مع نمو عمّان، خاصة خلال العقدين الأخيرين، كثر الحديث عن هوية المدينة ووضوحها من عدمه، في ظل توسّع يصفه الكثيرون بالعشوائي أو غير المخطط. وفي خضم ذلك، تثار مفاهيم كالتراث والمحلية، مقابل الحداثة والمعاصرة، من حيث حضورها في الهوية الحضرية للمدينة. فكيف يمكن التفكير في هذه المفاهيم في السياق العمّاني؟ وما علاقتها بهوية المدينة؟
للبحث في هذه الأسئلة، حاورنا رامي ضاهر، أستاذ العمارة في الجامعة الألمانية الأردنية، ومدير مكتب تراث للاستشارات المعماريّة. ضاهر مختص في التجديد الحضري والحفاظ على التراث، ومهتم بالسياسة وتأثيرها على صنع المساحات العامّة. وأشرف على عدد من مشاريع التطوير الحضري في عمّان، من أهمها إعادة تأهيل وتطوير شارعي الوكالات والرينبو في عمّان.
خالد بشير: كمتخصص بالعمارة المحليّة والتراثيّة، كيف تفهم هوية المدينة وكيف تعرّفها؟ هل هناك عناصر معيّنة تحدد هوية المدينة؟
رامي ضاهر: أنا لا أميل لربط الهوية بعناصر. إذا كنت سأربط الهوية بعناصر، فلا يوجد مدينة لها هوية. أنا أميل لمنظور أكثر تفاعلية يعتبر أن هوية المدينة وخصوصيّتها نفهمها من خلال فهم العلاقات؛ أي فهم التشكيل الخاص بها. وهنا نتحدث عن العلاقات الملموسة وغير الملموسة. العلاقات الملموسة تشمل العلاقات بين الأبنية والمدينة، بين المنزل والرصيف، بين المنزل والحديقة، بين مواد البناء والبيئة المحيطة، بين المنزل والطوبوغرافيا؛ كيفية تفاعل البناء مع منحدرات الأرض، والتي تفصح عن علاقة التشكيل الطبيعي مع التدخل البشري.
مثلًا، لننظر كيف هي علاقة المبنى السكني الذي أقيم مؤخرًا على منحدرات جبل اللويبدة باتجاه جبل عمّان، وكيف قام بسدّ الواجهة تمامًا، أنا أسمي مثل هذه الأبنية «حوائط صدّ». لم يكن هذا التفاعل -المتصادم مع التشكيل الطبيعي- هو القائم في مراحل نشأة الحي وتوسّعه السابقة.
جرافيتي على أطراف جبل اللويبدة.
وماذا تشمل العلاقات غير الملموسة؟
العلاقات غير الملموسة تشمل العلاقات بين الناس. مثلًا اليوم الفوارق الطبقية في ازدياد، وهذا ينعكس على العمارة والتخطيط الحضري للمدينة. ولكن أيضًا «الخلط الاجتماعي» كان موجودًا في السابق. أنا عشته في السبعينيات والثمانينيات، وهو يختفي. الموجة الأولى من «البترودولار» بدأت بإزالته شيئًا فشيئًا، وبحلول التسعينيات كان قد تبدد بدرجة كبيرة. ومن الروايات الاجتماعية والشفويّة يمكننا استخلاص هذه الميزة التي ميزت الأحياء السكنية المبكرة في عمّان؛ التسامح والتعايش بين السكان من خلفيات دينية واجتماعية وعرقيّة متنوعة، عاشوا جنبًا إلى جنب في أنواع مختلفة من المساكن من حيث المكانة الاجتماعية والثراء. حتى البيوت الأكثر فخامة التي ظهرت في جبل عمّان وجبل اللويبدة، كان لها اقتصاد معين وبساطة وتواضع مرتبط بها؛ كل هذا خلق بيئة حضريّة أكثر شمولًا في المدينة.
بالحديث عن هذه الميزات، لنتحدث أكثر عن عمّان وعن وهويّتها، يتردد القول إن عمان مدينة بلا هوية، ما رأيك؟
أنا أختلف تمامًا مع من يقول إنه لا يوجد هويّة لعمّان، أنا أعتقد أن هويّة مدينة عمان واضحة جدًا. لتدرك هذه الهوية، عليك أن تفهم المدينة، كيف تطورت، كيف تغيّرت، عندها ستتمكن من معرفة هويتها، وتربط هويتها المعماريّة مع هويتها المعاشيّة؛ أي كيف يعيش الناس فيها. يبدأ سؤال الهوية بالتحوّل لما هو أعقد من مجرد أشكال ورموز وأيقونات. الهويّة هي ماهيّة العلاقات القائمة ما بين السكان، وليست مجرد الطراز والتعبيرات المعمارية. هي ليست شيئًا ثابتًا، بل ديناميكية بكل تأكيد، ومتطوّرة مع الزمن، هي عبارة عن علاقات وتفاعلات.
المدينة كيان ديناميكي ومتغيّر باستمرار، منغمس في علاقة جدليّة مع منتجيها وسكانها. شكل المدينة لا يمكن فهمه إلا عندما يتم إنتاجه بمرور الوقت.
وهنا أؤكد دائمًا أنه رغم عودة عمان إلى الظهور على الساحة الاجتماعية والسياسية في الشرق الأوسط منذ منتصف القرن التاسع عشر، وتحولها من قرية صغيرة جدًا إلى مركز حضري رئيسي في المنطقة في غضون أقل من مئة عام، مع ذلك، ومقارنة بالمدن الشقيقة الأخرى مثل القاهرة، ودمشق، وبيروت، لا تزال عمّان مدينة غير مدروسة بما يكفي، وهي بحاجة إلى مزيد من البحث لفهم لحظات التغيير والتحول فيها، وبالتالي فهم هويتها.
إطلالة على وسط عمان.
نلاحظ محاولات من مستويات مختلفة للتعبير عن شكل من الهوية التاريخية لعمّان في منطقة مثل وسط البلد، كيف تقيّم هذه المحاولات؟
جرت محاولات للتحسينات في وسط البلد، ولكن يبقى المستوى اللازم من الاهتمام الحكومي غائبًا. هناك تدهور كبير جدًا للبيئة المعمارية بوسط البلد. لا يوجد اهتمام ولا تعليمات إرشادية للتصميم؛ الطوابق العلوية مهجورة، المحلات المهمة والكبيرة كلها خرجت، وأصبحت محلات القهاوي هي الطاغية، وباتت ظاهرة «الكيتش» هي المسيطرة على المشهد ككل.
تحدثت عن ظاهرة «الكيتش» في دراسة لك نشرت قبل سنوات، ما المقصود بها؟
نشأ مصطلح «الكيتش» (kitsch) في أسواق الفن في ميونيخ بعد الثورة الصناعية في ستينيات وسبعينيات القرن التاسع عشر، واستخدم لوصف الصور والرسومات الرخيصة والشائعة والقابلة للتسويق، ثم انتشر ليشمل جميع أشكال الفن مثل الموسيقى والعَمَارة. أحد الأصول الاشتقاقية لهذا المصطلح هو الفعل الألماني (verkitschen)، والذي يعني: أن يصنع بثمن بخس. وهكذا، منذ أول استخدام له، ارتبط المصطلح بشكل رخيص من الفن، ينتج على عجل، ودون الكثير من الجدارة الجمالية أو الذوق.
وفي حالة العمارة، فإن ممارسات التكرار الانتقائي للأنماط المعمارية «التاريخية» وإعادة اختراع أشكال الرموز الثقافية والتراثية، أصفها على أنها «كيتش».
وما هو شكل حضورها في عمّان؟
الظاهرة تفشت في الأماكن التي خضعت لمخططات ومشاريع التجديد الحضري مثل شارع الرينبو، وساحة فيصل، وشارع الأمير محمد في عمان.
في العديد من المناطق القديمة في المدينة، كشارع الرينبو، وساحة فيصل، حدثت محاولة تجديد عمراني ناجحة كانت قائمة على فهم واقع التراث العمراني لعمان، ثم شهدت عودة للأنشطة التجارية والترفيهية والثقافية أدت إلى العديد من الإضافات الفردية للمباني وواجهات المحلات. كانت بعض هذه التدخلات أكثر نجاحًا في احترام أصالة التراث العمراني لعمان، في حين قدم البعض الآخر «اختراعًا للتقاليد»، وتكرارًا زائفًا لرموز ثقافية وتراثية؛ أي كانت «كيتش».
صنفت هذه التدخلات في عدة متلازمات هزليّة مرتبطة بأشكال منتقاة من التقاليد العربية والإسلامية وغيرها. أولها ما أسميته متلازمة باب الحارة «الدمشقية». ففي العديد من واجهات المحلات التجارية والمساحات الداخلية في شارع فيصل أو في شارع الرينبو. يقوم العديد من أصحاب المقاهي والمطاعم الجديدة بإضافات رئيسية تركز على الكسوة المفرطة التي تغطي أحيانًا واجهة المتجر بأكملها، وتكون عادةً من الخشب، أو حتى الحجر، عبر استخدام صفوف أفقية بألوان الأصفر والأسود والوردي فوق الواجهات الحجرية لتقليد الطراز التقليدي الذي يطلق عليه «الأبلق» المستخدم في البناء التاريخي المملوكي والعثماني. وأحيانًا تضاف نوافير مائية إلى الأجزاء الداخلية من هذه الأماكن. الكثير من هذه المميزات تشبه إلى حد كبير تفاصيل الديكورات المستخدمة في للمسلسل التلفزيوني السوري الشهير «باب الحارة».
اقرأ/ي أيضا:
ومن ثم هناك متلازمة أسميها «القرية في المدينة»، ونراها في بعض واجهات المتاجر والمطاعم الأخرى على طول شارع الرينبو؛ حيث ينشئ أصحاب المطاعم واجهات تتميز باستخدام الحجر الريفي الذي يلصق على واجهات حجرية أصلية، مع استخدام الأبواب والنوافذ الخشبية التي تشبه أبواب القرية بأشكالها البسيطة، وأحيانا يستخدم شجر الزيتون والقش في الزخرفة، معتبرين أن ذلك يعكس «التراث»، عبر استحضار الهندسة المعمارية للقرية التقليدية.
ومن ثم هناك متلازمة «ألف ليلة وليلة»، ونراها في واجهات عدد من المتاجر والمطاعم على طول شارع الرينبو وشارع الأمير محمد، عبر خلق أصحاب المطاعم والمقاهي أجواء مستوحاة من القصص الكلاسيكية لشهرزاد. وتتميز هذه التصاميم بالكسوة الخشبية المفرطة للواجهات الحجرية الأصلية واستخدام النحاس في الديكورات الداخلية مع العديد من الزخارف والفوانيس النحاسيّة المعلّقة على التراسات الخارجية وفي الداخل أيضًا، في محاولة لإعادة إنشاء التقاليد العربية-الإسلامية؛ بعبارة أخرى، يريدون أن تشبه المباني التراث المعماري العربي القديم، خاصة لأن هذه المباني تقع في الجزء الأقدم من المدينة.
وأخيرًا، تأتي متلازمة «خزنة البتراء»، وتتمثل في استخدام شكل خزنة البتراء في واجهات المباني أو استخدام عمود خزنة البتراء كمدخل لبعض المباني التي كانت في بعض الحالات عبارة عن مبانٍ سكنية في عمان تعود إلى فترة «الحداثة».
تشترك هذه الظواهر في إعادة الاستخدام التكييفي للهياكل الحضرية التاريخية، في بعض الخصائص المادية مثل الخشب الزائد، أو الحجر، أو مواد تكسية أخرى، على واجهات حجرية أصلية، أو الاستيلاء على تراث الآخر (على سبيل المثال، تراث دمشقي أو تراث عربي-إسلامي) في محاولة لخلق واقع «المدينة العربية الفاضلة» الذي لم يكن موجودًا في المقام الأول، أو في بعض الحالات، لمجرد إنشاء أو «ابتكار» جو «تراثي» ضمن هذه التعديلات التي تستند إلى المفهوم الضيق النمطي لمصطلح «التراث»، والذي يبدو وكأنه صفحة ممزقة من كتاب ألف ليلة وليلة.
أحد مقاهي شارع الرينبو.
ولكن كيف تفسّر صعود مثل هذه الأعمال وما هي الدلالة التي تعبّر عنها؟
هذه الممارسات تفتقر إلى فهم أساسي لـ«العمق الزمني» للمدينة ولحظات التغيير فيها، وإلى الفهم النقدي للتراث المعماري الثقافي الفريد للمدينة وتقاليدها الاجتماعية الحضريّة. وفضلًا عن ذلك، في معظم الحالات، تستعير هذه المشاريع تراث «الآخر» وتستملكه بدلًا من الإشارة إلى الحقائق والتقاليد العمرانية لمدينتهم عمان (المكان الذي تجري فيه عمليات الترميم والتكييف هذه). أعزو ذلك بشكل أساسي إلى كون عمّان مدينة غير مدروسة (مقارنة بالمدن الأخرى في المنطقة)، وقد تم تهميش تراثها العمراني وخصوصياتها وتاريخها من خلال الممارسات الخطابية لكل من الدولة، والأوساط الأكاديمية.
من المهم أن نفهم لماذا تم تهميش البدايات الحضرية والماضي في عمان ولم تحتف أو تعرف به ممارسات الدولة الرسمية، كما استبعد من التعريفات الاستشراقية والأكاديمية للمدن العربية الإسلامية في المنطقة. فقد أُبقي التراث العمراني لعمّان خارج التعريف الرسمي للتراث الوطني، والذي اعتمد على تعريف تمحور حول التقاليد الكلاسيكية والمواقع الطبيعية. كما افتقرت لحظات التغيير والتحول في المدينة (على سبيل المثال، تراث الحداثة) إلى الاعتراف والتقدير من قبل عامة الناس، ولم يعترف بها كجزء من الإرث الثقافي للمدينة والبلاد.
عادةً ما يكون الخطاب الحضري المهيمن فيما يتعلق بعمّان هو الخطاب الذي ينفي هويتها كمدينة، ما هو السبب؟
إنّ التراث العمراني لعمّان، والذي يعود إلى النصف الأول من القرن العشرين، فقد مصداقيته بسبب الخطابات والممارسات الاستشراقية والأكاديمية التي حرمته وجعلته غير مهم وهامشي. إذ إنّ عمّان كمدينة عامةً، وتراثها العمراني بشكل خاص، يجب أن يتوافقا مع النماذج النمطية لما يجب أن تكون عليه المدينة «الإسلامية» أو «العربية». لقد بنى الخطاب الاستشراقي نماذج وأنماط للمدينة «الإسلامية» أو «العربية»، تبنتها بعض الخطابات الأكاديمية المعاصرة وأدامتها أيضًا. تعمل مثل هذه الصور النمطية على تشويه سمعة حقيقة معينة لا تتناسب مع مثل هذه المعايير والنماذج.
كما تم الإبقاء على التراث العمراني لعمّان بشكل خاص والمدينة ككل (مع بعض الاستثناءات البارزة، مثل المسرح الروماني أو القلعة) خارج التعريف الوطني الرسمي للتراث الوطني الذي كان قائمًا على الانفصال عن الماضي القريب، والعودة إلى الأزمنة الأقدم. كانت المواقع الطبيعية، مثل وادي رم أو البادية، والمواقع الأثرية التي تربط البلاد بنقطة انطلاق زمني متخيلة (مثل البتراء)، «مواقع» رئيسية لبناء هوية أردنية رسمية. وضمن هذا الإطار، سقط الواقع الحضري، مثل واقع عمّان، من هذا التعريف الرسمي.
تتحدث وتدعو في دراستك المنشورة مؤخرًا إلى تعزيز الفهم والتحليل المورفولوجي والتشكّليّ للمدينة، ماذا تقصد بهذا المنظور؟
المدينة معماريًا تتطور مع الوقت، ولا بد من فهم فضاءات المدينة كمنتج اجتماعي يمارسه الناس في الحياة اليومية. النهج التشكّلي لفهم المكان يضمن أن يدمج تعريف المشهد الحضري التاريخي الفضاء المادي مع القوى الاجتماعية التي تنتجها، بحيث لا ينحصر التركيز في أنواع المباني، ولكن أيضًا في كيفية ارتباط هذه الأنواع بنمو وتحول وتطور المدينة، وبحيث لا تتم ملاحظة المباني والمساحات المفتوحة فقط في حالتها الحالية، ولكن مع الأخذ في الاعتبار تطور الأنماط المعمارية والأشكال الحضرية عبر الزمن.
كيف تطبقه في فهمك وتحليلك لمدينة لعمّان؟
في حالة عمّان لا بد من إدراك طبيعة التدخلات داخل البيئة العمرانية التاريخية والمباني داخل مدينة عمان، بما في ذلك من تحليل قيم هذه المباني، وتصنيفها، وعلاقتها بالسياق الحضري وطبيعة التغيير والتحولات بمرور الوقت.
على سبيل المثال، لننظر إلى خصوصية الشكل العمراني لمنطقة وسط عمّان والأحياء السكنية المختلفة التي انبثقت عنها، إنها فريدة من نوعها. صعدت هذه الأحياء السكنية بمبانيها ودرجاتها هذه الجبال منتهيةً بمورفولوجيا حضريّة خاصة للأرض المنحدرة بين الشوارع المتوازية قبل أن تصل إلى هضبة في أعلى كل جبل مع خط القمة الرئيسي (الشارع التجاري) الذي يتوج كل هضبة.
هذه إحدى الخصوصيات في عمّان؛ الأحياء الجبلية القائمة بذاتها، والمجمّعة حول الوادي، والتي امتدت على طول المدينة، وربطتها بسلسلة من الطرق بين الجبال التي تصل أيضًا إلى وسط المدينة. جرى تخطيط هذه الأحياء بطرق دائرية تسير بالتوازي مع تضاريس الجبال وخطوطها الرئيسية التي تمتد على طول قمة كل من هذه الهضاب. من ناحية أخرى، تميز النمط الحضري أيضًا بنظام المشاة من سلالم عامة طويلة وضيقة تتسلق الجبال.
إطلالة من جبل اللويبدة.
هذا على صعيد التخطيط الحضري. ماذا عن الخصوصيات على مستوى الأبنية؟
كما فصّلت في الدراسة الأخيرة التي أشرتَ إليها، هناك مراحل وتصنيفات تصميميّة محددة يمكن تتبع ظهورها وتطورها في عمّان. الأولى هي المنازل ثلاثية الأروقة ذات الردهة المركزيّة، وظهرت وانتشرت تحديدًا خلال الفترة 1910-1940، وارتبط ظهور هذا التصميم بوصول المهاجرين من أماكن مثل بيروت وصيدا ودمشق والقدس ونابلس، باحثين عن فرص عمل في المدينة الناشئة. كما كان من بين هؤلاء المهاجرين مجموعة من البنائين الذين جلبوا معهم تقاليد البناء التي تشكلت في سياق عماني من الوسائل الاقتصادية المتواضعة والتواضع والبساطة.
سادت علاقات ديناميكية بين مساحة المعيشة المركزية في هذه المنازل وبين الأماكن الخارجية في عمّان، خاصةً مع تضاريسها الوعرة، بحيث تفاعلت المساحة المركزية مع مناظر جبلية، مع إطلالات على وسط المدينة. جاء هذا التفاعل بين الفضاء المركزي والخارج عبر فضاءات مثل «الليوان»، الذي تحول إلى شرفة. كانت المنازل الجديدة المكونة من ثلاثة أروقة منبسطة بشرفاتها وأروقتها ونوافذها الأكبر، وكانت تختلف اختلافًا كبيرًا عن منازل الفلاحين الريفية السابقة التي كانت مغلقة وانطوائية.
بالتوازي معها، ظهرت المنازل التي أسميها «بلاد الشام تاون هاوس»، خلال الفترة 1920-1940، والتي تضمنت محلات تجارية في الطوابق السفلية ومساكن في الطوابق العلويّة. وارتبط ظهور هذا النوع بزيادة الطلب على النشاط التجاري في منطقة وسط المدينة، وخاصة مع وصول التجار من المدن المجاورة في وقت مبكر من العقد الأول من القرن الماضي. كان هذا النوع مألوفًا في مدن لبنان وسوريا وفلسطين، وخاصة في الأحياء التجارية، وتم إحضاره إلى عمّان مع هؤلاء المهاجرين البرجوازيين الذين يسعون إلى فتح أعمال تجارية جديدة في المدينة.
إحدى فلل عمان القديمة في جبل عمان، شارع الرينبو.
ثم طرأت اختلافات أخرى على تصاميم الأبنية مع حصول تعديلات جوهريّة على نموذج المنزل الريفي الذي كان سائدًا أوائل القرن العشرين، وذلك خلال الفترة 1940-1960. فمع قرب انتصاف القرن العشرين وتدفق اللاجئين إلى العاصمة من فلسطين بعد عام 1948، والتوسع باستخدام الخرسانة المسلحة، وما رافق ذلك من اعتماد النظام الإنشائي للدعامات والعوارض؛ يمكننا ملاحظة ظهور تصنيف جديد للأبنية في المدينة، بخطوطها الحديثة في التصميم والقدرة على التكيف مع الأنظمة الهيكلية المعتمدة الجديدة. وفي هذه التصاميم، بدأ الحجر على واجهات المباني يصبح أكثر من مجرد قشرة خارجية. يشترك هذا النوع من المباني مع سلفه السابق في الاستخدامات التجارية والسكنية المزدوجة، وأصبح هذا النوع من المباني شائعًا جدًا في عمان، وانتشر في منطقة وسط المدينة وكان هو النوع الذي استخدم في الغالب في توسع المدينة من وسط المدينة على طول شوارعها صعودًا على جبال المدينة.
لنتحدث عن عمارة «الحداثة» في عمّان. ما هو سياق حضورها؟ يمكن القول إنها كانت من قبيل التفنن؟ وهل ارتبطت بطبقات عليا حصرًا؟
لا يمكن أن أسمي هذه الأنماط البنائية تفننًا، بقدر ما كان هذا شكل ممارسة البناء الذي كان السعي أن يكون معاصرًا في وقته، فنجده متأثرًا بـ«الباوهاوس»، بـ«الآرت نوفو»؛ كان يحاول أن يكون معاصرًا.
وبالطبع، كانت هذه التصاميم مرتبطة بطبقات وسياقات اجتماعية معينة؛ عائلات معيّنة أقامت مباني مهمة وأسهمت في تشكيل وصياغة الفضاء العمّاني العام الحديث، بما في ذلك من أبنية المدارس، والسينمات، والمسارح، والفنادق، والبنوك.
جاء تطور عمارة عمّان الحديثة خلال الفترة 1940-1960، بعد عودة المهندسين المعماريين الذين تلقوا تعليمهم في أماكن مثل بيروت أو القاهرة أو باريس أو الولايات المتحدة الأمريكية، فلم تعد العمارة نتاجًا لبناة مهرة فقط، بل بدأ هؤلاء المعماريون العائدون في العمل. متأثرين بتعليمهم في مدرسة باوهاوس، بدأ هؤلاء المهندسون بكسر الصندوق التقليدي للمسكن ثلاثي الأروقة، مما أدى إلى إنتاج فيلات عمانيّة بهندسة معمارية أكثر ديناميكية وغير متماثلة، وتوفر نسبًا جديدة من الصلب، مع ظهور المزيد من الفراغات في واجهات المباني. بالتالي، ظهر تصنيف جديد للأبنية في عمّان أظهر تكوينًا حيويًا وديناميكيًا يعتمد على تفاعل حجمي بين الأحجام الأفقية والرأسية، مع استخدام الأشكال المجردة في التصميم بشكل أساسي.
إحدى فلل عمان القديمة في جبل اللويبدة.
بالطبع، كان رعاة هذه الفيلات الطبقة المتوسطة والعليا الناشئة في عمّان. وقد تم دمج تأثير ورؤية هؤلاء المهندسين المعماريين العائدين من أوروبا والولايات المتحدة مع تقاليد البناء المحلية للبنائين المحليين لإنتاج الحداثة المستأنسة، على الطراز العمانيّ. تتعدد الأمثلة على هذه الفلل على طول شوارع مثل زهران في جبل عمان، والشريعة في جبل اللويبدة.
كما ظهرت هذه التصاميم الحديثة في المباني الرسمية والحكوميّة، كالوزارات، والمباني التجارية والبنوك، وفي دور السينما (مثل سينما الحسين، والخيّام)، والفنادق. وقد التزم مهندسو هذه المباني بمنطق الحداثة لكن مع لمسة من المحليّة، من خلال استخدام الحجر المحلي إلى جانب الخرسانة المسلحة.
سينما الخيام.
لنتحدث عن الاتجاهات الراهنة والمستقبليّة. في ورقة سابقة لك تحدثت عن تراجع الدور الاجتماعي للدولة، وفي أكثر من ورقة تتحدث عن تأثيرات الليبرالية الجديدة على عمّان. كيف تنعكس هذه التحولات الاقتصادية-السياسيّة على عمّان كمدينة؟
خلال المرحلة التي رافقت الاستقلال وتلته، وبالتحديد ما بين الخمسينيات والسبعينيات، ارتبطت مفاهيم التنمية وبناء الأمة في الغالب بمشاريع وطنية واسعة النطاق تدعم الرعاية الصحية والتعليم وتوفير البنية التحتية، بما في ذلك المشاريع الرئيسية للمياه والري (على سبيل المثال، مشروع قناة الغور الشرقي، التي كانت تعتبر من أهم القصص الناجحة للأردن في السبعينيات). أحد الأمثلة الأخرى هو مشاركة الدولة على مستوى إمداد الكهرباء للمنازل في كافة المراكز الحضرية بالبلاد. هذا الاتجاه اختفى مع انسحاب الدولة لاحقًا وتراجع دورها بشكل تدريجي، بحيث باتت النيوليبرالية تدريجيًا هي المهيمنة. في عمّان، تضمنت إعادة الهيكلة الحضرية النيوليبرالية ظهور الأبراج التجارية الراقية (مثل بوابة الأردن، وأبراج العبدلي)، والمجتمعات السكنية «المغلقة» الراقية (مثل جرين لاند، والأندلس)، وحتى المدن السكنية ذات الدخل المنخفض (مثل مشاريع «سكن كريم لعيش كريم») تم إبعادها إلى ضواحي المدينة الأبعد.
وبعد الأزمات المالية في عامي 2008 و2009 والركود في أعمال البناء والعقارات، شهدت عمّان فشل العديد من المشاريع العمرانية النيوليبرالية التي تركت المدينة مليئة بمواقع البناء الخالية. بالتالي، ساءت الحالة الحضريّة الحالية في عصر ما بعد النيوليبرالية. بجولة في عمّان اليوم، لا يسع المرء إلا أن يلاحظ توقف العديد من هذه المشاريع النيوليبرالية التي ترك إرثها المشهد الحضري للمدينة مع مشاريع غير مكتملة برافعات ثابتة وحفر ضخمة في الأرض مع مشاكل بيئية محتملة. يمكن أن نذكر عدة حالات مثل أبراج تجارية في العبدلي، و«ميجا مول» في وادي الرمم، و«بوابة الأردن» على الدوار السادس، وأبراج «ليمِتلِس» في عبدون.
مشروع أبراج السادس.
هل يمكن القول إن المشاريع العمرانية النيوليبرالية شكلت حالة تشوه للمكان والفضاء العمراني والبصري في عمان؟ هل كان لها خصوصيّة محليّة أم كانت فقط تصاميم مستوردة أُسقطت على الواقع؟
أنا متخصص بحفظ العمارة التراثية، نعم، ولكنني دائمًا مع أن يكون التصميم ابن عصره، ولا أؤيد اجترار تصاميم الماضي. لكن مشكلتي مع المشاريع النيوليبرالية، ليست من ناحية الجماليات المعمارية؛ أنا لا أنزعج منها بسبب كون تصاميمها معاصرة جدًا؛ الموضوع ليس جماليًا، ولا يتعلق بالنمط المعماري، أنا أنتقدها وأرفضها من منطلق: ما هو سياقها؟ ولمن هي مصممة؟ وكيف أدّت للقضاء على الفراغ العام؟ أيّ أن انتقادي هو من أساس اجتماعي-اقتصادي، أكثر منه معماري-جمالي.
مشاريع الحداثة كانت إبداعيّة في طرح تصاميم جديدة وكانت تركّز على الأجندات الاجتماعية. هذه المشاريع شملت بنى تحتية، وإسكانات اجتماعية، ومتاحف، ومستشفيات، ومؤسسات رسميّة، إلخ. كانت مرتبطة جدًا بالمجتمع. والمعماريون طعّموها بخصائص محليّة. وعلى المستوى الإنشائي، أُحضرت مقاربة جديدة للتعامل مع الكتل في التصميم. الفرق بينها وبين النيوليبرالية أن النيوليبرالية تقوم من أجل فئة معينة ولمصلحة فئة معيّنة، وهي أماكن إقصائية جدًا. ليس من الضروري وضع إشارة «ممنوع الدخول»، ولكن من خلال الأسعار وحقيقة أن عموم الناس لا يستطيعون تحمّلها؛ فهي عمليًا إقصائيّة.
بالنسبة للمشاريع التي توقفت ولم تستكمل، هناك مشاكل عدّة بالطبع؛ بداية حجم هذه المشاريع، فمشروع مثل «بوابة الأردن» (أبراج السادس) مثلًا، ظاهر وبارز في خط سماء المدينة، وهو ما يجعله مشوهًا له. هذا المشروع قد جاء على حساب حديقة عامة، هذه أول مشكلة. المشكلة الثانية أن المشروع لم يكتمل، فهو الآن عبارة عن إيذاء وتشوه بصري في سماء المدينة، وإكماله ليس سهلًا، فهو يحتاج إلى صيانة والكثير ليعود فقط إلى النقطة التي توقف عندها. لذلك لن تجد مستثمرًا يريد إكماله واستئناف العمل فيه، إلا إذا جاء المستثمر وفكّر بطريقة أخرى، ربما لتحويله وتوظيفه بفكرة جديدة، فلا يكون مجرد استثمار عقاري، وإنما تحويله إلى مكان للناس، قد يكون إسكانًا، أو مكانًا للترفيه، مثلًا.
مشروع ميغا مول.
مثال آخر، مشروع أبراج «ليمتلس»، في وادي عبدون، أنتج حفرة كبيرة في الجبل، وفي الشتاء تتحول إلى بركة تجتمع فيها المياه. وكذلك المشروع المتوقف في وادي صقرة، الحفرة الكبيرة التي نشاهدها الآن أسفل مستشفى الأردن والتي كانت ستؤدي لدمار المستشفى. ونفس الشيء فيما يتعلق بمخلّفات مشروع «النهر المعلق»، و«ميجا مول» في وادي الرمم. وفي العبدلي، يحزن المرء كثيرًا على مباني عمانيّة هدمت باسم توسعة العبدلي، مثل «مستشفى المعشر»، الذي هدم بحجة أن مشروع «وسط عمان الجديد» في العبدلي سوف تتم توسعته، ولكنه لم يتوسع. مثال آخر، مصنع الدخان القديم، في رأس العين، هدم على أساس أن يقام مكانه مشروع دار أوبرا لم يحدث، كان مبنى حداثي جميل جدًا.
مثل هذه المشاريع تتوقف عادةً لأن الرؤية تتغير، أو يختلف الشركاء، أو تفقد السيولة الماليّة. كل هذه الأمثلة خلّفت أضرارًا بيئية، وتأثيرات حضرية سلبية، فضلًا عن الأبعاد الاجتماعية المتمثلة بتبديد مظاهر العدالة وتعزيز الإقصائيّة.