بعد أسر المقاومة الفلسطينية لعشرات الإسرائيليين في عملية السابع من أكتوبر، بدت «إسرائيل» ومجتمعها أقلّ اكتراثًا بهؤلاء الأسرى عمّا كانت عليه في كل عمليات الأسر السابقة، سواء تلك التي نفذتها فصائل منظمة التحرير أو حركات المقاومة الإسلامية في فلسطين ولبنان. وعلى مدار أشهر الحرب، قُتلَ في غزة العديد من الأسرى الإسرائيليين برصاص وقذائف الجيش الإسرائيلي نفسه أو بمفاعيل الحرب المتعددة ومنها الحصار وتدمير مؤسسات الرعاية الصحية. ومع تمسك نتنياهو بمحور فيلادلفيا لا يبدو أن ثمة صفقةً في الأفق، وهو ما يطرح السؤال عمّا تغيّر بالنسبة لـ«إسرائيل» حتى تضحي بأسراها مقابل استمرار حرب الإبادة الجماعية على غزة.
استندت سياسة استنقاذ الإسرائيلي حيثما كان إلى الأسس الأيديولوجية الممهّدة لحشد يهود العالم حول الفكرة الصهيونية وإقامة «دولة إسرائيل»، ثم ما لبثت أن تحوّلت هذه الأسس إلى مرتكزات نفسية عميقة في الشخصية الإسرائيلية. فالاستثمار في المسألة اليهودية ومعاداة السامية والمظلومية اليهودية في أوروبا، كان يعني أنّ دولة لليهود وحدها الكفيلة بتأمين حياة اليهودي وحمايته. هذا هو العقد الضمني بين الحركة الصهيونية و«إسرائيل» من جانب، وبين يهود العالم والإسرائيليين منهم خصوصًا من جانب آخر. ومن هذا المنطلق يمكن النظر لحيثية البحث المستمرّ عن الطيار الإسرائيلي رون أراد الذي سقطت طائرته في لبنان عام 1986 قبل أن تأسره حركة أمل ويختفي بعد ذلك نهائيًّا، وخطف أدولف أيخمان ومحاكمته ومن ثم إعدامه في «إسرائيل» عام 1962، كحيثية واحدة، إثبات القدرة على تأمين الإسرائيلي والدفاع عنه والثأر له.
باعتبارها دولة قائمة على الاحتلال، لم تنجح «إسرائيل» بأن تكون المكان الأكثر أمانًا ليهود العالم، على العكس من ذلك، صارت المكان الأكثر خطرًا عليهم وهو ما استدعى من الدولة التي تدرك بعمق اغترابها عن المنطقة، وتفتقد مبرر الوجود الطبيعي فيها، أنّ تكثف من التزامها تجاه المجتمع الإسرائيلي بالحرص على الإنسان اليهودي مقابل تمسكه بالفكرة الصهيونية.
ظل الالتزام المتجدّد للدولة التي «لا تتخلّى عن مواطنيها» يكتسب دوافع مستمرّة طول الصراع، فما دامت «إسرائيل» المكان الأكثر خطرًا على اليهود في العالم، فعلى الدولة الاستثمار في الخوف لمنع اليهودي من الانفكاك من الصهيونية ودولتها، عبر التأكيد المستمر على أن الأثمان التي سيدفعها اليهودي بعد انهيارها أكبر وأخطر من أثمان العيش بداخلها.
فالدولة بحسب السردية الصهيونية السائدة، قطعة من أوروبا في غرب آسيا، في منطقة عربية وإسلامية، وبحسب الكليشيهات الإسرائيلية المبتذلة «واحة الديمقراطية في الشرق الأوسط»، أو بتعبير إيهود باراك، رئيس حكومة الاحتلال الأسبق «فيلا في غابة». من هنا، يعتبر التزام «إسرائيل» تجاه مواطنيها، في جانب منه، تأكيدًا عنصريًا استشراقيًا على تمايزها عن محيطها، وعن كراهية محيطها لها فقط لأنّها مختلفة، أو لأنّها تحترم مواطنيها، وذلك كلّه جزء من الدعاية الإسرائيلية عن نفسها في العالم، ولدى الغرب تحديدًا.
كانت مفاوضات تبادل الأسرى شاقّة دومًا بالنسبة للإسرائيليين، إذ ينبغي على الدولة الموازنة بين أن تبقى قويّة بالقدر الكافي للحفاظ على مواطنيها وضمان ثقتهم بها دون أن تُظهِر ضعفًا إزاء أعدائها أو خضوعًا لهم، وبين تقديم تنازلات «مؤلمة» لاستعادة أسراها تعبيرًا عن التزامها المطلق لمواطنيها.
لكنّ القضية كما يتضح، ليست مجرّد التزام تجاه الإنسان اليهودي، ولكنها أيضًا التزام تجاه «أرض إسرائيل»، فالعلاقة بين الشعب والأرض علاقة عضوية، والمُعبّر عنها في الحالة الإسرائيلية هو الدولة التي لا قدرة ولا قوام لها إلا بالقدر الذي يلتزم فيه الإنسان اليهودي باستيطان «أرض إسرائيل» والثبات فيها.
ما حصل في السابع من أكتوبر خلخل أسس الأيديولوجيا الصهيونية، فالمجتمع الاستيطاني الباقي في «أرض إسرائيل» بفضل قوّة الدولة والتزامها والملتفّ حول جيشها وأمنها، من شأنه أن يتفكّك ويبدأ بالهجرة، حينما تبدو الدولة أقلّ قدرة على حمايته والتزامها تجاهه. من هنا وربما لأول مرة، ظهر العالم أكثر أمانًا خارج «الفيلا»، وهو ما استدعى مسارعة من المؤسسة الإسرائيلية لتثبيت المجتمع وحشده خلف الحرب، لإثبات قدرة الدولة، ومعالجة «الغلطة» الفادحة التي كانت في حقيقتها هزّة في أعماق الوعي الصهيوني.
كان منح الأولوية للحرب ووصفها بالوجودية والمصيرية يعني أنّ الأسرى كلهم صاروا ثمنًا مقبولًا لأجل أهدافها الكبرى، فمصير بضع عشرات من الأسرى يتلاشى أمام مصير «إسرائيل» ومستقبلها ومصير ملايين اليهود. وفي السياق نفسه سوف يجري استثمار الثمن المدفوع من الجنود القتلى والجرحى، لإضافتهم إلى الأسرى المدفوعين في سبيل الهدف الأكبر.
لم تنجح «إسرائيل» بأن تكون المكان الأكثر أمانًا ليهود العالم، بل على العكس، صارت المكان الأكثر خطرًا عليهم وهو ما استدعى من دولة الاحتلال أنّ تكثف التزامها تجاه المجتمع الإسرائيلي بالحرص على الإنسان اليهودي مقابل تمسكه بالفكرة الصهيونية
لم يكن هذا تصوّر بنيامين نتنياهو وحلفائه في التيار الديني القومي، وفي طليعتهم سموتريتش وبن غفير وحدهم، لقد كان هذا سعار المجتمع كله. وكان أهالي الأسرى صورة باهتة خلف ضجيج الحرب، وكلما تحصّلت فرصة لإعلاء صوتهم، طُمست من جديد بتقنيات كثيرة استخدمتها الدولة لا بنيامين نتنياهو وحده، وذلك بشقّ صفّ أهالي الأسرى وكسب بعضهم لصالح الحرب، وحشد أهالي الجنود القتلى مقابل أهالي الأسرى، فضلًا عن دعاية نتنياهو التي تقول إنّ الانقسام والتظاهر أثناء الحرب لا يخدم إلا حماس والسنوار، وكذلك الحال بالنسبة للدعوة لانتخابات مبكرة. وهكذا ظلّ المجتمع مسعّرًا خلف الحرب، الحرب التي تريد بحسب قادتها تأمينَ حياة ومستقبل ملايين اليهود وتكريسهم من جديد في «أرض إسرائيل».
ليس نتنياهو وحده من أعطى الفرصة للحرب، بل المجتمع الإسرائيلي والمعارضة وجنرالات مجلس الحرب، الذين قالوا إنهم فرضوا الحرب البرية على نتنياهو بعدما تردّد بشأنها، وهو ما يعني بالضرورة، أنّهم في تلك اللحظة بدورهم كانوا يغامرون بمصير أسراهم مقابل أن تُنجِز الحرب أهدافها. إلا أنّ الذي تغير بعد بضع شهور من الحرب، أنّها طالت أكثر مما توقّع لها الجنرالات ممّا تطلّب تغييرًا في الخطة باستعادة الأسرى، في عودة مفاهيمية لالتزام الدولة تجاه مواطنيها فردًا فردًا، ثمّ يمكن بعد ذلك إعادة النظر في كيفيات استئناف الحرب أو القضاء على حماس.
صمود المقاومة وحده فرض ملف الأسرى على الأجندة الإسرائيلية، وحوّله إلى ملف انقسامي داخل «إسرائيل»، إلا إنها بدورها سعت إلى تحويل الملف إلى عبء على المقاومة عبر جملة تقنيات، أهمها: المفاوضات التي لا تهدف إلا أن تكون غطاءً للحرب وحملة علاقات عامة وشراء وقت من العالم ومن الجمهور الإسرائيلي، وتصعيب مهمة الاحتفاظ بالأسرى على حماس في وضع خانق من الإطباق العسكري والأمني وتردّي الأوضاع الإنسانية والصحية في القطاع، وتخفيض عدد الأسرى بالقتل غير المباشر بحيث لا تبدو «إسرائيل» مسؤولة عنه، والضغط المستمرّ بالمجازر والتجويع والحصار والنزوح على المجتمع الفلسطيني في غزّة ليطالب هو المقاومة بتسليم أسرى الاحتلال بأيّ ثمن كان، وأخيرًا تحقيق إنجازات تستند إلى معطيات استخباراتية دقيقة كما حدث في عملية النصيرات في حزيران الماضي.
نجحت هذه التقنيات في إضعاف الشرائح الإسرائيلية المطالبة بإعطاء أولوية للأسرى، وظلت حركتها متقطعة وضعيفة، كما نجحت في عزل المعارضة عن حركة الشارع، إذ لا أحد في المجال السياسي الإسرائيلي يرغب في أن يبدو ضعيفًا، أو متّهمًا بطعن الجنود المقاتلين في غزة من الخلف عبر التظاهر أثناء الحرب. لذلك سعت حماس بدورها إلى قلب مفاهيمي لكيفية استثمارها في ملف الأسرى سياسيًّا ودعائيًا وحتى أمنيًّا واستخباراتيًّا، وهو ما حصل بالفعل في حادثة الأسرى الإسرائيليين الستة الذين وجدهم الاحتلال قتلى في نفق في رفح مطلع أيلول الحالي، ليقول الاحتلال إنهم قتلوا قبل وقت قريب برصاص آسريهم، وهو الأمر الذي ألمح إليه الناطق العسكري باسم كتائب القسام، حينما قال إنّ حركته غيّرت أوامرها بخصوص حماية الأسرى في حال اقترب منهم جيش الاحتلال.
ألقت حماس بستة أسرى إسرائيليين كانوا أحياء للتوّ في وجه «إسرائيل» مجتمعًا وحكومة ومعارضة، وقالت أن سياسات نتنياهو، ومغامرات جيش الاحتلال لتحرير أسرى إسرائيليين في عمليات عسكرية؛ هو ما تسبّب في مقتل الأسرى الستة، ليصير ثمن استنقاذ الأسرى الأربعة في النصيرات موتًا محققًا أو محتملاً لبقية الأسرى الإسرائيليين.
هكذا قلبت حماس توظيفها لملف الأسرى، من بث رسائلهم أحياء إلى بث رسائلهم بعد موتهم، وقد خلخل ذلك من جديد موقف نتنياهو الذي اضطر لأول مرّة، منذ بضعة شهور، أن يخرج في مؤتمر صحفي دعائي يسوّغ فيه تمسكه بمحور فيلادلفيا رغم دفع الثمن من الأسرى أنفسهم، ويهاجم فيه وزير حربه ورئيس الولايات المتحدة، الأمر الذي أخرج في اليوم التالي غانتس وآيزنكوت للردّ عليه وللتأكيد أنّ عودة الأسرى ضرورة إستراتيجية إسرائيلية.
تمكن نتنياهو وحلفاؤه من تنفيس الحركة الاحتجاجية التي تعاظمت مرّة واحدة، بعد العثور على جثث الأسرى الستة، بأدوات قانونية وحزبية، فلم يستمر إضراب الهستدروت إلا ساعات قليلة، والعديد من البلديات التي يديرها الليكود لم تنضم أصلًا للإضراب. من الواضح أن المشهد في «إسرائيل» لم ينقلب نحو عصيان مدنيّ شامل، لكنّه أخذ يعمّق من الانقسام داخل الكيان الإسرائيلي. وإذا كان هذا الانقسام المستجدّ مرتبطًا بالرؤى المفاهيمية حول التزام الدولة تجاه مواطنيها، فإنّه أيضًا مرتبط بنحو متداخل في الصراع الاجتماعي والأيديولوجي حول هوية الدولة ومستقبلها، ففرصة اليمين المتحالف مع نتنياهو لإحكام قبضته على الدولة، تتعارض كليًا مع وقف الحرب.
لا يمكن عزل هواجس نتنياهو الشخصية بعد السابع من أكتوبر، سواء فيما تعلق بالعار الذي لحق به بعد عملية طوفان الأقصى أو مستقبله السياسي، بيد أنه لا ينبغي القفز عن هذه الرؤى المفاهيمية حول معنى التزام الدولة تجاه مواطنيها، وعلاقة ذلك باستمرارها، وتكريس المجتمع الاستيطاني فيها. ورغم أن محور فيلادلفيا يبدو وكأنه مسمارٌ غايته نسف المفاوضات، إلا أنّ الخوف من التحوّلات المحتملة في الدول المحيطة بـ«إسرائيل»، خاصة في مصر، كان شبه مُعلن في المؤتمر الصحفي لبنيامين نتنياهو، فلا شيء مضمون في هذه المنطقة العربية، ولن يحمي «إسرائيل» إلا «إسرائيل»، وبهذا يصير التفريط بالأسرى الإسرائيليين ثمنًا مقبولاً في إطار رؤى إستراتيجية بعيدة.
وبالرغم من أنّه لا يمكن التعويل بعد على حركة الشارع الإسرائيلي للضغط نحو إنجاز صفقة استرداد أسرى، فإنّ هذا الخلاف حول معنى التزام الدولة تجاه مواطنيها، المتجسد في قضية أسراها لدى حماس، سينضمّ إلى ما يعزز الانقسام الإسرائيلي الداخلي، ويحفر عميقًا في وعي الإسرائيليين تجاه مستقبلهم في هذه البلاد والأسس التي بُني عليها استيطانهم في فلسطين.