شبكة من الطرق الشعاعية تربط عمان بما حولها من جميع الاتجاهات، مركزها هو وسط البلد. هكذا بدت شبكة النقل في عمان في تقرير صادر عن مخطط عمان الكبرى الشمولي للتنمية، عام 1988.
في النصف الثاني من القرن العشرين، كان لعمان باعتبارها العاصمة خصائص مختلفة عن اليوم من حيث فرص العمل والتجارة؛ فقد كانت تلك الفرص تتركز عمومًا في منطقة وسط المدينة، التي تكونت تلقائيًا عند تقاطع سلسلة الوديان الحادة التي تفصل بين الجبال التي قام عليها بناء عمان الحديثة منذ نشأتها كمدينة، بينما سكن الناس التلال المحيطة.
وبينما كانت عمان الكبرى تشهد توسعًا عمرانيًا، تطورت هذه الطرق الشعاعية لتواكب التوسع وتربط المناطق السكنية والصناعية ذات النمو الحضري المطرّد، التي كانت منفصلة عن مركز المدينة، لكنها بقيت تُعتبر جزءًا منها. توسعت حدود عمان الكبرى كبلدية عدة مرات من 21 كم2 في عام 1964، لتصل إلى أوسع مساحة لها في عام 2007 بنحو 1662 كم2، قبل الرجوع في أيلول 2011 مع نهاية دمج أمانة عمان الكبرى إلى أقل من نصف المساحة كحدود حالية للمناطق التابعة للأمانة. وللتخفيف من الازدحام نتيجة زيادة حركة المرور على الطرق الشعاعية، تم التخطيط لسلسلة من الطرق الدائرية في تقرير المخطط الشمولي (الذي أصدره الفريق الفني المشترك بين أمانة عمان وشركة دار الهندسة للاستشارات)، وشُيّد جزء من هذه الطرق دون تبني المخطط كاملًا.
يطرح الحديث عما يؤثر في شبكة نقل عمّان، وما وضعه ذلك المخطط في عام 1988، عددًا من القضايا الرئيسية المتعلقة بحركة المرور والنقل العام في ذلك الوقت، والتي يمكن اعتبارها نواة للقضايا المتجددة نفسها التي تشهدها العاصمة عمان إلى وقتنا الحاضر، إلا أنها أصبحت على درجة أعلى من التعقيد. فالمناطق المحيطة بالمركز، و التي توصل إليها شبكة الطرق الشعاعية، أصبحت مناطق لتركيز استخدامات الأراضي التجارية الجديدة، ولكنها في الوقت ذاته افتقرت للقدر الكافي من المرافق الخدماتية لهذه الاستعمالات التجارية، إذ لم يتوفر ما يكفي من مواقف للسيارات، أو وسائل للوصول لهذه المناطق، وهو ما أدى إلى الازدحامات المرورية.
الناس لا تتحرك من أجل القيام بفعل الحركة بحد ذاته بل أن الناس تنتقل للوصول إلى وظائفها، والفرص التعليمية، والمناسبات الاجتماعية والترفيهية، وغيرها.
قضية أخرى امتدت منذ ذلك الوقت حتى الآن هي تشتت استخدامات الأراضي، التي شملت على سبيل المثال المكاتب الحكومية والسفارات والفنادق وغيرها من الأنشطة التجارية في وقت واحد، وهو ما خلق الحاجة لرحلات كثيرة ومتكررة وحركة مرور في المناطق التي نُظّمت للاستخدامات السكنية في الجبال والتي تحوي الأغلبية السكنية، باعتبار أن مركز المدينة هو منطقة ذات طابع تجاري وخدماتي أكثر من سكني.
عند مقارنة هذه القضايا في إطار ما تشهده عمان اليوم من تطور مفهوم المراكز التجارية إلى مراكز تسوق كبيرة وضخمة ومباني متعددة الاستخدامات ومتعددة الطوابق، فإن المشكلة نفسها لا تزال قائمة مع المزيد من التعقيد من حيث حجم المراكز الحضرية وتنوع أنشطتها وروّادها وعدد المستخدمين القادرة على احتوائها. فقد وضعت هذه المباني ومراكز التسوق الشاهقة البنيةَ التحتية للمدينة تحت ضغط ملحوظ، وخاصة شبكة الشوارع. فيما لا تزال مدن كثيرة حول العالم، ذات كثافة بناء أعلى من عمان، تعمل بشكل جيد إلى حدٍ ما من ناحية النقل، كونها تعتمد على أنظمة النقل العام الفعالة التي يمكن أن تحمل أعدادًا كبيرة من الناس للانتقال إلى هذه الوجهات التي تستوعب بدورها أعدادًا كبيرة من الزوار.
هذه الإشارات تعكس غياب التقدير للقضايا الجوهرية التي هي الأساس وراء الحركة والمرور في مدينة مثل عمان. من أهم المفاهيم المتعلقة بالنقل -وهو ما تطرق له أيضًا خبير النقل حازم زريقات في إحدى مقالاته- مفهوم «التنقل» أي قدرة الناس والبضائع على التحرك بحرية وكفاءة من مكان إلى آخر، و«الوصولية» أي القدرة على الوصول إلى الأنشطة الاقتصادية والاجتماعية وغيرها. هذان المفهومان يمكن أن يتوفرا فعلًا إذا كان الهدف الرئيسي لنظام النقل في المدينة هو تسهيل حركة الناس والبضائع؛ لا للسيارات والحافلات والمركبات.
ما ينبغي أن يكون مفهومًا، وما كان يذكره زريقات كذلك في مقاله، هو أن الطلب على أي نظام نقل هو طلب مشتق من الأنشطة الأخرى؛ فالناس لا تتحرك من أجل القيام بفعل الحركة بحد ذاته بل أن الناس تنتقل للوصول إلى وظائفها، والفرص التعليمية، والمناسبات الاجتماعية والترفيهية، وغيرها من الأنشطة. لذا، فإن فهم هذه الفكرة، التي تبدو بديهية، وضمان أن يكون لها حضور واضح خلال عملية صنع القرار والتخطيط، يمكن أن يكون له ثقل التأثير على موضوع النقل الحضري في عمان.
يقود الحديث عن التنقل والوصولية إلى مفهوم آخر هو التخطيط غير الاستباقي، الذي يمكن لمسه في العقود القليلة الماضية أثناء تخطيط النقل الحضري بينما كانت مدينة عمان تتطور كعاصمة. فالتعامل مع قضايا الحركة والمرور تم بعقلية الحلول اللحظية الهندسية للبنية التحتية، حيث كان بناء مشاريع البنية التحتية الضخمة، التي تحتاج إلى تكلفة عالية نسبيًا ووقت طويل السبيلَ الوحيد لدى الجهات المسؤولة للخروج من ازدحام حركة المرور. وبطبيعة الحال، شجع ذلك لقدوم واستخدام المزيد من السيارات، مع قلة الاهتمام بالحلول التي تذهب إلى ما أبعد من توسيع البقعة الجغرافية وتسهيل حركة السيارات. حلول البنية التحتية الهندسية هذه أثبتت خلال تطور المدينة أنها غير فعالة بما يكفي وقصيرة المدى، فلا يزال الازدحام والاختناقات المرورية حاضرين في شوارع مدينة عمان.
فهم التنقل والوصولية يتطلب التفكير ليس فقط في الحلول الهندسية المادية، بل أيضًا في الناس، والسياسات، والخطابات المتناغمة. فالتحول نحو إيجاد حل مستدام للنقل الحضري لا يمكن أن يتحقق إلا في الإطار المؤسسي الصحيح، والأهم من ذلك كله، بإرادة سياسية قوية وجادة وملتزمة بإمكانها دمج كل الضروريات معًا لإنشاء نظام النقل المتعدد الوسائط، والمستدام، والمتوازن الذي يليق بمدينة فتية وسريعة التطور كعمّان.