بعد حوالي أسبوع على عملية طوفان الأقصى، عرضَ قادة جيش الاحتلال على نتنياهو «فرصة عسكرية مستعجلة» لضرب مواقع لحزب الله الذي كان قد فتح جبهة إسناد غزة منذ الثامن من أكتوبر، لكن نتنياهو أخذ لحظتها قرارًا غريبًا، إذ لم يكتف برفض الفكرة، وإنما طلب من حرّاسه أن يمنعوا وزير الحرب في حكومته، يوآف غالانت، من دخول مكتبه لبعض الوقت، حتى ضاعت تلك الفرصة التي تحدّث عنها القادة العسكريون. وفي الوقت نفسه طلبَ نتنياهو من كلٍ من بيني غانتس وغادي آيزنكوت، قائديْ الأركان السابقين، أن ينضمّا للحكومة لعلمه أن مواقف الرجلين أكثر حذرًا من مواقف غالانت بشأن لبنان، وهو ما أراد نتنياهو من خلاله أن يكبح بعض المواقف المتحمّسة المطالِبة بفتح حرب شاملة مع حزب الله اللبناني، لأن رؤيته كانت في حينها أن الحرب على لبنان قد تعني غزوًا بريًا لمناطق لبنانية، وهي خطوة علمَ جيدًا أن جيش الاحتلال غير مستعدة لها، خصوصًا مع ضغوطات واشنطن لتجنب التصعيد الإقليمي.
ما قبل التصعيد: نقاشات إسرائيلية لحرب على لبنان
منذ بدء المواجهة عليها، كانت جبهة لبنان واحدة من الساحات التي ينتقد من خلالها المسؤولون الإسرائيليون أداء نتنياهو في التعامل مع الحرب على غزة. ففي حين رأى البعض أن نتنياهو أهملَ مهاجمة حزب الله من خلال التركيز على حركة حماس في غزة، اتهم آخرون، من بينهم بيني غانتس، رئيس حكومة الاحتلال بالتخلي عن مستوطنات الشمال، وعدم الاكتراث بها. وفي الثالث من حزيران الماضي، دعا وزير المالية الإسرائيلي والوزير الثاني في وزارة الأمن، بتسلئيل سموتريتش، إلى ضرب العاصمة اللبنانية بيروت، والدخول البري إلى جنوب لبنان واحتلالها، وإلحاق الضرر في البنية التحتية في لبنان بحيث تحتاج إلى عشرين عامًا من أجل إعادة بنائها.
وبعد الأشهر الأولى من الحرب على غزة، تزايدت الدعوات الداعمة داخل المجتمع الإسرائيلي لشن حرب على لبنان، إذ أظهر استطلاع رأي أجراه معهد أبحاث الأمن القومي في «إسرائيل»، خلال شهر حزيران الماضي، أن 46% من الإسرائيليين يؤيّدون شن عملية عسكرية واسعة في لبنان حتى لو كان الثمن اندلاع حرب إقليمية.
بعد أن أجهض نتنياهو حلم غالانت بالتصعيد في لبنان في الأيام الأولى من بدء الحرب على غزة، عاد وزير الحرب الإسرائيلي إلى الواجهة مجددًا، نهاية شهر آب الفائت، عندما دفع باتجاه تضمين عودة سكان مستوطنات الشمال إلى منازلهم، كواحد من أهداف الحرب،[1] معتبرًا أن الحرب في غزة باتت أقل تكلفة. وقال غالانت حينها إنه «من أجل تحقيق هذا الهدف، على إسرائيل توسيع أهداف الحرب، لتشمل عودة سكان الشمال إلى منازلهم آمنين»، ليسارع مكتب نتنياهو بالرد أن هذا المطلب «مفهوم ضمنًا»، وأن «رئيس الحكومة صرّح بذلك مرات عديدة في الأشهر الأخيرة». ليتم تضمين هذا الهدف، بشكل رسمي معلن منتصف أيلول الفائت.
عن قرار بدء الحرب
في 17 أيلول نفّذ جيش الاحتلال عملية البيجر، أتبعها بعملية تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية لعناصر حزب الله، في عملية حققت حلم وزير الأمن الإسرائيلي بضربة مباغتة لحزب الله يبدأ من خلالها حربه التي دعا إليها خلال الشهور الماضية. وبحسب مسؤول إسرائيلي سابق، وُصِف بالمطّلع على عملية البيجرات، فإن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية كانت تخطط لاستخدام أجهزة «البيجر» المفخخة كضربة افتتاحية مفاجئة في حرب شاملة قادمة، وهو ما يعني أن قرارًا إسرائيليًا قد صدر ببدء هذه الحرب الشاملة.
وفي السابع والعشرين من أيلول، أي بعد عشرة أيام من بدء التصعيد الأخير في لبنان، وافق رئيس الحكومة الإسرائيلية من نيويورك على ضربة من شأنها أن تغير شكل المنطقة، كان الهدف منها اغتيال الأمين العام لحزب الله اللبناني السيد حسن نصر الله، في خطوة أثارت استغراب أوساط إسرائيلية، بسبب ما تعنيه من إعلان إسرائيلي واضح من أن الحرب المفتوحة باتت على الأبواب. وبعد أيام قليلة فقط، أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل واضح دخوله الأراضي اللبنانية، في عملية زعم أنها «محدودة وموضعية ومحدّدة الهدف»، قبل أن ينفي حزب الله حصول هذا الاجتياح.
الإجماع الإسرائيلي على التصعيد
بعد أيّام قليلة من بدء العدوان على لبنان، أشيعت أخبار حول اقتراح أمريكي، بالاتفاق مع دول أخرى بعضها عربي، يهدف لخفض التصعيد على الجبهة اللبنانية، وهو مقترح ينص على وقف «مؤقت» لإطلاق النار في لبنان وإعادة إحياء مفاوضات غزة. وقد أشارت تقارير إسرائيلية وأميركية إلى أن نتنياهو لم يوافق فقط على أفكار المقترح وإنما شارك في صياغتها. لكن وكما يحصل منذ بداية الحرب على غزة، أعلن نتنياهو عند وصوله نيويورك لإلقاء كلمة في الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الحرب على لبنان ستستمر حتى «تحقيق أهداف إسرائيل».
ورغم الانتقادات الواسعة لنتنياهو خلال مباحثات وقف إطلاق النار السابقة في قطاع غزة، لم تكن هذه المرة شبيهة بسابقاتها إذ لم تخرج إلّا أوساط إسرائيلية بسيطة تعترض على خطوة نتنياهو، فيما شدّد المسؤولين الأمنيّون البارزون على أن مهاجمة أهداف حزب الله ضرورة أمنية لا بد منها، وهو ما يعكس إجماعًا داخل المؤسسة الأمنية والحكومة الإسرائيلية على هذه الخطوة، ولو سادت بعض الاختلافات حول شكلها وتوقيتها. وقد شمل هذا الإجماع زعيمَ المعارضة يائير لابيد، والجنرال السابق ورئيس حزب العمل يائير غولان، ورئيس معسكر الدولة بيني غانتس. ترافق هذا الإجماع بين الأوساط الأمنية والحكومية الإسرائيلية مع إجماع شعبي داخل كيان الاحتلال على التصعيد مع حزب الله، إذ أظهر استطلاع للرأي، نُشر قبل بدء التصعيد الأخير في لبنان بأيام قليلة، أن أغلبية الجمهور اليهودي في إسرائيل (حوالي 67٪) تؤيد تصعيد وتوسيع العمليات العسكرية على الحدود الشمالية مع لبنان، فيما يؤيد 8٪ فقط من الجمهور اليهودي السعي إلى التوصل إلى تسوية سياسية مع حزب الله. وأيدت أغلبية ساحقة من أنصار الأحزاب اليمينية خيار الهجوم العسكري الواسع، بما في ذلك ضرب البنى التحتية المدنية اللبنانية. وهي نسبة أخذت بالارتفاع بشكل كبير بعد بدء العدوان، حيث وصلت نسبة التأييد في أوساط اليهود داخل المجتمع الإسرائيلي إلى ما يقارب 90٪، بحسب آخر استطلاع رأي، فيما أيد 47٪ منهم التوغل البري في لبنان.
انعكس هذا التأييد بشكل واضح على التنافس داخل المعسكرات الانتخابية في «إسرائيل»، إذ حصل حزب نتنياهو (الليكود) على 26 مقعدًا في آخر استطلاع أجرته صحيفة «معاريف»، وهو الرقم الأعلى الذي يحصل عليه حزبه في استطلاعات الرأي منذ اندلاع الحرب على قطاع غزة، فيما انخفض عدد مقاعد معسكر الدولة بقيادة بيني غانتس بمقعدين عن آخر استطلاع، حيث حصل على 19 مقعدًا فقط، وهو أدنى رقم له منذ اندلاع الحرب. لكن رغم هذا التوافق المرتفع، قد تلعب الخسائر العسكرية التي قد تتكبدها إسرائيل مع استمرار الحرب دورًا في خفض نسبة الموافقة على الحرب، كما حصل في الحرب على غزة، إذ انخفضت نسبة تأييد الحرب مع طول أمدها، وعجز جيش الاحتلال عن استعادة الأسرى وتحقيق باقي أهداف الحرب.
الغزو البري والسيناريوهات المتوقعة
مع إعلان جيش الاحتلال بدءَ عملياته البرية في جنوب لبنان، ورغم إيمان المؤسسة الأمنية أنها الخيار الوحيد لإعادة سكان المستوطنات الشمالية إلى منازلهم، إلّا أنها تدرك كذلك أن هذه المواجهة ستكون أكثر تعقيدًا من تلك التي شهدتها في غزة، إذ يعرف الجيش الإسرائيلي أن حزب الله لم يظهر قدراته كلّها، بما في ذلك تلك القدرات السرية المخصصة لاستهداف جنود الاحتلال خلال المواجهات المباشرة، كما أنه عمل على تطوير شبكة أنفاق وخنادق خاصة به، وتدرّب على القتال في بيئة «وعرة».
ورغم كل تلك التوقعات الإسرائيلية بـ«قتال عنيف» يُكبّد جيش الاحتلال خسائر بشرية ومادية كبيرة، كما يُعرّض البنية التحتية «المدنية» في إسرائيل لاستهداف يومي، يدرك قادة الجيش، بما فيهم رئيس الأركان هرتسي هليفي، الذي أعلن معارضته لمبادرة وقف إطلاق النار في لبنان، أن الخيارات الدبلوماسية لن تستطيع إيقاف الصواريخ التي تنهال على مناطق مختلفة من «إسرائيل»، في ظلّ رفض تامّ في أوساط مؤسسات الحكم الإسرائيلية للموافقة على ما اشترطه الحزب لإيقاف جبهة الإسناد لغزة، أي وقف الحرب هناك لتقف تلقائيًا جبهات الإسناد المختلفة، وبينها الجبهة اللبنانية.
اليوم، يدور الحديث في «إسرائيل» حول ثلاثة سيناريوهات متوقعة لتلك العملية البرية، أولها، عملية «محدودة» من ناحية المدة الزمنية والمساحة التي ستجري فيها، تهدف فقط إلى إيقاع الضرر بالبنية التحتية وجمع معلومات عن حزب الله، أمّا الخيار الثاني فهو احتلال شريط حدودي في جنوب لبنان، من أجل ضمان عدم استهداف مستوطنات الشمال وتأمين عودة السكان إليها، لكن هذا الخيار يتطلب البقاء في تلك المنطقة مما يَحمل تكلفة مالية مرتفعة ويُبقي جنود الاحتلال عرضة لاستهداف يومي، فيما يتجلى السيناريو الأخير بمهاجمة عمق الأراضي اللبنانية والبقاء لفترة يستطيع فيها جيش الاحتلال «تفكيك» حزب الله.
وإن كانت الحرب تحظى بما يشبه الإجماع في أوساط مؤسسات الحكم الإسرائيلية، فهنالك اختلافات بينهم حول المدى الذي يجب أن تذهب فيه الحرب على لبنان، بين من يرى أن الأهداف التي يسعى نتنياهو لتحقيقها تحتاج لسنوات طويلة، هذا في حال تمكّن الجيش أصلًا من تحقيقها، وبين آراء أخرى، على رأسها زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد، والذي يُحذّر كيان الاحتلال من «حرب لا أهداف دبلوماسية فيها»، مستشهدًا بما حصل في قطاع غزة خلال عام كامل.
1) أهداف الحرب التي أعلنت عنها إسرائيل هي: القضاء على حركة حماس، وإطلاق سراح المحتجزين في غزة، والحفاظ على «أمن إسرائيل».