دون خطة واضحة، ودون ميزانية مُعلنة، أطلّت السلطة الفلسطينية مساء الخامس من تموز الماضي، لتُعلن تمديدًا آخر لحالة الطوارئ في الضفة الغربية المحتلّة، بعد ارتفاع كبير في أعداد إصابات فيروس كورونا في محافظة الخليل. وفي هذا المؤتمر الصحفي، أعادت السلطة الإعلان عمّا يبدو أنها أداتها الوحيدة في محاولتها السيطرة على انتشار الوباء، وهي إغلاق المحافظة ومنع الحركة بعد الساعة الثامنة مساءً. لكن وعلى خلاف المرات السابقة، قابلت الأوساط الشعبية هذا القرار بالسخرية أو الغضب، وبعدم الالتزام.
في هذا المقال، نستعرض أبرز الانتقادات التي توجهها أصوات في الشارع الفلسطيني للسلطة في مواجهتها جائحة فيروس كورونا، والعلاقة بين إجراءات مكافحة الوباء وعودة انتشار الفيروس، وأسباب فقدان عددٍ من الفلسطينيين ثقتهم بالسلطة وإجراءاتها، بعد ما لاقته من مديح في بداية مواجهتها الجائحة، من بعض الأوساط التي اعتبرت ما قامت به السلطة من إجراءات حازمة إنجازًا لم يكن متوقعًا أن تكون قادرة عليه.
تجاوزات مبكّرة
مساء الخامس من آذار المنصرم، أعلن رئيس الوزراء الفلسطيني محمد اشتية حالة الطوارئ الأولى لثلاثين يومًا، بالاستناد إلى مرسوم رئاسي صادر عن الرئيس محمود عباس. وفي المؤتمر الصحفي أعلن اشتية إغلاق المدارس والجامعات وإلغاء كافة أشكال التجمهر، وذلك بعد تسجيل وزارة الصحة إصابة سبعة فلسطينيين بفيروس كورونا إثر مخالطتهم وفدًا يونانيًا في أحد فنادق مدينة بيت لحم، وقد كُشف عن إصابة الوفد بعد عودته لبلاده.
إعلان حالة الطوارئ هذا، اعتبره عديدون تجاوزًا للمادة 110 من القانون الأساسي الفلسطيني، المتعلقة بأحكام حالة الطوارئ، والتي تشترط أن إعلان حالة الطوارئ أو تمديدها لا يكون إلا بموافقة ثلثي المجلس التشريعي. فيما المجلس التشريعي مُعطّل منذ العام 2007. يقول الخبير القانوني عصام عابدين، إن «غياب المجلس التشريعي لا يعطي الصلاحية لاختراق القانون الأساسي (..) ولا يوجد أي مبرر لاستمرار حالة الطوارئ غير الدستورية». ويضيف عابدين أن «قانون الصحة العامة يسمح للحكومة بإقرار أنظمة صحية جديدة، فما المغزى من إعلان حالة الطوارئ والاستمرار فيها؟»، مبيّنًا عدم الحاجة لإعلان حالة الطوارئ.
وبينما لم تقر السلطة أي تشريعات صحية جديدة طيلة حالة الطوارئ المعلنة، إلا أنها استغلتها لتمرير مجموعة من التشريعات والقرارات بتعديل قوانين، مثل تعديل قانون امتيازات وحقوق النواب ومنح امتيازات مالية للوزراء والمحافظين، وتعديل قانون التقاعد.
كما توسّعت السلطة في الاعتقالات على خلفيات سياسيةٍ، فمثلًا، قمعت الأجهزة الأمنية في 19 تموز من حراك «طفح الكيل» الهادف لمحاربة الفساد في السلطة، وتم اعتقال نشطاء الحراك. وذكرت مجموعة «محامون من أجل العدالة» في بيان لها في 25 تموز أن النيابة العامة وجهت للنشطاء تهمتي التجمهر غير المشروع، ومخالفة أنظمة وتعليمات الطوارئ.
وبعد نحو شهر من ملاحقته، اعتقلت الأجهزة الأمنية أحد نشطاء الحراك نزار بنات، ووجهت له تهمة «ذم السلطات» قبل أن تفرج عنه بكفالة مالية في 26 آب. بينما اعتقلت بالتهمة ذاتها المخرج عبد الرحمن ظاهر في 19 آب، بناءً على ملف سابق متعلق بإنتاجه الإعلامي خلال تواجده خارج فلسطين قبل عودته إليها عام 2016. ما يشير إلى استغلال حالة الطوارئ لفرض مزيد من القيود على الصحفيين والنشطاء وملاحقتهم بتهم فضفاضة.
الحواجز: مساحة للتنكيل وفرض السيطرة
وتزامنًا مع إعلان حالة الطوارئ، بدأت البلديات والمجالس القروية تشكيل لجان طوارئ، فيما سارعت الأجهزة الأمنية لتكون المسؤولة والموجِهة والمشكِلة لهذه اللجان التي استبعدت عنها العشائر ومؤسسات المجتمع المدني وخاصة الشبابية. لتتحوّل حالة الطوارئ إلى فرصة للسلطة من أجل فرض مزيد من الهيمنة والسيطرة على المجتمع من خلال لجان الطوارئ وحواجزها، وفي المقابل إقصاء أي جسم مجتمعي قادر على المساعدة وتلبية حاجات المجتمع.
واحد من أوائل الإجراءات التي لجأت إليها السلطة كان نشر الحواجز. وربما لتجنّب المقارنة الواجبة مع الحواجز التي تنشرها قوّات الاحتلال، أطلقت السلطة على هذه الحواجز اسم حواجز المحبة. وقد نصبت هذه الحواجز على مداخل المدن والقرى، وكانت وظيفتها منع تحرك الناس والتدقيق في التصاريح التي مُنحت لتحرك بعض الحالات.
واحد من أوائل الإجراءات التي لجأت إليها السلطة كان نشر الحواجز. وربما لتجنّب المقارنة الواجبة مع الحواجز التي تنشرها قوّات الاحتلال، أطلقت السلطة على هذه الحواجز اسم حواجز المحبة.
ورغْم أن أعدادًا من الشباب تطوعت للعمل على هذه الحواجز في مناوبات مختلفة في بداية انتشارها، إلا أن هذه المجموعات ضمت بينها عناصر من الأجهزة الأمنية، ما يُشير إلى حرص السلطة منذ البداية على إبقاء لجان الطوارئ تحت إدارتها المباشرة وسيطرتها.
الغياب العائلي والحزبي عن لجان الطوارئ انعكس أيضًا على طريقة إدارة الحواجز التي سيطرت عليها حركة فتح والأجهزة الأمنية، والتي استطاعت في البداية السيطرة على حركة المواطنين وتوقيفها بين القرى والمدن التي أغلقت مداخلها بالسواتر الترابية والمكعبات الإسمنتية. لكن بعد فترة بدأت التوترات تظهر على الحواجز بوضوح، ففي الخامس من أيار أطلق أحد عناصر الأجهزة الأمنية، بلباس مدني، النار باتجاه مركبة فلسطينية رفضت الانصياع لحاجز أقامته لجنة الطوارئ على مدخل قرية دير جرير شرق رام الله، ولم يُصب صاحب المركبة.
وقبلها، كانت العناصر الأمنية أطلقت النار على عامل فلسطيني أثناء مروره على حاجز بين قريتي بديا ومسحة في محافظة سلفيت. وعلى الرغم من ادعاءات السلطة أن إطلاق النار في تلك الحالات كان ممارسات فردية، إلّا أنه يمكن النظر إليها في سياق الاستعراض الأمني الذي مارسته السلطة وأجهزتها بهدف التخويف والترهيب والإخضاع.
وقد بلغت التجاوزات الأمنية ذروتها بقتل الناشط عماد الدين دويكات أمين سر حركة فتح في حي «بلاطة البلد» أحد أحياء مدينة نابلس، بعد ساعات من ظهوره في مقابلة إعلامية متحدثًا عن واقع الحي الذي صنف كمكان موبوء بعد انتشار الإصابات بالفيروس فيه، ومعبرًا عن عدم رضا سكان الحي عن تقصير السلطة، «إحنا مش راضين عن التعاون، من ناحية إغلاق الأجهزة الأمنية متعاونة، ولكن ناقصنا للمرضى، إحنا مش مقصرين (..) كناشط في المنطقة شفت أنه تم تقديم طرود غذائية ومساعدات للناس المتعطلة عن أعمالها، الدولة المفروض تساعدنا بالحمل هاد». حصلت الحادثة عقب نشوب مواجهات بين الأجهزة الأمنية وأهالي الحي، إثر محاولة الأولى إغلاق أحد المحال التجارية بالقوة، رغم وجود تنسيق مع نائب المحافظ على فتحه مدة ساعتين أمام المواطنين. حاول دويكات منع اعتقال صاحب المحل وإبلاغ الأجهزة الأمنية بالقرار، إلا أن الأجهزة الأمنية -حسب شهود عيان – أطلقت عليه النار من مسافة الصفر، ما أدى لمقتله على الفور.
ربما تكون الحواجز قد ساهمت في الحد من انتشار الوباء في مرحلته الأولى، رغم انعدام الإمكانيات المتوفرة على هذه الحواجز من أدوات لفحص الحرارة، ووجود للطواقم الطبية. إلا أنه لم يقدر لها النجاح والاستمرار بعد ستة شهور لأسباب عديدة، بينها عدم قدرة السلطة على نشر هذه الحواجز في نحو 80% من مساحة الضفة الغربية والتي تخضع لسيطرة الاحتلال الكاملة، وقد رأى المحتل أن هذه الحواجز شكل من أشكال سيادة السلطة، فعمل في بعض الأحيان على اقتحامها وإزالتها وخاصة في الأغوار الشمالية.
تغييب الأحزاب والعشائر عن إجراءات مواجهة الجائحة
تجاهلت السلطة أيضًا ما يمكن أن تحققه العشائر والعائلات من إلزام لأبنائها بالإجراءات، وكذلك قدرتها على فتح صناديق لإعالة الأسر، وهو ما تحقق في بعض البلدات لفترات محدودة وخاصة خلال شهر رمضان، ففي بلدة سلواد شرق رام الله -على سبيل المثال- جمع أهالي البلدة نحو نصف مليون شيكل (100 ألف دينار تقريبًا) في ليلة واحدة، ووزعوا فيما بعد طرودًا غذائية على العائلات.
وكما استثنيت العائلات من لجان الطوارئ، استثنيت الأحزاب أيضًا، إلّا الحزب الحاكم طبعًا؛ حركة فتح. غياب الأحزاب والقوى الوطنية والإسلامية يأتي نتيجة قمع سلطوي مورس على مدار السنوات من جهة، ودمار داخلي نهش هذه القوى، ما أفقدها القدرة على القيام بأنشطة اجتماعية وإغاثية.
في المقابل، حاولت مجموعات تطوعية ومبادرات فردية تقديم المساعدات والطرود الغذائية للأسر المحتاجة، إلّا أن الإدارة الأمنية التي فرضتها السلطة حتّمت على هذه المجموعات والنشطاء الحصول على تصاريح للتنقل، واشترطت على بعضها نقل وتوزيع المساعدات عبر سيارات جهاز «الأمن الوطني»، كما اشترطت أن تُوزع المساعدات عبر لجان الطوارئ فقط. وقد سُجلت عدة اعتقالات وملاحقات لنشطاء حاولوا عدم الانصياع لهذه الشروط، ووزعوا المساعدات بعيدًا عن يد السلطة.
غياب الأحزاب والقوى الوطنية والإسلامية يأتي نتيجة قمع سلطوي مورس على مدار السنوات من جهة، ودمار داخلي نهش هذه القوى، ما أفقدها القدرة على القيام بأنشطة اجتماعية وإغاثية.
فقد رصد تقريرٌ للجنة أهالي المعتقلين السياسيين في الضفة الغربية 101 حالة اعتقال في شهر نيسان، على خلفية كتابة آراء على مواقع التواصل الاجتماعي، وانتقاد أخطاء الحكومة وتصرفات المسؤولين والمحافظين، كما حصل مع الناشط أحمد الخواجا الذي اعتقل 13 يومًا على خلفية كتابة تعليق منتقدٍ على صفحة محافِظة رام الله والبيرة ليلى غنام، إضافة لاعتقال نشطاء على خلفية توزيع مساعدات غذائية على المحتاجين، مثل اعتقال مدير الجمعية الإسلامية لرعاية الأيتام في «يطا»، فضل جبارين، وإمام مسجد ضاحية شويكة في طولكرم إياد ناصر.
استثناء السلطة للطرفين؛ العائلات والأحزاب، شكّل فجوة كبيرة وواضحة في عملية مواجهة الفيروس وعمل لجان الطوارئ، وكان أحد العقبات أمام محافظة الخليل إبان مواجهتها «الموجة الثانية» لانتشار الفيروس، خاصة أن العائلات واأحزاب تشكل في الخليل وزنًا اجتماعيًا وسياسيًا له دوره وأثره. يعلّق الحاج عبد الوهاب غيث، عميد رجال الإصلاح في محافظة الخليل، ملخصًا موقف الناس من لجان الطوارئ التي أبعدوا عن المشاركة فيها، «لجنة الطوارئ تابعة للسلطة مش للمواطنين (..) السلطة لم تُشرك العائلات والعشائر». ويضيف أنه رغم تنبؤ السلطة بقدوم موجة ثانية من الفيروس مع قدوم شهر حزيران إلّا أنها، بحسبه، «لم تعد لذلك أي إعداد ولم تستعد لذلك، وما زالت».
وكانت عائلات الخليل وعشائرها قد أعلنت عدّة مبادرات لمواجهة انتشار الفيروس، وتضمنت هذه المبادرات وضع إلزامٍ اجتماعيٍ على أبنائها، يفرض عليهم الالتزام بالإجراءات والتدابير الوقائية. كما طالب أهالي الخليل، والتي تحوّلت في شهر تمّوز لبؤرة للفيروس في الضفة الغربية، السلطة بتغطية حاجات مستشفيات الخليل من كوادر طبية ومستلزمات، ودفع ما تراكم على المحافظة من ديون للمستشفيات الخاصة، إضافة لتأمين مواقع للحجر والرعاية، وتنفيذ آلية «الفتح الذكي» التي تضمن عدم تعطّل الاقتصاد المحلي.
الطواقم الطبية وحيدة في مواجهة كورونا
عرّى انتشار فيروس كورونا واقع القطاع الصحي الفلسطيني، فرغم أن الفيروس انتشر في الضفة الغربية بعد نحو أسبوع من دخوله «إسرائيل» في 27 شباط، وإعلان السلطة في حينه أنها في كامل جهوزيتها لمواجهته، إلا أنها في الحقيقة لم تتحضر لأي مواجهة، ولم تضع الخطط، ولم تُحضر موازنتها، ولم تُحضّر الطواقم الصحية ولا المستشفيات. لتقع في حالة صدمة مع أول انتشار للفيروس في مدينة بيت لحم، معلنة عن قرارات وإجراءات متخبطة.
لم تتعلّم السلطة من تجربتها في المرحلة الأولى من انتشار الفيروس، ووقعت في الأخطاء ذاتها مع مواجهتها الموجة الثانية من انتشار الفيروس، والتي بدأت في محافظة الخليل التي تحتوي على سبعة مستشفيات منها أربعة حكومية، وقد جُهز مشفى واحد منها فقط لمرضى كورونا.
الخليل اشتكت في بداية انتشار الفيروس في موجته الثانية من نقص في أسرة العناية الحثيثة وأجهزة التنفس، وسبق أن قال نقيب الأطباء في الخليل الدكتور وائل أبو سنينة أنّ الخليل لا يوجد فيها إلّا 100 سرير. كما تعاني المدينة منذ سنوات من نقص في أعداد الكوادر الصحية، ويوضّح أبو سنينة أن القطاع الصحي الفلسطيني بشكل عام يعاني من نقص شديد في كوادره منذ قدوم السلطة، وخاصة لارتباط ذلك بقدراتها المالية، وهو ما يؤكده بحث صادر عن معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني (ماس) عام 2018. رغم دور الكوادر الطبية في مواجهة فيروس كورونا، واحتكاكهم المباشر واليومي مع المصابين، إلا أنهم غُيبوا بشكل واضح عن لجان الطوارئ، كما أبعدتهم السلطة عن الواجهة الإعلامية التي تصدرها المسؤولون وخاصة الأمنيون منهم.
من جانبه، يبين رئيس النقابة العامة للعاملين في الخدمات الصحية، سلامة أبو زعيتر، أن النقص الشديد بالكوادر الصحية يشكل ضغطًا كبيرًا على أدائهم الوظيفي وقدرتهم على تقديم الخدمات بجودة عالية.
ورغم دور الكوادر الطبية في مواجهة فيروس كورونا، واحتكاكهم المباشر واليومي مع المصابين، إلا أنهم غُيبوا بشكل واضح عن لجان الطوارئ، كما أبعدتهم السلطة عن الواجهة الإعلامية التي تصدرها المسؤولون وخاصة الأمنيون منهم. ففي بداية الأزمة استبعدت وزيرة الصحة، مي كيلة، عن المشاركة في المؤتمرات اليومية لإعلان الإصابات التي كان يقدمها الناطق باسم الحكومة إبراهيم ملحم، ما يشير إلى استغلال السلطة للأزمة لتعزيز خطابها الإعلامي عبر الناطقين باسمها.
في السياق ذاته، لم تتجاوز تصريحات وزارة الصحة ووزيرتها الحديث عن أعداد الإصابات وأماكنها، بينما كانت تصريحات المحافظين تحوي معلومات أدق وأكثر من الوزارة، ما يشير أيضًا إلى السلطة التي كانت تفرض على المعلومات وتتحكم بنشرها أو عدمه.
لم تكتفِ السلطة بإبعاد الكوادر الطبية عن إدارة الحالة الطارئة فقط، بل لم تعطهم أي امتيازات رغم مخاطرتهم اليومية وبقائهم على خط المواجهة الأول مع الفيروس، وعاملتهم كباقي موظفيها ودفعت لهم أنصاف الرواتب لشهري أيار وتموز، ولم تدفع راتب شهر حزيران، إثر مواصلة الاحتلال الإسرائيلي احتجاز أموال المقاصّة والتي تُعتبر المصدر الرئيس لدفع رواتب موظفي السلطة. أحد الممرضين في مجمع فلسطين الطبي، يعلق قائلًا؛ «متحملين كثير إحنا الممرضين (..) بعطونا نص راتب، ومع دوامنا المستمر ومخاطرتنا ما في أي حوافز مادية أو حتى معنوية (..) ومع هيك بنيجي كل يوم على حسابنا رغم إنه في سيارات لوزارة الصحة وبقدروا ينقلونا فيها».
يستقبل مجمع فلسطين الطبي في مدينة رام الله، وهو من المشافي الحكومية الرئيسية في الضفة الغربية، حسب مديره الدكتور أحمد البيتاوي، 500 حالة مرضية يوميًا في قسم الطوارئ، ويستقبل باقي أقسام المجمع بشكل يومي نحو خمسة آلاف مريض من كافة المحافظات.
ورغم الأعداد الكبيرة من المرضى والمرافقين التي تصل يوميًا إلى المجمع الطبي لم يخصص قسم لاستقبال حالات كورونا والتعامل معها، إلا أنه وحسب البيتاوي قد نصبت خيمة خارجية للعزل تحسبًا لوصول إصابة للمكان، فيما تم تخصيص مشفى هوغو تشافيز التابع للمجمع لاستقبال إصابات كورونا.
إلا أن الممرض -الذي يتحفظ على ذكر اسمه خوفًا من الملاحقة- قال إن «أعداد كبيرة من المرضى ومرافقينهم تتواجد يوميًا في المجمع، ما تم تشديد أي اجراءات (..) أمّا قسم الطوارئ بستقبل يوميًا مئات المرضى وهو غير مجهز بشكل مناسب في حال وصول مصاب كورونا».
ورغم خطورة المجمع الطبي كمكان قد يصل إليه مصابون أو حاملون للفيروس، إلا أن وزارة الصحة أوقفت عمل الفحوصات العشوائية بين الكوادر الطبية، ولا تخضع كوادرها المخالطة للمصابين لفحوصات إلا إذا ظهرت عليهم أعراض الإصابة بالفيروس. «الوزارة تخشى أن تظهر بعض النتائج إيجابية وتُحدث ضجة إعلامية» يضيف الممرض، مبينًا أن زميله أُجبر على أخذ إجازة على حسابه الخاص، حتى يخضع لفترة الحجر بعد مخالطته لعائلته المصابة بالفيروس، ولم تُحسب له إجازة مرضية. فيما يرفض البيتاوي هذا الادعاء مؤكدًا على أن المجمع الطبي ما زال يقوم بعمل فحوصات عشوائية بين المرضى والأطباء، «بين فترة وأخرى نجمع عينات عشوائية (..) وقبل دخول أي مريض لغرفة العمليات فهو يخضع للفحص».
وبينما خُصص مشفى هوغو تشافيز للعيون، في بلدة ترمسعيا قرب رام الله، لاستقبال مصابين بفيروس كورونا والتعامل معهم، إلا أنه قائم فعليًا على كوادر مجمع فلسطين الطبي، ما سبب نقصًا في كوادره، ويأتي ذلك في ظل رفض السلطة توظيف كوادر جديدة بداية انتشار الفيروس، فيما بدأت بمرحلة متأخرة توظيف كوادر بعقود نصف سنوية. وقال البيتاوي إن الأزمة المالية التي تمر بها السلطة أثرت بشكل واضح على عمل القطاع الصحي بشكل عام وأداء الطواقم، «طبيعي تأثرنا جدًا.. من ستة شهور والأطباء والممرضين بأخذوا نص معاش إضافة لما عليهم من التزامات وقروض (..) ما يُصرف لهم اليوم يا دوب بكفيهم مواصلات فقط».
وكانت نقابة التمريض والقبالة الفلسطينية طالبت رئيس الوزراء ووزارة الصحة في بيان صدر في السابع من تموز بالوقوف أمام احتياجات الممرضين وتلبيتها عاجلًا، إلا أن البيان لم يلب مطالب الممرضين الذين عبروا عن عدم رضاهم عنه وتأخر النقابة بإصداره. ردود الفعل ذاتها عبر عنها الممرضون أيضًا بعد نشر النقابة صورًا عدة على صفحتها على فيسبوك لتوزيعها الكمامات واللباس الواقي على ممرضين في عدة مشافي حكومية، إذ يرى الممرضون أن دور النقابة يجب أن يتجاوز بيانًا ضعيفًا وفقيرًا بالمعلومات والحقائق الواضحة. «نقابة الممرضين وباقي نقابات الكوادر الطبية عليها هي إدارة هذه الأزمة وتقديم المبادرات وتشكيل اللجان وقيادتها ومخاطبة الناس بمؤتمرات وخطابات، ولكنها أُبعدت وتقدمت مكانها الجهات الأمنية»، يُعلق الممرض.
يمكن النظر إلى هذا التغييب للنقابات والضعف في الأداء على أنه جزء ممّا يُمارس منذ سنوات على النقابات من عمليات تهميش وإقصاء، أو حتى احتواء وإخضاع لسيطرة الحزب الحاكم لسنوات طويلة، وغياب الانتخابات والديمقراطية عنها منذ عدة سنوات، ما انعكس على أدائها.
موازنة السلطة الفلسطينية: الصحة أم الأمن؟
مواجهة السلطة الفلسطينية لفيروس كورونا أمنيًا وسط ضعف استعداد قطاعها الصحي، ليس وليد لحظة أو نتيجة سوء إدارة آنية كما تُتهم طيلة الوقت، وإنما هو انعكاسٌ حقيقيٌ لعقلية أمنية وسياسات عميقة ومتجذرة تُدير بها السلطة مؤسساتها منذ تأسيسها، وهو ما يظهر جليًا في موازنتها العامة السنوية والذي يتقدم فيه دومًا القطاع الأمني على القطاعات الأخرى، أمّا القطاع الصحي فتخصص له نصف ما تخصصه للأمن، ما أدى لضعف القطاع الصحي الحكومي، وتراكم ديون على السلطة بملايين الشواقل جراء تحويلها المرضى إلى المشافي الخاصة، ليشكل عبئًا إضافيًا على هذه المشافي ويقود لتراجع أدائها، ويهدد اليوم استمرار تقديمها للخدمات، وهو ما تكشف بشكل أوضح خلال أزمة كورونا.
ففي عام 2019، خصصت الحكومة الفلسطينية في موازنتها العامة للقطاع الأمني ثلاثة مليارات و300 مليون شيكل (حوالي 693 مليون دينار)، فيما خصصت للقطاع الصحي مليارًا و784 مليون شيكل (حوالي 374.5 مليون دينار). ولكن، حتى اليوم لم تكشف عن تفاصيل موازنتها لعام 2020، التي أقرتها متأخرة في شهر آذار المنصرم، إذ لم تصدر رسميًا أرقامها حتى الآن.
يبين الصحفي المتخصص بالشأن الاقتصادي محمد خبيصة أن التقديرات تشير إلى أن متوسط نفقات موازنة 2020 هي أربعة مليارات و500 مليون دولار، فيما من المتوقع أن يصل العجز إلى 600 مليون دولار يتم تمويله من خلال المنح الخارجية أو الاقتراض من البنوك. شكلت مصادرة الاحتلال لأموال المقاصة التي تشكّل 70% من إجمالي الإيرادات الفعلية والسنوية للموازنة الفلسطينية، الضربة الأعنف للسلطة ماليًا.
الحكومة الفلسطينية أُرغمت مع تفشي فيروس كورونا في الضفة الغربية على إعلان الخطوط العريضة لموازنتها العامة، كما أعلنت عن موازنة لإدارة حالة الطوارئ خالية من الأرقام، يعلق خبيصة، «نشرت السلطة قيمة عجز موازنة الطوارئ بقيمة مليار و400 مليون دولار دون أن تنشر باقي تفاصيلها من إيرادات ونفقات وفائض أو عجز وتوقعاتها لنمو الاقتصاد المحلي». يبدو بذلك أن الحكومة الفلسطينية لم تعلن عن إقرارها الموازنة العامة وموازنة الطوارئ إلّا رضوخًا لضغوطات المجتمع المدني بضرورة ذلك.
كما شكلت مصادرة الاحتلال لأموال المقاصة التي تشكّل 70% من إجمالي الإيرادات الفعلية والسنوية للموازنة الفلسطينية، الضربة الأعنف للسلطة ماليًا، خاصة أنها كانت تضخ لها سنويًا مليارين و100 مليون شيكل (حوالي 441 مليون دينار)، وأصبحت اليوم صفرًا.
ويوضح خبيصة، أنه يضاف لضربة مصادرة الاحتلال أموال المقاصة، تراجع المنح والمساعدات الخارجية للسلطة الفلسطينية والذي بدأ عام 2014، إذ تراجعت المنح الأمريكية من متوسط مليار و100 مليون دولار سنويًا إلى 510 مليون دولار قدمت عام 2019، فيما تراجعت المنح الخارجية خلال الشهور الخمسة الأولى من العام الحالي إلى 25-30%. أمّا الضربة الثالثة فتتمثل بتراجع الإيرادات المحلية؛ ضريبة القيمة المضافة، ضريبة الدخل والمعاملات الحكومية والطوابع وغيرها، إذ تقلصت خلال تفشي الفيروس وتعطل المؤسسات الحكومية من متوسط 320 مليون شيكل شهريًا (حوالي 67 مليون دينار) إلى 150-180 مليون شيكل شهريًا (حوالي 31.5-38 مليون دينار).
يشير ارتكاز موازنة السلطة على العناصر الثلاث السابقة ومدى تأثرها من فقدانها أو تراجعها إلى ضعف البناء في الاقتصاد الفلسطيني، الذي لم يكن طوق نجاة، سواء أمام حصارها المالي أو خلال مواجهتها الجائحة، خاصة أن السلطة لم تحاول إدارته خلال انتشار الوباء، بل أغلقته.
وكشفت وزارة الاقتصاد الوطني أن خسائر الاقتصاد الفلسطيني منذ انتشار الفيروس بلغت ثلاثة مليارات دولار، فيما برر المتحدث باسم الوزارة عزمي عبد الرحمن في تصريح صحفي، أن الخسائر الكبيرة التي لحقت بالاقتصاد الفلسطيني، سببها بالأساس أن اقتصاد السلطة هو اقتصاد صغير لا يتجاوز ناتجه المحلي 15 مليار دولار. لم تمض ساعات على هذه التصريح، حتى أعلنت الحكومة الفلسطينية بعد انتهاء عطلة عيد الأضحى عن فتح المنشآت التجارية والصناعية والخدماتية، ضمن الشروط الوقائية المفروضة. فيما جدد الرئيس الفلسطيني إعلان حالة الطوارئ.
لكن مرة أخرى، أعلن الرئيس الفلسطيني تمديد حالة الطوارئ في الثالث من أيلول، دون خطة جديدة تُبنى على تجربة الشهور السابقة، ودون انتشال القطاع الصحي وطواقمه الذين لا يتلقون اليوم إلا أنصاف رواتب. ما يطرح العديد من الأسئلة حول قدرة السلطة على الاستمرار في مواجهة الوباء، وقدرة طواقم القطاع الصحي على الاستمرار في هذه المواجهة، وسط تخوفات من موجة ثالثة قد تكون الأخطر والأكثر انتشارًا، بالتزامن مع بدء العام الدراسي.