بين نحاس ضانا ومحميتها: هل يمكن استثمار الطبيعة دون تدميرها؟

قرية ضانا كما تبدو من قرية القادسية. تصوير مؤمن ملكاوي.

بين نحاس ضانا ومحميتها: هل يمكن استثمار الطبيعة دون تدميرها؟

الأربعاء 20 تشرين الأول 2021

* ساهمت الزميلة ريم المصري في البحث والتأطير لهذا التقرير.

ما يبدو لعين زائر محمية ضانا حجارة سوداء تنتشر على مساحات واسعة في بعض مناطق المحمية، ليس في الحقيقة حجارة، بل «خبث» النحاس، الاسم الذي يطلق على مخلفات صهر هذا المعدن بعد استخراجه من الأرض. تصلّبت هذه المخلفات، خلال أربعة آلاف سنة، في أطنان من تكتلات تشبه الصخور، وما تزال، هي وكهوف ومناجم النحاس في مناطق خربة النحاس وخربة الجارية وصحراء فينان في المحمية، شاهدة على هذه الصناعة التي مارسها سكان الأردن من النبطيين، الذين استخرجوا النحاس، وصنعوا منه أسلحتهم ومجوهراتهم وأدوات مرتبطة بطقوسهم الدينية، إضافة إلى تصديره للأمم الأخرى.

أوائل ستينيات القرن الماضي، قرر أحفادهم في الأردن دراسة إمكانية إحياء هذه الصناعة. حدث هذا بعد بضع سنوات من بدء تعدين النحاس في وادي تمنة على الجانب الآخر في فلسطين المحتلة، والذي يقع جنوب غرب وادي عربة، 30 كم شمال خليج إيلات، في منطقة تنتمي، كما يقول خبراء إلى الطبقة الجيولوجية ذاتها التي تنتمي إليها مناطق النحاس في ضانا. فبدأت الحكومة، بمساعدة شركات أجنبية سلسلة عمليات تنقيب استكشافية.

ورغم أن نشاطات الاستكشاف هذه استمرت لعقود، إلّا أن الجدل حولها لم يكن قط بمثل حدته خلال الشهور القليلة الماضية، عندما تحول النقاش حول عمليات استكشافية بدأتها حديثًا شركة محلية، بهدف التثبت من الجدوى الاقتصادية لتعدين النحاس، إلى صراع علني بين طرفين؛ من ناحية، هناك وزارة الطاقة وشركة المتكاملة للتعدين والتنقيب، التي منحتها الحكومة حق التنقيب لاستكشاف النحاس، واللتان تبشران بأن الاستثمار في النحاس، سيضخ في الاقتصاد ثمانية مليارات دولار، ويوفر 3500 فرصة عمل. في حين تقف في الجهة المقابلة الجمعية الملكية لحماية الطبيعة، التي تفوّضها الحكومة إدارة المحميات الطبيعية في المملكة، وتقول إنها لا تريد الوقوف حجر عثرة أمام فرصة استثمارية يمكن أن تنهض بالاقتصاد، لكن مشكلتها هي أن الترويج لهذا المشروع لا يستند إلى أرقام مثبتة فيما يتعلق بالجدوى الاقتصادية. وهي تخشى أن إطلاق العنان لأنشطة التنقيب عن النحاس في المنطقة من دون أرضية صلبة، سيؤدي إلى تدمير مجاني للمحمية، التي تشكل إضافة إلى قيمتها البيئية موردًا سياحيًا.

الآن، هناك حالة من الترقب لما ستقرره لجنة فنية، كلّفتها رئاسة الوزراء بدراسة إمكانية اقتطاع ما مساحته 78 كم من المحمية،[1] وإخراجها بالتالي من إدارة الجمعية، لإفساح المجال للشركة أن تعمل من دون قيود فيما يتعلق بنشاطاتها الاستكشافية. علمًا بأن مذكرة التفاهم قد انتهت. ووفق سامر مخامرة، مدير المشروع في «المتكاملة»، خاطبت الشركة وزارة الطاقة في آب الماضي لتجديدها، وهي تنتظر الرد.

أحد من يترقبون القرار، بركات السوالقة، ابن قرية صنفحة في محافظة الطفيلة، والذي يقول إن عمله سيتضرر في حال تم المشروع وأثّر سلبًا على ضانا كوجهة سياحية. يمتلك السوالقة استراحة صغيرة أقامها قبل 15 سنة على الطريق المؤدي إلى الجنوب يقدم فيها المشروبات للعابرين، الذين كانوا حتى العام 2018، زوار البترا والكرك وضانا. إلى أن افتُتِح تلك السنة طريق نملة – وادي عربة، ما قلّل الحركة كثيرًا على الطريق التي تقع عليها استراحته. إذ لم يعد النازلون إلى البترا والكرك مضطرين للمرور منها. وبقي فقط زوار ضانا.

أسمى السوالقة استراحته «البرج» نسبة لبرج اتصالات مجاور يتبع إحدى شركات الهواتف في المملكة، كان قبل 15 سنة قد حصل على وظيفة حارس له، براتب 200 دينار. وفكر وقتها أن بإمكانه، وبدلًا من الجلوس طوال اليوم توليد دخل إضافي، فأقام كشكًا، ووضع بضع طاولات ومقاعد على قطعة أرض مُطلّة على جانب الطريق. وساعده أخوه بتزيين الكشك فرسم على جدرانه الخارجية أنواعًا من الحيوانات والطيور التي تعيش في محمية ضانا، مثل الماعز الجبلي والوشق والنسر.

بركات السوالقة أمام استراحته «البرج».

كان العمل جيدًا يقول، السوالقة، وهو أب لثلاث طفلات. فاشترى 30 رأس ماعز وضعها قرب الكشك. لكن تغير الوضع مع افتتاح الطريق الجديدة، ثم جاء بعده وباء كورونا الذي أوقف الحركة تقريبًا، فاضطر لبيع سيارته والماعز. والآن، وبعد أشهر قليلة من تحسن نسبي للحركة على الطريق، اندلعَ هذا النقاش حول مشروع التعدين في المحمية، الذي يقول إنه لو تمّ سيكون بمثابة الضربة الثالثة له خلال أربع سنوات.

النحاس في ضانا: 60 عامًا من الاستكشاف

قبل نشاطات الاستكشاف الأخيرة التي نفذتها «المتكاملة»، قامت بعثة جيولوجية ألمانية بأول عمليات استكشافٍ منظمةٍ للنحاس في الأردن، واستمرت بين العامين 1961 و1964. توالت بعدها، بشكل متقطع، إلى العام 2004، نشاطات الاستكشاف من خلال كوادر سلطة المصادر الطبيعية، وجهات أجنبية شملت شركات فرنسية وبريطانية وكورية جنوبية وجنوب أفريقية وكندية. قسم من هذه الشركات أجرى عمليات تنقيب ميدانية، في حين اقتصر البعض الآخر على دراسات نظرية قيّمت الوضع اقتصاديًا استنادًا إلى نتائج الدراسات الميدانية السابقة، التي كان من أبرزها دراسات سلطة المصادر الطبيعية التي بدأت في عام 1966، واستمرّت خلال السبعينيات، ثم عادت أوائل التسعينيات. وهي دراسات قدرت، في مجملها، كميات احتياطي النحاس بحوالي عشرين مليون طن خام في فينان، بمعدل تركيز 1.36%. و25 مليون طن خام في خربة النحاس، بمعدل تركيز 2.33%.[2] علمًا بأن آخر دراسة، بخصوص الجدوى الاقتصادية، كانت لشركة BRGM الفرنسية في عام 1993. وهي دراسة موجهة تُشير إلى أن وادي ضانا حتى يكون مُجديًا اقتصاديًا يجب أن يكون فيه 200 مليون طن من النحاس الخام، في وقت قدّرت الدراسات الكمية فيه بعشرين مليون طن فقط. أمّا خربة النحاس، التي قدرت الدراسات أن فيها 25 مليون طن نحاس، فهي مجدية اقتصاديًا لأنها لا تحتاج إلى أكثر من 10 ملايين طن نحاس خام لتكون لتكون مجدية.

خربة النحاس في ضانا.

النحاس الخام، تقول أستاذة الجيولوجيا في كلية العلوم في الجامعة الأردنية، الدكتور ختام الزغول، هو النحاس الموجود ضمن طبقات الصخور بشكله الطبيعي، مع غيره من العناصر، ويتحول إلى نحاس نقي بعد فصله عنها. وتعتمد كمية النحاس النقي التي يمكن استخراجها من طن من الصخور المحتوية على نحاس خام على نسبة تركيزه في هذا الطن. إذ تزداد بالطبع الكمية المقدر استخراجها، مع زيادة نسبة تركيزه.

وفق أرقام[3] وزارة الطاقة، فإن كمية النحاس المقدر استخراجها من 45 مليون طن نحاس خام قدرت دراسات سلطة المصادر الطبيعية وجودها في محمية ضانا هي 852 ألف طن تقريبًا، تقدر قيمتها بحوالي ثمانية مليارات دولار.

لقد بدأت القيود على نشاطات استكشاف النحاس في ضانا مع تأسيس المحمية في عام 1989. ورغم ذلك، تقول الزغول، ظلت الدراسات الاستكشافية ضمن حدودها الأولية، ولم تقد إلى التعدين التجاري، فأسعار النحاس لم تكن آنذاك مشجعة بحسب الكميات المقدر وجودها. بعدها اختلف الوضع، ليس فقط من حيث زيادة الطلب على النحاس، وارتفاع أسعاره، ولكن أيضًا من حيث تطور تكنولوجيا التعدين التي أصبح معها استخراج النحاس من تراكيز متدنية نسبيًا مجدٍ اقتصاديًا.

استخدم البشر النحاس منذ آلاف السنين، لكن تزايد الطلب عليه في العصر الحديث تزامن، وفق الزغول مع النمو الصناعي. ثم ارتفع أكثر مع التوسع في تكنولوجيا الطاقة النظيفة، إذ يشكل النحاس عنصرًا أساسيًا في ألواح الخلايا الشمسية، والبطاريات القابلة للشحن، والسيارات الكهربائية التي تحتاج إلى نحاس يصل إلى أضعاف المستخدم في السيارات التقليدية. وأنتج العالم في عام 2020 ما مقداره 20 مليون طن نحاس، 16 مليون طن منها تقريبًا، أنتجته عشر دول.

صراع داعمي التعدين مع الخائفين من عواقبه البيئية

بعد انقطاع يقارب ثلاثة عقود، قررت وزارة الطاقة السير في مشروع استكشاف النحاس داخل المحمية، فوقّعت في شباط 2016 مذكرة تفاهم مع شركة «المتكاملة»،[4] وانسجم هذا مع «تعليمات تنفيذ نظام المحميات الطبيعية»،[5] التي يقول مدير مديرية حماية الطبيعة في وزارة البيئة، المهندس بلال قطيشات، إنها وإن حظرت «التعدين» داخل المحميات، لكنها لم تمنع نشاطات الاستكشاف.

و«المتكاملة» التي تملك مجموعة المناصير 70% من أسهمها، وتملك القوات المسلحة الـ30% الباقية، تأسست في تشرين الأول 2015، أي قبل خمسة أشهر من اتفاقها مع الحكومة. ووقتها أثيرت تساؤلات عن المعايير التي جعلتها تحظى بهذا المشروع. وهذا السؤال المتعلق بكون الشركة قد نالت هذه الفرصة من خلال عطاء أو تلزيم، وجه لوزيرة الطاقة السابقة، هالة زواتي، في اجتماع عقدته لجنة الطاقة النيابية في مجلس النواب، في آب الماضي، وأجابت الوزيرة بأن الاتفاق هو مجرد مذكرة تفاهم لإنجاز أعمال الاستكشاف، ولم يصل إلى مرحلة أن يكون اتفاقية على مشروع تنقيب [تستلزم أن تطرح لعطاء]. الأمر الذي سيتم لاحقًا. وهو ما قاله لحبر أيضًا، مدير المشروع في «المتكاملة»، سامر مخامرة، الذي قال إن «عطاء دوليًا» سيطرح لاحقًا، بعد انتهاء أعمال الاستكشاف، التي أنفقت الشركة عليها إلى الآن مليوني دينار.

مصدر رفيع في وزارة الطاقة، تتحفظ حبر على الكشف عن هويته، قال إن الوزارة لم تتحمل أي كلفة في عمليات الاستكشاف التي نفذتها «المتكاملة». ومع ذلك، فإن الشركة ملزمة بتزويد الحكومة بنتائج نشاطاتها، حتى لو لم تكن هي الشركة التي ستنفذ عملية التعدين. وستستخدم الحكومة هذه النتائج لاستدراج عروض المستثمرين عند طرح العطاء. السؤال هنا، لماذا تنفق الشركة الملايين على عمليات الاستكشاف، إن لم يكن مضمونًا أن مشروع التعدين سيكون من نصيبها؟ هذا سؤال لا إجابة عليه حاليًا.

وفق مخامرة، حصلت الشركة بموجب المذكرة على حق إجراء أعمال تنقيب استكشافية في منطقتين داخل المحمية؛ الأولى شمال المحمية، مساحتها 61 كم مربع، وتضم خربة النحاس ووادي الجارية، والثانية في جنوب المحمية، بمساحة 45 كم مربع، وتضم وادي فينان ووادي ضانا. وقد أنهت الشركة المرحلة الأولى في المنطقة الشمالية، حيث حفرت حوالي 200 حفرة و21 بئرًا و50 خندقًا، جمعت منها ألف عينة تقريبًا.

وفق مركز البحوث التابع لجامعة أريزونا الأميركية، وهي الولاية التي تضم أكبر احتياطيات النحاس في الولايات المتحدة، يمر إنتاج النحاس بأربعة مراحل: الأولى الاستكشاف وأخذ العينات وتحليلها وإصدار تقرير بالجدوى الاقتصادية، والثانية هي مرحلة التطوير، وتشمل بناء المنشآت، ووضع الخطط واختيار طريقة التعدين المناسبة، وفي المرحلة الثالثة يبدأ استخراج النحاس، وفي الرابعة تنظف المنطقة المعدنة ويعاد تأهيلها.

لقد نصت مذكرة التفاهم الموقعة مع وزارة الطاقة فقط على عمليات الاستكشاف، يقول مخامرة، وكانت مدتها عامًا واحدًا، لكن الشركة اضطرت لطلب تمديدها أكثر من مرة بسبب العراقيل التي وضعتها «جمعية حماية الطبيعة» أمام عملها، والتي أدت إلى تعطيل العمل الفعلي لسنتين وثلاثة شهور. وأخيرًا، وبعد أن أكملت الشركة، وشركاؤها خبراء شركة (Worleyparsons)، وهي شركة أسترالية تقدم الخبرة الفنية للمتكاملة، المنطقة الشمالية بمشقة بالغة، يقول مخامرة، منعت الجمعية الدخول للمنطقة الجنوبية. وبحسبه فإن الجمعية «حكولنا إنتو خربتوا البيئة».

لكن رئيس مجلس إدارة الجمعية الملكية لحماية الطبيعة، المهندس خالد الإيراني، يقول إن الشركة بدأت أعمال الاستكشاف في عام 2017، وسمح لها بإدخال معداتها في عام 2018. وما تسميه عراقيل أدت إلى إبطاء العمل هي في الحقيقة معايير العمل التي كان من المفترض أن تلتزم بها. وهي معايير كانت تضمنتها أصلًا دراسة تقييم الأثر البيئي التي قدمتها الشركة، لكنها أخلّت بالكثير من مفاصله، وارتكبت العديد من المخالفات البيئية.

دراسة «تقييم الأثر البيئي»،[6] هي شرط تضعه وزارة البيئة لترخيص أنواع معينة من المشاريع، وتشتمل على تحديد الآثار السلبية المترتبة على مشروع ما، خلال مراحله المختلفة، إلى أن ينتهي تشغيله، وتتضمن خطة لمعالجة هذه الآثار والحد منها.

آبار غير مغلقة بحسب المعايير التي وضعتها دراسة الأثر البيئي.

من المخالفات التي ارتكبتها الشركة، يقول مدير محمية ضانا، عامر الرفوع، أعمال حفر قامت بها في الجزء الأثري من منطقة خربة النحاس، وهناك أيضًا حفرة قرب مخيم أقامته الشركة لعامليها بمساحة 400 متر مربع، تسبب حفرها بتدمير الغطاء النباتي في هذه المساحة، وطمر مساحة أخرى مساوية من الغطاء النباتي بالتراب الناتج عن الحفر. يضاف لذلك، يقول الرفوع، الحفر العميقة التي حفرت لأخذ العينات، التي غطتها الشركة بأغطية إسمنتية هشة، ما أدى إلى تكسّر معظم هذه الأغطية. ونتج عن ذلك أن أصبحت هذه الحفر المفتوحة مصائد لحيوانات المنطقة. أيضًا هناك طريق حفر في أحد جبال المنطقة الشمالية، ولم يعد تأهيله كما يجب. وأخيرًا، لم تلتزم الشركة، بحسبه، بتعيين مهندس بيئي مقيم، إلا في المرحلة النهائية للمشروع.

أمّا عن منع الجمعية للشركة من استكمال العمل في المنطقة الجنوبية، يقول الرفوع إن الجمعية لم تكن طرفًا في مذكرة التفاهم. لكن الذي حدث بعد توقيعها أنها التقت مسؤولي الشركة، وطلبت دراسة تقييم أثر بيئي قبل البدء بالعمل. الشركة، بحسبه، أبلغتهم أنها ليست بحاجة إلا إلى المنطقة الشمالية، وهي منطقة الـ61 كم مربع، إضافة إلى وادي خالد وجزء من فينان، الذي يقع على مساحة 8.5 كم مربع من المنطقة الجنوبية. وبناء على ذلك، شملت هذه المناطق فقط بدراسة تقييم الأثر البيئي التي قدمتها الشركة. لكن الجمعية فوجئت بعدها، بأن الشركة ستتقدم إلى المنطقة الجنوبية، لتستكمل نشاطات التنقيب في أجزاء لم تشملها الدراسة. وهذا ما رفضته الجمعية.

ويضيف الرفوع إن الطرق التي فتحتها الشركة إلى مواقع التنقيب الاستكشافي داخل المحمية، وتلك التي كانت «المصادر الطبيعية» قد حفرتها، وقامت «المتكاملة» بتسهيلها، ساهمت في تيسير الدخول غير الشرعي للمحمية، من قبل الصيادين والحطابين وغيرهم، إذ أصبح الدخول بالسيارات الصغيرة أسهل. وهذا أجبر الجمعية على زيادة عدد مراقبي المحمية. قبل مشروع التنقيب، يقول كان هناك مفتش واحد، والآن هناك ثلاثة، بالكاد يستطيعون تغطية المنطقة، التي إضافة إلى قيمتها البيئة، تضم 38 موقعا أثريًا، وهي الآن على القائمة التمهيدية للانضمام إلى قائمة التراث العالمي.

أثر آليات الشركة على الأرض في خربة النحاس.

لكن مخامرة ينفي أن تكون الشركة قد تسبب بالضرر لـ«أي منطقة حيوية». مخامرة الذي بدأ حياته المهنية في سلطة المصادر الطبيعية في عام 1986، وشارك أوائل التسعينيات في نشاطات التنقيب التي أجرتها السلطة آنذاك في المحمية، ينتقد ما يرى أنه تشدد مبالغ فيه من قبل الجمعية، ويقول إنها كانت وقتها تعترض حتى على النار التي كان يوقدها العاملون في التنقيب لكي يتدفؤوا ليلًا. ويؤكد أن نشاطات الشركة لم تضر أبدًا بالتنوع الحيوي في المحمية، لأنها ببساطة تعمل في مناطق جرداء، ليس فيها «لا شجر ولا حيوانات».

هنا يلفت الرفوع إلى أن طرح «التنوع الحيوي» كما لو أنه منحصر في الغابات والحيوانات ينطوي على فهم قاصر لما يعنيه هذا المفهوم. فأهمية ضانا تنبع من كونها تجمع في مساحة قليلة نسبيًا، هي حوالي 300 كم مربع، ثلاثة أقاليم جغرافية، هي إقليم البحر الأبيض المتوسط، والإقليم الإيراني-الطوراني، والإقليم السوداني. ونتيجة اجتماع هذه الأقاليم التي لكل واحد منها أنماطه النباتية الخاصة، فإن المحمية هي نموذج على التنوع الحيوي الفريد على مستوى العالم. لقد سجل في المحمية 891 نوعًا من النباتات، تمثل ثلث النباتات في الأردن، و16 نوعًا منها نادرة على مستوى العالم. كما سجل 215 نوعًا من الطيور، تمثل تقريبًا 50% من طيور الأردن. والمحمية مركز تكاثر لأنواع كثيرة من الطيور منها ما هو معرض للانقراض عالميًا مثل النعار السوري. ومنها ما هو معرض للانقراض محليًا، مثل النسر البني. وما يقال إنه صحراء جرداء، هو جزء من منظومة بيئية متكاملة، يؤدي الإضرار بأحد أجزائها إلى الإضرار بالباقي.

ألّا ترى حيوانات في منطقة ما، يقول حسام العويضات، مساعد مدير المناطق المحمية في «جمعية حماية الطبيعة»، لا يعني أنها ليست موجودة، فقد سجلت في المحمية 38 نوعًا من الثديات، و42 نوعًا من الزواحف. ومن هذه الأنواع ما هو مهدد بالانقراض محليًا أو عالميًا، مثل الماعز الجبلي النوبي والثعلب الأفغاني والوشق والغزال العفري. وكامل مساحة المحمية تشكل البيئة الطبيعية لهذه الكائنات، التي قد يقطع بعضها في اليوم الواحد مسافة 60 كم، كنشاط يومي، بحثا عن الفرائس. وهي بحاجة للأمان كي تواصل التحرك، وهذا أمر لن يتحقق مع بدء نشاطات التعدين وعمل الآليات وما يصاحبها من ضجيج مفزع وغبار.

التعدين وما يتطلبه من «تجريف وتكسير للطبقات [الصخرية]»، سيضر ببيئة المنطقة، هذا شيء مؤكد. يقول الخبير الجيولوجي مروان مدانات، لكن هنا يأتي دور دراسات تقييم الأثر البيئي لمعالجة ذلك. مدانات الذي عمل في وزارة الطاقة 33 سنة، وتقاعد قبل سنتين تقريبًا من مديرية مشاريع الثروة المعدنية في وزارة الطاقة، يقول إن متابعة حثيثة من قبل الجهات المعنية للالتزام بتطبيق هذه الدراسات، التي تضع معايير دقيقة لآليات تنفيذ النشاط الصناعي، وتتضمن خطة لإعادة تأهيل مناطق العمل ستكون الحل. ويقول إن هناك تجارب لبلدان متقدمة أنشأت مشاريع تعدين كبرى، يمكن استلهامها، حيث أعيد تأهيل مناطق العمل بطريقة لا يكاد المرء يلحظ أي تدمير في المنطقة، إذ تحولت الأراضي المعدنة إلى مساحات خضراء، وتحولت الحفر إلى بحيرات.

لكن «إعادة التأهيل» يقول الإيراني هي بالضبط الهاجس الأكبر لدى الجمعية. وهذا بسبب الشواهد العديدة على مشاريع، تركت بعد انقضاء الغرض منها على وضعها المدمر، منها مثلًا مأساة الفوسفات في الرصيفة. ويضيف إلى ذلك الرفوع، مناطق تعدين مصنعي الإسمنت في الفحيص، وأيضًا في الجنوب، في منطقة لحظة على حافة محمية ضانا، والتي تحولت إلى حفرة هائلة وسط الجبال، وتركت بعد انتهاء العمل على حالها.

العواقب المدمرة لمشاريع التعدين

لمشاريع التعدين عواقب تتجاوز بمراحل تلك الناجمة عن نشاطات الاستكشاف الأولية. وفق دراسة[7] نشرتها منظمة SwedWatch للأبحاث، ينتج عن تعدين طن واحد من النحاس 99 طنًا من المخلفات التي تتكون أساسا من الصخور والتربة والمخلفات المطحونة. وعندما يتعرض الكبريت الموجود في هذه المخلفات للهواء والمطر، يتولد حمض الكبريت، الذي يمكنه أن يذيب المعادن الثقيلة مثل النحاس والزرنيخ والرصاص، التي تلوث المياه الجوفية والسطحية.

وبحسب دراسة عن الآثار البيئية المترتبة على التعدين في زامبيا، تستمر الأضرار المترتبة على التعدين لفترات طويلة بعد توقفه. ومن هذه الآثار تلوث الهواء بغاز ثاني أكسيد الكبريت، وبعدة أنواع من الجسيمات الدقيقة التي تبثها غازات مداخن مصاهر النحاس، وغبار المناجم، وتلك المنبعثة من الصخور، سواء التي تحت المعالجة، أو التي تحولت إلى نفايات. ويمكن لثاني أكسيد الكبريت أن يصل إلى مسافة 30 كم من مصدره الأصلي. ووجدت الدراسة أن الطبقة السطحية للتربة، في المنطقة التي درستها، تحولت إلى حمضية، وأصبحت مثقلة بالمعادن الثقيلة، التي عثر عليها أيضًا في الغبار المترسب على أوراق المحاصيل الزراعية.

وقد وجدت دراسة أخرى حللت الأضرار البيئية في موقع لتكرير النحاس ومعادن أخرى في ولاية يوتا الأميركية، أن تلوث التربة بالمعادن الثقيلة والخبث وغيره من مخلفات التعدين تجاوز الموقع الذي عملت فيه الشركة إلى أراضي البلدات المجاورة. وقد وصلت هذه المخلفات إلى عمق ما بين 18 و24 بوصة، ما تطلب عمليات تأهيل بيئي استمرت 11 سنة، ما بين الأعوام 2000 و2011.

إضافة إلى ما سبق، هناك هاجس المياه في بلد بين دول الصدارة في شح المياه. تقول الزغول، إن تعدين النحاس، يحتاج إلى كميات كبيرة من المياه. وهذا يشكل في حالة الأردن «مصدر قلق»، إذ سيكون هذا من الأمور المرشحة لرفع كلفة المشروع، خصوصًا إذا كانت المسافة بين موقع التعدين وموقع المصنع كبيرة. وهناك أيضًا طريقة التعامل مع المياه الملوثة الناتجة عن معالجة النحاس. تقول الزغول إن هناك من يلجأ إلى تصريف هذه المياه في الأرض، وهذا كارثي على التربة والمياه الجوفية. في حين أن الطرق «القانونية» للتعامل معها، ومنها مثلًا إنشاء محطة لإعادة تدوير هذه المياه، ستكون بالضرورة مكلفة، لكنها ستساهم في تخفيض كمية المياه المستهلكة.

بحسب مخامرة، تخطط الشركة لاستخدام مياه جوفية متوسطة الملوحة تسمى (Brackish water)، حيث ستحفر آبارًا خاصة بها، أو ستسحب المياه من محافظة العقبة إلى حيث المصنع الذي تخطط لإقامته في موقع التعدين. ويقول إن المياه الناتجة عن معالجة النحاس ستكون في برك معزولة تمنع تسربها إلى التربة.

لكن إشكالية المياه لا تخص الأردن فقط؛ حتى في البلدان الرائدة في تعدين النحاس، والتي لا تعاني مشكلة ندرة مائية كالتي يعانيها الأردن، تمثل مشكلة المياه تهديدًا جديًا لشركات التعدين فيها. ينطبق هذا على بيرو، التي تتمتع بموارد مائية كبيرة، إذ عانت المناطق التي شهدت تعدينًا من إجهاد مائي، يضاف إلى ذلك أن نشاطات التعدين كانت سببًا رئيسيًا لتلوث 16 نهرًا من أصل 21 نهرًا في البلاد. وفي تشيلي، أدت نشاطات التعدين لاستنفاد طبقة المياه الجوفية الواقعة في صحراء أتاكاما، حيث مشاريع النحاس الكبرى، وتسبب ذلك بأضرار كبيرة للنظام البيئي في المنطقة. ونتيجة ذلك صدر في آب الماضي، أمر محكمة لإحدى الشركات العاملة بإيقاف الضخ من المياه الجوفية لثلاثة أشهر، والبدء مباشرة بخطة لمعالجة الوضع.

وبعيدًا عن شح المياه، تعاني حتى كبريات شركات التعدين من إشكاليات أخرى تتعلق بالمياه. وفق دراسة[8] نشرها مركز Water Risk Filter، المختص بتقييم المخاطر المتعلقة باستخدام المياه في الاستثمارات المختلفة، يأتي قطاع التعدين في العالم في مقدمة القطاعات التي تواجه «تحديات مائية». فإضافة إلى أن احتياطيات النحاس تقع غالبًا في مناطق تعاني أصلًا من شح المياه، في وقت تحتاج فيه هذه الصناعة كميات كبيرة من المياه، تنازع هذه الصناعة المجتمعات المحلية على مواردها المائية، وتؤثر على جودة المياه في المناطق التي تعمل فيها، وهذا يرتب تكاليف عالية على شركات التعدين. فقد تكبد قطاع التعدين في العالم خلال العام 2018 وحده ما قيمته 20 مليار دولار نفقات تتعلق بمشاكل متعلقة بالمياه، وشملت قضايا في المحاكم تخص تلويث مصادر مياه، أو اضطرار الشركات لتأمين موارد مائية جديدة.

جدوى المشروع في ظل ما نعرفه عن الكميات المتوفرة وكلف إنتاجها

يتساءل الإيراني إن كانت عوائد المشروع الاقتصادية تستحق فعلًا العواقب البيئية المترتبة عليه، ويقول إن الجمعية، مع ذلك، لا تنوي الوقوف عائقًا أمام المشروع، هي فقط تريد التثبت من أن الفرصة الاستثمارية التي تطرح حقيقية. ويقول إن الشركة رغم انتهائها من استكشاف 61 كم لم تصدر تقريرًا بالجدوى الاقتصادية كما هو مفترض. في الوقت الذي تتوالي فيه تصريحات مسؤولين تنطوي على كثير من «المبالغة»، و«التضخيم» فيما يتعلق بأرباح المشروع المتوقعة، إذ كان هناك كلام عن «مليارات» ستضخ في الاقتصاد.

وكان المدير السابق لسلطة المصادر الطبيعية، المهندس ماهر حجازين، قد صرح في آب الماضي، أن العائدات ستكون ستة مليارات دولار تقريبًا. وبعدها بأيام، ارتفع الرقم إلى عشرة مليارات، خلال اجتماع لجنة الطاقة النيابية السابق الذكر، حيث قالت وزيرة الطاقة إن هذا المبلغ سيكون على فترة من 20 إلى 25 سنة. ثم هبط المبلغ في أيلول الجاري، وفق تقديرات وزارة الطاقة[9] إلى ثمانية مليارات تقريبًا.

وهذا ما تؤكد عليه الزغول، التي ترى أن مشروعًا لتعدين النحاس في الأردن هو مشروع مؤمّل بالفعل، لكنها تشدد على أن السير فيه يجب أن يكون محكومًا بمعايير مشاريع التعدين في العالم، ومن ذلك أن الإعلان عن احتياطي النحاس، وقيمته الاقتصادية، يجب أن يكون ضمن دراسة جدوى اقتصادية تعقب نشاطات استكشاف متقدمة، وهذا ما لم يحدث إلى الآن، فكل الأرقام المطروحة لا تستند إلى أساس علمي. لأن تحديد كميات احتياطي النحاس ونسب تركيزه يجب أن تكون نتاج أنشطة تنقيب تتم بمواصفات معينة لم تنطبق في الحقيقة على النشاطات التي تضمنتها دراسات استكشاف النحاس منذ بدأت في الستينيات. فهذه الأرقام تمثل ما «يمكن» أن يكون موجودًا. ولا يجوز بأي حال طرحها للجمهور بوصفها تمثل احتياطيًا مثبتًا.
ورغم أن وزارة الطاقة،
[10] أعلنت بشكل أولي أن كميات النحاس «المقدرة» نتيجة استكشاف المنطقة الشمالية التي أنجزته «المتكاملة» خلال السنوات الأربع الماضية، هي 40 مليون طن[11] من النحاس الخام، بتركيز 2.5%، يقول مخامرة إن الشركة لا يمكنها إصدار تقرير بالجدوى الاقتصادية قبل إكمال المرحلة الثانية، التي تمنعهم عنها «جمعية حماية الطبيعة». وهو أمر تتفق معه الزغول، التي تقول إن طلب الجمعية دراسة جدوى اقتصادية يجب أن يترافق مع عدم تقييدها نشاطات الاستكشاف المطلوبة لإنجاز هذه الدراسة.

كما سبق ذكره، فإن الرقم الأخير الذي أعلنته وزارة الطاقة وهو ثمانية مليارات، هو بحسب وثيقتها ثمن كمية النحاس الصافي المقدر استخراجها، وهي 852 ألف طن تقريبًا، بحسب آخر أسعار النحاس في السوق العالمي، والتي بلغت في أيلول الماضي 9300 دولار للطن الواحد. والملاحظ هنا، يقول الإيراني، أن الوزارة، وباقي من صرحوا في الإعلام بشأن العائدات، للترويج لمشروع التعدين، طرحوا ثمن كمية النحاس المقدر استخراجها وفق سعر السوق العالمي بوصفه عائدًا صافيا للمشروع، متجاهلين الكلف الضخمة التي يتطلبها استخراج هذا النحاس.

نهاية العام الماضي أعلن موقع Miningintelligence المختص ببيانات التعدين في العالم، قائمة بعشر شركات استطاعت تحقيق أدنى كلفة تعدين للنحاس في الربع الثاني من العام 2020. وكان أدناها في البرازيل، حيث بلغت الكلفة 1411 دولار للطن، وأعلاها في المكسيك، وبلغت 3461 دولار للطن.

تختلف الكلفة، تقول الزغول، من موقع لآخر تبعًا لعدة عوامل تتعلق بالشكل الذي يوجد عليه النحاس، والعمق الذي يوجد فيه، وتبعًا لذلك تعقيد الطريقة المستخدمة لاستخراجه. كما تدخل في تحديدها أيضًا كُلف العمالة والمياه والنقل والتعامل مع النفايات وباقي العناصر الداخلة في عملية الإنتاج. والتي سبق القول إن تحديدها هو جزء من عملية حسابية بالغة التعقيد.

ورغم تعقيد احتساب الكلفة، يمكن من باب مناقشة الطرح الحكومي الداعم بقوة لمشروع التعدين، إجراء حسبة افتراضية لكلفة تعدين النحاس في الأردن، وذلك باستخدام متوسط كلفة التعدين للشركات العشر السابقة، وهي الكلف الأدنى على مستوى العالم. المتوسط هو 2751 دولار للطن. وبذلك تكون تكلفة تعدين 852 ألف طن نحاس نقي قدّرت سلطة المصادر الطبيعية وجودها، والتي تستخدمها وزارة الطاقة كأساس لدعم المشروع، هي مليارين و344 مليون دولار تقريبًا. ما يعني أن صافي العائد سيكون خمسة مليارات و577 مليون دولار. وهذا يقود إلى مسألة أخرى يتم تجاهلها في تصريحات المسؤولين، هي أن هذا المبلغ لا يمثل عائدًا خالصًا للحكومة، بل هو ربح الشركة الذي ستأخذ منه الحكومة حصتها. وإلى الآن، وفي ظل عدم وجود اتفاقية للتعدين، فإنه من غير المعروف كم ستبلغ حصة الحكومة. لكن لو افترضنا أن الطرفين سيتقاسمان العائد، فهذا يعني أن نصيب الحكومة سيكون مليارين و789 مليون دولار. ولأن المشروع سيكون على مدى 20 إلى 25 سنة، كما أعلنت وزيرة الطاقة، فإن الدخل الحكومي المتأتي من المشروع، في حال امتد على 25 سنة، سيكون 111 مليون و54 ألف دينار سنويًا.

والحسبة الافتراضية السابقة لم تأخذ في الاعتبار التغيرات المحتملة للتضخم النقدي، وأن الدولار بعد 10 و20 سنة، لن يكون بقيمته اليوم. كما لم تأخذ في الاعتبار تقلبات أسعار النحاس التي قد ترتفع أو تنخفض بشكل دراماتيكي، كما حدث خلال العشرين سنة الماضية.

فالسعر الحالي للنحاس قريب جدًا من سعره قبل 10 سنوات، إذ وصل في عام 2011 إلى تسعة آلاف دولار تقريبًا، لكنه انخفض بعدها فوصل إلى 5 آلاف دولار في عام 2016. ثم عاد ليرتفع في عام 2018 إلى 6530 دولار، قبل أن يرتفع ليصل 9300 دولار في أيلول من العام الحالي.

من هنا يصبح سؤال: هل يكافئ هذا العائد الدمار المرتقب لهذه البقعة البيئية الفريدة؟ وهل يمكن البحث عن بدائل لاستثمار هذه المنطقة دون تدميرها؟ ويقود هذا إلى سؤال آخر، هو أين يقف المجتمع المحلي الذي من المفترض أن يقام المشروع على أراضيه من كل ما يحدث؟

المجتمع المحلي وفرص التوظيف

إنه سؤال تفرضه حقيقة أن الطرفين؛ المروجين للمشروع والمناهضين له، استخدموا مصلحة أبناء المنطقة أداة في الصراع الدائر. فمن جهة، تؤكد الحكومة أن مشروع التعدين إن تمّ سيوفر ألف فرصة عمل مباشرة، و2500 فرصة عمل غير مباشرة، سيستفيد منها أبناء المنطقة. في حين يقول الإيراني إن المحمية تشكل مصدر دخل لأبناء المنطقة، والأهم أنها تفعل ذلك بطريقة مستدامة، ودون تدمير للبيئة.

يقول السوالقة إنه مثل غيره يسمع عن الوعود لكنه لا يصدقها، لأنها الوعود نفسها بالتنمية والتشغيل التي رافقت مشاريع كبرى أخرى، منها في الطفيلة بالتحديد مصنع الإسمنت الذي «خرّب» الأراضي الزراعية في المنطقة، ولوث الهواء، ولم ينل أبناء المنطقة من أرباحه إلا الفتات. كل ما يعرفه أنه متوجس من أن المشروع المقترح سيضر بالمحمية، ويقلل من جاذبيتها كوجهة سياحية، وهو أمر سيلحق الضرر باستراحته الصغيرة، ويعيده إلى الـ200 دينار التي يتقاضاها من وظيفته حارسًا للبرج.

وفي وقت يستفيد السوالقة بشكل غير مباشر من وجود المحمية، يقول العويضات، إن هناك من يستفيدون بصورة مباشرة منها. ففي عام 1998 تحولت محمية ضانا إلى «محمية محيط حيوي»، بناءً على ترشيح من جمعية «حماية الطبيعة». وهو برنامج بدأته اليونسكو في عام 1971. في هذا النوع من المحميات، يمتد مفهوم الحماية ليشمل إضافة إلى بيئة المنطقة من نباتات وحيوانات وطبيعة، البشر الموجودين فيها. فيصبحون شركاء في برامج المحمية، ومستفيدين من العوائد الاقتصادية للمشاريع المرتبطة بها. وهي مشاريع تراعي مبدأ «الاستدامة»، أي استخدام موارد المنطقة مع الحفاظ على بيئتها والتنوع الحيوي فيها. 

ومن هذه المشاريع يقول رائد الخوالدة، مدير السياحة البيئية في «جمعية حماية الطبيعة»، ثلاثة أماكن للضيافة تابعة للجمعية، في منطقة ضانا، خارج حدود المحمية، توظف 85 موظفًا من أبناء المنطقة. وهناك سبعة أماكن أخرى تقدم خدمة المبيت والطعام للسياح من زوار المحمية، يملكها أبناء المنطقة، تقع معظمها في القرية القديمة في ضانا. ويقول إنها كانت في الأصل منازل قديمة لأبناء القرية، قبل أن يهجروها إلى قرية القادسية. وكانت الجمعية حصلت على منحة من الـUSAID، لترميم هذه البيوت وتحويلها إلى فنادق صغيرة.

يضيف العويضات أن الجمعية ترتبط مع جمعية مربي المواشي في المنطقة ببرنامج للرعي، يسمح بموجبه لعدد من مربي الأغنام بالرعي داخل المحمية في مناطق محددة مدة سبعة أشهر في السنة، ما يؤدي إلى توفير كلفة العلف عليهم خلال هذه المدة. كما تعمل الجمعية وسيطًا بين زوار المحمية ومالكي المركبات في المنطقة، لتوفير وسائل نقل وتجول لهؤلاء الزوار. وهناك أيضًا، مشاغل تابعة للجمعية، تعمل في تجفيف الأعشاب، وصناعة المربيات والصابون والجلود والشموع والاكسسوارات، التي تشتري مستلزماتها من المواد الخام من المجتمع المحلي. وتوظف عاملات من بنات المنطقة.

من هؤلاء العاملات غازية الخصبة (54 سنة)، وهي واحدة من 12 سيدة يعملن في مشاغل الجمعية، ومن أوائل من عملن فيها، حيث بدأت قبل 24 سنة تقريبًا في تجفيف وتعبئة الأعشاب، وصناعة المربيات، براتب 84 دينارًا، وتتقاضى الآن راتبًا إجماليًا مقداره 314 دينار، تستلم منه بعد الخصومات 255 دينارًا، تعيل به ابنتها الوحيدة، وزوجها الذي أقعده المرض منذ سنوات عن العمل في دكان بقالة كان يملكه في قرية ضانا.

لقد ساهمت خلال السنوات الماضية في تدريب عشرات الفتيات اللواتي مررن على المشغل. وعملت معهن في صناعة المنتوجات التي تعرض في مراكز بيع تابعة للجمعية، أو تجهز في طلبيات وتصدر للخارج. وتقول إنها في ظل الشح الشديد لفرص العمل في منطقتها، ممتنة كثيرًا لفرصة العمل مع الجمعية، التي توفر لها راتبًا منتظمًا، واشتراكًا في الضمان الاجتماعي وتأمينًا صحيًا لها ولابنتها، وإن لم تتمكن من شمول زوجها به. لكن رحلتها وصلت إلى نهايتها، حيث ستتقاعد العام القادم وسينخفض راتبها، كما أبلغوها في مؤسسة الضمان الاجتماعي، إلى 161 دينارًا. ورغم أنها بعد هذه السنوات من العمل في هذا المجال، صارت خبيرة فيه، لكن فكرة أن تنشيء مشروعها الخاص هي فكرة مستبعدة تمامًا، لأنها لا تملك رأس المال لتمويل ما يحتاجه المشروع من أوان ومواقد وعبوات زجاجية للتعبئة، ومراوح ومساحات واسعة تتسع لمناشر تجفيف الأعشاب.

منتجات المشاغل التابعة للجمعية معروضة في دكان بيت الضيافة.

يقول الخوالدة إنه مهما حاولت الجمعية توفير فرص تشغيل، فإنها ستظل محدودة بعدد محصور من أبناء المنطقة. والجمعية، في النهاية، ليست «جمعية خيرية»، والتشغيل ليس أحد مهامها. مهمتمها الأساسية هي أن تحمي بيئة المنطقة بحسبه، وهذا ما تحاول أن تفعله. لكن يبقى أن تتحرك جهات أخرى معنية، على رأسها وزارة السياحة، وهيئة تنشيط السياحة، لتتولى استغلال ما لم يستغل من إمكانيات سياحية في المنطقة التي تتمتع بمقومات طبيعية هائلة. فزوار المنطقة، بعد زيارة المحمية لا يكادون يجدون شيئًا يفعلونه. فالمنطقة تفتقر للمتنزهات، وخدمة المرافق الصحية. كما أنها ليست صديقة لسياحة العائلات التي تأتي مع أطفالها. لأن الكبار يمكن أن يمارسوا المشي، لكن لا نشاطات صديقة للأطفال فيها.

في مواجهة افتقار المنطقة إلى جهد مؤسسي حكومي يستثمر في إمكانياتها السياحية، يجد أبناء المنطقة أن عليهم أن يفعلوا ذلك بجهودهم الفردية. من هؤلاء سليمان الحساسين (32 سنة)، الذي بدأ قبل عامين عمله دليلًا سياحيًا مستقلًا. فبدأ يرتب رحلات مسير على طريق البترا-ضانا. وهو جزء من مسار درب الأردن افتتح قبل عامين. ورغم أن هذا المسار لن يكون ضمن المساحة المنوي اقتطاعها من المحمية، لكنه قريب منها. والبدء بمشروع للتعدين، يقول الحساسين، سيفقد المنطقة بالتأكيد جاذبيتها كوجهة سياحية لدى المهتمين بسياحة المغامرات، والسياحة البيئية بشكل عام. وهذا سيضر بعمله وغيره من الأدلاء. ومع ذلك، يقول إن أي قرار بهذا الشأن يجب أن تكون بوصلته المصلحة العامة، وجزء منها مصلحة من يعانون من فقر مدقع في مناطق مثل فينان وقريقرة وغيرها. ومن هنا يكون دعم المشروع من قبلهم مفهومًا، لأنه في ظل محدودية فرص العمل في السياحة التي يولدها الأفراد بجهودهم الذاتية، فهناك قناعة أنه «إذا صار المشروع رح تكون [الفرص] أضعاف».

أنور (27 عامًا) من المستبشرين بالعمل في المشروع. إذ حصل على دبلوم سياحة في عام 2016، وعمل في غسل الصحون في أحد فنادق الخمس نجوم في البترا، براتب أساسي قدره 175 دينارًا، كان يصل مع الإضافات إلى 300 دينار. لكنه ترك الوظيفة لأنه اكتشف أنها لن توصله إلى أي مكان «لو قعدت 10 سنين وانا أجلي مش رح استفيد شي، بدي أطور من حالي». حاول بعدها إقامة كشك صغير في ضانا لتقديم المياه والعصائر، لكنه فشل في تأمين رأس المال. والآن يضع آماله على مشروع التعدين المرتقب. يقول إنه لا يعرف طبيعة فرصة العمل الذي سيحصل عليها، لكنه يأمل أن تكون أفضل. «إن شاء الله الوظيفة في النحاس أحسن. إذا مش أحسن حيكون الوضع صعب».

لكن الخوالدة يؤكد على أن تدخلًا حكوميًا جديًا لاستثمار المنطقة سياحيًا بالشراكة مع أبناء المنطقة، وبطريقة تضمن توزيع العوائد على أكبر عدد منهم، هي أفضل بمراحل من مشروع للتعدين ينفذ على مدى عشرين عامًا، ويترك الأرض بعد تعدينها خرابًا. على الأقل سيكون هذا استثمارًا مستدامًا ينتقل من جيل إلى آخر، لأنه سيتم باستثمار الطبيعة دون تخريبها.

  • الهوامش

    [1] محاضرة نظمتها وزارة الطاقة يوم 6 أيلول 2021 لوسائل إعلام في مقر الوزارة لشرح تطورات قضية النحاس في ضانا.

    [2] وثيقة أعدتها وزارة الطاقة، وزودت بها الصحفيين عقب محاضرة نظمتها يوم 6 أيلول 2021، في مبنى الوزارة، لشرح تطورات قضية نحاس ضانا.

    [3] المصدر السابق.

    [4] المصدر السابق.

    [5] تعليمات تنفيذ نظام المحميات الطبيعية والمتنزهات الوطنية وأسس وشروط إنشاء المحميات الطبيعية والمتنزهات الوطنية ومراقبتها وسائر الشؤون المتعلقة بها لسنة 2005، البند 2 من المادة 4.

    [6] نظام تقييم الأثر البيئي رقم 37 لسنة 2005.

    [7] Copper With Cost, Human Rights and Environmental Risks in the Mineral Supply Chains of ICT: A case study from Zambia. Linda Scott Jakobsson. 2019.

    [8] Water Risk Filter Research Series, An Analysis of Water Risk in the Mining Sector. Alexis J. Morgan and Rylan Doson. 2020.

    [9] وثيقة أعدتها وزارة الطاقة، وزودت بها الصحفيين عقب محاضرة نظمتها يوم 6 أيلول 2021، في مبنى الوزارة، لشرح تطورات قضية نحاس ضانا.

    [10] المصدر السابق.

    [11] منعًا للبس، يجب الإشارة هنا إلى أن هذا الرقم هو نتيجة عمليات الاستكشاف الأخيرة التي أجرتها «المتكاملة»، في حين أن الـ45 مليون طن التي أعلنتها وزارة الطاقة سابقًا هي نتيجة دراسات سلطة المصادر الطبيعية.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية