياه أكبر كلما مال الجو إلى الدفء أكثر.
اتخذت الحكومة بعض الإجراءات المائية والزراعية لمواجهة المرحلة المقبلة في منطقة حوض الأردن، مثل السماح للمزارعين بحفر آبار جوفية للمياه المالحة، تحديدًا لمن يملك 50 دونمًا فأكثر، من أجل خلطها مع مياه الرّي التي تأتي من سد الملك طلال أو قناة الملك عبدالله، وتعهّدت بتزويد المزارعين بالحد الأدنى من كميات مياه الري في الزرعة الخمسيّة.


سد الملك طلال
تفيد المعلومات على الأرض ومن عدة مصادر أن السلطات ألمحت إلى بعض المزارعين بضرورة تقليل المساحات المخصصة لزراعة بعض الأصناف مثل البطيخ والشمام التي تحتاج إلى مياه ريّ أكثر من غيرها. فيما يعزف المزارعون عن حفر الآبار المالحة، بسبب عدم قدرتهم على تأمين تكاليف الحفر التي تتراوح بين 15-30 ألف دينار للبئر الواحدة، فتجد مثلًا بئر مياه مالحة واحدة فقط على امتداد حوضين متجاورين يقعان على مساحة 3500 دونم مزروعة في الأغوار الشمالية. ،بالإضافة إلى التكلفة المالية، ليس هناك ضمانة باستخراج مياه قليلة الملوحة لا تؤثر على الأشجار هناك، يقول أحد المزارعين: «ميّة السلطة مالحة، وتحط مية مالحة عليها؟».
من جهتها أكّدت وزارة الزراعة على أن الحديث الآن عن سوء الموسم المطري ما زال مبكرًا، ويقول الناطق باسم الوزارة ومساعد الأمين العام فيها عمر سلامة لحبر إن الموسم المطري لم ينته بعد، وفي ما إذا كان هناك خطة لمواجهة شح الأمطار أكد أن هناك خططًا وليس خطة، مضيفًا: دعنا ننتظر.
يتحدّث المزارعون بخوفٍ عن الأشهر المقبلة في فصل صيفٍ قاسٍ إذا ما بقي معدل هطول الأمطار على حاله حتّى الآن، بالإضافة إلى أن ارتفاع درجات الحرارة في الصيف سيزيد حاجة الزراعة إلى مياه ريّ أكثر، وستكون المياه القادمة من سد الملك طلال أكثر ملوحةً بسبب انخفاض منسوب التخزين وزيادة التبخر بفعل حرارة الصيف، حينها سيكون عليهم ليس مواجهة قلّة المياه فحسب، إنما تركيز الأملاح فيها والتي بدأت تظهر على أشجار بعض البيّارات حيث أصاب اليباس بعضها، ما اضطر مزارعين في الأغوار الشمالية في مواسم سابقة إلى قلع أشجار الحمضيات، بسبب تكرار يباس الشجر وعطشه إلى الماء.
حتى يوم 6 شباط الجاري، وصلت نسبة تخزين السدود في المملكة إلى قرابة 28% من سعتها التخزينية، وكان المنخفض الأخير قد رفد السدود بـ 10 مليون متر مكعب من المياه. وإن جاء الصيف على هذا الواقع المائي فسوف يتخذ المزارعون الإجراء القديم: قتل جزء من الزراعة وتركها للموت والعطش مع الاهتمام بباقي الزرعة لعدم كفاية مياه الريّ، أو التخلي عن بعض المزروعات الصيفية التي تتطلب مياه ري على فترات أطول، وهو تقليد شهدته المنطقة في السنوات الماضية.

سد وادي شعيب
لقد شهدت منطقة الأغوار الشمالية في السنوات القليلة الماضية تحوّلًا في زراعة بعض الأصناف مثل ترك زراعة البندورة والموز التي تحتاج إلى فترات ري أطول وكميات مياه أكبر، والاتجاه إلى أصناف أخرى. وهو ما فعله أسامة القوقني بعد موسم 2008 شحيح الأمطار عندما ترك زراعة الموز في منطقة أبو هابيل بعدما فقد 65 دونمًا منها لنقص مياه الريّ.
وفي الزراعات التي تقاوم الملوحة هناك خوف في الفترة المقبلة على إجهاد الشجر وانخفاض جودة المحاصيل وكمياتها، حيث يؤدي انخفاض منسوب تخزين السدود وتبخّر المياه فيها إلى تركيز الملوحة كما يقول لحبر رئيس جمعية التمور الأردنية أنور حداد. لكن الضرر الأكبر على بعض الشجر المقاوم للملوحة -مثل النخيل- لن يكون في هذا الوقت، حيث ما زالت درجات الحرارة منخفضة ولا يطلب الشجر كميات كبيرة من المياه، إنما في الصيف حيث يحتاج إلى كميات أكبر بسبب ارتفاع درجات الحرارة، وهنا يكمن الخوف كما يقول حداد.

قناة الملك عبدالله من جهة الأغوار الشمالية
أمّا في المناطق المرتفعة نسبيًا، في الرمثا مثلًا التي تعتمد على مياه الآبار الجوفية لري المحاصيل، فقد رفعت قلة الهطول المطري من سحب المزارعين لمياه الآبار. لا يحتاج الأمر لكثير من التدقيق من أجل أن يلحظ الداخل إلى السهول الشمالية لمدينة الرمثا كيف مدّ المزارعون الأنابيب البلاستيكية على طول عشرات الكيلومترات بين الآبار والبرك، ومن البرك إلى الأراضي الشاسعة المزروعة.
على مساحة 80 دونمًا مزروعة بالبطاطا، مدّ المزارع الباكستاني قاسم محمد شبكة من أنابيب الري الرئيسية من بئر مياه إلى بركة تتسع لعشرة آلاف متر، ومدّ شبكة أخرى فرعية تصل إلى الأرض المزروعة بالبطاطا. يباع المتر المكعب من مياه الآبار إلى المزرعة عبر الأنابيب بـ65 قرشًا، ويحتاج قاسم إلى سقاية الأرض ثلاث مرات في الأسبوع، لكل دفعةٍ منها ألف متر مكعب، وفي شتاء يوم واحد من أيام أي منخفض جوي تُرفع عنه كلفة وجهد ثلاث دفعات من مياه البئر: «إذا كبست شتا يوم كامل بوقف سقي أسبوع، يريحني من ثلاث سقيات» يقول قاسم. وهو ينظر إلى السماء، ويصف جودة مياه المطر مقارنة بمياه الآبار: «عمي الميّ شو ما تنزل بالنقّاطة من البير ما ببيّن بالأرض، سبحان الله الشتا أحسن».
في الموسم الواحد يدفع قاسم قرابة 40 ألف دينار أثمان مياه، وعند شح الأمطار كما هو حال هذا الموسم سيتضاعف المبلغ كما يقول، وليس له إلّا أن يواصل الزراعة من أجل تسديد الديون التي عليه، فالتوقف عن الزراعة بالنسبة له يعني الحبس.
بالمجمل، يبلغ حد الاستخراج الآمن السنوي للمياه الجوفية في الأردن حوالي 277 مليون متر مكعب، لكن يُستخرج في الواقع قرابة 450 مليون متر مكعب سنويًا، كثير منها تستخدم في الزراعة المروية، وبسبب هذا السحب تدنت جودة المياه ونضبت العديد من الآبار الجوفيّة.[7]
لسنوات تخلى المزارعون عن زراعة بعض الأصناف التي تتطلب وقتًا أطول في الري لصالح زراعات تأخذ وقتا أقصر، لكن حتى هذه الزراعات سينخفض ريّها لو ظل الموسم على حاله. واحدة من الاحتمالات الممكنة التي قد تلجأ لها السلطات هي وقف الزراعات الصيفية خاصة في منطقة الأغوار الشمالية، وهي واحدة من التوصيات التي رفعتها جمعية التمور الأردنية إلى الجهات المختصة كما يؤكد حداد.


أغنام ترعى في الأغوار الشمالية
لن يطال الضرر الزراعة النباتية وحسب، الزراعة الحيوانية هي الأخرى مهددة، فقد بدأت أسعار بعض أصناف أعلاف المواشي التي تزرع في الأردن بالارتفاع بالفعل، وبدأت الكميات تقل في الأسواق.
يزرع القوقني ثلاث وحدات زراعية و20 بيتا بلاستيكيًا، هذه الزراعات في مبدأ الخسارة والربح كما يقول أهون عليه من زراعة الذرة العلفية المخصصة لعلف أبقاره، وبالرغم من قلة الهطول المطري واحتمال انخفاض كميات المياه المزودة من السلطة لكنه سيزرع في آذار المقبل بما توفر من مياه محصول الذرة العلفية. خلال الحديث معه كان القوقني هادئًا حتى تحوّل الحديث إلى الزراعة الحيوانية، لأنها -كما يقول- تحتاج إلى طعام طوال العام، وتكون مهددة بالكثير من المشاكل الصحية، معلقًا على توفر بعض علفها: «شوال الشعير 12 دينار ومش قادر أؤمنه».
لقد أحيت أمطار المنخفض الأخير والمتأخر آمال المزارعين بمنخفضات أخرى، لكن ما تزال أيديهم على قلوبهم خشية أن لا يتبعه انخفاضٌ في درجات حرارة الجو لأنها كذلك تؤثر على جودة وكمية الإنتاج.
أخيرًا، لن يضطر الطرزي إلى نزع سقف بيته من أجل علف ماشيته كما فعل أهله قبل قرابة 65 سنة حين شحّت الأمطار، فبالإضافة إلى أن الجدران لم تعد تبنى من القشّ والطين، فقد اختصر الطريق وباع ماشيته قبل فترة قريبة بسبب تكلفة علفها المرتفعة، والأهم أنه سينتظر من بقية الشتاء مطرًا مشابهًا للمنخفض الأخير، متمنيًا أن لا يكون مطرًا غزيرًا يسقط في وقت قصير، لأن الغرق -كما يُقال هناك- أخو المَحْل؛ يهلك الزرع.
-
الهوامش
[1] في لواء بني كنانة حيث تقع أم قيس يبلغ المعدل الموسمي للهطول المطري 450 ملم، هطل منها 161 ملم، بحسب تقرير هطول الأمطار لمديرية زراعة محافظة إربد حتى تاريخ 6 شباط 2025.
[2] وفقًا لأرقام دائرة الإحصاءات العامة لسنة 2023.
[3] في سنة 2023 مثلًا أنتجت أراضي المحافظة 21450 طنًا من الحبوب الشتوية و 9055 طنًا من الشعير، و12 ألف طن من القمح، وزارة الزراعة، التقرير الإحصائي السنوي 2023 ص 13
[4] بحسب تقرير هطول الأمطار لمديرية زراعة محافظة إربد الصادر صبيحة الخميس 6 شباط 2025
[5] وزارة المياه والريّ، سياسية قطاع المياه لإدارة الجفاف، 2023، ص 7
[6] وزارة المياه والريّ، سياسة قطاع المياه لإدارة الجفاف، 2023، ص 6.
[7] هذه الكمية في سنة 2021، وزارة المياه والريّ، سياسية قطاع المياه لإدارة الجفاف، 2023، ص 6