أوكرانيا بعد الاستقلال: ثلاثون عامًا من الصراع

تصميم ليلى الطويل

أوكرانيا بعد الاستقلال: ثلاثون عامًا من الصراع

الجمعة 11 آذار 2022

مع الغزو الروسي لأوكرانيا في 24 شباط الماضي، وإلى جانب الاهتمام الواسع بسير العمليات العسكرية ومدى تأثير العقوبات الغربية على روسيا، تركزت قراءة الحرب وتحليلاتها في الأغلب على الصراع الروسي الغربي وأدوار القوى الدولية ونفوذها في أوكرانيا. لكن الأزمة الأوكرانية الحالية ليست صراعًا خارجيًا خالصًا، إنما هي أزمة متشابكة ترتبط بأسباب وجهات خارجية وداخلية، وتتقاطع فيها المصالح المحلية والدولية. فبينما هيمنت الدول الغربية على معظم الحياة السياسية في أوكرانيا بعد استقلالها، واستخدمت روسيا بالمقابل أوراق ضغطٍ للتأثير على قراراتٍ سياسية في بعض المحطات، كانت الأطراف السياسية الأوكرانية، سواء في السلطة أو المعارضة، تسعى بدورها للتحالف مع الخارج، وتحوّل اتجاه البلد بين الشرق والغرب بحسب الولاءات السياسية والمصالح الاقتصادية للمسيطرين على السلطة.

إن لتركيبة النظام السياسي في أوكرانيا المستقلة دورًا مهمًا في التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي مرّت بها البلاد. وعليه، يعرض هذا المقال جانبًا من التاريخ السياسي للنظام الحاكم في أوكرانيا، وينظر في التبدلات التي أصابت المشهد السياسي الداخلي، وارتباطاته الخارجية، وشيئًا من تأثيراته الاقتصادية، خلال الأحداث التاريخية التي شهدتها أوكرانيا في الأعوام الثلاثين الماضية، تحديدًا الاستقلال عام 1991، والثورة البرتقالية عام 2004، وأحداث الميدان الأوروبي في 2013/ 2014.

ما بعد الاستقلال

خطوةً إلى الخلف. تمتعت أوكرانيا في ظل الاتحاد السوفيتي بحكم ذاتي تحت سلطة الحزب الواحد في موسكو؛ الحزب الشيوعي السوفيتي. لكن، في سبعينيات القرن الماضي بدأت بالظهور في أوكرانيا حركات معارضة للنظام الشيوعي يقودها مثقفون وحقوقيون، وتزايد نشاط هذه الحركات في الثمانينيات بالتزامن مع إصلاحات اقتصادية دعا لها رئيس الاتحاد السوفيتي آنذاك ميخائيل غورباتشوف، وقد تعرض بعض أعضائها للسجن أو النفي قبل أن يُسمح لهم رسميا أواخر الثمانينيات بممارسة أنشطتهم. أفرزت هذه المعارضة حركتين سياسيتين، أولاهما حركة الشعب الأوكراني التي انبثق عنها بعد الاستقلال عدد من أحزاب اليمين والوسط، وثانيهما حزب محافظ يدعى الحزب الجمهوري الأوكراني.

بعد ذلك، وقبل الإعلان الرسمي عن حلّ الاتحاد السوفيتي، أعلن البرلمان الأوكراني عام 1990 استقلالَ أوكرانيا، ثم عُدّلت القوانين بما يسمح بالتعددية السياسية والملكية الفردية. وفي أواخر 1991 وافق حوالي 90% من الأوكرانيين في استفتاء شعبي على الاستقلال، وانتُخب رئيس البرلمان حينها، زعيم الحزب الشيوعي الأوكراني المستقيل منه قبل أشهر قليلة، ليونيد كرافتشوك رئيسًا للجمهورية. وقد اتبع كرافتشوك خلال ولايته حتى 1994 سياسة خارجية يمكن وصفها بالمتوازنة، فيما شهدت أوكرانيا انفتاحًا اقتصاديًا محدودًا على الغرب، وتراجعًا في النفوذ الروسي.

ما أن أُعلن الاستقلال حتى انشقّ عن الحزب الشيوعي الأوكراني بعضُ أعضائه، وشكّلوا حزبًا جديدًا هو الحزب الاشتراكي الأوكراني، ومن هذين الحزبين خرجت لاحقًا معظم الأحزاب اليسارية. لكن الحزب الشيوعي أعاد ترتيب صفوفه قبل الانتخابات الرئاسية والبرلمانية عام 1994 ليحصد الحصة الأكبر من مقاعد البرلمان. كما انتُخب البيروقراطي الشيوعي سابقًا ليونيد كوتشما رئيسا للجمهورية، ما أثبت سيطرة الشيوعيين على النظام السياسي الحاكم. لكنها سيطرة ستزول قريبًا.

أواخر 1991 وافق 90% من الأوكرانيين في استفتاء شعبي على الاستقلال، وانتُخب رئيس البرلمان حينها، زعيم الحزب الشيوعي الأوكراني المستقيل منه قبل أشهر قليلة، ليونيد كرافتشوك رئيسًا للجمهورية

ترأس كوتشما أوكرانيا حتى 2004، مرّت البلاد خلال هذا العقد بمنعطفات سياسية واقتصادية حادّة يمكن القول إنها ما زالت مؤثرة حتى اليوم. قدّم كوتشما أوكرانيا على أنها بلد آسيوي-أوروبي، وفي عهده انفتحت أوكرانيا بشدّة على الغرب، خصوصًا خلال النصف الثاني من التسعينيات، بعدما أبرمت مع الولايات المتحدة وأوروبا العديد من الاتفاقيات الاقتصادية والعسكرية، وبدأت تتزايد التدخلات الغربية في السياسة الداخلية الأوكرانية، وتدفقت الشركات ورؤوس الأموال الغربية إليها. كما شهد عهده عودة محدودة للنفوذ الروسي.

اقتصاديا، انتقلت أوكرانيا بعد الاستقلال من الاقتصاد الشيوعي إلى اقتصاد السوق المفتوح والملكية الفردية لوسائل الإنتاج. لكن الزخم الأكبر لهذا التحول كان في سنوات خصخصة الشركات والمؤسسات العامة (1994-1999)، وقد حظيت قوانين الخصخصة بدعم المانحين الغربيين في الولايات المتحدة وأوروبا، ومن أبرزهم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

صار التحول الاقتصادي وعمليةُ الخصخصة عمليةَ فساد مالي وسياسي واسعة، حيث ظهرت بسببها منذ أوائل التسعينيات طبقة أوليغارشية من رجال أعمال استولوا على الممتلكات العامة للدولة وجعلوها ممتلكات خاصة بهم دون دفع مقابل لخزينة الدولة. وكان البيروقراطيون الشيوعيون سابقًا من أبرز مكونات هذه الطبقة، وهم إمّا استخدموا نفوذهم السياسي في تملّك معظم أسهم المؤسسات العامة التي كانوا مدراءها في السابق، أو حصلوا على أموالهم عبر قروض من الدولة أو أعمال غير مشروعة ثم أنشأوا بها شركات احتكارية. ويضاف إلى هذه الطبقة مكوّن تشكّل من رجال المافيا وعصابات الجرائم المنظمة.

ومنذ ظهورهم انقسم الأوليغارش إلى جماعاتٍ بحسب نشاطاتهم الاقتصادية أو المناطق التي تتركز فيها أعمالهم. وكان لكل جماعةٍ منهم ارتباطاتها الخارجية، سواء بروسيا أو بالغرب، ومن أبرز هذه الجماعات «جماعة دنيبروبتروفسك» (على اسم مدينة شرق أوكرانيا)، وتضم أوليغارشيين يسيطرون على شركات كبرى في الطاقة والمعادن والاتصالات، من بينهم الرئيس كوتشما نفسه، وأحد رؤساء الوزارة في عهده -وقائد الجماعة- بافلو لازارينكو، إضافة إلى المعارضة البارزة ورئيسة الوزراء -لاحقًا- يوليا تيموشينكو. يشار إلى أن هذه الجماعة تفككت بعد الثورة البرتقالية عام 2004، وفرار لازارينكو من أوكرانيا إثر اتهامات بالفساد.

من الجماعات المهمّة أيضًا «جماعة دونيتسك» (مدينة شرق أوكرانيا) بقيادة الثري رينات أخميتوف، وتضم أوليغارشيين يعملون في الصناعات الثقيلة والتعدين. إضافة إلى «جماعة الغاز» والجماعات الأوليغارشية المصرفية والمالية.

تحالفت هذه الجماعات مع القوى الدولية ممثّلة بروسيا والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بحسب مصالحها السياسية والاقتصادية. فكانت الجماعات من شرق أوكرانيا وجنوبها، وأهمها جماعتا دونيتسك والغاز على علاقة وثيقة بروسيا؛ السوق الرئيسية للمواد الأولية الأوكرانية والمزود الرئيسي لأوكرانيا بالنفط والغاز، ما منح روسيا القدرة أحيانًا على استخدام أدوات ضغط اقتصادية للتأثير على القرار السياسي في أوكرانيا.

بالمقابل كانت الأوليغارشيات المصرفية والمالية مرتبطة بشدة بأوروبا والولايات المتحدة، وحتى الجماعات الموالية لروسيا احتفظت بعلاقات جيدة مع الغرب حفاظًا على مصالحها الاقتصادية. فيما كانت فئة ثالثة من هذه الجماعات موالية لمصالحها الخاصة، فكوّنت علاقات جيدة مع الروس في مجالات الطاقة والنفط، وعلاقات جيدة أيضًا مع الأوروبيين في القطاعات المصرفية، وكانت تقلّب مواقفها السياسية بحسب ما تقتضيه مصالحها، وإن كانت ميّالة معظم الأحيان للأوروبيين.

دخلت الجماعات الأوليغارشية المتنافسة في صراعاتٍ شديدة للسيطرة على أكبر قدر ممكن من موارد الدولة الأوكرانية، وخاضت شخصيات بارزة هذه الصراعات حتى داخل الجماعة الواحدة

مثلًا، من أبرز الأوليغارش المتقلّبين هؤلاء، المصرفيّ إيغور كولومويسكي، فقد كان داعمًا أساسيًا لـ«أميرة الغاز» كما تلقب يوليا تيموشينكو الموالية للغرب، لكنه تخلى عنها لصالح رئيسٍ محسوبٍ على روسيا عام 2010، ثم انقلب على هذا الأخير بعدما أطاحت به احتجاجات شعبية عام 2014، وصار من أنصار المعسكر الغربي. وفيما كان يموّل ميليشيات أوكرانية مسلحة تقاتل الانفصاليين الموالين لروسيا، صدرت له تصريحات في 2019 يقول فيها إن إعادة بناء العلاقات مع روسيا أصبح ضرورة لإنقاذ الاقتصاد الأوكراني، وأن مصلحة أوكرانيا تتحقق بالتوجه إلى روسيا طالما أن الأوروبيين لا يقدمون دعمًا كافيًا.

سيطر الأوليغارش على القطاعات الصناعية والنفطية والمالية في أوكرانيا، وأنشأوا وسائل إعلامية خاصة بهم، وصعدوا تدريجيًا في الحياة السياسية خلال التسعينيات، فيما كان الحزب الشيوعي الأوكراني يتراجع لصالح أحزاب نخبوية جديدة قائمة على العلاقات الشخصية أنشأها الأوليغارش، ومن أبرزها: حزب «رابطة عموم أوكرانيا»، المعروف باسم «هرومادا» بزعامة رئيس الوزراء السابق لازارينكو، وحزب «الأقاليم» الموالي لروسيا والمدعوم من جماعتي دونيتسك والغاز، وحزب «أرض الآباء» الذي أنشأه أوليغارش موالون للغرب.

ومع أواخر التسعينيات، كانت أهم حركات المعارضة الممثلة بحزب حركة الشعب الأوكراني (يمين معتدل) وبعض المثقفين والحقوقيين قد أزيحوا من المشهد السياسي، وأحكم الأوليغارش قبضتهم على الحكم بعدما حازوا المناصب الكبرى في الدولة وتحكموا بالأحزاب السياسية، اليمينية واليسارية، وسيطروا على البرلمان والحكومة والإعلام.

لكن الطبقة الأوليغارشية لم تكتف بما استحوذت عليه من ثروات، بل دخلت الجماعات المتنافسة في صراعاتٍ شديدة للسيطرة على أكبر قدر ممكن من موارد الدولة، وخاضت شخصيات بارزة هذه الصراعات حتى داخل الجماعة الواحدة، وقد تصاعدت حدّتها وصولًا إلى محاولات اغتيال بعضهم الآخر. وقد تداخلت هذه الصراعات بعمقٍ في الحياة السياسية.

ومن أبرز حالات الصراع هذه ما بدأ عام 2000 بين يوليا تيموشينكو وأوليغارشي آخر من جماعة الغاز اسمه ديميترو فيرتاش، من أجل السيطرة على قطاع الغاز. كانت تيموشينكو حينها نائبة رئيس الوزراء لشؤون الطاقة واستخراج الفحم، وهي تملك شركة غاز كبرى كانت تحتكر استيراد الغاز من روسيا، فساهمت في سنّ قوانين أضرت بمصالح جماعة الغاز، ومن بينهم فيرتاش. ومن أجل الضغط عليها اعتقل زوجها -والذي يرأس شركتها- بتهم فساد، ثم قرر الرئيس كوتشما إقالتها، فصارت معادية له ولجماعة دونيتسك، وانتقلت إلى حزب أرض الآباء الموالي للغرب. لاحقًا في 2004 تولت رئاسة الوزراء وحاولت مجددًا تحجيم نفوذ جماعة الغاز لصالح شركتها. وفي 2010 عندما صار فيكتور يانوكوفيتش رئيسًا للجمهورية، وهو المحسوب على جماعة دونيتسك والغاز، اتُّهمت بالفساد وحُكمت بالسجن سبع سنوات، لكنها خرجت منه بعد الإطاحة بيانوكوفيتش عام 2014.

خارجيًا، انصب اهتمام الولايات المتحدة خلال التسعينيات على إضعاف النفوذ الروسي في أوكرانيا، وتفكيك الأسلحة النووية فيها، وهو ما حصلت عليه بعد توقيع مذكرة بودابست للضمانات الأمنية أواخر عام 1994 التي جرى بموجبها تفكيك ترسانتها ونقلها إلى روسيا مقابل تعهّد روسيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة باحترام استقلال أوكرانيا وعدم الاعتداء عليها أو وضع ضغوط اقتصادية للتأثير في سياساتها.

أمّا الأوروبيون فهدفوا لتوسيع نفوذهم واستثماراتهم الاقتصادية في السوق الأوكراني الناشئ. والأهم أنهم سعوا لتوسيع حلف الناتو شرقًا، وضمن هذا المسار ضمّوا للحلف عددًا من دول أوروبا الشرقية عاميْ 1999 و2004. وكانوا قبلها قد وقعوا مع أوكرانيا اتفاقية عرفت بـ«ميثاق التفاهم» عام 1997 اعتبرت استقرار أوكرانيا استقرارًا لأوروبا

في المحور المقابل، كانت روسيا قلقة من تصاعد النفوذ الغربي في أوكرانيا، واعتبرت توسع الناتو شرقًا عملًا عدوانيا خطيرًا على أمنها القومي، لكنها كانت خلال التسعينيات منكفئةً على نفسها تقريبًا، مشغولةً أكثر بوضعها الداخلي ومعالجة أحوالها الاقتصادية بعد تفكك الاتحاد السوفيتي. ومع مطلع الألفية الثالثة وصل فلاديمير بوتين إلى رئاسة روسيا، وتركّز عمله في السنوات الأولى على إعادة بناء الاقتصاد وتطوير القدرات العسكرية للجيش.

بين ثورتين

عام 2002 حصلت الأحزاب الأوليغارشية على أغلب مقاعد البرلمان، وكان الصراعات السياسية والاقتصادية لجماعاتهم قد تصاعدت بشكل ملحوظ، وصل إلى تنافسهم على مقعد رئاسة الجمهورية، في حين كانت شعبية الرئيس كوتشما متدهورة. وكان التوتر يسود المشهد الخارجي؛ روسيا قلقة من انضمام عدد من دول البلطيق وأوروبا الشرقية للناتو عام 2004، والغرب قلق من تطور القدرات العسكرية الروسية.

من مظاهرات الميدان الأوروبي، 1 كانون الأول 2013. المصدر: ويكيبيديا.

 

في هذه الأجواء، أعلن رئيس الوزراء آنذاك فيكتور يانوكوفيتش ترشحه للانتخابات الرئاسية عن حزب الأقاليم، وكان يُعتبر امتدادًا لنظام الرئيس كوتشما، كما أنه محسوب على جماعة دونيتسك الموالية لروسيا، والتي تخوض بدورها صراعًا مع الأوليغارشيات الموالية للغرب، والتي شككت بنزاهة الانتخابات قبل أن تبدأ.

أجريت الانتخابات وأعلن عن فوز يانوكوفيتش على خصمه فيكتور يوشينكو، وهذا الأخير أوليغارشي مدعوم من الغرب والأوليغارش المنافسين لجماعة دونيتسك. وعليه، اتهمت تقارير محلية ودولية الحكومة بتزوير الانتخابات، وخرجت مظاهرات حاشدة ترفع الأعلام البرتقالية -لون الحملة الانتخابية ليوشينكو- في بعض المدن الأوكرانية، خصوصًا العاصمة كييف والمدن الغربية ذات الأغلبية الناطقة بالأوكرانية، معلنة عدم الاعتراف بشرعية يانوكوفيتش. بالمقابل، طالبت بعض المدن الشرقية، ذات الأغلبية الناطقة بالروسية، وخزّان المصوتين لصالح يانوكوفيتش، بحكم ذاتي.

عارضت الثورة البرتقالية نظامَ كوتشما وجماعة دونيتسك والنفوذ الروسي، وشكل المعارضون تحالفًا بقيادة المرشح الخاسر يوشينكو إلى جانب يوليا تيموشينكو، أكثر الأوليغارش ولاء للغرب، وانضمت إليهم أحزاب يمينية قومية متطرفة أبرزها حزب «سفوبودا» (الحرية). حظيت الثورة البرتقالية بدعم غربي واسع، وشجعت الولايات المتحدة وأوروبا المحتجين على التظاهر حتى إسقاط النظام، فيما هددوا الرئيس كوتشما بالعقوبات والمحاكمات الدولية في حال استخدام العنف لتفريق المتظاهرين.

وعد قادة الثورة البرتقالية الأوكرانيين بالحد من البطالة، وتخفيض الضرائب، ومكافحة الفساد، وإعادة توزيع الأراضي، وتخفيف الفوارق الطبقية. لكن شيئًا من هذا لم يتحقق

ومع استمرار الاحتجاجات، قررت المحكمة الدستورية في كانون الأول 2004 إلغاء نتائج الانتخابات السابقة وإجراء انتخابات جديدة. فاز يوشينكو في جولة الإعادة بنسبة 52% من الأصوات، وعيّن تيموشينكو رئيسة للوزراء، فيما تمّ تهميش القوى الشبابية واليمينية القومية المشاركة في الثورة، لتسيطر بهذا الأوليغارشية الغربية على الحكم.

وعد قادة الثورة البرتقالية الأوكرانيين بالحد من البطالة، وزيادة الأجور، وتخفيض الضرائب، ومكافحة الفساد، وتشجيع إنشاء الشركات الصغرى والمتوسطة، وإعادة توزيع الأراضي، وتخفيف الفوارق الطبقية. لكن شيئًا من هذا لم يتحقق. على العكس، انخفضت نسبة النمو في الناتج المحلي الإجمالي من 12% عام 2004 إلى حوالي 3% في العام التالي بسبب انخفاض الاستثمارات الأجنبية وهروب رؤوس الأموال بعد الثورة، ثم شهدت تحسنًا في الأعوام 2006 و2007، لكن الانتكاسة حدثت عام 2009 عندما انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 15% متأثرًا بالأزمة الاقتصادية العالمية، وهو ما انعكس على قدرة الحكومة في تحقيق وعودها تجاه البطالة والأجور.

وفي هذه الأثناء، تحديدًا بين 2006 و2008، طالبت روسيا أوكرانيا بسداد الديون المتأخرة عليها من الغاز الروسي ردًا على محاولات تيموشينكو الضغط على جماعة الغاز التي تموّل حزب الأقاليم المقرب من موسكو، وقد كانت روسيا سابقًا تتغاضى عن هذه الديون عندما كانت الجماعات المقربة منها في السلطة. أمّا غربًا، فلم تقدم الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي الدعم الموعود به عند الثورة، باستثناء قروضٍ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي جاءت مشروطة بإصلاحات اقتصادية على رأسها تخفيض الدعم المقدم للمواطنين. 

أكثر من ذلك، تفاقمَ الصراع بين الجماعات الأوليغارشية الشرقية والغربية، خصوصًا مع محاولات رئيسة الوزراء تيموشينكو التخلص من منافسيها الشرقيين عبر سجنهم وملاحقتهم قضائيًا وفتح ملفات الخصخصة للشركات التابعة لجماعة دونيتسك، ما جعل الجماعات الشرقية تخشى من انتقام السلطات في كييف. وقد اتبعت تيموشينكو سياسات أكثر ليبرالية لتشجيع إنشاء الشركات المتوسطة والصغرى حدّ أن جماعة حليفها الرئيس يوشينكو رأت في سياساتها خطرًا على مصالحهم.

بعد الثورة البرتقالية، تم تعديل الدستور، وتحولت أوكرانيا من النظام الرئاسي إلى البرلماني. وجرت الانتخابات البرلمانية الأولى بعد الثورة عام 2006، ليحصل حزب الأقاليم الموالي لروسيا على 32% من مقاعد البرلمان، فيما حصل حزب أرض الآباء بزعامة تيموشينكو، وتجمع أوكرانيا وطننا التابع للرئيس يوشينكو على 22% و14% من المقاعد، على التوالي. وبهذه النتيجة تكون سلطة اتخاذ القرار قد توزعت على السلطات الثلاث المتنازعة أصلًا؛ البرلمان والرئاسة ورئاسة الوزراء، ما أدى إلى تعطل إصدار القرارات المهمة.

إضافة إلى كل ما سبق، شهدت الثورة البرتقالية تصاعدًا في الخطاب القومي بين الأطراف الداخلية المتصارعة؛ الشرقية والغربية. وهو خطاب كان قد ظهر منذ التسعينيات حيث كانت المناطق الغربية من أوكرانيا تطالب بالاستقلال عن روسيا، فيما كانت المناطق الشرقية والجنوبية تميل إلى الانضمام إليها. لكنه تصاعد بشكل ملحوظ أثناء الثورة، حيث استخدمت الجماعات الغربية الموالية لأوروبا خطابًا قوميا أوكرانيًا حادًا ومعاديا لروسيا من أجل حشد جماهيرها، فيما استغلت الجماعات الشرقية هذا الخطاب لحشد أنصارها الذين اعتبروه موجها ضدهم. لينقسم المجتمع الأوكراني بحدة. وهو ما ظهر في نتائج الانتخابات الرئاسية عام 2004، حيث صوّتت أغلبية المواطنين في المناطق الغربية لصالح يوشينكو، فيما صوتت الأغلبية في المناطق الشرقية لصالح يانوكوفيتش. إضافة إلى ذلك، ساهم تصاعد الخطاب القومي في بروز قوى اليمين القومي المتطرف، والتي سيكون لها دور سياسي وعسكري فاعل في أوكرانيا ما بعد 2013.

خارجيًا، وافق الناتو عام 2008 على أن تكون أوكرانيا وجورجيا أعضاء فيه مستقبلًا، دون تحديد موعد زمني لمنحهم العضوية. وهو ما دفع بوتين لتحذير الأمريكيين من عواقب ضم هذه الدول إلى الناتو معتبرًا إياه عملًا عدائيًا ضد روسيا.

في هذه الظروف السياسية والاقتصادية، أجريت الانتخابات الرئاسية عام 2010، ليعود من أزاحته الثورة البرتقالية؛ فيكتور يانوكوفيتش إلى سدة الرئاسة، وعلى حساب أيقونة الثورة يوليا تيموشينكو. بهذه النتيجة أُعلنت وفاة الثورة البرتقالية، لكن حكاية يانوكوفيتش مع الثورات لم تنتهِ.

الميدان الأوروبي وما بعده

تقارب الرئيس يانوكوفيتش مع الاتحاد الأوروبي، واحتفظ في الوقت نفسه بعلاقات متينة مع روسيا، وكان كلا الطرفين يحاولان توقيع اتفاقيات شراكة اقتصادية مع أوكرانيا. وفيما وعدت روسيا بتقديم 15 مليار دولار مساعدات للاقتصاد الأوكرامي، كانت التعهدات الأوروبية أقل من ذلك، ما دعا يانوكوفيتش -أواسط تشرين الثاني 2013- إلى اتخاذ قرارٍ بتعليق التوقيع على اتفاقية التجارة والشراكة بين الاتحاد الأوكراني وأوروبا.

على إثر هذا القرار، انطلقت بعد أيام احتجاجات واسعة في ميدان الاستقلال في العاصمة كييف بقيادة المعارضة الأوكرانية الموالية لأوروبا والغرب، عرفت باسم «الميدان الأوروبي» (سميت لاحقًا بثورة الكرامة)، ورفعت شعارات بيّنت توجه المحتجين، منها: «أريد أن أعيش في أوروبا»، و«أوكرانيا جزء من أوروبا».

رأى يانوكوفيتش أن مصلحة أوكرانيا تتحقق بالشراكة الاقتصادية مع روسيا، فوقّع معها بعد أيام من الاحتجاجات اتفاقية للتجارة الحرة، لتستمر المظاهرات أشهرًا في كييف، تخللتها مظاهر عنفٍ منها اقتحام المحتجين لمبانٍ حكومية واشتباكات بين المتظاهرين والشرطة سقط فيها العديد من القتلى. تدخلت دول أوروبية في الأزمة، ورعَت فرنسا وألمانيا وبولندا اتفاقًا بين الحكومة والمعارضة من أجل إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة، وهو ما قبلت به روسيا.

في اليوم التالي من الاتفاق، عزل البرلمان يانوكوفيتش من منصبه، وحدد موعد الانتخابات المبكرة. بعد رفضه القرار في البداية، فرّ يانوكوفيتش لاحقًا إلى روسيا، وصدرت بحقه مذكرة اعتقال بتهمة قتل المتظاهرين. وعَيّن البرلمان في شباط 2014 رئيسا مؤقتًا قام بعد حوالي شهرٍ من تعيينه بتوقيع اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي. ثم أجريت الانتخابات المبكرة أواخر 2014، وفاز فيها الأوليغارشي الموالي للغرب بيترو بوروشينكو، والذي يرتبط بعلاقات اقتصادية مع أوروبا، ويدعم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو.

في 2020 صارت أوكرانيا سادس دولة على قائمة «الشركاء ذوي الفرص المتقدمة»، وهي حالة خاصة تمنح لأقرب حلفاء الناتو

هكذا عادت الجماعات الموالية للغرب إلى السلطة، لكن البلاد دخلت في منعطفٍ يمكن القول إنها لم تخرج منه حتى اليوم. داخليًا، تصاعد الانقسام المجتمعي الذي بدأ بالظهور بعد الثورة البرتقالية، وظهرت تجلياته بشكل واضح قبل حوالي عامين من أحداث الميدان الأوروبي، حيث صعد في الحياة السياسية الأوكرانية أحد أبرز التيارات اليمينية المتطرفة -والمتهمة بالنازية والفاشية- وهو حزب «سفوبودا»، الذي حقق عام 2012 سابقةً في تاريخه بوصوله إلى البرلمان بعد حصده مليوني صوت ضمنت له 38 مقعدًا (من أصل 450)، كما حصل على مناصب مهمة في الحكومة منها نائب رئيس الوزراء ووزير الدفاع.

إضافة إلى سفوبودا، برزت حركة يمينية فاشية أخرى تدعى «القطاع الأيمن»، وهي معادية بشدة للروس والأوكرانيين الناطقين بالروسية. وقد كان للحركتين دور مهم في احتجاجات الميدان عام 2014، خصوصا في اقتحام المباني الحكومية والمواجهات العنيفة مع الشرطة، كما كان قادتهم من أبرز المتحدثين في الميدان. واعترفت حكومة بوروشينكو بالقطاع الأيمن حزبًا سياسيًا، كما أنشأت الحركتان في العام نفسه ميليشيات عسكرية تابعة لهما بتشجيع من المسؤولين الحكوميين الموالين للغرب.

بالمقابل، أثار صعود اليمين القومي الأوكراني قلق الناطقين بالروسية في البلاد، وبرز تيار قومي روسي في جنوب البلاد وشرقها. ومع انتهاء مظاهر الاحتجاج تقريبًا في كييف في شباط 2014، انطلقت احتجاجات شعبية مضادة للميدان الأوروبي في المناطق الشرقية والجنوبية ذات الأغلبية الروسية، تحديدًا في مدن دونيتسك ولوهانسك وخاركوف وأوديسا وشبه جزيرة القرم، واقتحم المحتجون مبانٍ حكومية ورفعوا عليها الأعلام الروسية.

بعد ذلك، وفي شبه جزيرة القرم، التي كانت تتمتع بحكم ذاتي منذ أوائل عام 1991، استولى مسلحون موالون لروسيا على المطارات والقواعد العسكرية، وفي أواخر شباط 2014 تدخلت روسيا عسكريًا وسيطرت على القرم، قبل أن يجرى استفتاء شعبي تقرر فيه استقلال القرم وانضمامها للاتحاد الروسي. وهو ما عزز الرغبات الانفصالية المطالبة بالانضمام لروسيا في مدن الشرق، تحديدًا في منطقة دونباس التي تضم مدينتي دونيتسك ولوهانسك، فظهرت ميليشيات مسلحة؛ بعضها شعبية، وأخرى تشكلت من متطوعين قادمين من روسيا. ومع هذا الصعود للانفصاليين، الذي تبع فرار الرئيس السابق يانوكوفيتش، تراجع نفوذ حزب الأقاليم الموالي لروسيا في المناطق الشرقية، بل إن كثيرًا من أعضائه صاروا موالين للغرب.

في كييف، قررت الحكومة إطلاق عملية عسكرية للتعامل مع الانفصاليين في دونباس خشيةً من تكرار سيناريو القرم، أسمتها «عملية مكافحة الإرهاب». وكانت قبل ذلك قد أسست «قوات الدفاع الوطني» برئاسة رئيس الجمهورية، وقد ضمت هذه القوات أفرادًا من الميليشيات التابعة لحزب سفوبودا وحركة القطاع الأيمن. كما أصدرت الحكومة قانونًا يسمح بتشكيل ميليشيات عسكرية خاصة، على أن تشرف عليها وزارة الداخلية بالتعاون مع الجيش الأوكراني.

من جانب آخر، حاول الأوليغارش الشرقيون إقناع الانفصاليين بالتفاوض مع الحكومة في كييف، فيما سعى الأوليغارش الغربيون إلى تأخير العملية العسكرية ضدّهم، ولم تكن هذه المساعي إلا رغبة في حماية مصالحهم ونفوذهم. انطلقت العملية العسكرية في نيسان 2014، ووقعت اشتباكات دامية بين الطرفين تسببت بتهجير وقتل الآلاف.

خارجيًا، اعتبرت روسيا أحداث الميدان «انقلابًا فاشيا» مدعومًا من الغرب، واتهمت الحكومات الغربية بالتحالف مع نازيين جدد للسيطرة على كييف. وبعد ضمّ القرم قال بوتين في آذار 2014: «إن هناك حدًا لكل شيء. وبخصوص أوكرانيا، فقد تجاوز شركاؤنا الغربيون الحدّ». ثم عادت روسيا لمطالبة أوكرانيا بالديون المستحقة لها عن بيع الغاز، وألغت الأسعار التفضيلية التي تبيعها بها. ومع توسع الاحتجاجات شرقي البلاد، حشدت روسيا قواتها على الحدود الشرقية لأوكرانيا. 

متظاهرون يرفعون الأعلام الروسية على على مبنى إدارة مقاطعة دونيتسك شرقي أوكرانيا، 1 آذار 2014، المصدر: ويكيبيديا.

في الجهة المقابلة، دعمت الدول الغربية «عملية مكافحة الإرهاب»، وفرضت وحلفاءها على روسيا عقوبات طالت قطاعات الطاقة والدفاع والمالية. وعزز الناتو وجوده العسكري في بولندا ورومانيا ودول البلطيق، وأعلن دعمه لحكومة بوروشينكو، معتبرًا أوكرانيا «شريكًا مميزًا». كما أعلن الناتو عن تعزيز برامج التعاون مع أوكرانيا لتنمية قدراتها العسكرية والأمنية، وتعزيز وجودهم الاستشاري في مكاتب الناتو في كييف، واستمرار المشاركة الأوكرانية المنتظمة في تدريبات الناتو. وفي 2020 صارت أوكرانيا سادس دولة على قائمة «الشركاء ذوي الفرص المتقدمة»، وهي حالة خاصة تمنح لأقرب حلفاء الناتو.

الاتحاد الأوروبي من جهته منح أوكرانيا بين 2014 و2019 قروضًا بلغ مجموعها حوالي 14 مليار دولار، ومِنحًا وصلت تقريبا إلى ملياريْ دولار، كما قدم أكثر من 1.3 مليار دولار لمساعدتها في الحد من التبعات الاقتصادية لجائحة كورونا، ووافق عام 2017 على دخول الأوكرانيين إلى منطقة الشنغن بدون تأشيرة. بالإضافة إلى ذلك، حصلت أوكرانيا على قروضٍ ومساعداتٍ من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي.

أمّا الولايات المتحدة، فكانت أكثر الداعمين سخاءً. بالعموم، قدمت الولايات المتحدة دعمًا ماليًا لأوكرانيا منذ استقلالها يصل إلى 9.5 مليار دولار (تقلّص حجم المساعدات في سنوات حكم يانوكوفيتش)، نصف هذا المبلغ تقريبًا (حوالي 5 مليارات) قُدّم بعد أحداث الميدان الأوروبي (2014-2021)، وخصّص نصف هذا المبلغ (2.5 مليار) لغايات دعم القطاع العسكري الأوكراني. هذا فضلًا عن تزويد الجيش الأمريكي نظيره الأوكراني بالتدريب والمعدات والبنادق وقاذفات القنابل والصواريخ المضادة للدبابات وغيرها. وتقول وزارة الخارجية الأمريكية إن هذه المساعدات تهدف إلى «دعم تطوير أوكرانيا آمنة وديمقراطية ومزدهرة، ومندمجة بالكامل في المجتمع الأوروبي-الأطلسي».

عودةً إلى الداخل، كان التراجع السريع في الحضور البرلماني لقوى اليمين المتطرف واحدًا من أبرز التغيّرات في المشهد السياسي بعد أحداث الميدان الأوروبي. فقد أجريت انتخابات برلمانية مبكرة أواخر تشرين الأول 2014، ولم يتمكن حزب سفوبودا -مثلًا- من الحصول على الحد الأدنى من الأصوات التي تؤهله للدخول إلى البرلمان، إنما حصل ستة أعضاء فيه على مقاعد فردية (نزولًا من 38 مقعدًا في مجلس 2012). أعادت قوى اليمين المتطرف المحاولة مرة أخرى، فشكّلت كتلة واحدة لخوض الانتخابات البرلمانية عام 2019، لكنها فشلت هذه المرة أيضًا في تخطي العتبة الانتخابية، بل حصلوا على نسبة أصوات أقل من المرة السابقة.

لكن هذا لم يمنع وجود علاقات سياسية وتمويلية خلال السنوات 2014-2019 بين الميليشيات المسلحة التابعة لقوى اليمين المتطرف والأحزاب السياسية التابعة للأوليغارش، حيث صار بعض السياسيين جنودًا أو قادة في هذه الميليشيات، بينما انتقل بعض أفراد الميليشيات إلى المجال السياسي فدخلوا البرلمان أو انضموا لأحزاب قائمة أو أنشأوا أحزابًا وتيارات سياسية جديدة، لكن تأثيرهم على الأرجح في اتخاذ القرارات الحكومية ووضع السياسات العامة كان محدودًا، باستثناء القضايا المتعلقة بمواجهة أوكرانيا مع روسيا، ودمج الميليشيات المتطرفة في الشرطة والقوات المسلحة الأوكرانية.

 الرئيس الأوكراني فولديمير زيلينسكي خلال مؤتمر صحفي رفقة الأمين العام لحلف الناتو أواخر العام 2021. المصدر: أ ف ب.

على مستوى الرئاسة، فشل الرئيس الملياردير بوروشينكو بعد خمس سنوات من توليه المنصب عقب أحداث الميدان الأوروبي في إنعاش الاقتصاد، وتلقّى انتقاداتٍ محلية ودولية على فشله في تنفيذ الإصلاحات الرئيسية، خصوصًا في مكافحة الفساد. وقد خُتمت ولايته بتعديل دستوري يضع على الحكومة مسؤولية تنفيذ ما سمي بالـ«المسار الاستراتيجي» نحو عضوية الناتو والاتحاد الأوروبي. ولما حانت لحظة الانتخابات الرئاسية عام 2019، أزاحه عن كرسي الرئاسة مليونير وسياسي شعبويٌّ مغمور، حصد 73% من أصوات الناخبين، اسمه فولوديمير زيلينسكي.

جاء زيلينسكي من خارج الطبقة الحاكمة في أوكرانيا، وترشح عن حزب جديد -سُجل رسميًا عام 2017- حمل اسم مسلسل مشهورٍ أدى فيه زيلينسكي دور البطولة «خادم الشعب». وقد قامت حملته الانتخابية على شعارات مكافحة الفساد وتحديث الاقتصاد وتحقيق السلام في منطقة دونباس، كما وعد بمحاربة النخب السياسية القديمة. وهو من مؤيدي تعميق العلاقات مع الغرب والناتو. تذهب أغلب التحليلات إلى أن فوز زيلينسكي بالرئاسة يعكس إحباط وخيبة الشعب الأوكراني من الطبقة الحاكمة التقليدية عمومًا، ومن مسار البلاد تحت قيادة بوروشينكو.

برلمانيًا، حصلت الأحزاب الأوليغارشية الغربية والأحزاب ذات الميول الروسية على حصة من المقاعد، لكن حزب خادم الشعب حقق سابقةً في تاريخ البرلمان بعد الاستقلال حيث حاز الأغلبية المطلقة بنسبة 60% من المقاعد، وهو ما يمنح زيلينسكي مساحة أكبر لاتخاذ القرارات.

بالمقابل، أشارت تقارير إلى ارتباط العشرات من نواب حزبه بأوليغارش بارزين ما تسبب بتعطيل بعض التشريعات أو التعيينات الوزارية، كما تحدثت تحقيقات صحفية عن ارتباط زيلينسكي نفسه بعلاقات مالية مع الأوليغارشي الشهير إيغور كولومويسكي. وقد أثارت بعض القرارات تخوفاتٍ لدى المواطنين من استمرار النهج القديم في الحكم، منها مثلًا إعادة ملكية مؤسسات وشركات تم تأميمها في عهد الرئيس السابق إلى ملكيات خاصة لمالكيها السابقين. كما استهدف قانون الضرائب في عهده الشركات الصغيرة دون المساس بشركات الأوليغارش.

وفي ما بدا محاولة منه لإثبات جدّيته في محاربة النخب الأوليغارشية، أصدر البرلمان في أيلول الماضي قانونًا يسعى إلى منع الأوليغارش من تمويل الأحزاب السياسية أو المشاركة في عطاءات الخصخصة، مع إلزام أعضاء الحكومات بالإفصاح عن علاقاتهم بهم. لكن انتقادات طالت القانون معتبرةً أنه انتقائي للغاية ولا يعالج الأسباب الأساسية للفساد أو تأثير الأوليغارشية في السياسة.

أخيرًا، حاول زيلينسكي تسوية النزاع في منطقة دونباس، لكنه جهوده في ذلك فشلت. وبعد أقل من عامٍ على توليه الرئاسة، كانت شعبيته قد انخفضت جدًا بسبب استمرار المشاكل الاقتصادية وسوء التعامل مع جائحة كورونا والخوف من عودة نفوذ الأوليغارشية. لكن، في الرابع والعشرين من شباط الماضي قامت الحرب، ورفعت معها شعبية زيلينسكي إلى مستويات غير مسبوقة، فيما تحاصِر الأرتال الروسية الآن العاصمة كييف.

  • المراجع

    [1] اعتمد هذا المقال بشكل واسع في تناوله للأحداث التاريخية والبنية السياسية للنظام في أوكرانيا بعد الاستقلال حتى أحداث الميدان الأوروبي على كتاب محمد الكوخي، بعنوان «الأزمة الأوكرانية وصراع الشرق والغرب: جذور المسألة ومآلاتها»، الصادر عام 2015 عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات.

    [2] Cory Welt. Ukraine: Background, Conflict with Russia, and U.S. Policy. Congressional Research Service. October 2021.

    [3] Kostiantyn Fedorenko and Andreas Umland. Between Frontline and Parliament: Ukrainian Political Parties and Irregular Armed Groups in 2014–2019. Cambridge University Press. August 2021.

    [4] Jonathan Masters. Ukraine: Conflict at the Crossroads of Europe and Russia. Council on foreign affairs. December 2021.

Leave a Reply

Your email address will not be published.