حديقة عامة

الحدائق العامة: لكل العائلة أم للأطفال فقط؟

حديقة الشهيد إبراهيم حرب الرفايعة في صويلح. تصوير مؤمن ملكاوي.

الحدائق العامة: لكل العائلة أم للأطفال فقط؟

الأحد 25 أيلول 2022

بعد ثماني ساعات عملٍ مكتبيّ يوميًا، عادةً ما يذهب كرم عوينات (35 عامًا) إلى حديقة الأميرة رحمة في مدينة الزرقاء، حيث يجلس على أحد الكراسي بانتظار انتهاء طفليه من اللعب على المراجيح والألعاب الأخرى. تبعد الحديقة عن منزله نحو خمس دقائق مشيًا، وفيها بعض الأشجار والمقاعد والألعاب المخصصة للأطفال، من بينها ما هو مكسور.

وباستثناء ألعاب الأطفال، تفتقد هذه الحديقة العائلية للتجهيزات التي قد تساعد مختلف أفراد العائلة، أيًا كانت أعمارهم، على الحركة وممارسة الأنشطة الرياضية، «يا ريت في ألعاب رياضيّة تناسب عمري بدل القعدة طول الوقت»، يقول عوينات.

توجد في عمّان والزرقاء نحو 150 حديقة عامة؛ عشرة منها فقط في الزرقاء و143 في عمّان، بحسب أمانة عمّان وبلدية الزرقاء. لا تخدم كثير من هذه الحدائق مختلف الشرائح العمرية من أبناء وبنات الأحياء التي توجد فيها، فتغيب عنها مسارات المشي والمساحات والأدوات الكافية لممارسة رياضاتٍ بدنية للكبار.

يكون هذا الحال بعدما أعلنت الحكومة سابقًا عن اهتمامها بتحفيز السكّان على الحركة من خلال تخطيطٍ حضريٍ يساعدهم على ممارسة التمارين البدنية، من أجل الوقاية من الأمراض المزمنة، وأبرزها السكري.[1] ولأهمية الأدوار الصحية والمجتمعية للحدائق العامة داخل الأحياء، يُطرح التساؤل حول جودة هذه الحدائق وملاءمتها لمختلف الفئات العمريّة من أجل ممارسة أنشطة ريّاضية مجانية، ما ينعكس على الصحة العامة للأفراد والمجتمع.

«المرجيحة للجميع»

تجلس براءة القواسمة (38 عامًا) على مقعد حديديّ في حديقة الفيحاء في حي الزّواهرة في الزرقاء، وتراقب أطفالها الثلاثة يلعبون مع آخرين على المراجيح والزحاليق. براءة ربة منزل، وقد اعتادت على زيارةٍ أسبوعية لهذه الحديقة الصغيرة، التي تفضلّها على غيرها لقربها من المنزل، فتقضي فيها جالسةً حوالي ساعتين في الاسترخاء أو قراءة كتابٍ إلى جانب مراقبة الأطفال، «بكون دايمًا نفسي أمشي، بس مساحة الحديقة ما بتسمح والشارع مش آمن»، تقول براءة.

عدم تخصيص مساحة للمشي أو ممارسة الرياضة دفع براءة للاشتراك في نادٍ رياضي بشكل منتظم مقابل 20 دينار شهريًا طوال السنوات الثلاث الماضية، وهو التزام يقول العديد من زوّار هذه الحديقة -وغيرها- إنهم لا يقدرون عليه، لأسبابٍ مادية أو لناحية عدم توفر الوقت الكافي للذهاب للنادي الرياضي.

بالمقابل، يقول بسّام الزواهرة، مدير دائرة الحدائق في بلدية الزرقاء، إن البلدية لم تُصمّم الحدائق على أنها مساحة لممارسة المشي، ولم يسبق أن فكّروا بوضع ألعاب قوىً بدنية، إنما كان هدف البلدية يركّز على تأمين الأطفال لا غير، «المتعارف عليه إنه الحدائق للعائلات، بتيجي الأم مع أطفالها، فالتركيز الأكبر على الأطفال».

حديقة الفيحاء في حي الزواهرة في الزرقاء

ينسحب الحال في الزرقاء على كثيرٍ من الحدائق في عمّان. بين الدوّارين الثالث والرابع -مثلًا- تقع حديقة زهران، وهي قريبة من منزل عمر عبيد (42 عامًا) الذي يرتاد الحديقة أسبوعيًا مع زوجته وطفله، ويرى أنها مكان مريحٌ ومتنفسٌ مناسبٌ للعائلة، لكن «ما في أنشطة، ألعاب بدنية للرجال، ولا حتى ألعاب للأطفال» كما يقول، ما جعله من أجل ممارسة الرياضة يعتمد على القفز عن الحبل داخل منزله، إذ يصعب عليه شراء أجهزة رياضية كهربائية أو دفع اشتراك شهريّ لنادٍ رياضي.

يفرّق المدرّب الرياضي زكريا أبو حمادة بين التدريبات البدنية في الحدائق العامة والمراكز أو النوادي الرياضية، فبالإضافة إلى التكلفة، حيث التدريبات في الحدائق مجانية، ثمة اختلاف في الأهداف المرجوّة في الحالتين، فغاية التدرّب في الحدائق هو تحسين جودة الصحة العامة، بينما يكون التدريب في المراكز فرديًا ومخططًا له، يعتمد على التنظيم والتكرار من أجل تخفيف الوزن -مثلًا- أو تنمية العضلات، «في المراكز بكون لكل شخص برنامج رياضي، بِهتم بتفاصيل العضلات واحتياجاتها وطرق تدريبها»، يقول أبو حمادة.

وهو كذلك يميّز بين الحاجات الرياضية لفئات عمريةٍ مختلفة، فيرى أن حاجة الأطفال تكون لألعاب تمتاز بالمتعة؛ كالمراجيح والزحاليق، بينما يحتاج اليافعون إلى تمارين تركّز على مجموعة عضلية واحدة؛ كتمارين الصدر أو الأكتاف، فيما تحتاج الفئة الشابة إلى تمارين مركّبة تنشّط مجموعات عضلية متعددة في وقت واحد، كتمارين الضغط والقرفصاء.

يضيف أبو حمادة أن لكل نوع من الأنشطة الرياضية نفعًا صحيًا مختلفًا، فالأنشطة الهوائية؛ كالجري والمشي السريع وقيادة الدراجة والقفز عن الحبل، تزيد من معدل التنفس وضربات القلب وتحرق الدهون. فيما تعمل تمارين القوى؛ كرفع الأثقال أو القرفصاء، على تقليل آلام المفاصل وتحسين مستويات السكر في الدم والحفاظ على وزن صحي. كما أن بعض الألعاب تساعد على تقوية العظام وتعزز نموها وتقيها من هشاشة العظام، مثل الركض وكرة السلة وكرة الطائرة.

تتفق سيرين الخوالدة، أستاذة طب المجتمع في الجامعة الأردنية، مع ما ذهب إليه أبو حمادة، قائلةً إن الألعاب البدنية المجانية، أو «الحدايد المثبتة على الأرض واللي ما بتكلف الميزانية شيء»، تشجع الأفراد على ممارسة الرياضة مجانًا، ما من شأنه أن يعزز المناعة واللياقة والقدرة البدنية والتركيز الذهني، وأن يحافظ على معدلات سليمة لضغط الدم والسكري، وأن يجنب الأفراد الاكتئاب والضغط النفسي والكسل والخمول.

لكن الحدائق العامة لا توفّر ما تتطلبه هذه الرياضات. تعتبر أمل عبد، الأستاذة في قسم تخطيط وتصميم المدن في كلية العمارة والتصميم في جامعة العلوم والتكنولوجيا، أن الحدائق العامة الموجودة في عمّان غير فعّالة كما يجب، وأن فيها خللًا من ناحية التخطيط والتصميم، ولا تخدم مختلف الفئات العمرية، كما لا توفّر فعاليات وأنشطة يمكن لكل أفراد العائلة المشاركة بها. وهي ترى أن على الأمانة والبلديات أن يوفّروا، إلى جانب ألعاب الأطفال وملاعب الكرة لليافعين، ألعابًا بدنية تناسب احتياجات مختلف الفئات العمريّة من الجنسين.

حديقة زهران في منطقة الدوار الثالث في عمان

من جهته، يرى ناصر رحامنة، مدير المركز الإعلامي في أمانة عمّان، أن المطلوب من أي حديقة عامة هو توفير متنفّس عائلي آمن، «مش مطلوب مني أعبّي الحديقة مباني وأدوات عشان تصير حديقة» يقول رحامنة، مضيفًا أن حدائق عمّان تتيح مجالًا مفتوحًا آمنًا للعائلات، وتوفّر أنشطة وألعابًا تخدم مختلف الفئات العمرية: «المرجيحة مثلًا موجودة للجميع، بيقدر اللي عمره 50 سنة يلعب عليها مثل اللي عمره خمس سنين، مش محصورة للأطفال».

تختلف رؤية الأمانة والبلديات لوظائف الحديقة العامة عمّا يحتاجه السكان ويحدّده بعض المختصين. من ذلك مثلًا ما اعتبرته ورقة بحثية، صادرة عام 2017، من أن الحدائق العامة هي حدائق «مجتمعية» لها دورٌ أبعد من مجرّد متنفسٍ مريح وآمن، يشمل تحسين الصحة الجسدية والنفسية، وتقوية العلاقات الاجتماعية والروابط بين سكان الحي.

ومع ضرورة توفّر الخُضرة في الحدائق، ترى عبد أنه لا بدّ من وجود مساحات مائية كالمسابح والنوافير، إضافة إلى المسارات المخصصة للمشي والجري وركوب الدراجات، وتوفير ألعاب قوى بدنية لتقوية العضلات «للفئات اللي ما بتقدر تروح على الجيم بسبب التكاليف المادية، بتقدر تلاقي بديل مجاني متوفر في بيئتها القريبة»، فضلًا عن توفير مساحات لما تسميه الرياضة العقلية، كالمكتبات وقاعات المناقشة والحوارات والتنمية الثقافية، مع ضرورة توفير فضاءات تتيح للنساء القيام بأنشطتهنّ الخاصة.

تصطدم السابقة مع أولويات البلديات التي تتمثل في النظافة العامة وتعبيد الشوارع وفقًا لبسّام الزواهرة، مدير الحدائق في بلدية الزرقاء، أما بقية الخدمات فهي «كماليات» تنفذها البلديات عبر المنح والمكرمات الخاصة: «الناس تطالب البلدية بشوارع معبّدة ونظافة، ما بيجي حد بطلب حديقة وألعاب (..) اللي بده هذا النوع من الألعاب فهي متوّفرة بالمراكز الرياضيّة».

حديقة الشهيد إبراهيم حرب الرفايعة في منطقة صويلح في عمان

من يصمم الحدائق؟

تتولى أمانة عمان الكبرى والبلديات مسؤولية إنشاء وتصميم وتحديث الحدائق. وبحسب الرحامنة فإن في الأمانة وبعض البلديات أقسام مختصّة بإنشاء الحدائق وتصميمها، وتضمّ مجموعة مهندسين مختصين في الهندسة المعمارية والمدنية والزراعية.

تقول عبد إن إنشاء الحدائق وتصميمها والتخطيط لها يحتاج إلى مهندس معماري تخصصه تصميم الحدائق، إضافة إلى مهندسين مختصين بالتخطيط الحضري لتحديد المكان المناسب لإنشاء الحدائق في الأحياء السكنية، «لما أكلّف شخص مؤهل في تصميم الحدائق سيكون على دراية تامّة بأنَّه يُصمم رئة المكان، متنفّس حيوي يخدم مختلف الفئات العمريّة». وبحسب عبد فإن ما تقوم به الأمانة والبلديات هو أنهم «بكلفوا قسم الزراعة، وبفكروا إنه الحديقة عبارة عن شجر ومرجوحتين».

وعن غياب التخطيط الحضري عند إنشاء الحدائق، يقول أحمد الحسبان، أستاذ الهندسة المعماريّة في الجامعة الهاشمية، إن بعض الحدائق العامة هي «فَضْلات» من الأراضي؛ أي أي أراضٍ للبلدية زائدة عن الحاجة «ما عرفت البلدية شو تعمل فيها فسمّتها حديقة، دون دراسة للمحيط ولا تخطيط»، مرجعًا ذلك إلى ضعف الإمكانيات الفنية وغياب المتخصصين في هندسة الحدائق في أقسام التخطيط في البلديات.

إلى جانب ذلك، يشير الزواهرة إلى شحّ الإمكانيات المالية للبلديات، قائلًا: «البلدية مديونة، الوضع الماديّ للبلدية لا يسمح، وأغلب الحدائق هي منح من الديوان الملكي، البلدية مش قدرتها تشتغل في الحدائق، مكلفة».

إن شحّ الإمكانيات المالية لا يؤثر في تأهيل الحدائق نوعيًا فحسب، بل عدديًا كذلك، ففي الزرقاء مثلًا؛ ثالث أكبر مدن الأردن من حيث عدد السكّان، يوجد 10 حدائق فقط، أي بمعدل حديقة واحدة لكل 160 ألف شخص تقريبًا. وهو ما يعتبره الحسبان قليلًا جدًا بالمقارنة بمساحة المدينة والكثافة السكانية فيها. فيما يرى الزواهرة أن العدد كافٍ حيث إن هذه الحدائق «منتشرة في كافّة أنحاء المدينة، مغطية حاجة الناس» كما يقول.

حديقة الأميرة رحمة في الزرقاء

أما عمّان فقد ازداد عدد سكانها في خمس سنواتٍ (2017-2022) حوالي 400 ألف، فيما زاد عدد الحدائق فيها خلال نفس الفترة حديقة واحدة فقط، بمجموع 143 حديقة بحسب الرحامنة؛ بمعدل حديقة لكل 32 ألفًا من السكان تقريبًا، وهو ما تعتبره عبد «نقصًا شديدًا» لا يتوازى مع التزايد في أعداد السكان.

تعتبر الخوالدة إن التعامل الحالي مع الحدائق العامة يتناقض مع استراتيجيات سابقة وضعتها الحكومة لتحسين الصحة العامة، أهمّها «الرياضة المجتمعيّة» الهادفة إلى إشراك أفراد المجتمع بمختلف فئاتهم العمريّة، في ممارسة أنشطة رياضيّة برفقة العائلة والأصدقاء في أماكن عامّة مجاورة لمناطقهم السكنيّة، بهدف تفعيل النشاط البدني في المجتمع، وعدم حصر الأنشطة الرياضيّة على الرياضيين في النوادي والمراكز الرياضيّة.

وهي ترى أن الحكومة لا تطبّق حقًا مفهوم الرياضة المجتمعية، رغم أنها لطالما تحدثت عن وقاية المجتمع من الأمراض المزمنة ورفع متوسط عمر الإنسان وخفض معدل الوفيات باعتبارها من الأولويات. وتعتقد أن هذا الحال أدى إلى إبعاد كبار السن عن الحركة وممارسة التمارين البدنية، وترْك الفئات الشّابة دون أنشطة، فيما يلعب الأطفال على زحاليق ومراجيح «مصنوعة من حديد، غير صحيّة ولا آمنة للأطفال».

تم إنتاج هذا التقرير ضمن زمالة «عيون» للصحافة المحلية.

  • الهوامش

    [1] بحسب ما أوضحت الاستراتيجية الوطنية لمكافحة مرض السكري في الأعوام 2010- 2015.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية