لماذا لا تنخدع البلدان الفقيرة بالإمبريالية المكسوّة بالأخضر

الأحد 30 كانون الثاني 2022
رجل يحمل قطعة أثاث ويعبر مياه الفيضانات التي سببتها الأمطار الموسمية في بانغلادش، في آب 2020. تصوير منير عوز زمان. أ ف ب.

نشر هذا المقال للمرة الأولى بالإنجليزية في مجلة كانيديان دايمينشن، بتاريخ 14 كانون الأول 2021. 

لا تقتصر مواجهة الاحتباس الحراري على تمهيد الطريق أمام تحقيق صافي انبعاثات كربونية صفرية في جميع البلدان. بل تشمل أيضًا معرفة أفضل السبل لتلبية احتياجات الناس من الطاقة حول العالم بالتزامن مع تحقيق هدف صافي انبعاثات صفرية. وإن كان لا بد من التخلي عن الوقود الأحفوري، وهو ما أصبح ضرورة ملحة اليوم بالنظر إلى التحديات البيئية الراهنة، فإن بلدان في إفريقيا وأجزاء كبيرة من آسيا، بما في ذلك الهند، تحتاج إلى مسار بديل لتوفير الكهرباء إلى شعوبها. يثير هذا التساؤل حول ما هو المسار البديل الأفضل أمام البلدان الأفقر لتتبعه من أجل إنتاج الكهرباء إذا لم تسلك مسار الوقود الأحفوري الذي تسلكه البلدان الغنية، وهو ما يثير بدوره أيضًا أسئلة حول تكلفة هذا المسار البديل على البلدان الأفقر، ومَن سيدفع الفواتير الناتجة عن التحول إلى هذا المصدر الجديد للطاقة.

تتصل النقاشات الدائرة حول هذه القضايا بحل أزمة المناخ، وقد غابت تمامًا عن أجندة مؤتمر الأمم المتحدة السادس والعشرين للتغير المناخي، والذي اختتمت فعالياته في 13 تشرين الثاني 2021. وتم فصل تمويل مسار الانبعاثات الكربونية المنخفضة بكل بساطة عن الالتزامات بخفض الانبعاثات الكربونية، بل وبات يواجه اليوم مستقبلًا غامضًا مع تقاعس البلدان المتقدمة عن الوفاء «بتعهدها» السابق بتوفير التمويل للبلدان النامية «لمساعدتها على التأقلم مع التغير المناخي وتخفيف حدة الارتفاع في درجات الحرارة».

من المهم النظر إلى بعض الأرقام هنا لفهم مقدار مساهمة البلدان النامية في الأزمة المناخية الحالية وانبعاثات الغازات الدفيئة. إذ ينتج الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة مجتمعين أكثر من ضعف الانبعاثات الكربونية التي تنتجها قارة أفريقيا بأكملها، ولديهما أقل من نصف عدد سكان أفريقيا. أمّا الولايات المتحدة التي لديها أقل من ربع عدد سكان الهند، فتنتج انبعاثات كربونية أكبر بكثير مما تنتجه الهند، ما يصل إلى الضعف تقريبًا.

التخلص التدريجي من الوقود الأحفوري

يُقال إن تكلفة إنتاج الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة أصبحت اليوم أقل من تكلفة إنتاجها من الوقود الأحفوري، وأن من الممكن لجميع البلدان، الغنية منها والفقيرة، أن تتخلص تدريجيًا وبشكلٍ كامل من الوقود الأحفوري وتتحول إلى مصادر الطاقة المتجددة من دون التصدي لمسألة التمويل. وصحيح أن تكلفة وحدة الكهرباء المنتجة من مصادر طاقة متجددة أقل اليوم من مثيلاتها المنتجة من الوقود الأحفوري. إلا أن ما يتم تجاهله هنا هو أن البلدان الفقيرة لكي تتمكن من القيام بهذا التحول، ستحتاج إلى بناء منشآت تعادل ثلاثة أو أربعة أضعاف قدراتها الحالية من أجل إنتاج الكهرباء من مصادر الطاقة المتجددة، لتوفير نفس الكمية من الطاقة التي تحصل عليها اليوم من محطات الطاقة التي تعمل بالوقود الأحفوري. ويرجع ذلك إلى أن قدرة محطة الطاقة، أو ما يعرف بمُعامِل الحمل لمحطة الطاقة -أي مقدار الكهرباء التي تنتجها محطة طاقة فعليًا، مقارنة بما يمكنها إنتاجه إذا عملت بشكل مستمر بطاقتها القصوى- التي تعمل بمصادر الطاقة المتجددة تعادل 20% إلى 40% من تلك التي تعمل بالوقود الأحفوري. فالرياح لا تهب في جميع الأوقات، كما أن الشمس لا تشرق في الليل. ويعني ذلك أنه سيتعين على أي بلد بناء منشآت تفوق بعدة مرات ما لديها -وبالتالي استثمار المزيد من رأس المال- إذا ما سلكت مسار الطاقة المتجددة من أجل إنتاج نفس الكمية من الكهرباء التي تحصل عليها من محطات الطاقة التي تعمل بالوقود الأحفوري.

هذا القدر من الاستثمار في مصادر الطاقة المتجددة قد لا يمثل مشكلة لبلدٍ غني. أما بالنسبة لبلدٍ فقير يحاول بناء بنيته التحتية الأساسية من الكهرباء والطرق والسكك الحديدية وغيرها من البنى التحتية العامة، بما في ذلك المدارس والجامعات ومؤسسات الرعاية الصحية، لن يكون هذا التحول نحو مصادر الطاقة المتجددة سهلًا من دون دعم مالي من البلدان الغنية. لهذا السبب فإن مطالبة البلدان الغنية لتلك الفقيرة بتقديم تعهدات بتحقيق صافي انبعاثات صفرية دون الالتزام بمنحها أية أموال يعد نفاقًا مطلقًا. فقد نجد البلدان الغنية غدًا تقول -وعلى الأرجح سوف تفعل ذلك- إن البلدان الفقيرة قدمت التزاماتٍ بتحقيق صافي انبعاثات صفرية، وعليها الآن أن تقترض من البلدان الغنية بأسعار فائدة مرتفعة وتفي بوعودها، وإلا فسوف تواجه عقوبات. بعبارة أخرى، سيقودنا ذلك إلى شكل جديد من الاستعمار الأخضر.

إن البلدان الغنية بحديثها عن تحقيق صافي انبعاثات صفرية والتخلص التدريجي من أنواع معينة من الوقود، تواصل طريقها في زيادة الانبعاثات الكربونية بينما تغير قواعد اللعبة للآخرين.

أمّا المشكلة الثانية في مصادر الطاقة المتجددة بوصفها المصدر الرئيسي للكهرباء أن هناك تكاليف إضافية كبيرة لإنشاء شبكة تخزين الكهرباء على المدى القصير أو الطويل. وذلك لتحقيق التوازن ضد التقلبات اليومية أو الموسمية التي قد تطرأ. فعلى سبيل المثال، شهدت ألمانيا عام 2021 تباطؤًا كبيرًا في الرياح في فصل الصيف، ما أدى إلى تراجع حاد في حجم الكهرباء المولّدة من الرياح. وفي هذه الحالة، وازنت ألمانيا انخفاض إنتاج الطاقة من الرياح بزيادة إنتاج الكهرباء من المحطات التي تعمل بالفحم، الأمر الذي رفع انبعاثات الغازات الدفيئة لديها بشكل ملحوظ. السؤال الذي يطرح نفسه هنا في حال عدم وجود محطات تعمل بالفحم، ما الذي ستفعله البلدان عند تذبذب قدرات الطاقة المتجددة؟

في حين يمكن للبلدان التي تستخدم مصادر طاقة متجددة مواجهة التقلبات اليومية من خلال بطاريات كبيرة بحجم الشبكة، يتعذر هذا الأمر في حالة التغيرات الموسمية. إذ يتعين على هذه البلدان إما استخدام نظم تخزين ضخ الطاقة الكهرومائية، أو تخزين الهيدروجين بكميات كبيرة لاستخدامه في خلايا الوقود. ويعني نظام تخزين ضخ الطاقة الكهرومائية القيام بضخ المياه لأعلى في خزان عندما يكون هناك فائض طاقة متاحة للشبكة، واستخدامه لإنتاج الكهرباء عند حدوث عجز. لكن تخزين الهيدروجين بكميات كبيرة بحيث يلبي الاحتياجات الموسمية للشبكة ليس سوى فكرة تحتاج لأن يتم استكشافها وتقييمها لمعرفة جدواها تقنيًا واقتصاديًا.

الجدير بالذكر هنا هو أن التحول إلى شبكة قائمة بالكامل على الطاقة المتجددة لا يزال أمرًا بعيد المنال بعض الشيء من الناحية التكنولوجية. فنحن بحاجة إلى تطوير تكنولوجيات جديدة من أجل تخزين الطاقة. وقد نحتاج إلى استخدام مصادر طاقة مركزة -أحفورية أو نووية- لتلبية الاحتياجات الناتجة عن التقلبات اليومية أو الموسمية حتى ذلك الحين.

أما الاحتمالية الأخرى فهي استخدام الوقود الأحفوري من دون انبعاثات الغازات الدفيئة. ويعني ذلك عدم السماح لثاني أكسيد الكربون بالهروب للغلاف الجوي، وضخه بدلًا من ذلك في خزانات جوفية؛ أو ما يعرف بعملية احتجاز الكربون وعزله. تم التخلي عن مشاريع احتجاز الكربون هذه في البلدان الغنية اعتقادًا منها بأن مصادر الطاقة المتجددة سوف تحل مشكلة الانبعاثات الكربونية. وقد أصبح جليًا اليوم أن وجود مصادر طاقة متجددة باعتبارها المصدر الوحيد للطاقة في شبكة ما لا يعد كافيًا، وقد يحتاج العالم إلى البحث عن حلول أخرى أيضًا.

في الوقت نفسه، وعلى المدى القصير، لا تبدو الطاقة النووية حلًا دائمًا للتحول نحو مصادر الطاقة الأنظف، إذ «لا يوجد وقت كافٍ للابتكار في الطاقة النووية من أجل إنقاذ الكوكب»، وفقًا لما جاء في مقال منشور حديثًا في مجلة «الشؤون الخارجية». يعني ذلك أن الغاز والنفط والفحم هي الحلول الوحيدة المتاحة لدينا على المدى القصير لمواجهة التقلبات قصيرة وطويلة المدى في إنتاج الطاقة. وهنا تصبح ازدواجية البلدان الغنية واضحة للعيان. فالبلدان الغنية في أوروبا والولايات المتحدة لديها موارد كافية من الغاز. بينما لا تمتلك البلدان الأفقر مثل الهند والصين هذه الموارد؛ لكن لديها فقط موارد من الفحم. وبدل مناقشة حجم الغازات الدفيئة التي ينبغي أن تنبعث من كل بلد، قررت البلدان الغنية التركيز على تحديد الوقود الذي يجب التخلص منه تدريجيًا. صحيح أن الفحم ينبعث منه ضعف كمية ثاني أكسيد الكربون مقارنة بمحطات الطاقة التي تعمل بالغاز من أجل إنتاج نفس الكمية من الطاقة الكهربائية. لكن إذا أنتجت البلاد الكهرباء من محطات الطاقة التي تعمل بالغاز بضعف ما تنتجه باستخدام الفحم، فسوف تنتج مع ذلك الكمية ذاتها من انبعاثات الكربون. وإذا كانت الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي مع المملكة المتحدة تنتج انبعاثات كربونية أكثر مما تنتجه الهند أو أفريقيا -والتي لدى كلٍ منها عدد أكبر من السكان- فلم المطالبة بالتخلص التدريجي من الفحم فقط، في حين لا تضع الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي مع المملكة المتحدة مثل هذه الأهداف للتخلص التدريجي من انبعاثاتها الكربونية الناتجة عن تشغيل محطات الطاقة التي تعمل بالغاز؟

عدالة الطاقة

في مساحة كهذه تحديدًا تصبح قضية عدالة الطاقة ذات أهمية. فنصيب الفرد من استهلاك الطاقة في الولايات المتحدة يعادل تسعة أضعاف مثيله في الهند، بينما نصيب الفرد من استهلاك الطاقة في المملكة المتحدة يعادل ستة أضعاف مثيله في الهند. وإذا نظرنا لبلدان إفريقيا جنوب الصحراء مثل أوغندا أو جمهورية أفريقيا الوسطى، سنجد استهلاكها من الطاقة أقل (تستهلك الولايات المتحدة 90 ضعف، والمملكة المتحدة 60 ضعف استهلاك هذه البلاد). لمَ علينا إذن الحديث عن أي أنواع الوقود يجب التخلص التدريجي منه وليس عن كمية الانبعاثات الكربونية التي يجب على البلاد خفضها فورًا؟

ما أطرحه هنا لا يتعلق بمسألة الحصص المتكافئة في الفضاء الكربوني، وما إذا كان بلد ما قد استخدم أكثر من حصته العادلة من الفضاء الكربوني، وكيف يتوجب عليه تعويض البلدان الأفقر عن ذلك. لكنني أشير ببساطة إلى أن البلدان الغنية بحديثها عن تحقيق صافي انبعاثات صفرية والتخلص التدريجي من أنواع معينة من الوقود، تواصل طريقها في زيادة الانبعاثات الكربونية بينما تغير قواعد اللعبة للآخرين.

إن لم تجد البلدان الغنية هي الأخرى سبيلًا للبلدان الفقيرة لتلبية الحد الأدنى من احتياجاتها من الطاقة، فسوف تشهد انهيار مساحات شاسعة من بلادها.

لختام الحديث عن النفاق يجدر بنا الإشارة إلى النرويج. ففي وقت تُوسِّع فيه البلاد من إنتاجها من النفط والغاز، تمارس النرويج إلى جانب سبعة بلدان أخرى من بلدان الشمال والبلطيق ضغوطًا على البنك الدولي «من أجل وقف تمويل كافة مشاريع الغاز الطبيعي في إفريقيا ومناطق أخرى بحلول عام 2025»، وفقًا لما جاء في مقال بعنوان: «السياسات المناخية للبلدان الغنية هي استعمار باللون الأخضر» المنشور في مجلة «السياسة الخارجية»، والذي كتبته فيجايا راماشاندران، مديرة قسم الطاقة والتنمية بمعهد بريكثرو.

بينما قد تمثل النرويج حالة شديدة الوضوح، إلا أن عشرين بلدًا آخر قدمت قراراتٍ مشابهة في مؤتمر الأمم المتحدة الـ26 للتغير المناخي، من أجل وقف «التمويل الموجه لمشاريع تطوير الوقود الأحفوري حول العالم»، وفقًا لما جاء في صحيفة الجارديان. بالنسبة لتلك البلدان، تعد مفاوضات التغير المناخي طريقًا مناسبًا للإبقاء على وضعها المهيمن على الطاقة، بينما تتملص من ناحية أخرى، ليس فقط من التعويضات المناخية، بل أيضًا من تقديم التمويل للبلدان الأشد فقرًا، التي تحاول توفير حد الكفاف من الطاقة لشعوبها.

يبدو جليًا أن أي بلد في هذا العالم لا مستقبل له إذا لم يوقف انبعاثات الغازات الدفيئة المستمر. لكن إن لم تجد البلدان الغنية هي الأخرى سبيلًا للبلدان الفقيرة لتلبية الحد الأدنى من احتياجاتها من الطاقة، فسوف تشهد انهيار مساحات شاسعة من بلادها. فهل من المعقول الاعتقاد بأن بلدان إفريقيا جنوب الصحراء يمكن أن تستمر في العيش على نسبة واحد إلى تسعين من استهلاك الطاقة في الولايات المتحدة، من دون أن تقع عواقب تطال جميع البلدان؟

قد يعتقد رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي وأتباعه أن الهند في طريقها لأن تصبح بلدًا متقدمًا، أو حتى قوة عظمى. أمّا الحقيقة، فهي أن نصيب الفرد من استهلاك الكهرباء في الهند أقرب ما يكون إلى إفريقيا منه إلى الصين أو نادي البلدان الغنية؛ أي الولايات المتحدة والمملكة المتحدة وبلدان الاتحاد الأوروبي. إن التصدي لتغير المناخ من دون عدالة الطاقة ما هو إلا نسخة جديدة من الاستعمار، حتى وإن اكتسى بالأخضر. وقد وصفت راماشاندران هذا الأمر على حقيقته، حين كتبت أن «السعي لتحقيق طموحات مناخية على حساب أفقر شعوب العالم لا يعد نفاقًا وحسب، بل إنه استعمار أخضر غير أخلاقي وغير عادل في أقبح صوره».

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية