في مواجهة التغير المناخي: من يدفع الفاتورة؟

الثلاثاء 10 آب 2021
حرائق الغابات في تركيا
طائرة هليكوبتر تلقي المياه على حريق في إحدى الغابات بتركيا، في 6 آب 2021، تصوير ياسين أكغول، أ ف ب.

من الآمن القول إن هذا الصيف لا يمر كغيره حتى الآن. فاليوم، نجد أنفسنا أمام عدة تحديات دفعة واحدة، إن كانت عالمية كظهور متحور دلتا من فيروس كورونا المستجد، أو إقليمية كالأحداث الأخيرة التي جرت في فلسطين وتونس، ليستحق، وفقًا للأعراف الصحفية، لقب الصيف الحار. وفي الحقيقة، فإن هذا الوصف لا ينحصر فقط بعالم الصحف، ويبدو أنه ينطبق حرفيًا على المناخ أيضًا. فمع تسجيل عدة دول لدرجات حرارةٍ قياسية وظهور قبب الحرارة، أو تسجيل نسب هطولات أمطار قياسية في بلدان أخرى، يبدو أننا أمام أعراض مشكلةٍ غير مفاجئة، تُركِت سابقًا لأجيال اليوم لتعالجها مع نسب نجاحٍ لا تلبث أن تضيق عامًا تلو الآخر. 

قد يكون التركيز، لشتى الأسباب، منصبًا على دول الشمال العالمي في هذا الشأن، سواء كان على الوفيات في كندا وانقطاعات الكهرباء في نيويورك والفيضانات في ألمانيا وبلجيكا، إلا أن العواقب لم تكن محصورة ببقعة جغرافية واحدة، ففي نفس الفترة الزمنية، تعاني الصين من فيضانات تاريخية، بينما تندلع الحرائق في عدة دول في المنطقة كلبنان وتركيا والعراق، التي سببت درجات الحرارة القياسية فيه انقطاع التيار الكهربائي. وفي فتراتٍ كهذه، بينما يتعاظم الحديث عن الحلول المستعجلة لتدارك ما يمكن تداركه وتحديد مسببات المشكلة الرئيسية، فإن الخروج برؤيةٍ موحدة للحل لا يزال أمرًا عسيرًا لتشابك هذه المشكلة وتداخلها مع مجمل جوانب حياتنا، إلا أن ذلك لا يمنع بأي حال انتباهنا إلى بعض هذه الأطروحات، وعلاقتها بالتحديد بنا كأبناء وبنات الجنوب العالمي وما تفترضه منا. 

بالسيف، وبالقلم

نشرت جامعة «ديوك» الأمريكية مؤخرًا ورقةً بحثية حول المطابخ التقليدية، التي تعتمد على حرق الأخشاب، في منطقة جنوب الصحراء الكبرى في إفريقيا، وكيف يمكن لاستبدال هذه التقنية التقليدية بأخرى صديقة للبيئة أن تخفف من انبعاثات الكربون، لافتةً النظر إلى أن انبعاثات الكربون من دول تلك المنطقة مجتمعةً تقارب تلك التي تنتجها دولة أوروبية متوسطة الحجم. 

نالت الدراسة انتقاداتٍ لا بأس بها، تراوحت بين الجدوى من تركيز الاهتمام اليوم على منطقة ليست الأكثر تهديدًا لكوكب الأرض، وفقًا للدراسة ذاتها، ولأسباب تعلّقت بخلفيات الباحثين وإن كان بعضهم ينتمي لتلك المنطقة أم لا، ووصلت إلى التساؤل عن جهود جامعة ديوك نفسها في الحد من انبعاثات الكربون فيها. ما يهمنا، من هذه الانتقادات، هو أولها أو تلك المتعلّقة بالسؤال البسيط الآتي: من يجب أن يتحمل التكلفة الأعلى التي سترافق تغيير العادات وسبل العيش لإنقاذ ما يمكن إنقاذه اليوم؟  

ليست بعض «الدراسات» وحدها مسؤولة عن اقتراح الإجابات لهذا السؤال، عبر المعرفة التي تنتجها، بل ثمة شق سياسي يقترح إجاباته هو الآخر. اليوم، يُصنَّف الاعتماد على الوقود الأحفوري المسبب الأول للتغير المناخي في العالم، باعتباره المسهم الرئيسي في إصدار غاز ثاني أكسيد الكربون. ومع التوقف الذي فرض على حياتنا بداية انتشار فيروس كورونا المستجد، كان من الطبيعي أن تتوصل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية خلال تأمّلاتها حول البيئة في ظل الجائحة إلى خلاصات مهمة نهاية العام الماضي، مفادها أن قطع الدعم الحكومي عن المحروقات سيشكل خطوة مهمة على طريق بناء مستقبلٍ أكثر استدامة، مثلما دعت جهات أخرى كصندوق النقد الدولي سابقًا.

ثمة ما يثير الشك، حين تتبنى جهة مثل صندوق النقد الدولي خطابًا أخلاقيًا كهذا، بسبب تاريخها الحافل بالإصلاحات الهيكلية وما خلّفته علينا من أزماتٍ عادة. إضافةً إلى كون مصطلح «قطع الدعم» فضفاضًا، يشمل أشكالًا من الدعم للمستهلكين وللمنتجين ويرتبط بعوامل أخرى كالصحة والبيئة. لذا، يبدو من المنطقي لنا تجاوز الجزء السردي والانتقال فورًا إلى الأرقام، حيث يكمن جزءٌ آخر من الحقيقة.

الدول النامية، الأسهل تأثرًا برفع الدعم عن المحروقات، هي ذاتها الأقل تسجيلًا لانبعاث ثاني أوكسيد الكربون، بينما تتصدر الدول الصناعية الترتيب.

أنفقت دول مجموعة العشرين قرابة 170 مليار دولار من الأموال العامة على قطاعاتٍ متعلقة بالوقود الأحفوري منذ بداية العام الماضي حتى شهر آب منه، على شكل شراء أسهم وحصص في شركات الطاقة لإنقاذها، وعبر القروض والإعفاءات الضريبية. إن هذا الرقم يشكل انخفاضًا مقداره 9% فقط مقارنةً بالفترة بين عامي 2014-2016 ما يجعله يصنف ضمن الجهود غير الكافية، خصوصًا حين يُعزى جزء من هذا الانخفاض إلى انخفاض أسعار الوقود عالميًا، لا إلى الجهود المبذولة في هذا الاتجاه وحسب. أكثر من ذلك، استفادت شركات الطاقة الكبيرة في دولة مثل الولايات المتحدة الأمريكية مما يفوق الـ 8.2 مليار دولار على شكل تسهيلات ضريبية، كحزمة مساعدات متعلقة بفيروس كورونا المستجد، لتقوم بعد ذلك بتسريح لما يقارب 16% من قوتها العاملة بأي حال.  

أمّا في منطقتنا، فإن تخفيض النفقات المتعلقة بقطاع الطاقة عَنى غالبًا رفع الدعم المباشر أو زيادة أسعار المحروقات، وما يخلفه ذلك من آثار على الاقتصاد. ففي عام 2013، أعلن الرئيس السوداني حينها عمر البشير رفع الدعم بمباركة صندوق النقد الدولي نفسه، معتبرًا الخطوة شيئًا لا بد منه، لتجابه الخطوة باحتجاجات شعبية في عدة مدن. وفي 2018 كان رفع الدعم عن سعر الخبز هو ما أشعل الاحتجاجات التي أدت إلى خلعه قبل عامٍ ونصف، واليوم فإن لجوء الحكومة الجديدة إلى ذات السياسات فيما يتعلق بالمحروقات تحديدًا أشعل الاحتجاجات مؤخرًا. شهدت مصر هي الأخرى نصيبها من ذلك، على إثر قرارات لرفع الأسعار في 2014 و2018. أما في لبنان، فإن انقطاع المحروقات ورفع سعرها يُدخِل الدولة في مزيد من الفوضى وتصل آثاره إلى قطاعاتٍ أخرى كالصحة. 

لا يمكن فهم السخط الذي يرتبط بارتفاع أسعار المحروقات دون ربطه بالانعكاسات على الاقتصاد، فحالما ترتفع أسعار المحروقات تزداد نسب التضخم، وترتفع أسعار المواد والحاجات الأساسية ما يضيف مزيدًا من الصعوبات المعيشية على مجتمعات مثقلة بها أساسًا، ويضرب بنيانها الاجتماعي بحد ذاته.

وليست آثار رفع أسعار المحروقات في دولٍ ذات اقتصادٍ هش محصورةً بالصعوبات المعيشية، بل يُحذَر من عواقبها البيئية أيضًا، بسبب اللجوء إلى مشتقات غير آمنة، لكن أرخص ثمنًا وأكثر ضررًا على البيئة، لعدم توافر البدائل في هذه البلدان غير الجاهزة من حيث البنية التحتية للانتقال نحو مصادرٍ أخرى، ما يصعب إيجاد المنفعة من سياسات كهذه، خاصةً حين تكون الخطط البديلة وما سيتم تنفيذه بهذه الميزانيات «الموفرة» غير واضحة، وباعتقاد البعض أنها غير موجودة. 

تكمن مفارقة أخرى في كون الدول النامية، الأسهل تأثرًا برفع الدعم، هي ذاتها الأقل تسجيلًا لانبعاث ثاني أكسيد الكربون، بينما تتصدر الدول الصناعية المراتب. ولكي تكتمل الصورة، علينا أن ننظر إلى كون هذه الدول الأقل إحداثًا للضرر هي ذاتها التي ستتحمل النتائج قبل غيرها، لكون معظمها دولًا ذات مناخ حار أساسًا، ولاعتمادها على قطاعات حساسة في ما يتعلق بالمناخ كالزراعة والسياحة، ما سيهدد الأمن الغذائي بشكلٍ مباشر لهذه الدول واقتصادها بسبب انخفاض الصادرات، حيث يصعب عليها تطوير محاصيل مقاومة للجفاف بسبب فقرها العلمي. 

التنمية ضد البيئة؟

ليس النقاش السابق في معظمه إلا جزءًا من سؤال أكبر، عن التنمية وارتباطها بالهمّ البيئي اليوم. وبالنسبة لسؤال عالمي كهذا، فإن الدول النامية تجد نفسها حتى اللحظة في موضعٍ حرجٍ منه. فحالما يبدأ الاعتراف بوجود مشكلة بيئية –وهي مسلّمة تحظى بإجماع الغالبية العظمى اليوم باستثناء قلّة يمينية تنكر خطرها- يبدأ البحث عن الحل، الذي مهما تنوعت أشكاله سيتضمن بالضرورة «مسببًا» لما يجري، سواء كان النوع البشري بحد ذاته أو جزءًا من هذا النوع وسلوكياته، وبالتالي طريقة لإيقاف هذا المسبب أو تغيير نهجه، وهنا تتشعب الأمور قليلًا، تبعًا للاختلافات في المصالح والأيديولوجيا.

فبالنسبة لعالمٍ مثل جاريت هاردين وما يمثله، يبدو الجنوب العالمي المسبّب الرئيسي لاختلال التوازن البيئي. ورغم أن كثيرًا من المدارس تنظر إلى سلوكيات وأنماط المعيشة في الدول الأكثر ثراءً باعتبارها المسبب الرئيسي للمخاطر البيئية اليوم، كان هاردين يرى في فقراء العالم مصدر الخطر الحقيقي ويعتبر سرعة تكاثرهم مهددًا للكوكب ولثروات العالم الأول بنفس الوقت، عاكسًا رؤية غربية شائعة عن الأحقية بالموارد وتناسي أصلها وطريقة تراكمها.

فوفقًا لهاردين، تبدو جودة الحياة قيمة ثابتة، بحيث يتطلب تحسينها في مكانٍ ما تخفيضها في آخر، عكس كثيرٍ من علماء البيئة الذين يؤمنون باستراتيجية تنمية تلائم الجميع. إن العجز عن تصور أي مستقبلٍ أفضل، مع النظر إلى «الدول الفقيرة» بوصفها معطيات ثابتة محكومة بالنمو المتسارع والشروط السيئة التي تدفعها نحو التهلكة جارّة معها بقية دول العالم، دون أي اعتبارٍ لأسباب ذلك أو علاقة حالها بحال الدول المتقدمة اليوم وأفق التغيير في المستقبل، دفع هاردين للنظر إلى الكوكب بوصفه قارب نجاةٍ لن يتسّع للجميع، وفي مقالةٍ له نجد اقتباسًا كهذا: «يستهلك كل مولود من كل مكونات البيئة: الماء والهواء والغابات والشواطئ والحياة البرية والعزلة والمشاهد. من الممكن أن يزداد إنتاج الغذاء ليوافق طلب النمو. لكن ماذا عن الشواطئ النظيفة والغابات غير المدنسة والعزلة؟ سينخفض تزويدنا من الموارد الأخرى للشخص الواحد إذا قمنا بتوفير الحاجة الغذائية للسكان».

يبدو حرص هاردين جليًا على الكوكب وعلى موارده، لا بوصفه مكانًا نتشاركه مع أنواعٍ أخرى أو إرثًا مشتركًا، بل بالفعل قاربًا يجب أن يكون بأفضل حالٍ ممكنة ليحافظ على حيوات فئة معينة من البشر، مهما اقتضى الأمر ومهما كانت السبل لتحقيق ذلك، وليس في ذلك مبالغة لعالم بيئة يقترح صراحةً رهن المساعدات الغذائية بتعهدٍ بالكف عن التكاثر. 

وإذا ما كان هاردين يرى هذا الجنوب محكومًا بمسارٍ نهايته هي الفناء، فإن ثمة نظرات أخرى، أقل عدائية في الظاهر، لكن متفقة مع فكرة سكون وثبات الجنوب، وبالتالي الموقع من أي حلٍ مفترض. يرى دوغلاس والدو وآلان باركس، أن الهمّ البيئي، بعد أن بات بندًا سائدًا في السياسة داخل الدول الصناعية منذ سبعينات القرن الماضي، لا يزال حكرًا على المنظمات الأجنبية غير الحكومية داخل الدول النامية، حيث تتصارع فيما بينها لتسيّد المشهد البيئي، وتحاول جسر الخلاف بين التنمية التي باتت قضية العالم الثالث والبيئة التي تُعد مشكلة عالمٍ أول.

في هذا الشأن، يشير أندري تشامبرز إلى مجموعة من الأطروحات التي كانت «مجموعة العمل على التغير المناخي والتنمية» قد نشرتها، وهي تحالف يضم أكثر من عشرين منظمة بيئية، من بينها منظمة السلام الأخضر (غرينبيس). ويعيب على هذه الأطروحات في الواقع شيئًا واحدًا، وهو موقفها من التحديث في الدول النامية. فوفقًا لهذه الأطروحات، يكمن الجزء الرئيسي من المشكلة في التحديث والتنمية «الغربيين»، اللذيْن يتناقضان مع الطابع التقليدي البسيط و«الأصيل» لمجتمعات تلك الدول الذي يستحق الإشادة. ثم تأتينا الخلاصة ومفادها أن الجنوب العالمي يتحدى السيرورة الغربية للتطور ويجب «الحفاظ» على حالة أصالته، متناسيةً بكل بساطة مصير هذه الدول في حال وقعت الكارثة.

صفقات التبادل التجاري بين العالمين الأول والثالث حُكِمت بعدم التكافؤ تاريخيًا، ولا تزال في وضعها هذا من الناحية البيئية أيضًا.

ولمّا كان من الطبيعي مساءلة المسار التاريخي الذي سلكته الدول المتقدمة والوقوف عند مراحل معينة منه، إلا أن هذا الطرح الرومانسي، كما يصفه تشامبرز، وهذه الطريقة بمدح «الأصالة» يسبكان هذه الدول بطابعٍ ثابت، الأمر الذي يختلف كل الاختلاف عن الخروج بمسارٍ تاريخي مغاير أو الحق بتقرير المصير لأصحاب العلاقة أنفسهم والسيرورة التي يطمحون للمضي فيها، ويصبح بموجبه التطور أيًا كان سمة غربية -وإن كانت أشبه بخطيئة وفقًا لهذا الطرح- وكأن القلب للشرق (أو الجنوب) والعقل للغرب. 

علاوة على ذلك، تحاول هذه المنظمات -مع حكومات بلدانها أحيانًا- التدخل في الشؤون التجارية لهذه الدول. إذ يشير والدو وباركس إلى أن صفقات التبادل بين العالمين الأول والثالث، التي طالما حُكِمت بعدم التكافؤ تاريخيًا، لا تزال في وضعها من الناحية البيئية أيضًا، حيث تُقيّد الدول النامية ببنودٍ اجتماعية وبيئية تضمن أخلاقية منتجاتها، أو طرق استخلاصها، لكي تصل أسواق العالم الأول، الذي تحظى شركاته العابرة للجنسيات بدخولٍ يسيرٍ إلى أسواق وموارد الدول الأفقر، ومع آثارٍ كارثية على بيئة هذه الدول.

ولنفهم ذلك، علينا النظر إلى «حرب التونا» كما تسمى، بين الولايات المتحدة ودولٍ عدة على رأسها المكسيك وفنزويلا وبنما ودول أخرى. فمنذ إقرارها قانون حماية الثدييات البحرية عام 1972، عملت الولايات المتحدة عدة مرات على منع استيراد سمك التونا من هذه الدول، بسبب طرق صيدها التي تهدد سلامة الدلافين. أحالت المكسيك القضية حينها لمنظمة التجارة العالمية، ووفقًا لقوانين الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة، عدّ الأمر بمثابة فرض الولايات المتحدة الأمريكية سياسةً داخلية على بلدان أخرى ومخالفًا للقانون، ومرّ بعدة محطات قبل أن تنتهي الجولة الأخيرة لصالح الولايات المتحدة مؤخرًا.

لا شك أن عملية الإنتاج مهمة بقدر المنتَج، وبأن الحفاظ على التوازن البيئي مسألة تستحق الاهتمام، بما يتطلبه ذلك من تطويرٍ وتحسين لطرق الصيد بحيث تتجنب الإخلال بالتنوع الحيوي في تلك المنطقة دون الإضرار بمن يعتاشون من الصيد. لكن المشكلة تكمن في عدم تكافؤ العقوبة، فقبل حرب التونا وحتى يومنا هذا تعاني منطقة غربي المحيط الهادئ من آثار تلوثٍ بيئي هائل، قام الصحافي الاستقصائي الويلزي جون ميتشل بجمع تفاصيله العام الماضي في كتابه «تسميم المحيط الهادئ»، الذي وضّح فيه حجم الكارثة التي لا تزال تهدد سكان تلك المنطقة بفعل المواد النووية والأسلحة الكيميائية والمبيدات التي جرّبتها الولايات المتحدة هناك أو قامت بدفنها، وتسربت إلى التربة والمياه، مهددة كل أشكال الحياة هناك. وباستثناء بعض محاولات التعويض المادي للمتضررين، فإننا لم نلحظ شكلًا من أشكال العدالة الدولية، وعلى النقيض، افتتحت الولايات المتحدة قاعدة عسكرية في غوام، لأول مرة منذ عام 1952.

يبدو عدم التوازن الذي يميّز العلاقات الدولية حاضرًا في المسألة البيئية أيضًا إذن. وعندما نحاول تتبعه، لن نصطدم بالضرورة بالمشتبه بهم الاعتياديين وحسب، من شركات متعددة الجنسيات لا تلقي بالًا للبيئة أو حكومات ذات سياسات خارجية شديدة العدائية ولن يكون موضوعنا متعلّقًا بالماضي السحيق فقط (باعتبار أن الحقبة الاستعمارية تعد بالنسبة للبعض مرحلة مهمة لفهم المشاكل البيئية المعاصرة، مع الظهور الأول لمصطلح «تسليع الطبيعة»)، بل سنواجه أيضًا منظمات غير حكومية معنية بالبيئة كما رأينا، وبدولة احتلال تحاول غسْل صورتها خُضريًا، وقد نجد أنفسنا أمام ما يبدو أنه مصادر طاقة نظيفة متورطة أيضًا بقليل من البحث. 

فاليوم، ضمن الجهود الجادة والملتزمة لمحاربة التغيّر المناخي وبعد إثبات العلاقة بين «المسؤولية الاجتماعية» على صعيد الشركات والقوة التسويقية لها، عكفت معظم الشركات الكبرى على الالتفات نحو بصمتها الكربونية، كواحدة من قضايا عدة باتت موضع اهتمامٍ جديد. لذا تقدم اليوم بعض الشركات الأوروبية على الاستثمار في مساحاتٍ خضراء في الدول النامية، من شأنها توفير صكوك غفرانٍ للشركات والأعمال الأخرى التي تكون مسؤولةً عن انبعاث الكربون لموازنة سجلات انبعاثاتها. أمامنا الجيل التالي من الأعمال، تلك التي تنتهج نهج المسؤولية الاجتماعية في عملها وتربح وتنال التقدير على ذلك. 

وحقيقةً، يحدث ذلك أحيانًا عبر تكلفةٍ باهظة. إذ يشير تقريرٌ أعده معهد أوكلاند حيال هذه الظاهرة إلى الوجه الخفي لهذه الممارسة الطيبة ويركز بالتحديد على شركةٍ نرويجية اسمها «الموارد الخضراء» التي قامت بموجب اتفاقيات مع حكومات أوغندا وتنزانيا وموزمبيق بالاستيلاء على عشرات الآلاف من الهكتارات في هذه الدول، مهددةً حيوات السكان الحقيقيين هناك ونشاطاتهم اليومية.

وبينما يرحب كثيرون اليوم بالصفقة الجديدة الخضراء كإحدى أبرز السياسات التقدمية اليوم، ثمة مخاوف مشروعة من آثار هذا المشروع على الدول الأخرى، كي لا يتحول إلى مشروعٍ «بيئي كولونيالي»، وما علينا سوى أن نتذكر أن محطة نور للطاقة الشمسية في المغرب، والتي تزوّد أوروبا اليوم بالطاقة النظيفة والفخر بدورها في إنقاذ الكوكب، تقع في القارة التي يتمتع أقل من 50% من سكانها بالكهرباء. 

ما العمل؟

رغم كل التحذيرات التي تتنبأ بأن آثار السقطة لن تكون متساوية في نصفي الكرة، وبأنها قد لا تصيب الجميع دفعةً واحدة، إلا أن ذلك لم يعنِ أن سكان العالم الأول أنفسهم لم يستشعروا الخطر أيضًا، أو أن جمعهم في ذات الخانة ممكن، باختلاف مكوناتهم وطبقاتهم. إذ كانت احتجاجات الستر الصفراء، في الجوهر، متعلقةً بالسؤال ذاته؛ هل تقع مسؤولية إنقاذ الكوكب على عاتق دافع الضرائب الاعتيادي عبر ضريبة وقودٍ إضافية؟ الأمر ذاته حين ننظر إلى هرب السيناتور الأمريكي تيد كروز من ولايته تكساس مطلع العام الحالي بسبب ظروف الجو القاهرة تاركًا من لا يستطيعون الهرب وراءه، أو حين تفادى أثرياء العالم جائحة كورونا بالطائرات الخاصة بعيدًا عن مدننا المزدحمة. 

هنا، تبرز أهمية العنصر «السياسي» في الحل، بمعنى اشتباكه مع مكونات السلطة والقوة، من نخب حاكمة أو أعمال كبيرة، وتحويل الهم البيئي إلى قضية عامة، دون أن تبدو قضية عالمٍ أول أو «برجوازية تقدمية» لما في ذلك من مقتلٍ لها، ولأنها في المقام الأول مشكلة سياسية بالفعل. وفي عالمٍ يُتوقَع له أن يشهد مزيدًا من انعدام المساواة في المستقبل، يبدو الذنب هو الشيء الوحيد الذي يتم تعميمه علينا اليوم، وهو فخ تقع ضحيته بعض الجهات المناصرة للبيئة أو قضايا أخرى، حين تحوّل صراعها صوب مجتمعاتها، بدلًا من الطبقات المهيمنة، أو حين تصبح عملية إنقاذ الكوكب مشكلة أنماط حياة، ملعبها هو التوقف عن استخدام المصاصات البلاستيكية، أو بعض الخيارات الفردية الاستهلاكية، وخطاب أخلاقوي لا يطرح برنامجًا. والواقع أن الهوة التي نشأت مع جائحة فيروس كورونا وطريقة توزيع اللقاحات تثبت لنا وهم الخيار الفردي في حل مشاكل كبرى كهذه. 

في مقالةٍ نشرت منذ أيام، تساءل المفكر السلوفيني سلافوي جيجيك إن كانت اللحظة مواتية لإيجاد حل لهذه المشكلة، أم أن الوقت تأخر وبات الانتحار الجماعي غير المؤلم أفضل حلٍ واقعي ينتظرنا. يقول جيجيك إن الحل يبدأ بالاعتراف بمكانتنا ضمن هذا النظام البيئي بوصفنا إحدى الأنواع الحيّة من جهة وما يسميه مدراء الحياة ضمن هذا النظام من جهة أخرى، عكس ما يقوله أنصار علم البيئة المتقدم أو الإيكولوجيا العميقة. مع هذا الاعتراف، يبدأ البحث عن الحل، الذي سيتطلب منا البحث عن بدائل جديدة وخوض اختبارات للأدوات التي نملكها، وسيستند وفقًا لجيجيك إلى تعاونٍ وتضامن دوليين، لا إلى هيمنة من طرفٍ على آخر، وإلى برامج ضمان تمنع حدوث انفجارات اجتماعية عوضًا عن مزيد من الخصخصة والإفقار وإلى تحكمٍ بالأسواق، والأهم إلى أن تكون خطة الإنقاذ هذه تشاركية، تتيح للناس الاعتياديين فرصة تقرير مصيرهم في تحدٍ كهذا دون استعلاء أو إملاء.

تمّ إنتاج هذا المقال بدعم ماليّ من مؤسّسة هينرش بُل – فلسطين والأردن. الآراء الواردة هنا لا تعبّر بالضرورة عن رأي مؤسّسة هينرش بُل.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية