عَمَارة الحر: كيف كان البناء قبل مُكيّفات الهواء؟

المدينة العتيقة في تونس. تصوير فضل سنّة. أ ف ب

عَمَارة الحر: كيف كان البناء قبل مُكيّفات الهواء؟

الإثنين 31 آب 2020

نشر هذا المقال في صحيفة الفاينانشال تايمز بتاريخ 28 آب 2020.

لا أستطيع النوم في الداخل أثناء الصيف في تونس. فشقتي تقع أعلى عمارة من ثلاثة أدوار في قلب تونس العاصمة وتتحول إلى فرن في غضون حزيران وتموز وآب. حيث تنبعث الحرارة من الجدران ومن ثم تحركها المروحة في دوائر وهي تسعى جاهدة لتبريد الغرفة. وحين يحل الليل وتنخفض الحرارة وتعود نسمات الهواء، يبقى الهواء داخل الغرفة ثقيلًا وحارًّا بشكل خانق. وقد لاحظت أن جيراني قد اعتادوا النوم في باحتهم بالخارج، فحذوت حذوهم وبدأت النوم بباحة السطح.

الانتقال إلى الخارج هي تقنية قديمة للنوم المريح في الأجواء الحارة. وقد أخبرني والدي أنه عندما نشأ مع إخوته في إيران، كان هو وأشقاءه ينقلون فراشهم إلى السطح للنوم في الصيف. ولكن هذا توقف بعد انتقالهم من المنزل وحصولهم على مكيف هواء.

ومع أن مكيف الهواء قد بات هو الحل الآن للمحافظة على البرودة المعتدلة، إلا أنه كارثة بيئية. إذ تستخدم العمارات أكثر من نصف كهرباء العالم، ومعظمها للتهوية والحفاظ على درجات الحرارة، ويذهب 20% منها لتبريد الهواء وذلك بحسب وكالة الطاقة الدولية (IEA). وقد كانت مكيفات الهواء العام الماضي مسؤولة عن 1 جيجا طن من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون؛ والمفارقة أن التكنولوجيا المبنية للتبريد تزيد من دفء الكوكب. 

وكما يقول ألان شورت، بروفيسور هندسة العمارة في جامعة كمبريدج، ومؤلف كتاب «استعادة البيئات الطبيعية في العمارة»، فقد غيّر مكيف الهواء عمل المعماري بصورة جوهرية، إذ «لم يعد المعماريون يفكرون بالبيئة في مبانيهم، فمهندس تكييف الهواء هو الذي يقوم بذلك». 

لقد جعل تغير المناخ من العودة لهذا الموضوع المهمل أمرًا ملحًا. فموجات الحر تزداد عددًا وكثافةً عبر العالم. حيث سجلت درجات الحرارة في الشرق الأوسط نسبًا تزيد عن 50 درجة مئوية هذا الصيف، بينما سجل وادي الموت في كاليفورنيا في الـ17 من شهر آب رقمًا قياسيًا عالميًا بـ54.4 درجةً مئوية. كذلك تشهد أوروبا المزيد من موجات الحر بينما تغلف مدنها بفقاعات الحرارة؛ حيث شهدت المملكة المتحدة هذا الشهر، أطول موجة حر منذ أن بدأت التسجيل في الستينيات، إذ وصلت درجات الحرارة إلى 37.8 درجةً مئوية، أما باريس فقد سجلت العام الماضي أعلى درجات حرارة في تاريخها حيث وصلت إلى 42.6 درجةً مئوية.

الجدران الحجرية السميكة في المدينة العتيقة في تونس مع الأبواب الخشبية الملونة بالأبيض والأزرق. المصدر: الامي.

وأكثر من يعاني هم الذين لا يملكون القدرة على تركيب مكيف للهواء، في حين من يملكون هذه القدرة يفاقمون المشكلة. حيث تتنبأ وكالة الطاقة بأنه في حال لم تتخذ التدابير اللازمة فإن الطلب على الطاقة من أجل تبريد المساحات قد يزداد ثلاثة أضعاف في 2050. غير أن شورت يقول: «من الممكن تمامًا بناء عمارات مريحة في مناخات حارة مع القليل من تبعات الكربون [إلا أن] المعماريين يتبعون عمومًا طرازات متأخرة الحداثة وعفا عليها الزمن بشكل سيء». 

تقليديًا، بنيت المنازل في تونس لتخفيف الحر. حيث تبنى الجدران من الحجر السميك، بينما تغطى الباحة المركزية بالإيوان، لتعطي ظلًا وتبرد الهواء خارج الغرف، كما تقول شيراز مصباح، الباحثة في مختبر الأركيولوجيا والعمارة في المغرب، والتي تصل سماكة الجدران الحجرية في بيتها في تونس إلى 50 سم. «عندما تدلف إلى الداخل تعتقد بأن المنزل مكيف؛ حيث تمتص الجدران الحرارة ولا تمررها إلى داخل المنزل». (الجدران في منزلي الذي -كما تخبرني مصباح- قد بني ما بين الستينيات والثمانينيات أقل سماكةً بكثير).

مبانٍ كولونيالية في تونس مع وحدات تكييف الهواء مركبة من الخارج. المصدر: ليلي فرودي 

بيت أكثر تقليدية في المدينة العتيقة.

بدأ الحكام الجدد في بداية العهد الكولونيالي عام 1881، بالتخلي عن الأساليب التقليدية وانتقلوا إلى بناء البيوت على الطراز الأوروبي بسرعة فائقة لاستدراج الفرنسيين للعيش في تونس. «بنيت المدينة الكولونيالية «بعقلية المستعمر» وبحسب المبادئ الأوروبية» كما تقول مصباح، «فلم تكن مبنية لهذه الحرارة، وللمباني شبابيك كبيرة جدًا». وفي مقابل الطراز الأوروبي من الجادات والمنازل، فإن متاهات الأزقة في المدينة العتيقة مصممة للحد من الحرارة والحفاظ على الخصوصية. «[الفرنسيون] أبرزوا ثرواتهم وفتحوا منازلهم إلى الخارج، ولكن عند إغلاق المنزل فإن الحرارة تقل أيضًا».

أمّا البرج الزجاجي فهو التعبير الأكثر تطرفًا عن البيت «المفتوح للخارج»، والأكثر عرضةً لأشعة الشمس. تعود جذور هذا الطراز واسع الانتشار الآن فقط إلى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الولايات المتحدة الأمريكية، بمنشآت كاملة من الزجاج والأطر فولاذية. وتمت إعادة استنساخ منشآت من الخمسينات مثل ليفر هاوس في نيويورك، في كافة أنحاء العالم، بغض النظر عن المناخات، تكرار لامع للجماليات الحداثية المعروفة بالطراز العالمي. «كانت الفكرة صنع أبنية متشابهة لكل مكان في العالم، وأما فكرة المكيف فهي جعل كافة الأمكنة من الداخل متشابهة: باردة»، كما يعتقد شورت. 

مركز المدينة في دبي، بناطحات السحاب ومراكز التسوق المكيفة. بينما كانت تبقى باردة باستخدام ملاقف الهواء. المصدر: صور غيتي.

تشتهر مدينة دبي اليوم بناطحات السحاب الزجاجية، ومراكز التسوق المكيفة. غير أنها كانت تبرد سابقًا بأبراج الرياح (ملاقف الهواء)، وهي أبراج مربعة على أسطح المباني توجه الهواء إلى الداخل عن طريق فتحات على الجوانب الأربعة. وملاقف الهواء هذه -التي استخدمت في الشرق الأوسط 1300 عام قبل الميلاد على الأقل- كانت تكيّف الهواء طبيعيًا داخل المباني من خلال التلاعب بالرياح. تم التخلي عن ملاقف الهواء هذه في دبي منذ مطلع القرن العشرين -باستثناء الاحتفاظ بها كإشارات إلى الإرث على المباني، المقاعد ومنافض السجائر- بينما يستخدمها المعماريون في أماكن أخرى للاستغناء عن مكيف الهواء.

استخدم شورت وزملاءه مصائد الرياح والحجارة في تصميم بناء مصنع جعة فارسونز في مالطا -أحد أوائل المباني بانبعاث كربون صفري- وتمكنوا بذلك من خفض درجة الحرارة 14 درجة مئوية أقل من ذروة الحرارة في الخارج. أما في الصين، فقد استخدموا أساليب مستوحاة من ملاقف الهواء لجعل الهواء يدور وينتشر في الأبنية الحديثة المكونة من 25 طابقًا. «لقد سعينا إلى إعادة إدخال محاسن البيوت التقليدية في الشرق الأوسط إلى الأبراج» كما يقول، ويضيف بأن جائحة كورونا قد أكدت الحاجة إلى التهوية الطبيعية في المباني للمساعدة على طرد الفيروسات خارج المبنى. كذلك قام معماريو مصنع زد (ZEDfactory) بإعادة توظيف التقنية القديمة ذاتها، حيث نقطوا سطح مساكنهم المطورة الخالية من الكربون في جنوب لندن بأنابيب هواء متعددة الألوان عام 2002.

سطح حمام وملاقف هواء، أصفهان، إيران. المصدر: الامي

ملاقف هواء في لافت، إيران. المصدر: الامي

بات الاهتمام بالابتكارات البيئية للعمارة العامية (الدارجة) بالنسبة لبعض المعماريين يترافق مع تركيز ثقافي متجدد على المحلي. «هناك عدم رضى من لغة العمارة المسطحة للطراز العالمي، بحيث باتت كل مدينة تشبه الأخرى. كذلك تستعيد حركة الخضر نشاطها من جديد»، على حد قول لوسيو فريجو، مؤسس ماتيريا إنكورب، وهي شركة تطوير عمراني مستدامة. «فالناس يقولون الآن: دعونا نُعِد بناء التواصل مع التقاليد».

في القنيطرة بالغرب المغربي محطة قطار جديدة بناها مكتب المهندس المعماري سيلفيو دي أسكيا ومكتب المهندس المعماري عمر قبيط، محجوبة بشبكة مشربية؛ وهي من عناصر العمارة الإسلامية التي تخفض الحرارة من خلال خلق الظل والتهوية عبر الهواء الطبيعي. «كان الهدف الحد من مكيفات الهواء قدر الإمكان [و] منح البناء هوية تستذكر العمارة التقليدية» بحسب المعماري عمر قبيط.

المدرسة الحكومية في بنجا ريفر سايد في الموزامبيق. المصدر: خايمي حيراز 

كانت إحدى مشاريع فريجو مدرسة في الموزامبيق تمت بالتعاون مع المعماري فرانسيس كيري، الذي صمم مدرسة ابتدائية نالت جائزة المناخ الطبيعي، في مدينته غاندو في بوركينا فاسو، وكذلك سربنتين بافيليون في لندن. الحرارة في المدرسة تصل من 12 إلى 15 درجة مئوية أقل من الخارج، بفضل الطوب الحراري والتهوية السلبية (الطبيعية) والسقف المكون من طبقتين. وبالرغم من ذلك يقول فريجو بأن «الناس يتذمرون قليلًا» من الحر والعديد من العملاء يصرون على إضافة مكيفات الهواء، التي تعبر عن المكانة الاجتماعية.

لقد خُدِعنا بصناعة تكييف الهواء كما تقول سوزان رواف، أستاذة الهندسة المعمارية في جامعة هيريوت- وات في أدنبرة. «[لقد باعونا] الأسطورة بأنك لن تكون مرتاحًا إلا ما بين 20 إلى 26 درجة مئوية كي يتمكنوا من بيعنا معداتهم، إلا أن الواقع أن البشرية كانت قادرة على الإقامة في نطاق واسع من درجات الحرارة». مضيفة أن بالإمكان اعتبار بيت بدرجة حرارة 35 درجة مئوية «مريح» وذلك بالاعتماد على الشخص والموقع. وربما يستلزم الأمر ثورةً ثقافيةً لجعل مكيفات الهواء غير ظريفة.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية