بعد 471 يومًا من حرب الإبادة في غزة، دخل وقف إطلاق النار حيّز التنفيذ مطلع الأسبوع الفائت. لكن وحتى قبل الإعلان عن وقف إطلاق النار، انشغلت «إسرائيل» بعدد من المعارك الأخرى، بعضها داخلي إذ شهدت الحكومة الإسرائيلية استقالات احتجاجًا على صفقة التبادل، وتهديدًا بالاستقالة في حال عدم العودة للحرب بعد انتهاء المرحلة الأولى من صفقة التبادل، فيما استقال رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية وعدد من الشخصيات العسكرية الأخرى، لينضموا لقائمة من العسكريين الذين استقالوا بعد السابع من أكتوبر. أمّا المعركة الأخرى فكانت على جنين، إذ أطلق جيش الاحتلال عملية عسكرية أطلق عليها اسم السور الحديديّ، وأسفرت حتى اللحظة عن عشرات الشهداء والجرحى.
لقراءة هذا المشهد المركب في كيان الاحتلال، والمعارك التي لا ينفكّ يدخلها، حاورنا الكاتب المتابع للشؤون الإسرائيلية عماد أبو عواد، لنلقي معه نظرة على المشهد داخل «إسرائيل» بعد صفقة التبادل، وبعد 15 شهرًا من الحرب الأطول في تاريخ كيان الاحتلال.
حبر: بعد دخول وقف إطلاق النار في غزة حيز التنفيذ، وبدء تبادل الأسرى، كيف ينظر المجتمع الإسرائيلي للصفقة، وكيف ينظر إجمالًا للحرب وما أسفرت عنه؟
عماد أبو عواد: بداية، أعتقد أنه من الأدق الحديث عن مجتمعات إسرائيلية، لا عن مجتمع واحد. وهنا أتفق مع مقولة الرئيس السابق لكيان الاحتلال رؤوفين ريفلين «إننا دولة طوائف» أو دولة مجتمعات. وبالتالي، وبناء على التوجه السياسي لكل مجتمع من هذه المجتمعات، يتشكل الموقف من مختلف القضايا. ودعونا نتذكر أنه قبل الحرب كان هناك صراع إسرائيلي داخلي عميق حول هوية الدولة، وهذا ظهر في مجموعة من الملفات بينها القضاء والجيش وملف التجنيد، والعلاقات الخارجية، والقضية الفلسطينية.
في بداية الحرب كان هذه حرب الكلّ الإسرائيلي، وكان الجميع يدفع نحوها، ونحو استعادة الأسرى، ونحو الانتقام واستعادة الردع الإسرائيلي. لكن مع مرور الوقت ظهر الانقسام، وتحدد بناء على التوجه السياسي، تحديدًا في ظلّ أن المعارضة الإسرائيلية، وعلى رأسها التيار الصهيوني الليبرالي الذي قاد دولة الاحتلال لعقود، رأت أن ما يحرّك رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إنما هو مصالحه الشخصية، وأن الحرب قد استوفت أهدافها، وأن فكرة القضاء على حماس، التي لا ينفك نتنياهو يشير إليها إنما هي وهم. وهنا أحيل لما قاله الصحفي الإسرائيلي رون بن يشاي قبل أيّام، عندما أشار لمسألة أن من يسعى للقضاء على حماس لا يفهم غزة ولا مجتمعها؛ قطاع غزة هو حماس، وحماس هي قطاع غزة، في إشارة لالتفاف المجتمع في غزة خلف المقاومة.
على أي حال، الاتفاق مثله مثل القضايا الأخرى في المجتمع الإسرائيلي، موضع خلاف داخلي. الغالبية العظمى من التيار المعارض لنتنياهو يرى أن هذا الاتفاق فرصة لاستعادة الأسرى، ولكن كذلك لإنهاء الحرب، وقد صرّح زعيم المعارضة يائير لابيد بعيد الاتفاق أن الحرب يجب أن تنتهي. في المقابل جمهور نتنياهو وإن كانت فئة وازنة من جمهور نتنياهو تعتقد أن هنالك حاجة لصفقة التبادل، إلّا أنه يرى أنه من الضروري أن تعود «إسرائيل» للحرب بعدها.
وهنا من المهم الانتباه إلى أن الانقسام ليس سياسيًا فقط وإنما هو عرقي طائفي، فإلى جوار نتنياهو هناك تيارات دينية صهيونية، وحريديم، وتيار قومي ديني يتكئ على اليهود الشرقيين، في المقابل هناك معارضة تتكون من تيارات علمانية غالبها غربي، وربما يكون هذا المستوى من الانقسام الحاد غير مسبوق في تاريخ «إسرائيل».
عطفًا على كلامك، كيف ينعكس هذا الانقسام، وحالة الضبابية التي تسود مستقبل وقف إطلاق النار والحرب، على المجتمع الإسرائيلي؟
أعتقد أن النظر إلى استطلاعات الرأي هنا سيكون مفيدًا. هنالك حقيقتان تسودان اليوم المجتمع الإسرائيلي، الأولى أن لا مستقبل آمن في «إسرائيل»، ولا مستقبل للديمقراطية فيها. هذه القناعة واسعة جدًا، وتحديدًا في صفوف جمهور المعارضة الليبرالية. إذا أخذنا هذا الأمر، وربطناه بمسألة أن العام 2024 شهد أعلى نسبة هجرة من الكيان في تاريخ «إسرائيل»، وأن عدد اليهود الذين هاجروا للكيان كان صغيرًا جدًا، سنرى أن هذا الجمهور فقد ثقته بمؤسساته، وبالمشروع ككل، وربما يكون أفضل معبّر عن هذه النتيجة هو أن 25% من المجتمع الإسرائيلي يفكر جديًا بالهجرة، ومعظم هؤلاء ينتمون للتيار الغربي الذي أسس الدولة فعليًا، وهم من يمتلك الاقتصاد ويقود الجيش وسلاح طيرانه. هذا التيار بدأ بفقدان الأمل، ويرى أن الدولة تتغير على خلاف هواه، وأن «إسرائيل» تتحوّل إلى دولة قومية دينية، مما يعني أن الاقتصاد سيتأثر، والعلاقة مع الغرب ستتضرر، والصراعات في المنطقة لن تهدأ، مما سينعكس بالضرورة على الدخل.
في المقابل هناك تيار يعيش حالة من الانتشاء والزهو وهو تيار المتدينين الصهاينة، وتيار داعمي نتنياهو، والذي يرى أن توسع «إسرائيل» من خلال الضم والحروب ضروري جدًا لأسباب أيديولوجية ودينية أساسًا، ورغبة في السيطرة على الدولة ثانيًا.
في المحصلة لدينا مجتمعان، واحد يرى أن المستقبل غامض وسيء وأن حالة عدم الاستقرار ستستمر، في مقابل مجتمع يرى أن استمرار الصراع سيمكنه من السيطرة على الدولة.
لكن خارج الطيف السياسي بشكل مباشر، هنالك شعور يتعمق داخل المجتمع الإسرائيلي، وهو أن «القيم» التي تأسس عليها الكيان، وهنا أعني تحديدًا مسألة فعل كل شيء لأجل فداية من يتم أسرهم من الإسرائيليين، لم تعد قائمة، وقد تعزز هذا الشعور مع الخطاب المنتشر في خطاب بعض الأوساط داخل الائتلاف الحاكم وهو أنه يمكن التضحية بالأسرى لتحقيق مشاريعه، وهو ما زاد من شعور المناوئين للحكومة بالغربة.
عند الانتقال لمشهد اليمين الإسرائيلي، نرى أن الخلاف تصاعدَ بين أطرافه حول الصفقة، بن غفير ووزراء من حزبه استقالوا من الحكومة، فيما هدد سموتريتش بالاستقالة في حال عدم العودة لحربٍ كاملة في القطاع. برأيك، كيف لهذا الخلاف أن يؤثر على مستقبل هذا التحالف؟ هل يمكن القول إننا نشهد نهايته؟
بالتأكيد لا. هذا تحالف يستفيد منه طرفاه ولا يمكن لهما الاستغناء عن بعضهما. نتنياهو يفيد اليمين الديني من خلال تمكينهم من تحقيق أهدافهم الاستيطانية في الضفة الغربية وسن القوانين وإقامة الدولة اليهودية، وفي المقابل هم يمكنونه من البقاء رئيسًا للوزراء في ظل تهم جنائية تلاحقه.
فلنأخذ كلًا من سموتريتش وبن غفير على حدة. فيما يتعلق ببن غفير فالأسباب وراء استقالته تكمن في شعبويته. معظم جمهور بن غفير من الشبان الصغار المستوطنين، ولذا حاول اللعب على وتر تطرّفهم، كما حاول اللعب على وتر إحراج سموترتيتش عبر مطالبته بالاستقالة معه من الحكومة، وبذا يظهر وكأنه هو من أوقف صفقة التبادل. وهنا أعتقد أن بن غفير سيندم على قرار الاستقالة من الحكومة، وربما سيتوسل نتنياهو مستقبلًا للعودة للحكومة. كما أنه لن يجرؤ على العمل على إسقاطها، ولا على التصويت ضدها، حتى لو صوّت ضد صفقة التبادل، لأنه لا يريد أن يظهر أمام جمهوره وكأنه يُسقِط حكومة اليمين، أو أنه يُفشِل مشروع اليمين. وفي المقابل ربما سيعاقبه نتنياهو قريبًا عبر جذب أعضاء من حزبه نحو حزب الليكود.
أمّا سموتريتش، فأغلب الظن أنه سيبقى في الحكومة، حتى لو استمرّ وقف إطلاق النار في غزة. وهذا لأكثر من سبب؛ بداية تشير استطلاعات الرأي إلى أن سموتريتش قد لا يتمكن من بلوغ نسبة الحسم التي تمكنه من الوصول للكنيست في أي انتخابات قادمة، والسبب الثاني هو أن مشروع سموتريتش الأساسي هو الضفة الغربية، وهنا ضروري أن نتذكر أن سموتريتش يتولى إضافة لوزارة المالية، منصب وزير في وزارة الجيش، وبالنسبة له، وللصهيونية الدينية من ورائه، فإن مشروعهم في الضفة الغربية له الأولوية على أيّ ملف آخر.
لكن لو فرضنا جدلًا أن نتنياهو وسموتريتش وصلا لنقطة حسم ما، وعندها لم يعد التحالف بينهما ممكنًا، هل يعني هذا أن حكومة نتنياهو ستسقط؟ لا أعتقد ذلك، وهذا لأن البدائل أمام نتنياهو متنوعة، ومن بينها شبكات الأمان التي عرضها عليه لابيد وغانتس من جهة، ومنصور عباس من جهة أخرى، والتي وُعِد عبرها بالبقاء رئيسًا للوزراء طالما بقي ملتزمًا بوقف إطلاق النار.
بالعودة إلى سموتريتش ومستقبل الائتلاف الحاكم، كيف يمكن قراءة العملية التي بدأها جيش الاحتلال في جنين، وهل هي في جزء منها مدفوعة برغبة نتنياهو الإبقاء على سموترتيش ضمن الحكومة؟
يمكن القول إن ما يحصل في الضفة الغربية منذ نهاية العام 2022 وحتى اليوم هو مشروع سموتريتش الحاكم الفعلي للضفة. إضافة للبعد الأيديولوجي الديني، تقوم نظرية سموتريتش على أن الاستيطان يقلل من فرص المقاومة الفلسطينية، ولذا يقول إن القدس ورام الله لا توجد فيهما مقاومة كبيرة لأن فيهما الكثير من المستوطنات، بينما هنالك مقاومة في جنين وطولكرم لأن عدد المستوطنات فيهما قليل جدًا.
بالتالي أعتقد أن ما يحصل في جنين اليوم هو محاولة من نتنياهو لاسترضاء سموتريتش. وفي الوقت نفسه، هو كرت من دونالد ترمب لإرضاء نتنياهو من أجل موافقة الأخير على وقف الحرب في غزة.
شهد الأسبوع الفائت استقالة رئيس هيئة الأركان هرتسي هليفي، وقبل وبعده عدد من الشخصيات العسكرية الإسرائيلية. كيف يمكن لنا قراءة هذه الاستقالات وهل يمكن تفسيرها بوصفها إحدى تجليات الصراع الذي أشرت له في مطلع حديثك؟
فلنتذكر أنه وقبل هليفي، استقال رئيس شعبة المخابرات الإسرائيلية العسكرية أهارون هاليفا وبعده رئيس الوحدة 8200 يوسي شارئيل والأسبوع الماضي هليفي وشخصيات عسكرية أخرى، وهناك حديث عن احتمال استقالة رئيس الشاباك رونين بار. يمكن ردّ هذه الاستقالات لسببين، الأول مرتبط بفشل هذه الشخصيات في السابع من أكتوبر، ولذا هي استقالات «قيمية» في أعراف الجيوش والعسكر.
لكن السبب الثاني والأهم، والمرتبط بسؤال الصراع الداخلي في «إسرائيل»، هو أن هذه القيادات العسكرية والأمنية لم تعد قادرة على العمل مع نتنياهو. بعد إقالة وزير الحرب السابق غالانت، عُيّن كاتس مكانه، وهو شخصية من خارج المنظومة العسكرية، كما أن علاقة هليفي بنتنياهو كانت سيئة طيلة الوقت، والأهم ربما هو أن هنالك تغلغلًا داخل مؤسسة جيش الاحتلال، وتحديدًا في المستويات الدنيا، لتيار الصهيونية الدينية، وبالتالي باتت قيادات المؤسسة العسكرية، تشعر أن الجيش لم يعد مكانها، ولذا منذ أشهر صرّح هليفي أنه وبمجرّد وقف إطلاق النار سيستقيل.
بالعودة إلى مسألة الصراع داخل «إسرائيل» اليوم، يمكن القول إنه إن كان اليهود الشرقيون، داعمو نتنياهو، يسيطرون اليوم على الحكومة والكنيست، فإن اليهود الغربيين يسيطرون على أبرز مؤسسات الدولة، فمثلًا، دخلَ المحكمة العليا الإسرائيلية منذ تأسيسها 81 قاضيًا، ليس بينهم حريدي واحد. وفي الاقتصاد دخْلُ اليهودي الشرقي في المتوسط هو 70% من دخل اليهودي الغربي. وهنا يشعر جمهور نتنياهو بأنهم ورغم سيطرتهم على الحكومة لا زالوا مضطهدين، ولذا كان أول ما تحدث عنه بن غفير بعد نجاحه في الانتخابات هو أننا كيمين لا يجب أن نكتفي بالحكم وإنما يجب أن نثبت وجودنا، وأن نسيطر.
أخيرًا، كيف يبدو مشهد التحالفات في الداخل الإسرائيلي اليوم، وكيف ستؤثر على شكل السياسة في «إسرائيل»؟
المشهد في «إسرائيل» اليوم هو مشهد طائفي بامتياز. قبل ثلاثين أو أربعين سنة، كان حزبا العمل والليكود حزبين كبيرين، وفي كل انتخابات يتمكن كلٌ منها من تحصيل 40 أو 45 مقعدًا، وبالتالي يكونان قادريْن على تشكيل حكومة بسهولة، وبذا تكون الحكومة ممثلة لجزء كبير من المجتمع الإسرائيلي. أمّا اليوم فالانقسام شديد جدًا، فاليمين منقسم على مجموعة أحزاب، والصهيونية الليبرالية منقسمة على مجموعة من الأحزاب، ولا يجمع بينها سوى العداء لنتنياهو والرغبة في إسقاطه. ولذا تصل الحالة السياسية الإسرائيلية اليوم إلى أعلى درجات الابتزاز في أيّ تحالفات.