كيف حوّلت الحرب أطفال غزة إلى معيلين لعائلاتهم؟

الإثنين 26 آب 2024
أطفال يعملون لإعالة عائلاتهم في ظل الحرب على غزة. تصوير داوود أبو الكاس. أ ف ب.

أصيبت الزميلة سلمى القدومي بعد يومين من انتهائها من العمل على هذا التقرير بنيران قوّات الاحتلال في خان يونس.

في الشهر الأول من الحرب، وعندما كان عشرات الآلاف من شمال قطاع غزّة في بيت حانون وبيت لاهيا والشجاعيّة يعبرون باتجاه الجنوب نازحين، لم تكن كلّ العائلات مكتملةً؛ قادت أمهاتٌ أطفالهنّ بعد استشهاد الأزواج، وأودع آباءٌ جرحى أطفالَهم مع الأنسباء الذين خرجوا بهم، وفي مرات أخرى نزح أطفالٌ وحيدين دون الأبوين.

على طريق صلاح الدين، عبرت مجموعة فتيات صغيرات آتيات من الشجاعية بعد إصابة أبيهن تقودهنّ أختهنّ الكبرى مها سرسك التي لم تكمل 15 عامًا بعد. قصفت «إسرائيل» النازحين، فهاج الناس وتفرّقوا، وأضاعت مها أخواتها.

لثلاثة أيّام، عطشى، وحافيةً، بحثت مها عنهنّ، وقد رأت الجثث المتفحمة وأشلاء الشهداء حتى أنهكها البكاء. بعد يوم عثرت على واحدة من أخواتها، ثم على الأختين الأخريين في اليوم الثالث. وحين اكتملت المجموعة ربطت نفسها معهنّ وأمسكن بأيدي بعضهن وعبرنَ إلى دير البلح.

مجموعة أخرى من أربع أخوات أكبرهن رضا مصلح التي لم تبلغ 17 عامًا، نزحن عند بيت عمهن في حي الشيخ رضوان، وظلّ أبوهنّ مع أختين أخريين في بيت آخر، قصفت الطائرات بيت الأب فأصيب مع الأختين، فتركت باقي الأخوات الشمال واتجهن جنوبًا ترافقهن زوجة أخيهن، ووصلن إلى دير البلح.

في دير البلح نفسها، وفي اليوم الرابع على الحرب، كان أنس المنسي ذو الثلاثة عشر عامًا، والابن البكر بين ثلاثة أخوة يتجمّعون في بيت العائلة مع الأعمام وأولاد الأعمام، قصفت «إسرائيل» المنزل، فطارت الأجساد. بحثت العائلة عن ربّ العائلة، ورب العائلة تحت الخزانة، مخنوق، يسمع أنس صوته يتشهد في البداية، ثم ينادي لزوجته: «ديري بالك على الولاد». تركت أم أنس البيت المهدّم وأخذت أطفالها إلى خيمة في جوار مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح.

مجاهد الذي يبلغ 12 عامًا، وهو البكر بين تسعة إخوة، نزح مع أهله من بيت لاهيا لأكثر من مكان في الشمال، قبل أن يتوجه إلى الجنوب بعد إصابة أبيه في مجزرة مدرسة الفاخورة. على الطريق عاين كيف أجبر جنود جيش الاحتلال أهله على إلقاء كل شيء معهم قبل السماح لهم بإكمال النزوح. وصل رفح ومن هناك نزح مرة أخرى إلى دير البلح.

في قطاع غزّة اليوم أكثر من أربعين ألف شهيد، بينهم والد أنس، وأكثر من 92 ألف جريح بينهم آباء رضا ومها ومجاهد. ولكل واحد منهم قصّة، مثل قصّة الفراغ الذي تركوه وأُجبر أطفالهم على سدّه، ليكونوا المعيلين الوحيدين لعائلاتهم.

تعجّ مدينة دير البلح في وسط القطاع، والتي ارتفع عدد سكانها من 100 ألف قبل الحرب إلى أكثر من مليون اليوم، بخيام النازحين الآتين من شمال قطاع غزة، ومن رفح بعد اجتياحها منذ أيّار الماضي، وهي خيام تفتقر للخصوصية، تقول مها: «أنا عايشة بشارع مش بخيمة».

يعتمد أغلب النازحين في غذائهم على الوجبة الوحيدة التي تقدّمها التكايا، ويضطرّون للوقوف ساعات في سبيل الحصول عليها، لكن الحياة في الخيام ليست وجبة طعام التكية فقط، ثمة حاجة لأشياء أخرى تعين على تحمّل النزوح، خاصة أن ما تحمله العائلات ضئيل جدًا، فيما اضطّرت الكثير منها للنزوح أكثر من مرة؛ هناك حاجة لوسائل التنظيف، وللملابس، وللنقود التي تُشترى بها وجبة ثانية.

تقدّر المؤسسات الدولية بأرقام تقريبية نسبة البطالة في القطاع اليوم بما يزيد عن 80%، وحتى لو توفّرت النقود، فإن الأرقام الرسمية توضح تضاعفَ مؤشر غلاء المعيشة ثلاث مرات عمّا كان عليه قبل الحرب.

ومع إغلاق المعابر، واستهداف القطاع الزراعي، صنّفت الجهات الدولية القطاع بأنه في المرحلة الرابعة من الجوع، وهي المرحلة التي تسبق إعلان المجاعة. ولقد توفي بالفعل عشرات الأطفال بفعل الجوع، وهكذا وصف برنامج الأغذية العالمي الوضع في غزة بالقول: «يموت الناس من الجوع بالفعل». وكي لا تنام مع أخواتها بدون وجبة ثانية في اليوم، خرجت مها تبحث عن عمل. دارت على الخيام تسأل عمن يريد غسل ملابسه، «أقل ما فيها يكون عنّا خبز، والله في أيام بالحرب نمناها بدون أكل».

أمّا أنس، فقد تدبّرت له والدته بسطة على بوابة مستشفى شهداء الأقصى، يبيع عليها البسكوت والإندومي والشيبس. يضغط نفسه كي يكون هو، لا والدته، من يعتني بالأسرة، «زي الولاد أبوهم ببيع وهم بيلعبوا وينبسطوا، أنا أبيع».

تقدّر المؤسسات الدولية بأرقام تقريبية نسبة البطالة في القطاع اليوم بما يزيد عن 80%، وحتى لو توفّرت النقود، فإن الأرقام الرسمية توضح تضاعفَ مؤشر غلاء المعيشة ثلاث مرات عمّا كان عليه قبل الحرب.

تأخرت رضا في النزول للعمل إذ بقيت مع أخواتها يعتمدن على أكل التكية والمساعدات حتّى اجتاح جيش الاحتلال مدينة رفح وسيطر على المعبر، فتوقفت شاحنات المساعدات عن الدخول إلى غزة، وهن خمس بنات مع زوجة الأخ، ودون قدرة على المزاحمة على طوابير المساعدات الشحيحة. لهذا استحضرت مهنة الأب والأخوة التي عُرِفوا بها في شمال غزة، وذهبت لمستشفى شهداء الأقصى وعرضت على رجال الأمن والصحفيين والعاملين في المستشفى عيّنات من قهوة حضّرتها في الخيمة واتفقت معهم على الاتصال بها إذا أعجبتهم.

يُمضي هؤلاء الأطفال قرابة 12 ساعة في العمل كلّ يوم، لتحصيل ما بين 10 إلى 20 شيكلًا في اليوم (ما يعادل ثلاثة إلى خمسة دولارات) ولا يأتي هذا المبلغ أصلًا إلّا بعد الكثير من المفاوضة.

تقف مها في طابور تعبئة جالونات الماء لساعات، ثم تبحث بعدها في السوق عن أي منظف له رغوة، وتعود للخيمة لتفرك الغسيل على يدها التي تقشّر جلدها، وتعاود البحث عمن يريد الخدمة من جديد بين خيام الصحفيين وتجمعات رجال الأمن والعاملين في المستشفى، وتبقى تدور وتفاوض الناس: «مش بالساهل، بدي أجيب لقمة العيش بتعبي بالحلال».

تتحيّن مها فترات الصباح الباكر أو بعد العصر لتبدأ جولتها حيث تكون حرارة الشمس قد انخفضت قليلًا، وتتجاهل ركوب الكارّة لتوفير ثلاثة شواكل، ولا تشتري أكلًا في ساعات العمل، «والله ما باكل فترة الشغل. في مرات بهزل فيها، كل اليوم واقفة على صحتي». بالكاد تحصل مها على صابونة من أجل غسيل الملابس لارتفاع الأسعار، وفي آخر النهار حين يتجمّع معها بين 30 و40 شيكلًا، تنظر للمبلغ بيدها وتقول لنفسها: «شو بدنا نعمل فيهن؟ بالحرب شو بدهن يجيبن؟».

أمّا رضا فتفيق على سخام موقد حطب تحضير القهوة التي تعدّها زوجة أخيها، وتحمل الطلبيات وتظل تمشي لمسافة طويلة لإيصال كوب قهوة واحد في بعض المرّات، ثم تعاود الكرّة حتى منتصف الليل. وتحاول خلال اليوم إقناع الناس أن يملأوا قهوتهم في كاسات زجاج عندهم لشحّ الكاسات الورقية في السوق.

أنس، متسمّر عند بسطته على باب المستشفى، منذ الساعة السادسة صباحًا وحتى منتصف الليل، لا يزعجه غير الملل: «التعب بزهّق، بس عشان أعيّش اخواني بزهقش».

يعمل هؤلاء الأطفال بالقرب من مستشفى شهداء الأقصى، إذ تحوّل لنقطة يتجمع عندها النازحون، والصحفيون، وفيها كادر طبي، ما يشكّل سوقًا للباحثين عن زبائن، كما أنه يوفر شيئًا من الأمان للأطفال من قصف الطائرات، ولكن ليس دائمًا.

لقد أجبرت الحرب والحصار وقلّة الأكل الأطفال على التصرّف مثل الآباء والأمهات وحتّى استخدام مصطلحاتهم، تقول رضا إنها لا تلعب. ومن فترات السعادة في يومها حين تستريح في الخيمة فترة الغداء وترى أخواتها يلعبن. وعاود أنس العمل على البسطة بعد أن فرّ إثر قصف طائرات الاحتلال محيط المستشفى قبل أسابيع.

يظهر أثر الحرب على سلوك مجاهد والذي يظل يمشي في دير البلح، ويجمع عبّوات البلاستيك منذ الصباح، ويبيعها لأحد التجار، بعد مفاوضة على ثمنها، نهاية النهار. وهو يقول إنه يخرج من البيت من أجل أمرين؛ ليوفر على العائلة حصته من وجبة التكيّة، وليأتي للعائلة بما يستطيع: «أكلي من برا أجيبه. بعمل لخواتي مية حساب مشان أطعميهم، بجيب ربطة خبز، نصّ كيلو بندورة، بقول لأمي أعملي إلهم حاجة».

«أنا طفلة، آه أنا طفلة، ولحدّ الآن أنا طفلة، كنت قبل الحرب بلعب بالشارع بدون شبشب، ما كنت عادّة حالي مثل الصبايا اللي يهتموا بحالهم، كنت دايمًا لا بلبس طقم الصلاة ولا الشالة»، تقول مها. أمّا الآن فتلبس الشال، وتبحث عن فنجان شامبو تفرك فيه شعرها. لم تفكّر أمها أن تعمل ابنتها في يوم من الأيّام، لكن إصابة والدها غيّرت كل شيء واضطرت البنت إلى العمل فيما تساعدها أمّها.

عندما تنتهي الحرب

«هل تريد العودة للمدرسة؟» يتردد أنس في الإجابة، فتتدخل أمه من خلفه بحزم، «بحبها، بحبها» وتأخذ الحديث: «الأطفال هذول لازم يكونوا بالمدارس يتعلموا». تتذكر العام الماضي في مثل هذا الوقت، قرب بداية العام الدراسي حين أخذتهم لكسوتهم للمدارس وشراء القرطاسيّة، وتتذكر فترات مجيئه وذهابه إلى النادي الصيفيّ في العطلة الصيفية.

لقد أوجدت الحرب على غزة وظائف جديدة يقدم فيها الأطفال الخدمات، لمن ليس لديه الوقت لخدمة نفسه مثل الوقوف على طوابير دور تعبئة الماء، وطوابير المخابز، وشحن الهواتف، وحتّى شراء القهوة.

اليوم هناك نحو 17 ألف طفل في غزة أصبحوا أيتامًا بعد أن فقدوا والديهم أو أحدهم منذ بداية الحرب، يُضاف لهم 26 ألف يتيم قبل الحرب، أي أن هنالك اليوم في قطاع غزة أكثر من 40 ألف طفل، مطلوب من الكثير منهم إعالة من بقي من عائلاتهم. وإضافة لهؤلاء، هنالك الأطفال الذي هم مضطرون لإعالة عائلاتهم بسبب إصابة ذويهم، ولا أرقام حول عدد هؤلاء اليوم.

لقد أوجدت الحرب على غزة وظائف جديدة يقدم فيها الأطفال الخدمات، لمن ليس لديه الوقت لخدمة نفسه مثل الوقوف على طوابير دور تعبئة الماء، وطوابير المخابز، وشحن الهواتف، وحتّى شراء القهوة.

هذا الوضع الذي يكون فيه الأطفال معيلين لعائلاتهم لن ينتهي بانتهاء الحرب، إذ استهدف الاحتلال في هذه الحرب بشكل واسع الأصول السكنية وسبل العيش والموارد الطبيعية والبنية التحتية والقدرات المؤسسية اللازمة لتقديم الخدمات الأساسية ما سيكون له آثار عميقة تستمر لسنوات.

في هذه السنة، سيكون أطفال غزة جميعًا، أي جميع من هم تحت سن الثامنة عشرة، قد ولدوا في سنوات حصار الاحتلال للقطاع، جيل كامل ولد وهو الآن على أعتاب مغادرة مرحلة الطفولة، لم يروا حياة طبيعيةً، وتصرّ «إسرائيل» ألّا تنتهي سنوات الطفولة هذا الجيل إلّا بإبادة كل نشاط توفّر فيه العائلات طعام أطفالها. إبادة طالت المعيلين ليصير الأطفال هم المعيلون.

تفكّر مها بعد الحرب أن تكون لها مهنة أخرى غير هذه المهنة، وقد تركت حلمها بأن تكمل تعليمها لتكون شرطيّة. فيما تقول رضا إن من حقها بعد الحرب أن تعود مثلما كانت قبلها وألّا تضطر للعمل والإنفاق على العائلة لكنها بعد دمار بيتها وإصابة أخوانها وأبيها ستواصل العمل من أجل لقمة العيش. ويأمل أنس أن تنتهي الحرب ويتعلّم ليصير كهربائيًا مثل أبيه، أمّا مجاهد فحلمه أن يكمل تعليمه، لكن العائلة تحتاجه، لذا سيبقى يلفّ دير البلح كلّها مشيًا، يجمع البلاستيك ويفاوض التجّار على أجره ويعود آخر الليل، يضع رأسه لينام، لكنه يبقى مستيقظًا من وجع القدمين من كثرة المشي.

Leave a Reply

Your email address will not be published.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية