شارع الأمير فيصل

صعود وأفول وسط البلد: حوار حول «روح» عمان المفقودة

شارع الأمير فيصل في منطقة وسط البلد. تصوير مؤمن ملكاوي.

صعود وأفول وسط البلد: حوار حول «روح» عمان المفقودة

الثلاثاء 07 آذار 2023

في كتابه «أسرار عمّان: تحقيقات في ذاكرة المدينة»، الصادر عام 2014، يتناول الصحفي والباحث محمد أبو عريضة تفاصيل المدينة ومعالمها التاريخية، ويبحث في حركة الحياة بشؤونها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، متجولًا في مكوناتها، من الأسواق والمقاهي إلى الفنادق القديمة والأحياء الأولى، راصدًا تطورات المدينة عبر شهادات موثقة ودلائل تاريخية، مستندًا إلى العديد من الرواة ممن عاصروا المدينة وعايشوا تفاصيلها.

بذلك، غاص أبو عريضة، المتخصص في إعداد النصوص والتقارير عن المدينة في قناة «رؤيا»، في البحث في معالم عمان ونموها وتوسعها وتحولاتها السكانية والاجتماعية منذ بداية القرن التاسع عشر وحتى غدت عاصمة يتجاوز عدد سكانها 4.6 ملايين نسمة. ويعمل أبو عريضة اليوم على عدة مشاريع بحثية ووثائقية متعلقة بالمدينة، من بينها فيلم وثائقي ونصوص لمسلسل درامي. 

في هذا الحوار يحدثنا أبو عريضة عن انعكاسات التحولات في البُنى التحتية التي عرفها المجتمع العمّاني والأردني على الفضاءات المدينية، وتحديدًا في مركز المدينة، منطقة «وسط البلد». ويعود بنا إلى الجذور التاريخية والاقتصادية التي ساهمت في تشكيل هذا المركز الحضري، وكيف انعكست تلك التحولات على منطقة وسط البلد، باعتبارها مرآة ومساحة تتركّز وتتكثف وتنعكس فيها هذه التحولات.

خالد بشير: لو أردنا الحديث عن «التحّولات» في منطقة وسط البلد في عمّان، من أي تاريخ يمكن البدء؟ وإلى أي لحظة ينبغي أن نعود؟

محمد أبو عريضة: المحطة الأولى هي في العام 1858. ربما لم يكن لها علاقة مباشرة بوسط البلد، ولكنها أسّسَت لما سيكون عليه وسط البلد في هذه المساحة. في ذلك العام أصدرت الدولة العثمانية قانون «الطابو» العثماني. الذي بموجبه منحت بعض شيوخ العشائر وبعض الأفراد من العشائر التي تعيش على «سيف البادية»، قطع أراضٍ ما زالت هي نفسها التي يسمونها اليوم «الواجهات العشائرية». فقافلة الحج الشامي كان لها أهمية كبرى بالنسبة للدولة العثمانية. وهي أحد رموز سيادتها على بلاد الشام. وكانت تتعرض للسلب والنهب. وكانت الدولة العثمانية تحتاج لأدوات ووسائل لمنع الإغارة على هذه القافلة، فأصدرت هذا القانون لإقناع وتشجيع البدوّ على التوطّن ضمن شريط «سيف البادية».

العامل الثاني في هذا السياق، وكان قد حصل في نفس الفترة، مرتبط بـ«مصابنيّة» نابلس (أصحاب المصابن في نابلس). والتقت مصالح هذه الفئة مع مصالح «الأستانة» في توطين بدو البلقاء ومعان على سيف البادية؛ الدولة العثمانية تريد حماية قافلة الحج الشامي، ومصابنيّة نابلس يريدون الحصول على رماد «القِلو» من نبتة «عشنان القلي»، التي تنبت في بوادي شرق الأردن. وهذا الرماد يمثل (85%) من صناعة الصابون، وهذه المادة هي التي تصنع الرغوة في الصابون.

التقت مصلحة الدولة العثمانية مع مصلحة مصابنيّة نابلس، وكانت مقدمة لتوطين البدو وتحوّلهم من الاقتصاد الرعويّ الغزويّ إلى اقتصاد بضاعيّ-ماليّ.

المحطة الثانية، كانت في عام 1878، مع مجيء الشركس. إذ قررت الدولة العثمانية إرسال الشركس وتوطينهم في المناطق الداخلية من بلاد الشام، وفي عمّان، أرادت منهم أن ينظفوا المكان ويعيدوا استصلاحه، بعد قرون من هجرانه، لأنهم كانوا أصحاب حضارة زراعية. وكانت منطقة وسط البلد آنذاك خالية من السكان، بسبب توطن مرض الملاريا فيها (نتيجة انتشار المياه الراكدة والمستنقعات في المكان) بشكل أساسي في هذه المنطقة الممتدة من نبع رأس العين وحتى عين غزال، لذلك لم يكن يدخلها أحد. أول مجموعة من الشركس جاءت إلى عمان كانت من قبيلة الشابسوغ، وصلوا عمّان عام 1878، واستقروا حول السيل وبدأوا في بناء البيوت مستخدمين الحجارة من الأبنية الأثرية. وقد أحضر الشركس معهم العجلات وبدأوا في تنظيف السيل ومحيطه، وزرعوا أشجار «الكينا» (الأوكالبتوس) حتى يصنعوا من أوراقها «تبخيرات» للتشافي من الملاريا.

إلى هنا نحن نتحدث عن «قرية»، ماذا عن المدينة أو البلدة؟ متى وفي أي سياق جاء تأسيس البلديّة؟ 

المحطة اللاحقة كانت في عام 1909، مع تأسيس بلديّة عمان. تأسست البلدية وكان عدد سكان عمّان حينها ألفي نسمة؛ من البدو ومن العائلات الدمشقيّة والنابلسيّة بشكل أساسي. لنتحدث عن «النابلسيّة» وسياق قدومهم قليلًا. يعود قدومهم بالأساس إلى أصحاب المصابِن، إذ مع الوقت، ومع تشابك العلاقة بينهم وبين بدو البلقاء بسبب «رماد القِلو»، أصبح أصحاب المصابن يرسلون أبنائهم أو وكلاء عنهم للإقامة في السلط وإقراض الناس بحيث يحصل السداد في فترة «الموسم». وما حصل هو أن أصحاب المصابن امتلكوا، بسبب القروض وحالات العجز عن سدادها، وبخاصة في مواسم الجفاف، مساحات كبيرة من الأراضي في مناطق البلقاء، وعندما تأسست عمّان وبدأت تبرز كمركز حضري جديد أرسلوا أشخاص منهم للمتاجرة والاستقرار في عمان، وكذلك فعل الشوام.

في ذات المرحلة، كانت الدولة العثمانية قد وجدت أن أفضل حل لمعالجة ما تتعرض له قافلة الحج الشامي هو ما نصحها به مهندس ألماني، بإنشاء خط حديد من دمشق إلى المدينة المنورة. وقد بدأ التفكير بهذا المشروع منذ ستينيات القرن التاسع عشر، إلا إنّ التطبيق الفعلي بدأ في 1900. وفي عام 1908 انطلقت الرحلات عبر سكة حديد الحجاز، وبعدها بسنة، عام 1909، تأسست البلدية في عمّان.

ومع تدشين خط الحديد بدأت المدينة تتأسس على أساس أنها محطة قطارات. وأخذت تنشأ أحياء جديدة على هذا الأساس، ففي عام 1912، تأسّس «حي المعانيّة»، وتكوّن من أهل معان الذين اشتغلوا في المحطة بمعان ومنهم من انتقلوا للعمل في محطة عمّان مع عائلاتهم فأسسوا حي المعانيّة حول محطة القطار. وسرعان ما أصبحت المحطة مركزًا للبضائع القادمة من دمشق ومن ميناء بيروت، وصار وسط البلد مركزًا للمدينة والأسواق والفضاء التجاري، وعموده شارع الملك طلال.

محطة عمّان على سكة حديد الحجاز

المحطة التالية كانت الحرب العالمية الأولى، والثورة العربية الكبرى عام 1916، إذ تحولت المدينة حينها إلى مركز للمواصلات ومحطة للقوافل العسكرية من مختلف الأطراف، وبرزت على الخرائط العسكريّة بسبب وقوعها في عقدة مواصلات الطرق الرابطة بين فلسطين وسوريا، وقد دخل المدينة عدد أكبر من الناس في تلك السنوات، إذ تحدث مع الحروب تحركات ونزوحات للسكان.

كيف انعكس تأسيس الإمارة واتخاذ عمّان عاصمة لها؟ هل اقترن ذلك بالتوسّع الحضري، وزيادة الزخم والنشاط السياسي في المكان؟

المحطة التالية جاءت مع تأسيس الدولة الأردنية واختيار عمّان عاصمة للإمارة، في العاشر من نيسان 1921. وكان عدد سكان عمّان حينها 6,700 نسمة. ومن ناحية حضريّة، بقي السكان حتى ذلك الحين، خلال سنوات العشرينيّات موزعين حول السيل وحول منطقة مركز المدينة، ولم يخرجوا للجبال باستثناء بدايات السفوح. وبدأ الخروج بشكل أوسع للجبال المحيطة عام 1927، بعد «الهزّة» التي ضربت المنطقة في ذلك العام. ونشأت منطقة كجبل عمان، ومن أوائل الشخصيات التي خرجت للسكن في أعلى ذلك الجبل الشيخ عودة القسوس. ومع دخول «مواتير» المياه، تسارع صعود الأهالي إلى قمم الجبال، وبدأوا يضخون المياه من السيل والينابيع إلى أعلى، ويستخدمون القساطر (الأنابيب) ويمدونها إلى البيوت. 

وبخصوص مدّ الكهرباء، نذكر هنا قصة «مطحنة الجمل»، وهي مطحنة كانت متخصصة في طحن الحبوب، وكان فيها محرّك كهرباء يعمل في النهار. حتى التقت مصلحة ستة أشخاص، منهم محمد علي بدير، وأدخلوا صاحب المطحنة شريكًا وأصبحوا ينيرون شوارع عمّان بعدما تعاقدوا مع البلدية. وتأسست حينها، عام 1938، الشركة، برأسمال قدره خمسة آلاف جنيه فلسطيني، وأصبحوا ينيرون شوارع عمّان في الليل بواسطة المحرّك. وعرفت الشركة باسم «شركة كهرباء عمّان»، والتي أصبحت في عام 1946 «شركة الكهرباء الأردنية» التي ما زالت قائمة. هكذا كانت بدايتها؛ كانت تستلم المحرّك من المطحنة مساءً وتسلمه للمطحنة صباحًا.

شارع الملك طلال في منطقة وسط البلد

على المستوى الثقافي والسياسي، خلال سنوات العشرينيات، بدأ إنشاء المقاهي، وبخاصة في شارع الملك فيصل وبالقرب من مجرى السيل. ومنها مقهى حمدان، الذي أقيم فيه المؤتمر الوطني الأول، عام 1928، وبدأت المقاهي تشكل ظاهرة ثقافية سياسية، وبدأ السياسيون والمثقفون والمتعلمون يجلسون في المقاهي ويتداولون أحوال البلاد؛ ومنهم عرار ومحمد صبحي أبو غنيمة وآخرون.

إذًا «وسط البلد» بات مركزًا لمدينة تكبر وتتسع بسرعة، متى وصل إلى «أوجه» وكيف كان يبدو؟

في عام 1948 لجأ إلى الأردن مرة واحدة سبعون ألفًا، أكثر من نصفهم جاءوا إلى عمّان، ربما بحدود خمسين ألفًا، معظمهم جاء من مناطق فلسطين الساحلية، وجاء هؤلاء بمهنهم؛ مثلًا سوق الذهب أسسه ثمانية تجار قدموا من يافا، ما عمل على إحداث ما يمكن اعتباره «تحولًا ثقافيًا»، تمثل في توافد أناس انتقلوا من الساحل بانفتاحهم على الثقافات والشعوب الأخرى، إلى منطقة على سيف البادية بثقافات محافظة، فحصل تلاقح ثقافي. 

المحطة المهمة في هذه المرحلة جاءت مع تتويج الملك الشاب، الحسين، عام 1953. جاء الملك حسين بالتزامن مع صعود المد القومي، ومع أفول الإمبراطورية البريطانية، ومع صعود دور الولايات المتحدة، وظهور «مبدأ سد الفراغ»، ومسألة الانتقال من دولة متحالفة مع بريطانيا إلى دولة موالية لأمريكا. لقد كانت مرحلة مخاض وصراع بين نظام الحكم والمعارضة القومية واليسارية، وبقي هذا النمط مهيمنًا إلى العام 1967، حينما انكسر المد القومي مع الهزيمة.

مقهى كوكب الشرق في سوق الذهب

الصراع السياسي خلال مرحلة الخمسينيات والستينيات أيضًا كانت له انعكاساته على فضاءات وسط البلد. وهو ما تمثّل في المزيد من التسييس؛ من المداولات والمناقشات في المقاهي، إلى المظاهرات في الشوارع. والمختلف كان في حالة الصراع الجديدة، أنه وقبل الخمسينيات، كانت الموالاة والمعارضة ضمن مكونات بيئة وفكرة واحدة؛ المعارضة السياسية قبل عام 1948 لم تكن معارضة لنظام الحكم، وإنما كان الهدف منها إسقاط المعاهدة الأردنية البريطانية لعام 1928.

أما فيما بعد، فقد جاء الشيوعيون والقوميون بحركة جذريّة معارضة لنظام الحكم، ولذلك فإن منطقة وسط البلد أصبحت تمور بالحراكات السياسية، وتحوّلت إلى مسرح للمظاهرات والمنتديات، وباتت شرفاتها منصّات لإلقاء الخطابات. وتزايد التسييس لفضاء المقهى، فنجد المقاهي مثل مقهى الجامعة العربية، أو مقهى العاصمة، أو مطعم ومقهى الأوبرج، وقد أصبحت أماكن للنشاط والعمل الحزبي، وازدحمت بالبعثيين والشيوعيين.

ومتى جاءت نهاية الذروة وخفوت هذا الحراك والطابع؟ ما الأسباب؟ وما التحوّل والشكل الجديد الذي انتقلت له منطقة وسط البلد؟

في عام 1973، حدثت «الطفرة النفطيّة» وارتفعت أسعار النفط. ولم تكن حينها دول الخليج مستعدة لتستوعب هذا الفائض المالي. وسرعان ما ذهبوا إلى التوسع في الأنماط الاستهلاكية، وأصابنا في الأردن بعض من هذه الأنماط، ومن هذا الفائض النقدي. 

وعلى مستوى المدينة، فإن الطفرة النفطية تجسّدت في بداية التوسّعات والتوجه نحو الضواحي والأحياء الجديدة، بعيدًا عن وسط البلد. والأخطر من ذلك أن هذه الطفرة أخرجت أهاليها من دورة الإنتاج؛ بمكونيْها الأردني والفلسطيني؛ إذ خرج الأردني من دورة الإنتاج الزراعية وتربية الإبل، وخرج الفلسطيني من دورة الإنتاج للصناعات الحرفيّة، وذهب كلاهما للعمل في الخليج أو في مؤسسات الدولة، وأصبح العديد من الحرفيين من غير الأردنيين، وانتقلت الحرفة إلى المصريين. فمثلًا، المصريون لم يكونوا يعرفوا «دق الحجر» وبناء الحجر بسبب افتقاد بيئتهم للحجارة، وكان العمل بالحجر هو حرفة بلاد الشام. وفي الأردن لم يكن هناك حرفيّ مصري يعمل بهذه الحرفة قبل السبعينيات، أما الآن، فبات كل حرفيي الحجر مصريون.

هذا انعكس بالطبع على منطقة وسط البلد وفضاءاتها؛ وذلك عبر تراجع مساحة حضور الحرف الحية ذات الدور الفعال في الدورة الاقتصاديّة المحليّة، وتزامن مع التحول نحو الاعتماد على الاستيراد. وبالتالي تحولت المنطقة تدريجيًا إلى منطقة «فولكلور»، وزينة، وتذكارات، وذلك بالتزامن مع انزياح الانتشار السكاني وابتعاده تدريجيًا عنها.

سوق الحميدية الكبير في وسط البلد

بدأ الزخم السكاني والتجاري ينتقل بالتدريج إلى الأطراف والضواحي، وبدأت منطقة وسط البلد تموت وتذبل، بحيث لم يعد هناك سُكّان في وسط البلد. وسرعان ما تحول وسط البلد إلى سوق هامشي فقط، وأحيانًا كثيرة مجرد «ممر»؛ محطة للعابر من الجبل الفلاني إلى الجبل الآخر، يمرّ في وسط البلد فقط كمحطة للوصول إلى وسائل المواصلات.

وهكذا فقد «وسط البلد» زخمه السكاني والتجاري. وبحلول عقد التسعينيات، وبعد حرب الخليج الثانية، كانت المدينة قد انتقلت بالكامل إلى الأطراف، فأصبحت تجد وسط البلد فارغة، وتذهب إلى منطقة كالصويفية وتجد مراكز التسوق فيها مزدحمة. 

هل كانت هذه النهاية لمسار «الأفول»؟ أم كان هناك ما هو أبعد؟

مع حلول أواخر الثمانينيات وبداية التسعينيات، كانت هناك محطة أخرى مهمة، مرتبطة بالأزمة الاقتصادية وهبوط وعودة نحو 300 ألف أردني من الخليج؛ أحضروا معهم نمطًا استهلاكيًا من مستوى أعلى، نمط أكثر شرهًا في الاستهلاك. قبل عام 1990 مثلًا لم تكن تجد عاملات منازل في الأردن. وبدأ هؤلاء العائدون بعمل مشاريعهم، خاصّة أنّ متضرّري حرب الخليج حصلوا على تعويضات، فأصبحوا يفتحون المحلات والمشاريع التي حركّت الاقتصاد، لكن هذه الأموال لم تتحول إلى مشاريع إنتاجية، وإنما إلى عقارات، ومحلّات ومعارض تجارية، عززت الأنماط الاستهلاكيّة (آنذاك حصلت الطفرة العقارية الثانية. الطفرة العقاريّة الأولى كانت مع الطفرة النفطية في السبعينيات).

كل ذلك أسهم في تعزيز تهميش وسط البلد لصالح المراكز الجديدة. ويمكن أن نلاحظ تجسّد ذلك مع هدم كثير من مباني وسط البلد القديمة ذات القيمة، خلال سنوات التسعينيات وبدايات الألفيّة، بما فيها تلك التي كانت تضم أقدم المقاهي، ودور السينما، والفنادق، لصالح الاستثمار وبدافع تحويلها إلى مجمعات تجارية. 

سينما رغدان المغلقة في وسط البلد

استمر تراجع وسط البلد، وتراجعت أهميته الاقتصادية بالتدريج، حتى أصبح من ينزل إلى وسط البلد هو فقط من يريد شراء حاجة محددة، أو من يريد التجوّل، أو شخص محب لوسط البلد. قبل ذلك كان الأمر مختلفًا، كان لا بدّ لكل من يريد الذهاب لعمله أن يمر بوسط البلد، كان مكانًا مركزيًّا. ومع حلول الألفية الجديدة أصبح وسط البلد فقط للترفيه، أو لمن يمرّ بالصدفة، واكتمل ذلك مع نقل مجمع رغدان منه عام 2003، فلم يعد مهمًا للتنقل ولا للتسوق، حتى مع دخول مرحلة التحديثات، التي بدأت أواخر العقد الأول من القرن الحالي.

مجمع رغدان الجديد الذي لم يجرِ تشغيله بعد إعادة إنشائه

لكن لماذا لم يتحول وسط البلد إلى مركز حيوي لتراث «مديني» حيّ؟

فكرة التراث عند العقل المخطط في الدولة الأردنية مقتصرة فقط على الفولكلور. هناك غياب لثقافة خلق الإرث المديني والحضاري الحي. يعني مثلًا مقهى العاصمة، أو مقهى الأوبرج. لا يمكن أن يسمح بهدمها أو إغلاقها، كما حصل، كان لا بد من تبنيها ودعمها وتحويلها إلى متاحف. للأسف، الدولة تتعامل بعقلية تاجر البقالة اليومي: ما هو دخل اليوم وما هو المصروف، لا يوجد تفكير في الغد، لا وجود لتفكير استراتيجي. وهذا ينعكس على الجوانب المعمارية والحضارية بالطبع. أصبحت عندما تمرّ في وسط البلد لا تعرف ما هو؟ هل هو سوق؟ سياحة؟ كراجات؟ فنادق؟ سكن؟ كافيهات؟ ما هو؟ لا شيء، هو مكان بلا لون، وبلا هويّة، هو خير تعبير عن السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي الأعمّ.

سوق الذهب في منطقة وسط البلد

مقهى مثل كوكب الشرق، كان وما زال يقع فوق سوق الذهب، ما الذي ينظم المكونيّن؟ في الماضي كان تجار سوق الذهب يجلسون في القهوة، لم يعودوا يفعلوا ذلك الآن، إذن ما العلاقة الآن بين المكونين؟ لا شيء. تجد مثلًا محل أحذية بجانبه صيدلية. في السابق كان صاحب محل الاحذية يشتري الدواء من الصيدلية، وصاحب الصيدلية يشتري الأحذية من محل الأحذية، الآن لا علاقة لهما ببعضهما. الفضاء اليوم مجرد ممر بائس وبلا معالم. والذي يمر اليوم ليس بالضرورة أن يأتي غدًا؛ بمعنى أن لا وجود لنمط ناظم. مثلًا شخص يعمل في جبل الحسين ويسكن في جبل النصر، بإمكانه أن يعود إلى منزله دون المرور بوسط البلد، في الماضي لم يكن ذلك ممكنًا كان لا بد له من المرور بوسط البلد. 

كل ذلك ينعكس على «الأنماط». في السابق كان هناك أنماط؛ أسواق، وحرفيون. كانت هناك معالم وملامح لأسواق حرفيّة، الآن، بقيت الأسواق ذات الطابع الفولكلوري. في السابق كان سوق مثل سوق عصفور، يستقبل زبائن آتين خصيصًا لزيارته. الآن يستقبل زبائن مارين بالصدفة على السوق، فقد المكان روحُه باختصار.

سوق البخاري في منطقة وسط البلد

هل لديك مقترحات وتصورات لبدائل يمكن أن تحيي وسط البلد؟

في تصوري، يجب أن يتحّول وسط البلد بقرار شجاع إلى مكان مخصص للسياحة والتسوق فقط، وأن تمنع السيارات من دخوله، وتدخله سيارات الشحن والنقل لساعتين فقط خلال الليل. تركن سيارتك في العبدلي، وتنزل بحافلات «الترام» الكهربائية. هكذا يتم إحياؤه. قبل سنتين، تم العثور على حمام عمره ألفي سنة، وكان القرار دفنه! هذا عقل يومي، لا يوجد نمط، والنتيجة بالضرورة مكان بلا هوية، أنا لأنني محب للمكان أقول هذا، ولست قادرًا على أن أصفه بأكثر من ذلك.

دخلة حبيبة، حيث يصطف الناس في طابور لشراء الكنافة

ولكن ماذا عن مظاهر «العودة الجديدة» -خلال العقد الأخير- للأجيال الشابّة خاصّة إلى وسط البلد؟ كيف تصفها؟ أليست من قبيل «الإحياء» لوسط البلد؟

هي جزء من حالة الاغتراب التي تعيشها الأجيال الشابّة، والرغبة في التعويض عن الشعور بالاغتراب. هي حالة يمكن وصفها بأنها «شكلانية»، و«مشهدية»، دون عمق، ودون جوهر، مجرد طقوس وفلكلور؛ التقاط الصور، والوقوف على طابور حبيبة، وبجانب كشك أبو علي. يصوّر أحدهم هذا الفيديو ويشاركه؟ وبعد ذلك؟ هل تعرّف على الناس؟ ما أوضاعهم؟ ما هي مشاكلهم؟ عندما يمرّ الناس من وسط البلد، هل تعرّف ما هي مشاعرهم؟

ما أقوله في الختام، هو أن الأساس في التحليل عندي هو نمط الإنتاج، وحالة الاغتراب، والانفكاك عن التعبير عن «النمط»، ما تعيشه المنطقة يقع ضمن سياق أوسع من تفكيك الهوية المستمر ضمن منظومات وسياقات ما بعد الحداثة وانعكاساتها، هي حالة «سائلة»، ضمن عالم «سائل»، بلا ملامح.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية