في 11 تشرين الثاني من العام الماضي، أعلن وزير المالية والوزير الثاني في وزارة الأمن، بتسلئيل سموتريتش، أن عام 2025 سيكون «عام فرض سيادة إسرائيل على الضفة»، في تصريح جاء بعد حزمة قرارات عملية اتخذها الأخير تتعلق بتحييد دور السلطة الفلسطينية، وتوسيع سلطة المستوطنين في الضفة. كان أبرز هذه القرارات نقل صلاحيات قانونية كبيرة من سلطة جيش الاحتلال إلى سلطة الإدارة المدنية العاملة تحت إمرة سموتريتش في الضفة الغربية، وكذا إعلان الحكومة الإسرائيلية سحب صلاحيات الإنفاذ من السلطة الفلسطينية في بعض المناطق المصنفة بحسب اتفاقية أوسلو بمناطق «ب» (في صحراء القدس)، وهي الصلاحيات التي تتعلق بالأساس بالهدم والبناء والتخطيط.
هذه التصريحات والتحركات التي بدأها سموتريتش اختُتمت مؤخرًا بكشف تسريبات عن نقاشات داخل «إسرائيل» تتعلق بمخطط يتيح عزل مدن الضفة عن بعضها، وإنشاء ما يشبه إدارات محلية لكل منطقة، وفرض الحكم الإسرائيلي عليها، في خطوة تسعى «إسرائيل» من خلالها إلى شرذمة جغرافية الضفة، ومنح المؤسسة الأمنية الإسرائيلية رقابة كاملة عليها، بهدف خلق بيئة غير قابلة للحياة للفلسطينيين، مما يسرع مشروع التهجير الذي تروج له «إسرائيل» منذ سنوات.
تفاصيل التصور الإسرائيلي
بحسب التسريبات، يهدف المخطط الذي نوقش خلال اجتماع قام به وفد من المستوطنين الإسرائيليين في دولة الإمارات، إلى تقسيم الضفة الغربية إلى إدارات «مدنية»، يتم السيطرة عليها بواسطة زعامات محلية أو عشائرية أو حتى بلدية، لكنها مرتبطة بشكل مباشر بالأجهزة الأمنية الإسرائيلية، في خطوة تتيح استكمال بناء كتل استيطانية ضخمة و«مناطق آمنة» تفصل بين المدن الفلسطينية، تحت غطاء أمني، بحسب ما يوضح الخبير في الشأن الإسرائيلي أنس أبو عرقوب.
ولا يزال المقترح يحظى بنقاش واسع داخل المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، دون خروج تفاصيل هذه المداولات إلى العلن حتى الآن، غير أن السيناريوهات المتوقعة، بحسب ما يرى الباحث المهتم في الشأن الإسرائيلي ياسر مناع، تشير إلى أن المقترح الأقرب إلى الواقع يتمثّل في إعادة تعريف دور السلطة الفلسطينية وظيفيًا، أي كأداة لإدارة السكان الفلسطينيين، خصوصًا أن فكرة الحكم العسكري الإسرائيلي المباشر للضفة الغربية (بمعناه التقليدي)، أي النموذج الذي كان ما قبل توقيع اتفاقية أوسلو، يحظى برفض واسع داخل «إسرائيل».
وبحسب التصور الإسرائيلي المطروح حاليًا، تُمنح كل مدينة أو منطقة فلسطينية هيئة محلية تُشبه «سلطة مصغرة»، تتولى شؤون الحياة المدنية اليومية مثل تنظيم المرور والنظام العام والتعليم والصحة، وتُزوَّد بقوة شرطية محدودة. في المقابل، يبقى الأمن بالمعنى الاستراتيجي الواسع، من رقابة وسيطرة على الأرض ومنع تنامي المقاومة الفلسطينية، حكرًا على المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، وفقًا لمناع، الذي أضاف أن هذه الصيغة تجد دعمًا من بعض الدول التي ترى في تقوية الإدارات المحلية الفلسطينية مدخلًا لـ«الاستقرار»، وتسعى لإقامة علاقات مباشرة معها، بما يتجاوز الإطار المركزي للسلطة الفلسطينية.
أهداف إسرائيلية
تسعى «إسرائيل» من خلال هذا المقترح إلى تحويل الضفة الغربية تدريجيًا إلى بيئة طاردة لا تحتمل الحياة فيها، ما يمهد لتطبيق ما يُعرف بـ«التهجير الطوعي» عبر استنزاف السكان الفلسطينيين ودفعهم نحو الهجرة القسرية دون الحاجة إلى ترحيل مباشر، بحسب مناع، ويتم هذا من خلال شرذمة الجغرافيا، وخلق واقع اقتصادي متأزم، وفرض قيود مشددة على الحركة والتنقل، إلى جانب استمرار العمليات العسكرية في مناطق مختلفة من الضفة الغربية.
في موازاة ذلك، تعمل «إسرائيل» على توسيع المستوطنات وشقّ الطرق الالتفافية التي تؤدي إلى عزل التجمعات الفلسطينية عن بعضها البعض، وتحويلها إلى جيوب محاصرة ومفككة جغرافيًا. ووفقًا لمناع، تتكامل هذه الإجراءات مع مشاريع بنية تحتية كبرى تهدف إلى ربط المستوطنات المقامة في الضفة الغربية بالمناطق المحتلة عام 1948، ما يعني فعليًا إزالة «الخط الأخضر» بين «إسرائيل» والمستوطنات، وتكريس مبدأ «الضم الزاحف» كأمر واقع.
لكن الأهم في المشروع، هو أن «إسرائيل» تسعى من خلاله إلى إزالة الخط الفاصل بين المناطق المصنفة (ب) و(ج) داخل الضفة الغربية، بحسب اتفاقية أوسلو، بما يُفضي فعليًا إلى إخضاع معظم مساحة الضفة لسيطرة إسرائيلية مباشرة، وعزل مناطق (أ)، التي لا تشكل سوى 3% من الضفة الغربية.
تشير الخطوة الأخيرة، بحسب الباحث المختص في الاقتصاد الإسرائيلي إمطانس شحادة، إلى تحوّل جذري في التعامل الإسرائيلي مع القضية الفلسطينية. فبعد سنوات من سياسة «إدارة الصراع» التي اعتمدتها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، التي كانت تسعى لتوفير هامش من الاستقرار الاقتصادي والسياسي، يبدو أن الحكومة الحالية تتجه نحو إعادة تشكيل الواقع الجغرافي والسياسي للضفة الغربية بما يضمن إنهاء أي إمكانية مستقبلية لقيام دولة فلسطينية مستقلة.
رغم ذلك، يرى الباحث والمحاضر في جامعة بيرزيت عبد الجواد عمر أن حالة الانفصال الجغرافي بين مناطق الضفة ليست خطرًا مباشرًا على المقاومة المسلحة، خصوصًا أنها موجودة بشكل أقل حدّة في الوقت الحالي، بقدر ما هي تهديد وجودي للسلطة الفلسطينية ومشروعها، حيث يرفض المستوطنون والجهات اليمينية في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية أي شكل من أشكال الوجود الفلسطيني، حتى لو كان نظام حكم متعاون أمنيًا، ويسعون إلى المواجهة بشكل دائم، في سبيل خلق بيئة دائمة من القمع والانهيار الاجتماعي والاقتصادي، تهدف بالأساس إلى تهجير الفلسطينيين.
مشروع جديد قديم
لم يكن هذا المشروع وليد المرحلة الحالية، وإن كانت الحرب على غزة وما تلاها قد سرعت من وتيرة تنفيذ بنيته التحتية. تعتبر هذه الخطة امتدادًا لمشاريع سابقة تم طرحها عام 1983 ضمن مشروع الأمر العسكري رقم (50) للطرق، بحسب الباحث في قضايا الاستيطان وخبير الخرائط خليل التفكجي، والتي تهدف إلى عزل القرى والمدن الفلسطينية بالشوارع والمستوطنات لتصبح كانتونات معزولة يمنع توسعها مستقبلًا، حيث يصبح الدخول والخروج من هذه المدن تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة، بهدف منع إقامة جسم فلسطيني ذي تواصل جغرافي.
يختلف هذا المشروع في تفاصيله عن تجارب الحكم العسكري الإسرائيلي السابقة، خصوصًا فيما يتعلق بتكلفة إدارة حياة الناس اليومية والمعيشية، حيث توكل هذه المهمة إلى «الإدارات المحلية» لكن دون منحها قوة سياسية حقيقية، بحيث لا تشكل خطرًا مستقبليًا على «أمن إسرائيل». وبحسب مناع، فإن هناك قناعة داخل «إسرائيل» بأن تجربة «روابط القرى»، على سبيل المثال، كانت مجرد محاولة إسرائيلية أولية وبسيطة نسبيًا لإدارة شؤون السكان الفلسطينيين، وقد جاءت في سياق صعود الحركة الوطنية الفلسطينية في أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات. أما اليوم، فإن «إسرائيل»، بعد تراكم خبراتها ومن مسار التعامل مع السلطة الفلسطينية، تسعى إلى إعادة إنتاج نموذج محلي من السلطة لكن بشكل مُجزأ، يضمن إدارة حياة الناس وتوسيع الاستيطان وفصل المناطق عن بعضها، لكن في الوقت ذاته يمنحها القدرة على تنفيذ عمليات عسكرية في كافة المناطق.
وقد تبنّت سياسة شرذمة الضفة الغربية إداريًا وجغرافيًا حكومات إسرائيلية مختلفة، من اليسار واليمين، بما في ذلك حزب العمل والليكود وكاديما، عبر أدوات مثل الجدار الفاصل، والحواجز، وشبكات الطرق الالتفافية، وتوسيع المستوطنات. لكن الدفع بها إلى أقصى مدياتها، عبر تحويل الشرذمة إلى ضم فعلي للمناطق «ج» ونزع الطابع الوطني الفلسطيني، يمثل توجهًا متطرفًا يدفع باتجاهه اليمين القومي الديني، وعلى رأسه حزب «الصهيونية الدينية»، على حد قول مناع.
في هذا السياق، يشير شحادة إلى أن «إسرائيل» تتعامل مع الظروف التي أفرزتها الحرب على غزة كفرصة لإحداث تغيير جوهري في بنية الضفة الغربية، ومعها بنية السلطة الفلسطينية ودورها. فمنذ توقيع اتفاقية أوسلو، حافظت «إسرائيل» على سلطة فلسطينية ضعيفة تدير الشؤون المدنية والاقتصادية للفلسطينيين، بينما استمرت في توسيع الاستيطان والسيطرة على الأراضي، خصوصًا في المناطق المصنفة «ج». إلا أن التطورات الأخيرة، بحسب شحادة، تشير إلى توجه نحو تصفية دور السلطة الفلسطينية، واستبدالها بإدارات محلية تُبقي الفلسطينيين في حالة تشرذم سياسي وجغرافي، ما ينسف أي إمكانية مستقبلية لإحياء حل الدولتين.
معطيات على أرض الواقع
لم تكن هذه التحركات منفصلة عمّا يجري على أرض الواقع، حيث صادق الكابينت الإسرائيلي، في 29 آذار الماضي، على شق شبكة طرق في محيط مستوطنة «معاليه أدوميم»، بهدف ضم المستوطنة إلى بلدية القدس التابعة للاحتلال الإسرائيلي، من خلال مصادرة أراض مصنفة بحسب اتفاقية أوسلو ضمن مناطق «ب»، في خطوة من شأنها أن تعزل المدينة عن الضفة الغربية، وأن تفصل الطرق التي يستخدمها الفلسطينيون عن تلك التي يستخدمها الإسرائيليون للتنقل بين جنوب الضفة وشمالها، وهو ما يتسق تمامًا مع مخطط «إسرائيل» بإنشاء ما يشبه إدارات محلية لكل منطقة.
يهدف هذا المشروع بشكل أساسي إلى فصل مناطق شمال الضفة عن جنوبها، بحيث يصبح الدخول والخروج من المنطقة الجنوبية من قرى محافظة بيت لحم، ومدن وقرى محافظة الخليل، تحت إشراف وسيطرة إسرائيلية كاملة، وفي الوقت نفسه، يمنح المشروع المستوطنين «حرية الحركة» دون أي عوائق، ما يعني سيطرة المستوطنين مناطق أوسع من الضفة الغربية، وفقاً لتفكجي.
تؤكد هذه المعطيات أن «إسرائيل» جادة في الدفع نحو مشروع «تفكيك الضفة الغربية إداريًا وجغرافيًا، وهو مشروع ينسجم مع مشاريع قديمة–جديدة تتعلق بإدارة السكان الفلسطينيين دون منحهم سيادة، أو حتى اعتراف بالكيانية السياسية الموحدة»، يقول مناع. وتشمل هذه المحاولات، ليس فقط القرارات السياسية، وإنما توسيع السيطرة الإدارية على مناطق «ج» عبر تحويلها إلى كيانات إسرائيلية بحكم الأمر الواقع، بتمكين «مجلس المستوطنات الإقليمي» من اتخاذ قرارات تخطيط وتنمية. وكذا تكثيف عمليات التهجير القسري للفلسطينيين من الأغوار والمناطق المحاذية للمستوطنات، بالإضافة إلى زيادة عدد الحواجز العسكرية الدائمة وعزل مناطق فلسطينية عن بعضها، في محاولة لفرض نظام أمني مزدوج، أي من خلال خلق مناطق فلسطينية خاضعة للسلطة من دون سيادة، ومستعمرات تتمتع بإدارة مدنية كاملة متصلة بالحكومة الإسرائيلية.
في هذا الإطار، تتعدى التحركات الإسرائيلية مجرد قرارات حكومية أو سياسات معلنة، لتشمل تغييرات ميدانية تُحدث تحولًا جذريًا في شكل السيطرة على الأرض. فمنذ بداية الحرب على غزة، تصاعدت أنشطة «رعاة المستوطنين»، الذين أسسوا نحو 150 مزرعة استيطانية، استولوا من خلالها على 786 ألف دونم، أي ما يعادل 14% من أراضي الضفة الغربية، بحسب ما يقول أبو عرقوب. ويضيف أن تأثير هذه الممارسات لا تقتصر على توسيع رقعة الاستيطان، بل إنها تؤدي إلى تفكيك البنية الجغرافية والاجتماعية للضفة، إذ تعزل القرى الفلسطينية عن حقولها ومراعيها، وتضيق الخناق على سبل عيش الفلسطينيين، وتدفع بالمزيد منهم نحو النزوح القسري، في مشهد يتكامل مع سياسات العزل والتقسيم التي تسعى «إسرائيل» إلى فرضها كأمر واقع.