«فوضى وقايمة»: الجرافات تكشف آثارًا رومانية في وسط البلد

جدار الحمام ينخفض سنتيمترات قليلة عن إسفلت الشارع، في الموقع الأثري المكتشف. تصوير عمّار الشقيري.

«فوضى وقايمة»: الجرافات تكشف آثارًا رومانية في وسط البلد

الإثنين 28 كانون الأول 2020

في 10 كانون الأول أعلنت دائرة الآثار العامة العثور على بقايا أثرية، تبيّن أنها جزء من حمّام روماني، في شارع الهاشمي بوسط البلد في عمّان، أثناء عمل الجرافات على تنفيذ مشروع العبّارة الصندوقية أمام دائرة المكتبات العامة.

ينخفض الجزء المكتشف من الآثار سنتيمترات قليلة عن أسفلت الشارع، حتى إن تمديدات المجاري والكهرباء كانت تقع أسفل بعض حجارة الأثر المكتشف، أي أن أعمال الإنشاءات كانت بالفعل قد وصلت من قبل إلى هذه الآثار.

دفنت الأبنية التي أقيمت أوائل وأواسط القرن الماضي معالم أثريّة في وسط عمّان، وما زالت بعض أعمال البنى التحتية، التي توسعت في النصف الثاني من نفس القرن، تدفن معالم أثريّة أخرى في المدينة. ونظرًا لعدم التنسيق الدائم بين دائرة الآثار العامة المعنية بالحفاظ على الموارد الأثرية، وأمانة عمّان منفذة مشاريع البنى التحتية في المنطقة، فكثيرًا ما كشفت الجرافات العاملة في هذه المشاريع عن بعض الآثار، ما دفع دائرة الآثار لتنفيذ ما يسمى بمشاريع التنقيب الإنقاذية، أي التنقيب في المواقع الأثرية المهددة جراء الأعمال الإنشائية، وتوثيق الآثار بالرسم والتصوير، وتحديد حقبتها الزمنية، ثم طمرها.

يبحث هذا التقرير في أهمية الآثار المكتشفة مؤخرًا، وخيارات التعامل معها قانونيًا وفنيًّا، بالإضافة إلى احتمالية وجود آثار أخرى بالقرب منها، وكيفية التعامل خلال السنوات الماضية مع مثل هذه الآثار.

هل هناك آثار أخرى؟

أقام الإنسان القديم حيث يجري الماء، وشهدت عمّان بسبب وجود نهرٍ فيها عُرف قديمًا باسمها، ثم باسم «السيل»، وجود الإنسان القديم. يمتد هذا النهر/ السيل «من رأس العين [حيث] تبدأ الخطوات الأولى للرحلة [رحلة النهر] مستقبلًا في رحلته كمًا متزايدًا من المياه التي ترفده من الينابيع الكثيرة على جانبيه، ويواصل النهر رحلته إلى أن يلتقي بنهر [سيل] الزرقاء».[1]

يعود أشهر أثر مكتشف لموطن الإنسان في مجرى هذا السيل إلى العصر الحجري الحديث، وهو موقع عين غزال (8500-4500 ق.م). توالت الحضارات التي شيّدت معالمها في المنطقة، وكان بينها فيلادلفيا، إحدى مدن الديكابوليس العشر الرومانيّة التي بنيت حول السيل؛ إذ صمّم الرومان مدينتهم ووضعوا شارعها الرئيسيّ بالقرب من مجرى السيل، وضمت المدينة المسارح (الأوديون) والمدرجات (الروماني) والمعابد (القلعة). وكانت الحمّامات مثل سبيل الحوريات[2] من أبرز معالم هذه المدينة.

سبيل الحوريّات حين كان مأهولًا بالسكان من الشراكسة (1898-1914 م) المصدر: الباحث محمد رفيع.

لم تكن الحمامات الرومانية للاستحمام فحسب، إنما ألحق بها مبانٍ مختلفة لتكون «مركزًا للتدريب البدني والرياضي والاجتماعات العامّة والخاصة وإلقاء والمحاضرات».[3] وتتكون هذه الحمّامات من مكان خلع الملابس، والحمّام البارد، والدافئ، والساخن، ومكان تسخين الماء، بالإضافة إلى ذلك، جاور هذه الحمامات منشآت آخرى مثل حوانيت بيع مستلزمات المستحمين من صابون وغيره.[4]
أوائل شهر كانون الأول، و
أمام دائرة المكتبات العامة التابعة لأمانة عمّان، في شارع الهاشمي، أثناء عمل الجرّافات على توسيع العبّارة الصندوقيّة لتفريغ مياه الأمطار، عُثر على جزء من هذه الحمّامات الرومانية، بالإضافة إلى تمثالين رومانيين دون رأس.

وفقًا لعمّال في مشروع العبّارة الصندوقيّة، فإن أول ما كشفته الجرافات، خلال عملها على بعد أمتار من الموقع المكتشف، كان حجارة شبيهة بحجارة جدار الحمّام، حيث كانت تظهر أثناء الحفر ويعاد طمرها.

ليس الأثر المكتشف حديثًا منفصلًا عمّا في المنطقة من آثار أخرى، إذ يبعد نحو 300 متر عن سبيل الحوريات، و120 مترًا عن المدرج الروماني و200 متر عن مسرح الأوديون. وقد لا يكون منفصلَا كذلك عن آثار مجاورة يتوقع خبراء أنها ما زالت غير مكتشفة، وهو ما ينسجم مع استخدام دائرة الآثار عبارة: ما عُثر عليه «حتّى الآن»، في ردّها على أسئلة حبر حول الأثر المكتشف.

محيط المدرّج الروماني قبل ترميمه (1900-1920 م) المصدر: الباحث محمد رفيع.

يتوقع مدير آثار العاصمة الأسبق، أديب أبو شميس، أن يكون هناك امتداد للحمّام المكتشف بسبب وجود نمط العمارة نفسه في مدن رومانية أخرى في إيطاليا مثلًا. ويروي ما جرى قبل سنوات على بعد أمتار قليلة من الموقع المكتشف مؤخرًا: «الجانب الشمالي للشارع الروماني قريب من الموقع، ورا الدكاكين، وين جامع الشركس؟ هناك. طلع عندي رصيف الشارع الروماني الغربي، [و] نقش (..) لقائد عسكري في الحملة الرومانية». بحسب أبو شميس أخذت دائرة الآثار العامّة النقش المكتشف، بعد توثيقه وتصويره.

بالإضافة إلى التمثالين والجزء المكتشف من الحمّام، عُثر في الموقع على فخّاريات تعود للعصر البيزنطي والإسلامي، وفقًا لمصادر عملت في التنقيب -فضّلت عدم ذكر اسمها-، وهو ما أكّدته دائرة الآثار العامّة لنا، إذ استُخدمت حجارة معالم المدينة الرومانية في بناء معالم من عصور لاحقة.

كيف طُمرت هذه الآثار؟

حتى بدايات القرن الماضي كانت الحجارة الأثرية، وبلاط الشارع الروماني الذي أقيمت عليه هذه الحمّامات ظاهرةً للعيان كما عاينها البريطاني لانسكتر هاردنج، مدير دائرة الآثار العامّة في الفترة بين 1936-1956، «أُدخلت جوانب منه [الشارع] في منازل بعض الأهلين (..) وكانت عمّان -كغيرها من المدن الرومانية- تضم شارعًا مبلطًا تحيط بجوانبه الأعمدة، وكثيرًا ما عثر السكّان على مساحة صغيرة من حجارة التبليط الفخمة أثناء قيامهم بأعمال الحفريات».[5] كما ظهرت التجمعات السكانية العشوائيّة في المنطقة، ولم يكن لدى الأمانة نظام تنظيم للأبنية حتى العام 1965.

آثار أسنان الجّرافة على بداية جدار الأثر. تصوير عمّار الشقيري.

عندما بدأت أعمال البنى التحتيّة في عمان تتوسع أواسط العقد السادس من القرن الماضي، كانت الجرّافات تعمل في مجرى السيل لتشييد مشاريع بنى تحتية، حيث وضعت أمانة عمّان في العام 1965 «برنامجًا متكاملًا لتنفيذ مشروع سقف السيل الذي قدرت تكاليفة بثلاثة ملايين دينار، وهو مشروع استهدف سقف مسافة 10 كيلومترات من (رأس العين) إلى نهاية (حي المحطة) وتحويل هذه المساحة إلى طريق عام ومواقف للسيارات وحوانيت تجارية ومبانٍ سكنية وأسواق وحدائق».[6] وصلت المسافة المسقوفة من المشروع إلى 1300 متر بحلول العام 1969. قامت هذه المشاريع على امتداد السيل، وهُدمت معالم كانت معروفةً في المنطقة مثل بعض الجسور التاريخية.

دفَنت هذه المشاريع بعض الآثار الظاهرة في مجرى السيل، لكن الجرافات التي تعمل فيها كشفت كذلك عن أهمّ المواقع الأثريّة في المملكة، إذ بعد شقِّ أوتستراد عمّان الزرقاء في السبعينيات وافتتاحه، انكشف موقع عين غزال وبدأت التنقيبات في هذا الموقع منذ العام 1982.

وخلال السنوات اللاحقة، ومع التوسع في البنى التحتية والبناء، أرادت أمانة عمان تبليط الساحة المقابلة للمدرج الروماني، وعثر حينها على تمثال عمّوني، فسارعت دائرة الآثار حينها، بحسب أبو شميس، إلى إرسال خبراء لتنفيذ حفرية إنقاذية، تقوم بها عادة عند العثور على آثار أثناء الأعمال الإنشائية، لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الآثار المكتشفة.

يقول المهندس والباحث في تاريخ عمّان محمد رفيع، إن عمان -مثل الكثير من المدن العربية- بُنيت على أنقاض سلسلة مدن أثرية سابقة دون تخطيط أو تنظيم، وإن ما اكتُشف  من مواقع أثرية فرض على أصحاب الأعمال الإنشائية إيقاف العمل لحين تصوير الأثر ثم طمره.

التنسيق مع دائرة الآثار

يشترط قانون الآثار[7] موافقة دائرة الآثار المسبقة قبل استدراج أو تلزيم أو طرح عطاء الخدمات الهندسيّة والتصاميم والمخططات وإعداد وثائق عطاءات المشاريع العامّة والخاصّة. بالإضافة إلى عدم إجازة القانون[8] الترخيص بإقامة أي إنشاء بما في ذلك الأبنية والأسوار، إلّا إذا كان يبتعد عن أي أثر مسافة تتراوح بين 5 أمتار إلى 25 مترًا لقاء تعويض عادل.

بالإضافة إلى التمثالين والجزء المكتشف من الحمّام، عُثر في الموقع على فخّاريات تعود للعصر البيزنطي والإسلامي.

تجيب  دائرة الآثار العامة العامة في ردها المكتوب على أسئلة حبر حول وجود تنسيق بين دائرة الآثار وأمانة عمّان قبل بدء أي مشروع إنشائي بأنه «أحيانًا يكون [هناك] تنسيق». فيما يؤكد الناطق باسم أمانة عمّان ناصر رحامنة وجود تنسيق مع دائرة الآثار منذ البداية حول مشروع العبّارة الصندوقيّة «كان بيننا وبينهم تنسيق قبل الشغل، وهم موجودين أصلًا من أول يوم للعمل، قبل حتّى».

لكن أحداثًا سابقة تشير إلى عدم وجود هذا التنسيق؛ منها ما حدث في موقع عين غزال في منطقة السيل قبل عدة أشهر، عندما كشفت حفريات مشروع الباص السريع أجزاء بعض الآثار من الجهة الجنوبيّة في الموقع الأثريّ، بحسب مصادر، فضّلت عدم ذكر أسمائها، وقد نفذّت دائرة الآثار حفريّةً إنقاذيّة في الموقع، وفي ردها على أسئلة حبر تقول الدائرة إن الآثار المكتشفة جراء حفريات الباص السريع كانت «بقايا طبقات استيطان، وطبقات حرق، وبقايا أرضيّات».

ويقول أحد المصادر عما جرى بعد العثور على هذه الآثار التي تعود إلى أكثر من 7 آلاف سنة قبل الميلاد، وتنتمي إلى الفترة اليرموكية: «رسمناهم، ووثقناهم، وطلّعنا أشياء، وتم إزالة الموقع».

تؤكّد دائرة الآثار أن مدينة عمّان خضعت لمسوحات أثريّة شاملة وأن معظم الآثار موثقةٌ، لكنَّ ما تحت الأرض يصعب توثيقه، بحسبها. فيما يؤكّد أستاذ صيانة وترميم  وتحليل الآثار بجامعة اليرموك، زياد السعد، أن التكنولوجيا الحديثة المستخدمة في الآثار يمكن أن ترسم خارطة كاملة لما تحت الأرض من آثار «ممكن نعرف إحنا إيش الموجود، وعلى أساسه إحنا نتخذ القرارات مش القرارات تكون بالصدفة».

مصير الآثار المكتشفة مؤخرًا

وفقًا لقانون الآثار[9] فإنه يجوز استملاك أو شراء أي عقار أو أثر تقتضي مصلحة الدائرة استملاكه أو شرائه. تمتلك أمانة عمان الشارع الذي عثر فيه على الحمام والتماثيل، وفي هذه الحال تحكم أسس ومعايير تقييم المواقع الأثريّة لغايات الاستملاك، الخيارات المتاحة في حالة اكتشاف موقع أثريّ، التي تبدأ بتقييم الموقع الأثريّ واتخاذ القرار بشأنه، سواء كان «باستملاكه، أو نقله، أو ترميمه، أو تطويره، أو الاكتفاء بأعمال دراسته وتوثيقه ونقله».

يقوم على التقييم لجنة فنية تُشكّل بقرار من مدير دائرة الآثار، ويتم التقييم بموجب أربعة نماذج يضم اثنان منها نقاطًا وعلامات يمنحها أعضاء اللجنة للموقع، ثم تُرفع نتائج التقييم والتوصيات إلى لجنة عليا للاستملاك تُشكل بقرار من وزير السياحة والآثار، والتي تتولّى بدورها البتّ في استملاك أي موقع أثري.

«لا يجوز تدميره [للأثر] لأنه إذا دمر لا تستطيع تعويضه إنما يجب أن يكون هناك حلول هندسية للعبّارة»

وتكون توصيات اللجنة الفنية بحسب العلامات التي حصل عليها الموقع، فتوصي بالاستملاك بشكل عاجل وفوري إذا حصل الموقع على علامة من 85-100%، أو الاستملاك بشكل عاجل أو على مراحل في حال حاز الموقع على 65-84%، وإذا حصل على 50-64% فإنه يستحق الاستملاك لكن يفضل توثيقه وإجراء الدراسات الكافية عليه من خلال أعمال التنقيب العلمي، ثم نقل الأجزاء المهمة منه إلى موقع تقترحه اللجنة الفنية، أما إذا حصل على ما دون 50% فلا ينصح بالسير بإجراءات الاستملاك ويفضل الاكتفاء بتوثيق الموقع وإجراء دراسة شاملة مع أخذ ونقل العناصر المميزة فقط.

ما تزال اللجنة المكلفة بدراسة الموقع تنظر في تحديد مصيره، يقول رئيس اللجنة الفنية زيدان كفافي، لقناة المملكة، إن اللجنة «ليست لها صلاحية اتخاذ القرار، لكنها أوصت بإجراء المزيد من الدراسات (..) لمعرفة فيما إذا كان هناك مزيد من الآثار».

يضيف كفافي بصفته آثاري، وليس رئيسًا للجنة، أنه مع الإبقاء على الأثر واستغلاله لأغراض سياحيّة، متوقعًا أن تحتوي المنطقة على الكثير من الآثار الأخرى، «لا يجوز تدميره [للأثر] لأنه إذا دمر لا تستطيع تعويضه إنما يجب أن يكون هناك حلول هندسية للعبّارة».

فيما يرى السعد أنّ من الضروري لإنقاذ هذه الآثار القيام بمسوحات أثرية منتظمة وسابقة على المشاريع، وليس حسب الحاجة فقط:  «أمّا إنه نتستدعي دائرة الآثار العامة لمّا الجرافة تضرب الأثر ونكتشف إنه في آثار، ونادي دائرة الآثار العامة، مرات بكون الوقت متأخر».

«علميًا ما في شي صعب»، يقول السعد، وهو ما يوافقه عليه مهندس الطرق مهدي نصير، إذ يرى أن الحلول الهندسيّة ليست مستحيلة لكنها صعبة، مثل إنشاء عبّارة زجاجية يمر المارة فوقها والسيارات، وهو ما قامت عليه تجارب عالمية وفقًا للسعد.

أخيرًا، يدعو أبو شميس الجامعات التي تخرّج طلبة الآثار وهندسة العمارة إلى ترتيب زيارات ميدانية إلى هذا الموقع والعمل على دراستهِ «ييجي يتفرجوا، بدناش يرمموا، يشوفوا شو صار، يتعرّفوا على طريقة فنيّة في العمل عشان بلكي يومًا ما فكّروا بإشي [مشروع] عام للناس». ثم يستدرك بعدما يتذكّر الكثير من الإشكاليات التي حصلت خلال السنوات الماضية في التعامل مع الآثار المكتشفة، «المشكلة الواحد ضميره مهزوز، لإنه ما في حدا بدو يشتغل. فوضى وقايمة».

  • الهوامش

    [1] عبد الرحمن منيف، سيرة مدينة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، الأردن، ط1، 1994، ص 127-128

    [2] وفقًا لمشرف ترميم الموقع، م. شان تسي، ااعتبر سبيل الحوريات حمامًا رومانيًا بناءً على مخططه، رغم أنه موصوف من قبل الرحالة على أنه قصر.

    [3] عزت زكي حامد قادوس، مدخل إلى علم الآثار اليونانية والرومانية، الاسكندرية، 2007، الناشر غير معروف. ص 190

    [4] المصدر السابق، ص 192

    [5] لانسكتر هاردنج، آثار الأردن، تعريب سليمان الموسى، منشورات اللجنة الأردنية للتعريب والترجمة والنشر، العددين 1و2،  1965 ص 59.

    [6] محمد رفيع، عمّان وبلديتها في مئة عام 1909-2009. 78، كتيّب غير منشور.

    [7] المادة 13/ج

    [8] المادة 13/أ

    [9] المادة 5، الفقرة هـ

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية