مساء الأربعاء، الثاني من كانون الثاني 2024، تقصف طائرة إسرائيلية هدفًا في الضاحية الجنوبية من بيروت؛ تبيّن سريعًا أنّه الشيخ صالح العاروري، نائب رئيس حركة حماس ورئيس إقليم الضفة الغربية بالحركة، وبرفقته قيادات وكوادر من كتائب القسام في لبنان.
جاءت عملية الاغتيال الإسرائيلية، التي تتسم بقدر عالٍ من المخاطرة، بالنظر إلى الشخصية المُستهدفة ومكان الاستهداف، قبل أن ينتهي الشهر الثالث من الحرب على غزّة. لكنها وبقدر ما جاءت في سياق هذه الحرب، وتنفيذًا لتهديدات إسرائيلية باغتيال قيادات حماس في كلّ مكان، فإنّ الموقع الأهمّ للهدف هو مسؤوليته عن إقليم الضفة الغربية في حركة حماس، وهو ما يعني أن العملية تندرج، بالإضافة للحرب الجارية، في سياق تصفية الحساب مع المقاومة في الضفة الغربية وملاحقة القيادات والكوادر المسؤولة عن تطويرها.
كان عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفة الغربية، منذ السابع من أكتوبر 2023، وحتى نهاية الأسبوع الأوّل من عام 2024، قد بلغ 350 شهيدًا، (هذا دون الإشارة إلى المعتقلين الجدد الذين تفيد الإحصائيات باقترابهم من الستة آلاف في هذه الفترة الوجيزة، وشلّ حركة الفلسطينيين وعزل المناطق عن بعضها بتفعيل الحواجز والبوابات الحديدية وإنشاء بوابات جديدة؛ في صورة من صور «كيّ الوعي» التي اجترحها الاحتلال في الانتفاضة الثانية).
بالمقارنة مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى، التي مثّلت الحالة الشعبية الأكثر سعة وكثافة من حيث قدرتها على استثمار أعداد الفلسطينيين داخل الأرض المحتلة في مشهدية كفاحية واحدة؛ فإن أعلى عدد للشهداء فيها بلغ 389 شهيدًا في كامل العام 1988، ثمّ تلاه العام 1989، بـ285 شهيدًا، وذلك في كلّ من الضفّة الغربية وقطاع غزّة والداخل المحتلّ عام 1948، وهو ما يعني أنّ عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفّة الغربية وحدها في أقلّ من ثلاثة شهور؛ يقترب من عدد الشهداء في أكثر سنوات الانتفاضة الأولى ملحمية وأشدّها بأسًا، ويزيد على عددهم في أيّ من سنة أخرى، فقد كان العام 1993 الأعلى بعد ذلك في عدد شهداء الانتفاضة الأولى، إذ بلغ عدد الشهداء فيه 154 شهيدًا في الضفّة الغربية وقطاع غزّة والداخل المحتلّ.
عدد الشهداء الفلسطينيين في الضفّة الغربية وحدها في أقلّ من ثلاثة شهور على بدء طوفان الأقصى؛ يقترب من عدد الشهداء في أكثر سنوات الانتفاضة الأولى ملحمية وبأسًا، ويزيد على عددهم في أيّ من سنواتها الأخرى.
لا يعني ذلك، بمؤشّر أعداد الشهداء، أن المشهدية في الضفة الغربية اليوم تزيد في كثافتها وسعتها عمّا كانت عليه في الانتفاضة الأولى، فحتى الانتفاضة الثانية من حيث الانخراط الشعبيّ العام كانت أقلّ سعة وكثافة، رغم كونها أكثر عنفًا وقوّة، وذلك لأنّها تحوّلت سريعًا إلى انتفاضة مسلحة، مما يعني قيامها على أكتاف أعداد من منتسبي الفصائل، إذ لا يمكن استيعاب عامّة الجماهير في القتال المسلّح، ولكن امتياز عمليات الانتفاضة الثانية، وعددها المرتفع، ثمّ إجراءات الاحتلال التي مسّت عموم السكّان بإغلاق المناطق واجتياح المدن، وفّر لتلك الانتفاضة السمات التي عُدّت بها انتفاضة ثانية.
إلا أنّ أيّ قراءة للحالة الكفاحية بالضفّة الغربية لا ينبغي لها أن تقفز عن هذا العدد المرتفع من الشهداء فيها، الذي سوف تُلاحَظ دلالته بالضرورة، لو كان في سياق غير الحرب العدوانية على غزّة، التي حتمًا ستتلاشى في جنبها أيّة أحداث بالضفة. فبعض الأحداث السابقة في الضفة الغربية والقدس، وصفها كثيرون بكونها انتفاضة، كـ«هبّة القدس» أو «انتفاضة السكاكين» (تشرين الأول 2015- تشرين الأول 2016)، وذلك في حين أنّ عدد الشهداء فيها في العام المذكور بتمامه بلغ 251 شهيدًا، أي أقلّ من عددهم في الضفّة في أقلّ من ثلاثة شهور منذ السابع من أكتوبر، وبينما انطلقت من الضفة الغربية سلسلة من العمليات النوعية في العام 2022، وهو عام أيضًا تساءل مراقبون بخصوص إن كان ما يجري فيه انتفاضة أم لا، فإنّ عدد شهداء الضفّة الغربية فيه بكامله بلغ 171 شهيدًا.
رغم حماسة المراقبين والسياسيين التي تدفعهم أحيانًا لوصف الأحداث في الضفّة الغربية بالانتفاضة، فإنّ السؤال الحائر عن الضفّة الغربية، الذي يأخذ أحيانًا صيغًا تقريعية، أو يتورط في التنميط والانطباع، ما يلبث أن يعود، حينما تصبح الضفّة الغربية في وضع من المقارنة مع قطاع غزّة ساعة المواجهة في غزّة، وهو ما من شأنه أن يكون أشد إلحاحًا مع الهول الملحمي الجاري في غزّة من بعد السابع من أكتوبر، وهو هول له صورتان، البطولة المدهشة، والفجيعة غير المسبوقة.
إنّ تفكيك الانطباعية العاجزة عن فهم الأحداث في أطرها التأسيسية، ثمّ الكشف عن تلك الأطر، لا يعني الرضا عن مستويات الفعل النضالي في الضفة الغربيّة، فهي أقلّ ممّا ينبغي أن تكون عليه أصالة، فكيف والحدث اليوم في غزّة بهذا النحو المغني عن أيّ وصف؟ بيد أنّ استنهاض الساحات، وقطع الطريق على الشعور براحة الضمير على أيّ فلسطيني كان، يجب أن يتأسس على فهم صحيح، يُلاحظ الممارسة النضالية في ضوء شروطها الموضوعية، ويزاحم الخطابات الانفعالية، فالانفعال المُستعجَل لا يطال ساحة الضفّة الغربية وحدها حينما تَقصر الحالة فيها عن مشهد الحرب في غزّة، ولكنّه طال ساحة غزّة في أوقات سابقة انشغل فيها متحدثون في الشأن العام بهجاء المقاومة في غزّة، لاسيما حماس، في فترات الهدوء، مفضّلين عليها نموذج «العمليات الفردية» بالضفّة عادين إياه النموذج الأفضل والأنسب للمقاومة في فلسطين، ولم تكن أمثال هذه الخطابات صادرة دائمًا عن خصوم حماس، ولكن الاستعجال الانطباعي والقصور المعرفي ومحدودية أدوات التفسير يحول دون الفهم الصحيح.
الخطأ في فهم أوضاع الضفة الغربية، ثمّ في تقييم الفعل النضالي فيها، ناجم عن الانطباعية المتورّطة في المقارنة، إمّا مع الانتفاضات السابقة، أو مع بنية المقاومة في غزة، دون الالتفات للفروق الموضوعية في التاريخ أو في الجغرافيا.
يتضح أن الخطأ في فهم أوضاع الضفة الغربيّة، ثمّ في تقييم الفعل النضالي فيها، ثمّ في استكشاف الخلل والإشارة إليه بدقة، ناجم عن الانطباعية المتورّطة في المقارنة، إمّا مع الانتفاضات السابقة، أو مع بنية المقاومة في غزة، دون الالتفات حتى لأدنى الفروق الموضوعية في التاريخ أو في الجغرافيا، ودون اعتبار للشروط الموضوعية التي من شأنها أن تمنح الفعل النضالي نوعه وحجمه وعمره.
بات مصطلح الانتفاضة، من بعد الانتفاضة الأولى، يحيل إلى حدث نضالي يتسم بعناصر: السعة، والكثافة، والقدرة على دمج الجماهير، والاستمرارية، وقد توفّر ذلك في الانتفاضة الأولى وبنحو ممتاز، إذ سهّلت الشروط الموضوعية حينها من إمكانية اتساع الأدوات النضالية وتنوّعها، ليتاح لأيّ فلسطيني المساهمة فيها مهما كان جنسه أو عمره أو كانت مهنته، وذلك بسبب الوجود الفيزيائي للاحتلال المنغمس بين تجمعات الفلسطينيين، لاضطرار الاحتلال لإدارة تلك التجمّعات بواسطة ما يسمّى الإدارة المدنية.
كانت الانتفاضة الأولى عصيانًا مدنيًّا شاملًا وواسعًا، وهذا هو التوصيف الأدق لطبيعتها، ومن ثمّ صار الإضراب التجاري أداة نضاليّة فعّالة ودالّة، ولأنّ الاحتلال موجود بالجيش والشرطة وحرس الحدود في قلب التجمعات السكانية الكبرى، كانت فرصة الاشتباك الشعبي معه برمي الحجارة والمولوتوف وإشعال الإطارات ونصب المتاريس متوفرة على مدار الوقت، وبحكم اللحظة الزمنية والسياسية، فقد كان رفع العلم الفلسطيني والكتابة على الجدران وتوزيع البيانات والاستعراض باللثام والسلاح الأبيض أدوات نضالية بامتياز، يمكن لأيّ فلسطيني المساهمة فيها.
فُقِدت السمات تلك كلّها مرّة واحدة مع تأسيس السلطة الفلسطينية، لسبب جوهري، وهو إعادة انتشار قوّات الاحتلال وفق اتفاقية أوسلو خارج مراكز التجمعات السكنية الفلسطينية، ليخلّص الاحتلال نفسه من انغماسه بين الفلسطينيين، مع بقائه في معسكراته ومستوطناته وعلى الحواجز وفي الطرق الالتفافية، ومن ثمّ عدمت إمكانية الاشتباك اليومي معه، وصار الزحف للاشتباك معه على الحواجز ومداخل المستوطنات والمعسكرات، عملية مستنزفة للجماهير وغير قابلة للاستمرارية.
بالتأكيد فقد الإضراب قيمته بوصفه عصيانًا مدنيًّا مع وجود إدارة فلسطينية ذاتية، ولم تعد فرصة الاشتباك اليومي مع قوات الاحتلال قائمة، ولذلك سريعًا ما تحوّلت الانتفاضة الثانية من هذا النمط من المظاهرات إلى انتفاضة مسلّحة، لتوفّر الشروط الموضوعية لذلك حينها، وأهمّها سياسة الرئيس الراحل ياسر عرفات حيث التحقت قطاعات من الأجهزة الأمنية وحركة فتح بالانتفاضة، وتمكّنت بذلك فصائل المقاومة من استعادة عافيتها، بعدما كانت السلطة بقيادة عرفات نفسها قد فككتها وأضعفتها قبل ذلك، وأما الاشتباك مع قوات الاحتلال برمي الحجارة؛ في القرى والمدن حين اقتحامها، أو على مداخل الطرق الالتفافية فلم ينقطع، بيد أنّ تغطيته إعلاميًّا متعذّرة، فضلاً عن أنّه ليس حدثًا مفتوحًا ومستمرًّا، ولكنه مرتبط باقتحامات الاحتلال الخاطفة، أو بمحاولة استدعائه للاشتباك معه في محاولات قد لا تكون مجدية، وهو أمر حاصل مع التحوّلات المتصاعدة للمقاومة بالضفّة في السنوات الأخيرة، بما في ذلك شهور الحرب الجارية الآن.
إنّ الشرط الموضوعي الأهمّ في الانتفاضة الأولى تمثّل بعدم وجود سلطة ذاتية مما فسح للجماهير النضال بأدوات واسعة التنوّع، بينما كان الشرط الموضوعي الأهمّ في الانتفاضة الثانية هو تراجع إرادة تلك السلطة عن منع الجماهير من الاصطدام بالاحتلال، وهو ما أخرج الحدث عن قدرتها على ضبطه والسيطرة عليه.
بيد أنّ ثمة شرطًا آخر مشتركًا، متصلًا بذلك الشرط الذاتي، وهو وجود التنظيم. إذ إنّ الجماهير لا يمكنها الاستمرار بفعل نضاليّ مفتوح بذات السويّة من الحشد والكثافة والزخم والاستمرارية. فحتى لو سبقت حركة الجماهير التنظيمات فإنّ حركتها الانفعالية محكوم عليها بالانحسار لاستحالة أن تُطبِق الجموع على رؤية واحدة للفعل، وإرادة واحدة للتضحيات، وقدرة واحدة على الاستمرار. فالتنظير للعمليات الفردية بديلًا عن التنظيمات، لم يكن يلاحظ استحالة استمرار العمل الفردي بالزخم المؤثّر، وأنّه لا يخضع لأجندة قصدية تفعل في الوقت المطلوب سياسيًّا، بل قد يتأخر، ويأتي في أوقات غير متوقعة، ثم على أهميته في التثوير، سيبقى مائلاً للانحسار، أو بطيء التأثير، ما لم تلتقطه إرادة منظّمة واعية، ويمكن ملاحظة ذلك بـ«هبّة القدس» التي بدأت مطلع تشرين أول 2015 في نوع من الاستجابة لحرب «العصف المأكول» في غزة من الثامن من تموز إلى 26 آب 2014، أي كانت «هبة القدس» بعد أكثر من سنة على تلك الحرب، وكذلك العمليات النوعية من الضفة التي بدأت في أواخر شهر آذار 2022، أي بعد تسعة شهور من انتهاء معركة سيف القدس.
يمكن اختصار العوامل الكابحة لتعاظم الحالة الكفاحية في الضفّة الغربية، بالإطباق الأمني للاحتلال على الضفّة بما يتبعه من تحفّز أمنيّ عال وجهد استنزافيّ لا ينقطع، بالإضافة إلى سياسات السلطة المناوئة للمقاومة والمندفعة نحو إعادة هندسة الناس، وإضعاف التنظيمات والفصائل.
إنّ عامليْ التنظيم والسلطة المحلّية، فاعلان في الكشف عن التباين في الظروف الموضوعية بين الضفة الغربية وقطاع غزّة، فبينما تمكنت المقاومة في غزّة من إعادة بناء نفسها في الانتفاضة الثانية (بداية من أواخر العام 2000)، بعد سنوات من التفكيك على يد السلطة (1994-2000)، ثمّ تطوير قدراتها وتعظيمها تأسيسًا على انسحاب الاحتلال 2005، وما يسمى الانقسام 2007، فإنّ النتائج في الضفة الغربية كانت على الضدّ تمامًا، فقد أعاد الاحتلال في عملية «السور الواقي» (29 آذار إلى 10 أيار 2002) اجتياح مناطق (أ) بالضفة مما أفضى إلى تفكيك بنى المقاومة التي نشأت في ظروف الانتفاضة الثانية، ثم انعكس ما يسمى بالانقسام في الضفّة تجريفًا لمجمل الحالة النضالية، وإغلاقًا لمجالات العمل العامّ، وتدميرًا ممنهجًا لبنى فصائل المقاومة.
دفع النظام الدولي، بالتضافر مع النظام العربي والاحتلال، نحو إعادة تأهيل السلطة الفلسطينية، بعد ما يسمى بالانقسام، فعقد لأجل ذلك مؤتمر «أنابوليس» في تشرين الثاني 2007، لتوفير الإطار السياسي لعمل السلطة الفلسطينية، ليكون قاعدة لإعادة التأهيل الأمني، وهو الأمر الذي جعل العداء لحماس عنوانًا لنشاط السلطة وقدّمه على الصراع مع الاحتلال، أي صار العداء لحماس قضيّة السلطة شبه الوحيدة التي حاولت في الوقت نفسه جعله قضيّة حركة فتح، وهو ما مثّل مرتكزًا لتجريف المجال العامّ، لا بملاحقة العمل المقاوم فحسب، ولكن أيضًا بسياسات إعادة هندسة المجتمع الفلسطيني بأدوات اقتصادية واجتماعية وثقافية وأمنية، فإن ظلّت حركة كحماس مستنزفة وملاحقة في الضفة الغربية منذ الانتفاضة الأولى لكون الاحتلال لم يخرج من الضفّة، وتاليًا على يد السلطة، فإن حالة المقاومة برمّتها لوحقت ملاحقة مزدوجة من بعد العام 2007، ليبقى المجتمع مُلاحقًا كذلك بسياسات إعادة الهندسة تلك منذ ذلك التاريخ، وهي سياسات لا بدّ وأنّها عمّقت من تأثيرها في المجتمع بما يجعل من إمكان تجاوزها وإزاحة آثارها بطيئًا.
لقد انتهت انتفاضة الأقصى ثمّ ما يُسمى بالانقسام إلى ظروف سياسية وأمنية واقتصادية متباينة تمامًا بين كلّ من الضفّة وغزّة، وفي حين أدارت غزّة سلطةٌ مقاومةٌ توفّر كلّ الظروف المناسبة لمراكمة بنى المقاومة، أدارت الضفةَ، وفي ظلّ الاحتلال الموجود والقائم، سلطةٌ مناوئة للمقاومة، وبينما أفضى ذلك في غزّة إلى وجود التنظيم القادر على البناء وتوسيع دوائر الانتساب والاستثمار في العنصر البشري، كانت التنظيمات تُسحق في الضفة، مما يعني أنّ الفرق في الإدارات والتنظيمات، أكثر منه في المجتمع نفسه، دون إنكار نتائج سياسات هندسة المجتمع، ولكنها في المحصّلة سياسات مفروضة على المجتمع من السلطة.
وإذًا يمكن اختصار العوامل الكابحة لتعاظم الحالة الكفاحية في الضفّة الغربية، بالإطباق الأمني للاحتلال على الضفّة الغربية بما يتبعه من تحفّز أمنيّ عال وجهد استنزافيّ لا ينقطع؛ يضيّق إمكانات التنظيم ومضاعفة الكادر البشري فيه ويحصر العاملين فيه بأعداد محدودة مرصودة وقابلة للاستنزاف ويحول دون المراكمة العملية على الفعل الواحد (مثلاً منفّذ أيّ عمليّة على طريق التفافي يُكتشف فورًا لوفرة أدوات الضبط والسيطرة والمراقبة، فإمّا أن يُستشهد أو يُعتقل فورًا، أو تجري مطاردته بما يشلّ حركته وبحيث يصبح الوصول إليه مسألة وقت، وهو ما يُثقل حسابات المقاومين الذين يرجون فرصة للبناء والمراكمة لا لفعل لمرّة واحدة فقط)، وأمّا بقية العوامل فهي سياسات السلطة المناوئة للمقاومة والمندفعة نحو إعادة هندسة الناس، وضعف التنظيمات والفصائل.
ولا يُغيّر من حقيقة ما سلف، ما يمكن رصده من ظواهر اجتماعية مُناقضة للوعي بالاحتلال وخطره، ولا تنمّ عن إحساس بالمسؤوليّة إزاء ذلك، كسلاح العائلات في الضفّة الغربية، والسلاح الاستعراضي الممتنع عن المواجهة، والأنماط الاقتصادية المتنكّرة لواقعة الاحتلال، فهي نتائج السياسات السلطوية الفوقية التي تستثمر في البنية التحتية وتناقضات المجتمع الأهلي، وتغلق المجال العامّ أمام خصوم خطّها السياسي، وهي مظاهر واجهت سلطة المقاومة في غزّة كسلاح العائلات الذي اضطرت لمعالجته بصرامة واضحة، ويُذكّر بسياسات السلطة في غزّة بعد تأسيسها وإلى حين الانتفاضة الثانية حينما شلّت العمل المقاوم وعملت على إعادة تكييف المجتمع مع رؤيتها ونهجها ودفعت الفصائل نحو الضمور وعجز الفاعلية.
وإذًا فالهبّات المتجددة في الضفة الغربية منذ العام 2014، وبعناصرها العفوية والتنظيمية، هي تمرد لا على الاحتلال فحسب، بل على مجمل الحالة السياسية والأمنية والاقتصادية القائمة، وهي في حجمها أكبر مما كانت عليه الحالة الكفاحية في سنوات السلطة الفلسطينية الأولى في كامل مجال السلطة في الضفّة وغزّة (1994 – 2000).
كذلك يمكن ملاحظة النجاحات النسبية للفصائل، في بناء تشكيلات مسلّحة في بعض مناطق الضفّة، ومنها مناطق غير متوقعة، كمخيم عقبة جبر في أريحا، فالارتقاء اليومي للشهداء بالضفّة يأتي؛ إمّا في مواجهة هذه التشكيلات لاقتحامات الاحتلال، أو في المواجهات الشعبية أثناء تلك الاقتحامات أيضًا.
هنا؛ يمكن التنويه مجددًا للشيخ صالح العاروري، المُتهم من الاحتلال بمحاولات إدخال السلاح إلى الضفّة، وبناء تشكيلات عابرة للفصائل كـ«عرين الأسود» لتخفيف استهداف السلطة لها بنزع العنوان الحزبي الصارخ عنها، ونجاحات حركة الجهاد الإسلامي في مخيم جنين، بالإضافة إلى بؤر المقاومة في أماكن أخرى، كمخيم نور شمس بطولكرم، وبلاطة بنابلس، وباستمرار تتكشف بؤر جديدة مع اقتحامات الاحتلال لمناطق الضفة، فهذه نجاحات مُلاحظة، وإن جرى تفكيك بعضها، في حين لم يتمدّد بعضها الآخر نحو آفاق أكثر فاعلية وقابلية للتطوّر مما جعلها عرضة استنزاف مستمرّ من الاحتلال، ومن غير المُستبعد أن يكون من أهداف الاحتلال من عملية بيروت ضرب الجهد الذي يحاول تعزيز المقاومة بالضفة، باغتيال قائدين كبيرين في القسام كانا مع الشيخ صالح، عزام الأقرع وسمير فندي.
لا يعني ذلك الرضا بالواقع، فالتفسير يسعى إلى فهم هذا الواقع لا إلى تسويغه، بل يسعى إلى التأكيد على رفضه بالكشف عن العوامل الخطيرة المُنتجة له، وكذلك يسعى التفسير إلى فهم العوامل المؤثّرة في حركة الجماهير، وذلك كلّه لتجاوز الكوابح المعيقة، ولتعديل الخطاب العامّ بتوجيه الاتهام إلى الأسباب الحقيقية، وهي في هذه الحالة، سياسات السلطة، وضعف التنظيمات التي لم تتمكن من إعادة بناء نفسها بالقدر الكافي، ولا من الوصول المناسب إلى الأجيال الجديدة التي نشأت متأثرة بدعاية المقاومة دون أن تجد الأطر التنظيمية القادرة على استيعابها وتوجيهها.
وإذا كان ضعف التنظيمات ناجمًا عن سياسات الاستنزاف والملاحقة والإطباق الأمني، فإن تغيير الواقع بمواجهة تلك السياسات من مسؤولية التنظيم، فالقضية ليست رياضية بقدر ما هي جدلية، أي أن ضعف التنظيم لا ينبغي أن يكون نتيجة حتمية لقوّة السياسات القائمة، إذ هو مُطالب بإضعاف تلك السياسات واستنهاض الجماهير، لا انتظار حركة الجماهير العفوية لمحاولة استعادة العافية من داخلها، وطالما أنّ النجاح في ذلك ظلّ محدودًا، فالتنظيمات مطالبة بإعادة النظر النقدي في عملها أطرًا وخططًا وطرقًا، بما في ذلك حركة حماس.
وهنا يمكن الختام بمقولة لينين في ذيل كراسته «بم نبدأ؟»، التي كتبها في أيار 1901، إذ يقول: «لقد تحدثنا على الدوام عن التحضير الدائب، المنتظم، المنهاجي فقط؛ ولكننا لم نقصد البتة أن نقول بهذا إنه ليس من الممكن أن يسقط الحكم المطلق إلا من جراء حصار محكم أو هجوم منظم. إن هذه النظرة هي نظرة عقائدية جامدة غبية. فالأمر بالعكس. فمن الممكن تمامًا ومن المحتمل أكثر بكثير تاريخيًّا أن يسقط الحكم المطلق تحت ضغط أحد هذه الانفجارات العفوية أو التعقيدات السياسية غير المتوقعة التي تتهدده على الدوام من جميع الجهات. ولكن حزبًا سياسيًّا واحدًا لا يسعه، إن لم ينزلق إلى المغامرة، أن يبني نشاطه على أمل حدوث هذه الانفجارات والتعقيدات. يجب علينا أن نسير في طريقنا، وأن نقوم باستقامة بعملنا المنتظم؛ وبقدر ما يقل اعتمادنا على المفاجآت، بقدر ما تزداد الاحتمالات بألاّ تباغتنا «الانعطافات التاريخية» أيًّا كانت».