في عام 2015، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي آنئذ بنيامين نتنياهو، في خطاب أمام المنظمة الصهيونية العالمية، إن هتلر لم يكن يريد في البداية أن يبيد اليهود وأن الشيخ أمين الحسيني هو الذي أقنعه بالمحرقة.
ما قاله نتنياهو، على فظاظته، يعبر بدقة عن العقلية الغربية التي تحتاج إلى اختلاق العربي اللّاسامي لتسقط عليه عداءها للسامية؛[1] فتصبح معاداة الغرب للساميين واليهود أمرًا طارئًا ويصبح من الممكن أن يخرج الأوروبي الذي برأ من لاساميته، واليهودي الذي برأ كذلك من ساميته (عن طريق الصهيونية التي جعلت اليهودي أوروبيًا قادرًا على أن يمارس الاستعمار والاستيطان مثله مثل الأوروبيين اللّاساميين والأغيار) صديقين؛ وثالثهما، بطبيعة الحال، العربي، السامي والمعادي للسامية في آن.
في السابع من شباط، أصدرت مؤسسة دويتشه فيله تقريرا تبرئ فيه نفسها من وجود أي «لاسامية بنيوية» داخل المؤسسة، وفي نفس الوقت تنهي عمل خمسة صحفيين عرب بزعم أنهم معادون للسامية. استندت هذه التهمة على مواقف سابقة لهؤلاء الصحفيين، على حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي، تناصر فلسطين أو تسائل ازدواجية المعايير في الغرب التي تجعل من المحرقة مسألة مقدسة لا يمكن مناقشتها.
وجد هؤلاء الصحفيون العرب أنفسهم ضحية لحملات إعلامية تأخذ كلامهم بعيدًا عن سياقه وتصدر حكمها النهائي عليهم من دون أن تعطيهم فرصة الرد أو الدفاع عن أنفسهم.
طبعًا لم تخف علينا في العالم العربي مفارقة أن ألمانيا التي ارتكبت أبشع الجرائم ضد اليهود، ثم بحجة التكفير عن هذه الجرائم دعمت المزيد من الجرائم ضد الفلسطينيين، والتي ما تزال فيها عنصرية ومعاداة للسامية وتيارات نازية جديدة، تتهم الآخرين بمعاداة السامية من دون دليل—أو أحيانًا بأدلة واهية منزوعة من سياقها.
المسألة لا تقتصر هنا على تأنيب الضمير الذي يجعل الألماني يرى معاداة السامية، التي مارسها بعنف ضد اليهود وغيرهم، في كل شيء. المسألة أكثر تجذرًا في ثقافة ألمانيا وسائر أوروبا، وتتعلق بنظرتهم لأنفسهم وبالهوية التي يختلقونها بالتمايز مع الآخر اليهودي والآخر العربي.
الحرب على اللاسامية؛ الحرب على الساميين
نرجع هنا إلى الدراسات المهمة التي أجرتها الباحثة الألمانية الفلسطينية آنا إستر يونس عن مفهوم اللاسامية وتجنيده ألمانيا في حملات تستهدف بالأساس المجتمعات المهاجرة، العربية والمسلمة خصوصًا، بحيث يصبحون هم المتهمين باللاسامية وضحايا العداء للعداء للسامية. هذه الحملات تستهدف أيضًا، وكما هو واضح، القضية الفلسطينية وكل من يناصرها (وإن كان يهوديًا).[2]
ترى يونس أن ما يحدث في ألمانيا هو «حرب» على مستوى المؤسسات الرسمية والاجتماعية والخطاب العام والثقافة العامة «ضد اللاسامية» تستهدف بالأساس المجتمعات المهاجرة ذات الأصول العربية والمسلمة وتسير يدًا بيد مع «الحرب على الإرهاب»، «هي حرب على اللاسامية (…) ولكني أراها حربًا على الساميين» (تقول آنا يونس في مقابلة منشورة على اليوتيوب).
ما يحدث في ألمانيا من استخدام لتهمة العداء للسامية ضد العرب والمسلمين هو امتداد لتاريخ ألمانيا في عداء السامية؛ امتداد يتضافر مع المراحل الجديدة من الإمبريالية الأمريكية واستشراقها وحربها على الإرهاب.
وبحسب آنا يونس، فإن الألمان هم الذين يحاولون لعب لعبة «تأنيب الضمير» لكي يصبحوا هم ضحايا جرائمهم التي اقترفوها ثم شعروا بعد ذلك بالألم النفسي بسببها، وتتساءل: أين تأنيب الضمير إزاء جرائم التطهير العرقي التي ارتكبها الألمان في أفريقيا قبل الهولوكوست؟ (ونضيف أين تأنيب ضمير الأوروبيين تجاه مجازرهم في مختلف أصقاع الأرض وما نهبوه من ثروات ما زالوا يعيشون على خيراتها؟ وأين تأنيب ضمير ألمانيا الاتحادية بالذات إزاء الدور الذي لعبته، على سبيل المثال، في إرسال المرتزقة إلى الكونغو ليضمنوا غرق البلاد في حرب أهلية دموية تسمح لبلجيكا بالاستمرار في نهب الألماس، وإزاء دورها كقاعدة الارتكاز الرئيسية في حرب الولايات المتحدة على فيتنام[3] ثم مؤخرًا دورها ضمن حلف الناتو في تدمير يوغوسلافيا وليبيا وسوريا؟). المسألة إذن ليست تأنيب ضمير وإنما هي حاجتهم إلى العربي أو المسلم اللاسامي لكي يسقطوا عليه جريرتهم ويبرأوا منها؛ فيصبح هذا العربي-المسلم مصدرًا «خارجيًا» للاسامية التي لا تعود إذن شأنًا ألمانيًا بحتًا أو أوروبيًا أبيض. ويصبح هذا اللاسامي الخارجي في نفس الوقت شأنًا داخليًا ألمانيًا من حيث يصبح هو المسؤول عن معاداة السامية واليهود في البلاد، ويصبح من الضروري تبني قوانين وسياسات وحملات داخلية لمحاصرة هذا العربي اللاسامي وحماية اليهود، ومن خلالهم حماية ألمانيا، من لاساميته (كأنها تضطر لقمعه لكي لا يورطها في اللاسامية كما ورط المفتي هتلر في خزعبلات نتنياهو).
هذا التقديم ضروري لفهم ما حدث لصحفيي الدويتشه فيلا؛ والسهولة التي تخرق بها قواعد المهنية «اللبيرالية» لهذه المؤسسات عندما يتعلق الأمر بقمع العرب أو الحجر على رأيهم، والسهولة التي يطلق بها اتهام العداء للسامية بشكل غير دقيق إذ يحرف معنى الكلمة فلا يعود العنصريون اليمينيون البيض مستهدفين بهذا الاتهام، ولكنه دقيق في عدم دقته إذ يوظف لاستهداف العرب والرأي المناصر لفلسطين تحديدًا.
ما يجعل العربي ساميًا
عند أي حديث عن معاداة السامية أو رهابها يجب أن نتذكر أن معاداة السامية قد استحالت في الغرب في الوقت الحالي عداءً للإسلام؛ فقد حلّ العربي أو المسلم فقط محل اليهودي في عداء الغربي له ثم اكتسب أيضًا في مخيلة الغرب الصفات السامية.
تاريخيًا، استخدمت «السامية» كمصطلح لغوي، ثم عرقي، للإشارة إلى أصحاب اللغات ذات الأصل السامي، أي العرب واليهود. استخدم «معادو السامية» مصطلح السامية لكي ينزعوا عن يهود أوروبا أوروبيتهم ولكي يربطوا بينهم وبين العرب والآسيويين. وفي كتابه «الإسلام في الليبرالية» يشير جوزيف مسعد إلى أن مسألة اللاسامية كانت دائمًا هي مسألة السامية، أو بمعنى آخر أن اختلاق أوروبا لآخرها السامي لم ينفصل عن تعريفها لذاتها كذاتٍ لاسامية (ولاحقا آرية) تنعزل عن هذا الآخر (ولهذا تصلح ترجمة Anti-Semitism إلى اللاسامية وإلى معاداة السامية وتسمح لنا اللغة العربية استكشاف هذه الفجوة في المصطلح). و«إذا كانت السامية واللاسامية قد أصرتا على أن اليهود لم يكونوا آريين ولا أوروبيين وأنهم كانوا عرقًا منفصلًا وأمة منفصلة،» يقول مسعد، «فإن الصهيونية وافقت على ذلك دون تردد. وسيشمل مشروعها التحويلي أيضًا الفلسطينيين الذين أرادت أن تحولهم إلى يهود في جغرافية مزاحة للاسامية. وستتضمن هذه الخطوة أيضًا المحافظة على شخصية السامي، باعتبارها دومًا قيمة سلبية مسبقًا، ولكنها ستلصق حصرًا بالعربي وتزاح نحوه». أي أن الصهيونية تنتمي إلى نفس الإطار المعرفي الذي نشأت فيه السامية-اللاسامية، إذ تقول بأن اليهود لا ينتمون إلى أوروبا—وإن كانت تسمح لهم أن يصبحوا أوروبيين في آسيا متى جاءوها مستعمرين. وبينما يطمح المشروع الصهيوني بتحويل اليهودي السامي إلى آري لاسامي، فإنه، على المستوى النظري عن طريق الصور النمطية المكررة، وعلى المستوى العملي عن طريق ممارسات القمع الممنهج التي تستلهم تاريخ اللاسامية، تجعل العربي، والفلسطيني بالذات، هو السامي.[4]
وبالعودة إلى السياق الألماني، فإننا نرى في حماسة ألمانيا للصهيونية التي تنزع عن اليهود ساميتهم وتجعلهم مستعمِرين أوروبيين على المنهج العسكري الأوروبي والآري، وفي تحسسها من العربي الذي أصبح ساميًا والذي تصمه بالعداء للسامية، نرى فيها استمرارًا لسياستها اللاسامية. وبحسب آنا يونس، فإن تجدد تهمة اللاسامية في ألمانيا لا يفصل عن السياق الدولي وما تنتجه الولايات المتحدة والاستشراق والحرب على الإرهاب من تخيلات نمطية ومُعرقنة تستهدف العربي والمسلم. ويقول مسعد، في استحضارٍ لتحليل إدوارد سعيد للمسألة: «في النصف الأول من القرن العشرين استمرت اللاسامية في التركيز على شخصية اليهودي بينما سيركز رديفها، الاستشراق الكولونيالي، على العربي والمسلم، اللذين خُلطا دوما على أنهما واحد (…) وفي أعقاب المحرقة النازية ونهاية الاستعمار سيتراجع الاثنان (…) مؤقتًا (…). فسرعان ما ستظهر اللاسامية والاستشراق مرة أخرى وسيكون لهما موضوع رئيس واحد هذه المرة، السامي المعرقن، ألا وهو العربي والمسلم، منظورًا إليهما معًا على أنهما واحد (…) إلى حد أن العرب، عشية حرب 1973 والمقاطعة النفطية، قد أضحوا، كما لاحظ سعيد، يُقدّمون في الغرب على أنهم يحملون ملامح سامية بوضوح: فالأنوف معقوفة بحدة والنظرة الشريرة على وجوههم ذات الشوارب هي تذكير جلي (…) بأن الساميين كانوا سبب مشاكلنا».
في هذا السياق، يمكننا فهم ما يحدث في ألمانيا من استخدام لتهمة العداء للسامية ضد العرب والمسلمين، بأنه امتداد لتاريخ ألمانيا في عداء السامية؛ امتداد يتضافر مع المراحل الجديدة من الإمبريالية الأمريكية واستشراقها وحربها على الإرهاب ليعيد تقديم اللاسامية الألمانية القديمة بأشكال جديدة تتستر في إزار الحرب على اللاسامية.
تهمة اللاسامية والإسقاط العنصري
دون أن ننزلق إلى لعبة الألمان في تصوير أنفسهم ضحايا عقدة الذنب، يمكننا أن نستشرف آليات الإسقاط النفسي التي تزيح تهمة معاداة السامية من مرتكبها الألماني أو الأوروبي إلى العربي (الذي لم يكن تاريخيًا مرتكبًا لهذه الجريمة والذي أصبح مؤخرًا ضحيتها)؛ وهو ما لاحظه، بشكل أو بآخر، كل من حاول دراسة هذه الظاهرة من خلال رؤية نقدية معادية للاستعمار. تقول المفكرة الأمريكية من أصل هندي جازبير بوار، بعد أن اتهمها الألمان بمعاداة السامية بسبب موقفها المناصر للقضية الفلسطينية «نحتاج إلى أن يعني مصطلح «معاداة السامية» شيئًا آخر غير انتقاد إسرائيل، لأن معاداة السامية ما تزال موجودة. بدون ذلك (…) تصبح تهمة معاداة السامية إسقاطًا فجًا لتاريخ الهولوكوست على الأجسام الغريبة مثلي (…) بشكل كلاسيكي من التحايل النفسي [كأنكم تقولون]: أنا أتهمكِ بما أخشى أني أفعله (…) ومن المثير للاهتمام أن هذا الإسقاط باتهام الآخرين بمعاداة السامية يتوازى مع تقديم المهاجرين في ألمانيا كأنهم الحاملون الأساسيون لمعاداة السامية والناقلين لها».[5]
المسألة هنا لا تخلو من «أمل باستعادة شرف الأمة الضائع، وبأن ما ألحقته بنفسها من دمار يمكن أن ينصلح»، كما يلاحظ طلال أسد في سياق شبيه، إذ يربط ما بين تهمة العداء للسامية في فرنسا التي تساق لتبرير عداء فرنسا تجاه مواطنيها المسلمين، وبين ماضي فرنسا المتواطئ مع النازية. يجمل أسد فكرته الأساسية بالقول «إن محاولة الكثير من المثقفين ومعظم وسائل الإعلام أن تنقل مسألة العداء للسامية إلى مسألة مواجهة خطر الإسلاموية من شأنه أن يريح الكثيرين عن طريق نقل انتباههم بعيدًا عن الظلم التاريخي لليهود في فرنسا، وعن السؤال الأعم عن دور اللاسامية (ومعها الإسلاموفوبيا وسائر أصناف العنصرية) في خلق الهوية الوطنية الفرنسية»،[6] والأوروبية عمومًا. فحتى وإن كان تاريخ الجمهورية والعلمانية في ألمانيا يختلف عن فرنسا، إلا أن العلاقة الملتبسة مع يهودها تبقى ذاتها.
ففرنسا التي فتحت ذراعيها للاحتلال النازي (طبعًا باستثناء المقاومة التي لم تكن حركة أغلبية وكان قوامها بالأساس الحركات الشيوعية واليسارية) وأرسلت يهودها طوعًا للمحرقة لم تحاول بعد التحرير اجتثاث النازية بل وتسترت على صغار المتعاملين مع النازية وأبقتهم في مناصبهم (بينما تكفلت المخابرات الأمريكية بتشغيل المشاهير منهم في أمريكا اللاتينية في «مكافحة الشيوعية»، كما كان الحال مع كلاوس باربي الذي كان يعرف أثناء الحكم النازي بـ«سفاح ليون»، ثم أصبح بعد ذلك المسؤول عن مهمة اغتيال تشي غيفارا في بوليفيا).
نفس الشيء حدث في ألمانيا الغربية، فبينما غيبت الحرب العالمية الثانية ومحاكمات نورمبرغ كبار النازيين، فإن النازيين الأقل شهرة أبقي عليهم في حكومة ألمانيا الاتحادية (الغربية) تحت إشراف عسكري ومخابراتي أمريكي، بينما أصبح الدعم اللامتناهي للكيان الصهيوني بمثابة اعتذار ألماني عن هذا الماضي-الحاضر؛ هذا الدعم نفسه ينطوي على حيلة دفاعية بالمعنى النفسي، إذ يحجم عن تعويض اليهود في ألمانيا ويعوضهم فقط إن بقوا بعيدين، ثم يجعل هذا التعويض مشروطًا باقتراب هؤلاء اليهود من صورة الأوروبي المستعمِر، بينما يحرم اليهود الذين لم ينخرطوا في هذا المشروع الاستعماري– أي الذين بقوا على ساميتهم ولم يتشبهوا بالاستعمار الغربي أو بالمثل العسكرية الأوروبية– من التعويض ويجعلهم، في بعض الأحيان وكما سنرى، متهمين بنقص في اليهودية، أو باللاسامية، لرفضهم الانخراط في هذا المشروع الأوروبي الاستعماري. كان هذا جزءًا من الترتيب السياسي الإقليمي والدولي الذي جعل جمهورية ألمانيا الاتحادية (التي أبقت على شيء من نازيتها) ركيزة سياسات الإمبريالية الأمريكية وجرائمها في سياق الحرب الباردة.
عداء السامية والهوية الأوروبية
أمّا في أعقاب الحرب الباردة، فبحسب آنا يونس، وبالتزامن مع عرقنة المسلم ثم مع الحرب الأمريكية على الإرهاب، «اتسقت الحرب على الإرهاب مع الحرب على اللاسامية بشكل يستهدف المسلمين» ويستهدف معهم المجتمعات المهاجرة (العربية والمسلمة تحديدًا أو غير الأوروبية عمومًا) في ألمانيا. وأصبحت هذه التهمة شكلًا من أشكال التمييز التي تشكل هوية الأوروبي المعادي للعداء للسامية في مقابل العربي أو المسلم أو المهاجر المعادي للسامية.
هذه الحملات ضد معاداة السامية تتجاهل تمامًا الجرائم ضد المهاجرين العرب والمسلمين (وتعمد إلى صرف الانتباه عن مثل هذه الجرائم)؛ وفي نفس الوقت لا تسلط الضوء على التحريض والعنف اللذين يمارسهما اليمين الأبيض ضد اليهود في ألمانيا؛ فتصبح «أشكال معينة من العنصرية مقبولة» (أي تلك التي يمارسها الرجل الأبيض ضد العرب والمسلمين واليهود) بينما تصبح أشكال أخرى غير مقبولة (أي التي يتهم العرب والمسلمون والمهاجرون بارتكابها).
أصبح الدعم اللامتناهي للكيان الصهيوني بمثابة اعتذار ألماني عن هذا الماضي-الحاضر، وهو دعم ينطوي على حيلة دفاعية بالمعنى النفسي.
وبينما تلعب جمعيات يهودية في بعض الأحيان دورًا في هذه الحملات، فإن هذه الحملات في الأغلب تحركها شخصيات وجمعيات غير يهودية. فالمنظمات الألمانية الرسمية وشبه الرسمية التي تخوض حربًا ضد اللاسامية تكاد تخلو من اليهود؛ فتقول آنا يونس إنك «تحتاج إلى عدسة مكبرة لكي تجد عاملين يهود في المتحف اليهودي [في برلين]» على سبيل المثال. ليصبح الأبيض الصهيوني المسيحي/غير اليهودي (وإن مارس التمييز أو الإقصاء تجاه اليهود) هو ضحية اللاسامية إلى درجة أن المظاهرات المؤيدة لـ«إسرائيل» يكون قوامها في بعض الأحيان ألمان من غير اليهود ارتدوا الزي التقليدي أو الطواقي اليهودية بينما يلوحون بعلم إسرائيل (ومعه علم الرينبو) ويحتل هؤلاء مساحة اليهود، أو مساحة اليهودي المقبول (التي تشاركهم إياها «إسرائيل» بينما لا يشاركهم إياها الكثير من يهود أوروبا) الذي يعاني من اللاسامية في المنطق والخطاب الألماني. ويصبح أي اعتراض على هذا الصهيوني الذي يحتل قسرًا موقع اليهودي هو ضرب من معاداة السامية. وهكذا يصبح الصهيوني هو اليهودي المقبول (وإن لم يكن يهودي الديانة أو الأصل) بينما يصبح اليهودي المعادي للصهيونية يهوديًا لاساميًا مشكوكًا في يهوديته.
هؤلاء الصهاينة من غير اليهود يزعمون في المقابل أن اليهود المعادين للصهيونية يمارسون ضدهم عداء للسامية؛ كما هي الحال مع منظمة «صوت يهودي من أجل السلام» في الولايات المتحدة والمنظمات الرديفة لها في أوروبا، والتي تتهم بأنها ليست يهودية حقًا وأنها معادية للسامية، والتي أصبحت من أهداف الحرب على اللاسامية في ألمانيا. وفي هذا السياق، أغلقت البنوك الألمانية حسابات هذه المنظمة لأنها تدعو إلى مقاطعة «إسرائيل» وسحب الاستثمارات منها؛ وتعلق آنا يونس ساخرة بأن هذه ثاني مرة، من بعد المرة الأولى تحت حكم النازي، التي تغلق فيها ألمانيا حسابات بنكية ليهود.
ومع التوسع في تعريف اللاسامية، يصبح العربي معاديًا للسامية حتى في غياب اليهودي ليصبح الألماني الأبيض المسيحي (الذي هو في الحقيقة وريث النازية) ضحية للاسامية العربي (تمامًا كما كان هتلر ضحية للاسامية المفتي بحسب نتنياهو).
اللاسامية سلاحًا صهيونيًا
المسألة النظرية، عن ضرورة اختلاق العربي السامي واللاسامي في آن، من أجل تبرئة الذات الألمانية واختلاق ذات أوروبية جديدة محبة للسامية، تقابلها هنا مسألة عملية تتعلق بالأجواء المسعورة التي تجند الاتهام بمعاداة السامية لخنق التضامن مع فلسطين خصوصًا وللتمييز ضد العرب والمسلمين وسائر المهاجرين عمومًا (والتي تسمح بهذه القفزات اللامنطقية التي تجعل أي نقد لـ«إسرائيل» هو نقد لعموم اليهود وبالتالي عمل لاسامي؛ ومن المهم أن نذكر هنا ما قاله جوزيف مسعد من أن هذا المنطق الفضفاض يفرض علينا أن نقبل بزعم دولة «إسرائيل» أنها تتحدث حصرًا باسم كل يهود العالم وأن كل يهود العالم مسؤولون عن جرائمها، وهذا الافتراض في حد ذاته لاسامي).
نعود هنا إلى النقطة التي أثارتها آنا يونس عن أن هذه التعبئة والتجنيد لمفهوم اللاسامية لا تنفصلان عن السياق الدولي الذي تخاض فيه هذه الحملات، وبالتالي لا تنفصل عن الحرب الأمريكية ضد الإرهاب والصور النمطية السلبية التي تنتجها عن العربي والمسلم، وطبعًا لا تنفصل عن التطورات على الساحة الفلسطينية. ليس غريبًا إذن أن نرى هذه الحملات تتصاعد بعد كل معركة في فلسطين أو حملة تضامن بعدها. وإن كانت مسألة السامية واللاسامية وتعبئتها ضد العربي أو المسلم أو الفلسطيني والمتضامنين معه، قد أصبحت من أساسيات الهوية الأوروبية (اللاسامية التي تحتاج من بعد المحرقة أن تتصالح مع عدائها للسامية)؛ فإن ما حدث لصحفيي الدويتشه فيله هو امتداد لحملة دولية (تصاعدت مع معركة سيف القدس وإن كانت قد بدأت قبل ذلك بكثير) لتصفية الصوت المناصر لفلسطين من المجال العام الغربي بحجة عدائه للسامية. الحملة الألمانية تشبه إلى حد كبير الحملة في صفوف حزب العمال البريطاني لخنق الأصوات المناصرة لفلسطين فيه؛ هذه الحملة استهدفت بشكل خاص مجموعة «الصوت اليهودي من أجل العمال» التي تضم أعضاء يهود معادين للصهيونية ومنتمين لحزب العمال.
وبينما تنشط جبهة من اليهود الصهاينة داخل حزب العمال البريطاني من أجل تشويه يهوده المعادين للصهيونية، فإن حزب العمال البريطاني قد أسس لجنة من غير اليهود (لا تضم، بحسب تقرير لموقع «ميدل إيست آي»، سوى يهودي واحد) لتفتش في النوايا والآراء السياسية لأعضاء الحزب اليهود وتتهمهم هم بمعاداة السامية.
وفي أثناء معركة سيف القدس، أنهت الأسوشيتد بريس (نفس الأسوشيتد بريس التي قصف جيش الاحتلال الإسرائيلي مكتبها في غزة) تعاقد المراسلة الأمريكية (اليهودية) إميلي وايلدر بسبب إظهارها للتعاطف مع الفلسطينيين على حسابها الشخصي على تويتر، ونلاحظ مرة أخرى أن الضحايا المباشرين لهذه الحملة هم ساميون يهود أو عرب.
مرة أخرى، يحضرنا ما قالته آنا يونس عن أن هذه حرب على اللاسامية، ولكنها أيضًا حرب على الساميين. في جو مخابراتي، يخطرون فيه بالتهمة بينما يكون التحقيق جاريًا، أو يكون قد انتهى، ولا يعطون الفرصة للدفاع عن أنفسهم، ويصبح الحكم السياسي (الذي تستتبعه أحكام وظيفية واجتماعية، وأحيانًا قضائية) نافذًا ونهائيًا.
-
الهوامش
[1] لا أقول هنا أن عداء أمين الحسيني للسامية مختلق تمامًا؛ طبعًا ثمة اختلاق في القفز على الظروف السياسية التي جعلت الحسيني يرى – وكانت بالتأكيد رؤية غير موفقة—في النازية حليفًا. ولكن حتى إن سلمنا بنازية المفتي وبعدائه للسامية فإن هذا الموقف السياسي وهذه الشخصية السياسية مختلقان: بمعنى: كان أمين الحسيني شخصية هامشية في الحركة الوطنية الفلسطينية وكان دوره في ثورة البراق ثم في ثورة 1936 سلبيًا. ولكن قمع الحركة الوطنية الفلسطينية من قبل السلطات البريطانية هو الذي سمح لشخصية مثل المفتي بالصعود، قبل أن تلتقطه النازية وتفرضه متحدثًا باسم الفلسطينيين في البلاد التي يسيطر عليها النازي؛ ثم بعد ذلك تعمد الروايات التاريخية الغربية إلى هذه الشخصية الهامشية، التي تاجرت بالقضية الفلسطينية حين رفضت دعوة عز الدين القسام للثورة (قال له «أنا أبحث عن تسوية سلمية») ثم عندما قدمت هذه القضية قربانًا للنازية، وتجعل منها ممثلًا للشعب الفلسطيني ونواياه وعواطفه.
[2] آنا يونس نفسها ضحية لمثل هذه الحملات التي أخذت أشكالا مختلفة من التشويه والتحريض والتهديد والإقصاء الوظيفي. ويمكن مشاهدتها وهي تتحدث عن هذه الحملات في نهاية هذه المقابلة.
[3] ينظر مقدمة كتاب The Red Army Faction: A Documentary History, V.1 Projectiles for the People من أجل تفصيل الدور الإجرامي الذي لعبته ألمانيا الغربية كوسيط للإمبريالية الأمريكية في سياق الحرب الباردة.
[4] ينظر أيضًا مناقشة جوزيف مسعد للمسألة في الفصل الأخير من كتاب «ديمومة المسألة الفلسطينية» ثم في مقال «آخر الساميين».
[5] الاقتباس في مقال آنا يونس Fighting Antisemitism in Contemporary Germany عن مقال لبوار بعنوان «Citation and Censorship: The Politics of Talking about the Sexual Politics of Israel».
[6] Talal Asad, «Trying to Understand French Secularism». Political Theologies: Public Religions in a Post-Secular World, ed. Hent de Vries and Lawrence E. Sullivan.