أوروبا وأوهامها الأوكرانية

الخميس 20 شباط 2025
أوكرانيا
جندي أوكراني في منطقة لوغانسك. أ ف ب

نشر هذا المقال بالإنجليزية في مجلة كومباكت في 5 شباط الحالي. 

أثار تهديد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بقطع المساعدات العسكرية الأمريكية لأوكرانيا حالة من الذعر في أوساط العواصم الأوروبية الكبرى، واستدعى نقاشًا حول ما إذا كان الاتحاد الأوروبي قادرًا على جمع ما يكفي من الأموال لسد الفراغ الذي قد ينشأ في حال تنفيذ هذا التهديد. ولفهم ما هو على المحكّ في هذا النقاش، لا ينبغي اللجوء إلى الجغرافيا السياسية أو الاقتصاد، بل إلى علم النفس. إنّ ما نشهده هو مثال كلاسيكيّ على الظاهرة المعروفة باسم «السلوك التحويلي» أو «التجنّب»؛ وهو ما يعني التركيز على قضايا أقل أهمية أو غير ذات صلة كطريقة لتجنب مواجهة المشكلة الأساسية، والتي غالبًا ما تكون أكثر إقلاقًا.

عندما يضع قادة الدول الأوروبية خططًا لزيادة مساعداتهم العسكرية في ظل ميزانيات محدودة وتحديات لوجستية، إضافة إلى انقسامات داخلية؛ فإنهم بذلك يتجنّبون الإجابة على السؤال الحقيقي: هل ينبغي على بروكسل تقديم المزيد من الدعم المالي والعسكري لأوكرانيا أصلًا؟ في ما يخصُّ هذا الأمر، تعمل المؤسسة السياسية الأوروبيّة استنادًا لافتراض مشترك وغير قابل للنقاش؛ وهو أنّ دعم «الناتو» كان، ولا يزال، حاسمًا بالنسبة لأوكرانيا. حتى الذين بدأوا يقرّون بعدم قدرة أوكرانيا على الانتصار في هذه الحرب -إلى حدّ كبير بسبب عودة ترامب إلى البيت الأبيض- وأنّه لا بد من المفاوضات لتحقيق السلام، مثل المستشار الألماني أولاف شولتز، لا يزالون يصرّون على أنّ دعم «الناتو» يظلّ ضروريًا لضمان قدرة أوكرانيا على التفاوض من موقع قوّة مع روسيا. في حين يواصل آخرون، بمَنْ فيهم المستشار الألماني المحتمل القادم، فريدريش ميرتس، الإصرار على أن أوكرانيا يمكنها ويجب عليها الانتصار في هذه الحرب و«استعادة كامل أراضيها»، أي ما يعني ضمنًا شبه جزيرة القرم.

لكنّ أيًّا من هذه الادعاءات لا يصمد أمام التدقيق؛ فأوكرانيا لم تكن لديها مطلقًا فرصة واقعية لاستعادة كل شبر من أراضيها المفقودة أو تحقيق نصر عسكريّ كامل ضدّ روسيا؛ العدوّ الذي يتفوق عليها بشكل كبير من حيث عدد القوات والإنتاج العسكريّ حتّى مع دعم «الناتو». ذلك ما كانت الإدارة الأمريكية السابقة على علم به أيضًا، وهو ما كشفته مقالة نُشِرَت حديثًا في مجلة «تايم»، والتي تقول إنّه «عندما غزت روسيا أوكرانيا قبل قرابة ثلاث سنوات، وضع الرئيس جو بايدن ثلاثة أهداف للرد الأمريكي، ولم يكن تحقيق أوكرانيا للنصر من بينها». يشكّل هذا الاعتراف صدمة إلى حدّ ما، بالنظر إلى أنّ واشنطن وبروكسل حافظتا طوال السنوات الثلاث الماضية على الالتزام بشكل علنيّ بضمان انتصار أوكرانيا. 

قد يجادل البعض بأنّ دعم «الناتو» ساعد أوكرانيا على تجنب خسائر إقليمية أكبر، لكنّ مشكلة هذا الادعاء أنّ أوكرانيا وروسيا كانتا قريبتين جدًّا من التوصل من اتفاق سلام في الأسابيع الأولى من الصراع، وكان سيشمل انسحاب القوات الروسية مقابل حياد أوكرانيا. لكنّ هذا الاتفاق جرت عرقلته من قبل رئيس الوزراء البريطاني آنذاك، بوريس جونسون، وممثّلين عن وزارتيْ الخارجية والدفاع الأمريكيتين. 

منذ ذلك الحين، حقّقت روسيا مكاسب إقليمية كبيرة، خاصة في المناطق الشرقيّة من دونيتسك ولوهانسك. فقد استولت في عام 2024 فقط على ما يقارب 2500 ميل مربع إضافي من الأراضي الأوكرانية. حتى وسائل الإعلام الغربية الرئيسية التي كانت تشجع على الحرب طوال السنوات الثلاث الماضية، باتت مضطرة الآن للاعتراف بأنّ أوكرانيا تخسر الحرب. نتيجة لذلك، أصبحت روسيا الآن في موقع تفاوضيّ أقوى بكثير مما كانت عليه في بداية الحرب. ولهذا السبب تطالب بأكثر ممّا كانت تطالب به مع بداية الحرب مقابل السلام؛ تحديدًا الاعتراف القانوني الأوكراني والغربي بالأراضي التي ضمّتها كجزءٍ من الاتّحاد الروسيّ، وهي سيفاستوبول، ودونيتسك، ولوغانسك، وخيرسون، وزاباروجيا، إضافة إلى شبه جزيرة القرم. 

في ضوء ذلك، لا يمكن إلّا الاستنتاج بأنّ الغرب قد أضرّ أوكرانيا بشكل كبير بسبب دفعه الدائم نحو استسلام روسي غير مشروط، بما في ذلك الضغط على كييف لشن هجوم دموي مضاد كان فشله محتومًا في عام 2023. بينما تمّ رفض فرص السلام السابقة عندما كانت المطالب الروسية أقلّ بكثير ممّا هي عليه الآن. الأسوأ من ذلك، أنّه أصبح واضحًا أنّ الدعم الغربي لم يكن مدفوعًا بإيمان بعدالة الكفاح الأوكراني من أجل السيادة والاستقلال، ولا من منطلق الإيمان بإمكانية انتصار أوكرانيا. 

بدلًا من ذلك، كان الغرب يستخدم أوكرانيا كوكيلٍ لاستنزاف روسيا، وذلك بحسب ما اعترف به بوريس جونسون مؤخرًا، وبغض النظرة عن التكلفة المدمرة. وفقًا لمايكل فلاهوس، من كلية الدراسات الدولية المتقدمة في جامعة جونز هوبكنز، عانت أوكرانيا حتى الآن من خسارة ما يصل إلى مليون رجل بين قتيل وجريح ومفقود. هذه المأساة تفاقمها حقيقة أنّ هذه الحرب بالوكالة فشلت في تحقيق أهدافها؛ فروسيا تنتصر، وإنتاجها العسكري لا يزال يتفوق على إنتاج «الناتو»، واقتصادها يزدهر، بحسب مجلّة «الإيكونوميست». 

والآن، تواجه كلّ من أوكرانيا والغرب قرارًا صعبًا: إمّا القبول بشروط بوتين، أو تحمّل استمرار الحرب التي ستُضْعِفُ في نهاية المطاف موقف أوكرانيا بشكل أكبر، وقد تؤدي إلى انهيار البلاد تحت وطأة استنزاف الموارد والقوى البشريّة وإزهاق أرواح لا حصر لها. لذلك فإنّ قبول اتفاق الآن هو أفضل خيار لأوكرانيا. 

حتى وقت قريب، أمدّت كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أوكرانيا بكميات متشابهة من المساعدات العسكرية. هذا يعني أنّه في حال أوقف ترامب المساعدات الأمريكية، سيتعين على أوروبا مضاعفة مساعداتها العسكرية لأوكرانيا. وحتّى لو تمكّنت من فعل ذلك، فاستمرار المساعدات العسكرية ضمن المستويات الحالية لن يحسّن من وضع أوكرانيا في ساحة القتال؛ فتأخير محادثات السلام سيؤدي في الواقع إلى نتائج أكثر سوءًا بالنسبة لأوكرانيا. علاوة على ذلك، فإنّ إنهاء الحرب وإعادة تطبيع العلاقات مع روسيا -وهو موقف يحظى بدعم متزايد في أوساط المواطنين الأوروبيين- سيكون أيضًا مصلحة أوروبية، سواء من الناحية الاقتصادية أو الأمنية. 

فلماذا إذًا يستمرّ القادة الأوروبيون في إنكار الواقع؟ الإجابة هي أنّ تغيير سياستهم تجاه أوكرانيا سيعني الاعتراف بفشلها الكارثي، ليس فقط عسكريًا ولكن اقتصاديًا أيضًا، وسيعني مواجهة العواقب السياسية لهذا الفشل. إضافة إلى ذلك، فإن تحوّلًا مثل هذا في الموقف السياسي سيُلزِمُ الأوروبّيين بأخذ المخاوف الأمنية الروسية على محمل الجد، والإقرار، ولو ضمنيًّا، بأنّ تجاهل «الناتو» لهذه المخاوف أدّى دورًا رئيسيًّا في اندلاع الصراع، وهو تحوّل من شأنه تقويض الرواية الرسمية التي تصوّر روسيا على أنّها المعتدي الوحيد. 

ولذلك تلجأ النخب الأوروبّيّة إلى خداع الذات لإنكار التناقضات المتزايدة بين الواقع وبين سردياتهم الخاصة. وهذا التناقض المعرفي يدفعهم لمواصلة اختلاق ادّعاءات غير عقلانية ومتوهمة، كما هو الحال عند تشديدهم على ضرورة الاستعداد لحرب شاملة مع روسيا. 

كذلك يمكن لعلم النفس أن يساعد في فهم رد الفعل غير العقلاني لأوروبا تجاه ترامب. بالنظر إلى أنّ واشنطن كانت تنظر دائمًا إلى «الناتو» كوسيلة لضمان التبعية الاستراتيجية الاوروبية لأمريكا، فإنّ تهديد الرئيس بتقليص التزامات الولايات المتحدة تجاه التحالف يمثّل فرصة لأوروبا لإعادة تعريف نفسها كفاعل مستقلّ. لكنّ المشكلة هي أنّ أوروبا ظلّت عالقة في علاقة تبعية لأمريكا لفترة طويلة إلى درجة أنّها الآن، بعد تهديد ترامب بزعزعة اعتمادها التاريخي على الأمن الأمريكي، لم تتمكن من استغلال هذه الفرصة؛ وبدلًا من ذلك، تحاول تقليد السياسة الخارجية الأمريكية العدوانية، في محاولة غير واعية منها كي «تصبح» هي نفسها أمريكا. 

كذلك يمكن تحليل الموقف المتشدد للغاية لممثلي الدول الحدوديّة مع روسيا مثل بولندا ودول البلطيق -الذين جرى تعيينهم الآن في مناصب رئيسيّة في الدفاع والسياسة الخارجية في «المفوضية الأوروبية» الجديدة- من منظور نفسيّ. إنّ الذهنيّة الوطنيّة لهذه الدول لا تزال متأثّرة بعمقٍ من صدمات الخضوع عبر التاريخ لروسيا، وهو إرث ينتقل عبر الأجيال من خلال السرديات والأساطير الوطنية. وهذا ما يدفعها لإسقاط تجارب الماضي على المشهد الجيوسياسي الحاليّ. إذ، وبالرغم من عدم وجود تهديد عسكريّ روسيّ لهذه الدول، تُعتبر روسيا امتدادًا رمزيًّا للتهديد السوفييتي، التهديد العابر للتاريخ. وبينما قد يكون هذا المنظور مفهومًا من الناحية النفسية، إلّا أنّه لا يشكّل أساسًا لسياسة خارجية عقلانية، خاصة عندما يعُمّم ليشمل أوروبا كلّها. 

هذا كلّه يشير إلى أنّ التحديات الحالية التي تواجهها أوروبا ليست سياسية أو اقتصادية فحسب، بل هي وجودية بطبيعتها، وتمسّ هوية القارة وهدفها ومستقبلها. وربّما يكون الحلّ في شكل من أشكال العلاج النفسيّ الجماعيّ، ربّما هذا فقط ما يمكن أن ينقذنا.

Comments are closed.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية