الولايات المتحدة المنقسمة

الجمعة 08 تشرين الثاني 2024
الولايات المتحدة.

بعد موسم انتخابي درامي، بدأ بحملة مترنحة لجو بايدن، قبل أن ينسحب تاركًا المجال لنائبته كامالا هاريس للترشح عن الحزب الديمقراطي، وشهد ما وُصِف بمحاولة اغتيال للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، وقبل ذلك وبعده حرب إبادة إسرائيلية مستمرة بدعم وتمويل وغطاء أمريكي، يعود الرئيس السابق ترامب إلى البيت الأبيض بعدما حصد أغلبية أصوات المجمع الانتخابي، وكذلك أغلبية الأصوات الشعبية، فيما يصفه أنصاره بالاكتساح، خاصة وأنه فاز بجميع «الولايات المتأرجحة»، غير المحسومة ديمقراطيًا أو جمهوريًا، والتي عادة ما تحمل الوزن الأكبر في تحديد نتيجة السباق الانتخابي الأمريكي. 

جاء فوز ترامب مفاجئًا للبعض، ممن رأوا أن فترته الأولى كانت كفيلة بإنهاء حياته السياسية للأبد. لكنه لم يفاجئ آخرين ممن رأوا أن إدارة بايدن وهاريس أظهرت أن الديمقراطيين لم يكونوا أفضل حالًا في كثير من القضايا، وأنها تعاملت باستخفاف مع كثير من الناخبين، ومن بينهم الأمريكيون العرب والمسلمون ممن قوبلت مطالباتهم بإنهاء الحرب على غزة ولبنان بالتجاهل. 

لفهم أسباب هذا الفوز وأبعاده وتداعياته المتوقعة على المشهد الداخلي الأمريكي وعلى السياسة الخارجية، حاورنا عماد الرواشدة رئيس تحرير مجلة المراسل الصادرة من واشنطن.

حبر: بعد الاستقطاب الشديد الذي شهدته فترة رئاسته الأولى والأحداث التي رافقت وتبعت الانتخابات السابقة عام 2020 من هجوم على الكونغرس وتوجيه اتهامات جنائية له، بدا كأن لا عودة لترامب. برأيك كيف يمكن تفسير فوزه اليوم؟ ما العوامل التي ساهمت في عودته بهذه القوة؟

عماد الرواشدة: المعيار الأساسي في فهم لماذا فاز دونالد ترامب هو استطلاعات الخروج (exit polls)، لإنها المؤشر الوحيد الذي يظهر أسباب تصويت الناس للمرشح الذي صوتوا له. هذه الاستطلاعات تظهر أن الناخبين صوتوا في الغالب بناءً على العامل الاقتصادي كسبب أول. السبب الثاني كان الهجرة، والسبب الثالث كان الإجهاض. بالتالي، يمكن أن نستشف أن ترامب عاد بشكل أساسي نتيجة شعور بالحنق لدى ناخبيه على الأوضاع الاقتصادية خلال إدارة جو بايدن. لكن هناك عوامل أخرى لا تظهرها هذه الاستطلاعات، سنتحدث عنها لاحقًا.

مع نهاية السنة الأولى لبايدن، ارتفعت معدلات التضخم بشكل كبير في الولايات المتحدة. ففي بداية إدارة بايدن، الذي ورث الوضع الاقتصادي من ترامب في أواخر 2020، كان سعر غالون البنزين حوالي 1.80 دولار. مع نهاية 2021، وصلت الأسعار لدولارين ونصف، ثم ارتفعت مجددًا مع بداية 2022، ووصلت 5-6 دولارات للغالون بالمتوسط. طبعًا هذا جاء في إطار موجة عالمية من التضخم، لكن الأمر ازداد سوءًا مع حرب أوكرانيا في شباط 2022.

بعدها، ارتأت الإدارة الأمريكية إنه من أجل كبح جماح التضخم يجب رفع نسب الفائدة، فبدأ الاحتياطي الفيدرالي بسلسلة رفعات لأسعار الفائدة وصلت في نهاية المطاف لحوالي 6%، وهو ما رفع الأسعار مجددًا على المواطنين. إن أردنا تلخيص «الحلم الأميركي» في كلمة واحدة فهو شراء البيت، بمعنى أن يكون الإنسان قادرًا على إيجاد عمل كريم يمكّنه في نهاية المطاف من امتلاك بيت وسيارة. حين ارتفعت أسعار الفائدة، ارتفعت الفوائد على القروض البنكية للأفراد. في عهد ترامب، كانت الفائدة على القرض العقاري في أدنى مستوياتها بنسبة 2.75% على ما أذكر، وكان ذلك خلال الجائحة. في عهد بايدن، وصلت هذه النسبة إلى 6%، فتوقف شراء البيوت، ولجأ الناس للاستئجار، الذي ارتفعت أسعاره كذلك بسبب زيادة الطلب عليه. كما ارتفعت أسعار المواد التموينية في المحال التجارية بالمعدل من 19% إلى 24%، باختلاف التقديرات. 

بالتالي، كان المواطن الأمريكي يعاني حين يصل محطات تعبئة الوقود، وحين يذهب للمحال التجارية، وحين يريد أن يشتري بيتًا، وحين يريد أن يهرب من كل ذلك للإيجار. وبات أمام حلقة مفرغة من المعاناة الاقتصادية، استطاع ترامب والحزب الجمهوري الاستثمار فيها.

من المعروف أن الحزب الموجود في السلطة دائمًا موقفه أضعف خلال الانتخابات، لأن الناس ستسأله: إن كنت قادرًا على تحسين الأوضاع، لمَ لم تحسنها وأنت في السلطة؟ بالتالي موقف الطرف المنافس، أي الجمهوريين وترامب، كان أقوى، وهذا عزّز فرصه بالفوز.

لو سُئل المستطلعون عن أثر السياسة الخارجية في قرارهم، لربما قالوا إن تمويل أوكرانيا و«إسرائيل» بعشرات المليارات، في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية، قد يكون دافعًا في تصويتهم. لكن الاستطلاعات لا تسألهم بشكل مباشر عن هذه الأمور.

النقطة الثانية هي الهجرة. معدلات الهجرة لغير حاملي الوثائق، أو ما يسمى بالهجرة غير الشرعية من دول أمريكا اللاتينية، زادت بشكل كبير جدًا في عهد بايدن، إذ كان ما لا يقل عن 100,000 مهاجر دون وثائق يعبرون الحدود إلى الولايات المتحدة كل شهر. ترامب استثمر ذلك وسمّاه «غزوًا»، وقال إن جزءًا من هؤلاء ينتمون لكارتيلات المخدرات، وإنهم زادوا نسب الجريمة، وإن إدارة بايدن لا تفعل شيء لإيقاف كل ذلك. في المقابل، يقول ترامب: أنا تعهدت ببناء جدار مع المكسيك، وكان لدي سياسة واضحة، ولم يكن الوضع في عهدي بالصورة التي هو عليها الآن. والسياسات الليبرالية في ما يسمى الاحتواء والتعاطف مع المهاجرين أوصلت البلاد لمرحلة من الفوضى. ففي نهاية المطاف، مقدرات الحكومة الفيدرالية لا تكفي للعناية بهؤلاء المهاجرين حتى يتمكنوا من إيجاد عمل وتصويب أوضاعهم القانونية داخل البلد. وكل هذا عبء على الحكومة الفيدرالية، وعبء أمني أيضًا على الأجهزة الأمنية. كان هذا هو الطرح الذي قدمه ترامب، ويبدو إنه وجد آذانًا صاغية تحديدًا في الولايات الجنوبية. فمن بين الولايات السبع المتأرجحة ولايتان حدوديتان مع المكسيك هما أريزونا ونيفادا فاز بهما ترامب.

بالتالي، الاقتصاد كان عاملًا، وكذلك موضوع الهجرة. لكن هناك عامل آخر لا يتحدث عنه كثيرون، وهو السياسة الخارجية. استطلاعات الخروج لا تقول إن السياسة الخارجية كانت جزءًا أساسيًا من أسباب المصوتين، لكن إذا قرأت النتائج بدقة ستلاحظ أن الولايات المتأرجحة السبع فيها عشرات الآلاف ممن صوتوا لصالح مرشحة الطرف الثالث، جيل ستاين عن حزب الخضر، خاصة في ميشيغان، وهي محل تركز العرب، وكذلك بنسلفانيا، اللتين خسرهما الديمقراطيون. جيل ستاين تبنت الدعوات لوقف إطلاق النار، ووقف الانحياز لـ«إسرائيل»، وهذا مؤشر على أن السياسة الخارجية كانت مؤثرة. 

في نهاية المطاف، لو سُئل المستطلعون عن أثر السياسة الخارجية في قرارهم، لربما أشاروا إلى أن تمويل الولايات المتحدة لأوكرانيا بالسلاح وعشرات مليارات الدولارات على مدار سنتين، إضافة لتمويل «إسرائيل» بعشرات المليارات منذ أكثر من عام، في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية الأمريكية، قد يكون دافعًا في تصويتهم. لكن استطلاعات الخروج لا تسألهم بشكل مباشر عن هذه الأمور، بل تسألهم عن الدافع عمومًا، وأول شيء يخطر في بال المواطن الأمريكي حينها هو الاقتصاد. لكن من الصعب تجاهل الحروب التي كانت الولايات المتحدة تديرها ودفعت فيها عشرات المليارات من الدولارات، ورفضت الوصول لأي تسويات بشأنها في أوكرانيا أو في فلسطين، ومن الصعب تخيل أنها لم تؤثر في قرار الناخب الأميركي.

كيف استطاع ترامب الفوز بالولايات السبع المتأرجحة؟ هل كان هناك ولايات شكلت مفاجأة في تصويتها له مقارنة بالانتخابات السابقة؟

هو فاز بهذه الولايات المتأرجحة، لكن هناك نقطة يجب أن ننتبه لها، وهي أنه لم يفز بنسب كبيرة. فالفارق بينه وبين كامالا هاريس على مستوى الأصوات الشعبية في هذه الولايات كان ما بين 60 و150 ألف صوت، وهذه ليست أرقامًا كبيرة. هذا يدل على أن هناك انقسامًا عموديًا في البلاد. إذ نستطيع القول إن عدد المتبنين للسياسات الديمقراطية، تحديدًا في مواضيع الهجرة وفي المواضيع الثقافية، يقابلهم عدد موازٍ لهم من الحزب الجمهوري غير مؤمنين بهذه السياسات. لو كانت الفروق بملايين الأصوات عندها يمكن أن نقول إن البلد ككل ذهبت باتجاه الحزب الجمهوري. لذلك، ليس هناك طرف يستطيع القول بأنه يمثل كل الأمريكيين.

هناك ولايات مفاجئة ضمن الولايات المتأرجحة، لأن جزءًا منها كانت تاريخيًا جمهورية مثل أريزونا، والجزء الآخر كانت تاريخيًا ديمقراطية، فيما يسمى بالجدار الأزرق، وهي ميشيغان، ويسكونسن، وبنسلفانيا. الديمقراطيون يعتبرون هذه الولايات جدارًا لأنهم يعرفون أنهم إن فازوا فيها سيصلون تقريبًا إلى الرقم السحري الذي يبحثون عنه في المجمع الانتخابي وهو 270 صوتًا. الصدمة كانت أنهم خسروا هذه الولايات الثلاث، بعدما استثمروا فيها بشكل كبير على مستوى الزيارات، ومحاولة مخاطبة المناطق الحضرية فيها، وسكان الضواحي، وحملة الشهادات، وتحديدًا الملونين منهم. حاول الديمقراطيون تصميم خطاب يستهدف هذه الفئات، باعتبارها تمثل الحزب الديمقراطي اليوم. لكن ما حصل هو أن هذه الفئات تشتتت أصواتها بين من صوتوا لجيل ستاين، ومن لم يخرجوا للتصويت، ومن صوتوا لترامب. 

لو أخذنا ميشيغان، وهي ولاية فيها تركز عربي كبير، ففي الانتخابات التمهيدية أي الحزبية الداخلية، خرج حوالي 100,000 عربي ومسلم وصوتوا بـ«غير ملتزم» لبايدن، والسبب كان فلسطين. أعطى العرب والمسلمون إشارة للديمقراطيين بأننا لن نصوت لكم إن لم توقفوا الحرب وتكفوا عن انحيازكم لـ«إسرائيل». لكن الديمقراطيين أبدوا -على الأقل وفق هؤلاء- قدرًا كبيرًا من الغرور، ففي الاجتماعات مع العرب في ميشيغان، حينما كانت هاريس تتحدث عن خططها المستقبلية، كان المناصرون لفلسطين يطرحون عليها أسئلة محرجة بخصوص الإبادة في غزة، وأقصى ما كانت تقوله هو: «I’m speaking»، أي: أنا أتحدث، عليكم أن تصمتوا. وفي إحدى المرات اللافتة، أخبرت أحد هؤلاء المناصرين للقضية الفلسطينية بأنهم إن لم يصوتوا لها، فإن البديل هو ترامب. بالنسبة للعرب والمسلمين كان هذا التصريح في منتهى الإهانة، لأنها لم تقدم شيئًا، هي فقط هددتهم بأن عدم تصويتهم للديمقراطيين سينتهي بهم في يد ترامب الذي فرض عليهم حظرًا للسفر من دول ذات غالبية مسلمة. يبدو أن هذا الأسلوب دفع العرب بشكل كبير للتصويت ضدها، ويتضح ذلك من أن الفرق في ميشيغان بينها وبين ترامب على مستوى الأصوات الشعبية حوالي 80,000 صوت، وهو أقل بقليل من الأصوات التي صوتت بـ«غير ملتزم». نحن نعرف أن عدد العرب الذين يصوتون في الولاية تقريبًا بين 100 و120 ألفًا، بالتالي هي غالبًا خسرت الولاية بسبب أصوات العرب.

طبعًا الديمقراطيون الآن يتباكون على الحائط الأزرق، وخبراؤهم يقولون إن القضية الفلسطينية والسياسة الخارجية ليس لها أي علاقة بخسارتهم، لأنهم خسروا بنسلفانيا التي لديها 19 صوتًا في المجمع الانتخابي، بينما ميشيغان لديها 15 صوتًا. لكن الأرقام تظهر أنهم حتى لو فازوا ببنسلفانيا وويسكونسن، لم يكونوا سيصلون إلى 270 صوتًا بدون ميشيغان. بالتالي الحديث عن أن ميشيغان لم تكن لتخلق أي فرق غير دقيق، لأن الصوت العربي هو الصوت الوازن فيها، ولأنها دائمًا ما يكسبها أو يخسرها المرشح بفارق بسيط، يتراوح بين 100-150 ألف صوت. في 2016، تغلب ترامب على هيلاري كلينتون في ميشيغان بفارق 11,000 صوت فقط. وبايدن تغلب على ترامب فيها بفارق 150,000 صوت، الغالبية الكاسحة منهم عرب صوتوا ضد ترامب في 2020 بسبب الحظر على الدول العربية والمسلمة، واعترافه بالقدس عاصمة لـ«إسرائيل»، وبالسيادة الإسرائيلية على الجولان، واتفاقيات التطبيع مع دول الخليج.

في بعض أوساط الديمقراطيين يوجَّه اللوم للعرب والمسلمين، إضافة لفئات أخرى مثل اللاتينيين، على خسارة هاريس. إلى أي حد تجد ذلك دقيقًا وفق ما تعكسه البيانات؟

إلى حد بعيد، صحيح. السياسة الخارجية وتحديدًا في الشرق الأوسط، حيث تدور آخر حرب مولها الأمريكيون، بالإضافة لأوكرانيا قبلها، كانت عاملًا حاسمًا عند العرب والمسلمين. صحيح أن أعدادهم ليست كبيرة، لكن النظام الانتخابي الأمريكي القائم على المجمع الانتخابي يتيح أن يخسر المرشح بعشرات آلاف الأصوات فقط. وأي عدد من العرب في أي ولاية لا يقل عن عشرات الآلاف، لذا هم قادرون على إنجاح أو إفشال مرشح.

لكن القضية لا تتعلق فقط بالعرب، هناك أيضًا المسلمون من غير العرب، من المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، وهناك أيضًا اليهود المعارضون للانحياز الأمريكي لـ«إسرائيل»، وهؤلاء قادوا المظاهرات على مدار السنة الماضية، هؤلاء أيضًا في الغالب صوتوا ضد هاريس. هناك أيضًا بيض ديمقراطيون ليس لهم علاقة لا باليهود ولا بالعرب، كان للحرب على غزة تأثير على توجهاتهم الانتخابية. ربما أعدادهم أقل بكثير من العرب المسلمين واليهود، لكن في نهاية المطاف -كما أشرت- بسبب النظام الانتخابي الأمريكي، قد يخسر المرشح بسبب بضعة آلاف من الأصوات، وهذا حصل في كل الولايات المتأرجحة. بالتالي أي قوة تصويتية، مهما كانت هامشية من حيث نسبتها في المجتمع الأمريكي، في ظل النظام الانتخابي الحالي قادرة على خلق فرق، وإنجاح مرشح، وإفشال آخر. بالتالي، القول بأن السياسة الخارجية لم تكن مؤثرة، غير دقيق نهائيًا.

ونحن نعرف أن الجمهوريين استثمروا إعلاميًا وسياسيًا في موضوع السياسة الخارجية، للقول بأن إدارة بايدن أدخلت البلاد في صراعات خارجية لم يكن لها داعي، ووضعت الجنود الأمريكيين في عين العاصفة، وأن كل هذا عبث، وعلى الولايات المتحدة أن تهتم بنفسها أكثر، وأجندة ترامب المعلنة بالفعل تذهب بالضد من الحروب الخارجية. هذا الكلام لا يحب أن يسمعه الديمقراطيون، ولا يحب أن يسمعه بعض العرب والمسلمين في المنطقة، لكن السياسة المعلنة لترامب وللمقربين منه والقناعة السياسية لديهم بأن على الولايات المتحدة أن تنكفئ على نفسها وأن تهتم بشؤونها الداخلية، وأن تتوقف عن إدارة النزاعات في العالم، وأن تعمل على تسويتها وتصفيتها، بما في ذلك النزاع في أوكرانيا، والحرب في الشرق الأوسط. 

هل يمكن القول إن ما صنع الفارق لصالح ترامب ولعب الدور الأكبر في إنجاحه هم المستنكفون عن التصويت؟ 

هذا صحيح. في ميشيغان تحديدًا الغالبية كانت مع المقاطعة. قيادات الأمريكيين العرب والمسلمين مثل رشيدة طليب النائبة في مجلس النواب الأمريكي، وأيضًا قيادات المجالس المحلية في ميشيغان من العرب، دعوا للمقاطعة، بما فيهم عبد الله حمود عمدة أهم مدينة في ميشيغان ذات غالبية عربية، وهي ديربورن. هؤلاء لم يدعوا للتصويت لطرف ثالث، ولم يدعوا للتصويت لترامب لأنهم على خلاف إيديولوجي معه، بل دعوا للمقاطعة. هاريس غالبًا خسرت ولاية مهمة مثل ميشيغان من ولايات الجدار الأزرق بسبب المقاطعة أكثر منه بسبب التصويت لطرف ثالث أو التصويت لترامب.

قلت إن تعامل الديمقراطيين وهاريس مع العرب والمسلمين بغرور وتهديد دفعهم للتصويت لجيل ستاين أو ترامب، أو الامتناع عن التصويت. هل من أسباب أخرى جعلت هاريس غير قادرة على جذب أصواتهم؟

نعم بالتأكيد. هناك حالة من الحنق على الديمقراطيين طوال السنوات الماضية لسببين، الأول -والترتيب هنا ليس من حيث الأهمية- هو السبب الاقتصادي. العرب بشكل عام إما طبقة وسطى أو طبقة وسطى عليا. الكثير منهم أصحاب مشاريع صغيرة، وفي عهد ترامب استفادوا اقتصاديًا. كان الوضع الاقتصادي جيدًا إلى حد بعيد، حيث كانت مستويات التضخم منخفضة، كما أشرت سابقًا، والفوائد على القروض قليلة، والدعم للمشاريع الصغيرة خلال الجائحة كان كبيرًا. وحينما جاءت إدارة بايدن عانوا اقتصاديًا.

السبب الآخر المهم هو سبب ثقافي. فالحزب الديمقراطي باعتراف الديمقراطيين أنفسهم تحول إلى حزب نخبوي، يتحدث في قضايا ليس لها علاقة بالواقع المعيشي اليومي لمعظم الناس، ويحاول فرض أجندة ثقافية لا تناسب، ليس فقط العرب والمسلمين المحافظين، ولكن حتى الأمريكيين المحافظين في الولايات الجنوبية. فالتغطيات الإعلامية للهويات الجندرية، والاحتفال بتخصيص شهر كامل في الولايات المتحدة للاحتفال بالمثليين مثلًا، ورفع الأعلام الملونة على المباني الحكومية خلاله، ومحاولة فرض السياسات التي تتيح للأطفال تغيير جنسهم في ظروف معينة، كل ذلك من المؤكد أن غالبية العرب لا يوافقون عليه. فهم في الغالب، سواء كانوا مسيحيين أم مسلمين، محافظون بشكل عام في المسائل الجنسية، وفي المسائل العاطفية، وهم ربما أكثر تدينًا من بقية فئات المجتمع الأمريكي. مثل هذه السياسات أثارت الرعب في نفوس آلاف إن لم يكن ملايين العرب في الولايات المتحدة، والمسلمين بطبيعة الحال، وكان الاستثمار الجمهوري في مهاجمة هذه السياسات الثقافية كبيرًا جدًا.

يقدم الديمقراطيون عدة مبررات لخسارة هاريس، منها مثلًا عدم امتلاك حملتها الانتخابية وقتًا كافيًا، أو أن الناخبين حمّلوها أعباء بايدن، أو لم يصوتوا لها لأنها امرأة وغير بيضاء.. إلخ. إلى أي حدّ تجد هذه المبررات منطقية؟ ولماذا؟ 

جزء كبير من هذه المبررات هامشي، لأنه في نهاية المطاف أيًا كان الشخص الذي سيترشح عن الحزب الديمقراطي سواء هاريس أو غيرها، إن كان نائبًا للرئيس فسيجد نفس المصير، لأنه كما ذكرت في البداية، الإدارة الموجودة في السلطة حينما تخوض الانتخابات يكون موقفها أضعف. بالتالي، مسألة أنها امرأة أو ملونة، أو أنها ورثت الحملة قبل ثلاثة أشهر من يوم الاقتراع، ولم يكن لديها وقت كافي لتقديم برنامجها، هذه الأسباب قد تكون لعبت دورًا، لكنه بالتأكيد دور هامشي. أي شخص محل هاريس، نائب لبايدن، وفي ظل السياسات الاقتصادية والسياسة الخارجية التي ذكرتها، والسياسات الثقافية، كان سيجد نفس المصير في نهاية المطاف، لأن الأميركيين عاشوا خلال إدارة بايدن في ظروف اقتصادية وسياسية وثقافية كانت -بمعزل عن الأسباب- في منتهى السوء.

قد يختلف الديمقراطيون ويقولون لسنا السبب، هناك وضع دولي، والتضخم شمل كل دول العالم. بايدن حاول تخفيض معدلات التضخم، هي وصلت بالفعل 2% الآن، وهو الهدف الذي حدده الاحتياطي الفيدرالي، لذلك بدأ بتخفيض أسعار الفائدة لأول مرة منذ سنوات. بالتالي، بايدن بدأ يحقق بعض التقدم في هذه الملفات، لكنه كان متأخرًا جدًا. فهذا أتى قبل شهرين أو ثلاثة أشهر من يوم الاقتراع، لكن الأمر بحاجة لوقت طويل حتى يبدأ المواطن الأمريكي بتلمس الأثر. حتى الآن، أسعار السلع والمواد التموينية والبنزين والخدمات وفوائد القروض والرهون العقارية كلها ما زالت مرتفعة. هذه أمور تحتاج لسنوات ليتضح أثرها بالنسبة للناس، ويشعروا بحالة من الارتخاء.

فضلًا عن الرئاسة، حصد الحزب الجمهوري الأغلبية في مقاعد مجلس الشيوخ. كيف لهذا أن يؤثر على قرارات ترامب وسياساته داخل الولايات المتحدة؟ وكيف له أن يؤثر في سياساته الخارجية؟

هناك نقطتان؛ النقطة الأولى أن تعيينات حكومة ترامب تعتمد بشكل أساسي على الأغلبية في مجلس الشيوخ. لو كانت الأغلبية ديمقراطية سيصبح الحصول على موافقات وإعطاء الثقة صعبًا ومعقدًا للغاية. الآن الأغلبية جمهورية، بالتالي يستطيع تمرير تعيينات الحكومة بشكل سلس، وهو متحرر إلى حد بعيد من الضغط، ويستطيع تقديم أسماء تتفق مع سياسته. خلال إدارته الأولى، كانت المشكلة بالنسبة لترامب أنه لم يستطع الذهاب بعيدًا في تطبيق ما يعتقده صحيحًا، لأن الجمهوريين من الموالين له لم يمتلكوا غرفتيْ المجلس. صحيح أن ترامب والجمهوريين فازوا بغرفتي الكونغرس في 2016، لكنه فوز ظَلّله انقسام على ترامب داخل صفوف الحزب ومثله تحديدًا العضو الراحل جون ماكين. كان ترامب حينها وجهًا جديدًا وأثار انقسامًا داخل الحزب. اليوم غالبية من فازوا في الشيوخ يحملون فكرًا مطابقًا تمامًا لفكره وينظرون له كمخلص للبلاد وكموحد للحزب أيضًا في مواجهة ما يعتبرونها أجندة ليبرالية صوابية مخالفة للقيم والمصالح الاميركية.

النقطة الثانية متعلقة بالموافقة على القوانين. الغالبية الكاسحة من القوانين يجب أن يوافق عليها مجلس الشيوخ، وهيمنة الجمهوريين على المجلس تعني أن الكثير من القوانين الآن ستمر بسلاسة دون كوابح واعتراضات من قبل الديمقراطيين. لذا يخشى الديمقراطيون الآن من أن يستطيع ترامب إحداث تغييرات جذرية في النظام السياسي الأمريكي، وعلى مستوى السياسة الخارجية أيضًا، لأنه لأول مرة سيمتلك السيطرة على الشيوخ، ويبدو أنه في طريقه للسيطرة على مجلس النواب. وربما يحدث تغييرات مهمة جدًا في القضاء تمكنه من إنفاذ سياساته دون أي عوائق، وتمكنه من اتخاذ قرارات جوهرية مثل تقليص التمويل للوزارات الفدرالية باثنين تريليون دولار، وهي فكرة طرحها إيلون ماسك ويبدو أنه سيمضي قدمًا فيها، أو اختيار أعضاء المحكمة العليا الدستورية في حال فرغ أحد مقاعدها. فمجلس الشيوخ هو المسؤول الأساسي عن ملء هذا المقعد، ولو فرغ مقعد فسيكون البديل جمهوريًا. هذا يعني أن ترامب لديه سلطات واسعة في إعادة تشكيل البلاد «على صورته»، بحسب توصيف الديمقراطيين، مثلما أعاد تشكيل الحزب الجمهوري على صورته. قد تكون هذه الخشية مبالغًا فيها، لكن من الواضح مما نعرفه عن ترامب، أنه يملك برنامجًا سياسيًا مغايرًا وجذريًا مقارنة بالديمقراطيين، على مستوى السياسات الداخلية والسياسة الخارجية، وامتلاك غرفتي المجلس سيساعده بشكل كبير في إنفاذ هذه السياسات.

Leave a Reply

Your email address will not be published.