في عملية هي الأكبر من نوعها، أعلنت وزارة الداخلية في غزة أمس عن قتل أكثر من 20 عنصرًا من عصابات مسؤولة عن سرقة شاحنات المساعدات الداخلة للقطاع، معلنةً أن العملية، التي وُضعت الفصائل الفلسطينية في صورتها، تشكل «بداية عمل أمني موسع تم التخطيط له مطولًا وسيتوسع».
تأتي العملية بعد تواتر التقارير في الأيام الماضية حول الدور الذي لعبته هذه العصابات في نهب المساعدات الشحيحة أصلًا المتجهة لأهالي القطاع، تحت رعاية إسرائيلية واضحة، عبر حصر مرور المساعدات في طرق تسيطر عليها العصابات، وغض الطرف عن عمليات النهب التي تجري تحت أعين قوات الاحتلال، واستهداف قوات الشرطة الفلسطينية وجميع القوى التي حاولت تنظيم عمليات التوزيع. هذا فضلًا عن التخابر المباشر بين عناصر هذه العصابات وجيش الاحتلال، حيث أعلنت وزارة الداخلية أنها «رصدت اتصالات بين عصابات اللصوص وقوات الاحتلال في تغطية أعمالها وتوجيه مهامها، وتوفير غطاء أمني لها من قِبل ضباط الشاباك».
بذلك، تكذب هذه التقارير الاتهامات الإسرائيلية المتكررة للمقاومة في غزة بسرقة المعونات، والتي استخدمتها مرارًا لتبرير إغلاق المعابر ومنع دخول المساعدات لتشديد الخناق على أهالي القطاع الذين يتعرضون لحرب إبادة مستمرة، ولخلق حالة من الفوضى والاقتتال الداخلي، خاصة مع تفاقم ظاهرة السطو على المساعدات منذ احتلال الشريط الحدودي مع مصر في أيار الماضي وإغلاق معبر رفح.
تحت عين الاحتلال
في تقرير مطول نشر الإثنين، نقلت صحيفة الواشنطن بوست عن مذكرة داخلية للأمم المتحدة أن العصابات تستفيد من تساهل إن لم يكن حماية جيش الاحتلال في غزة، وأن بعض هذه العصابات أقام «تجمعات شبه عسكرية» في مناطق يسيطر عليها جيش الاحتلال ويمشّطها ويقيّد الدخول إليها.
وينقل التقرير عن عدد كبير من موظفي المنظمات الدولية والأممية العاملة في الإغاثة وسائقي شاحنات القوافل قولهم إنهم طالبوا جيش الاحتلال بشكل متكرر بتوفير طرق بديلة لإيصال المساعدات، أو توفير الحماية للقوافل، أو السماح للشرطة الفلسطينية بتوفيرها، إلا أن جميع هذه المطالب قوبلت بالرفض. بل إن قوات الاحتلال في حالات عديدة سمحت بسرقة الشاحنات على مرأى مباشر من قواتها. كان آخر هذه الحالات يوم السبت الماضي، حيث نهبت عصابة 98 شاحنة من أصل 109 ضمتها قافلة مساعدات غذائية تابعة للأمم المتحدة، وأطلقت النار على السائقين واحتجزت أحدهم لساعات.
على مدى شهور الحرب، كانت حوادث الهجوم على قوافل المساعدات تحدث بشكل متفرق من قبل بعض الأهالي، في محاولة يائسة منهم لتأمين قوت عائلاتهم في ظل المجاعة. لكن منذ إغلاق معبر رفح، وتحول معبر كرم أبو سالم إلى المنفذ الوحيد للمساعدات، أصبحت الهجمات أكبر وأشد تنظيمًا وعنفًا، حسبما نقلت البوست عن عمال إغاثة. ورغم فتح معبر ثانٍ للمساعدات الشهر الماضي، هو معبر كيسوفيم، إلا أن عناصر العصابات باتوا منتشرين قربه كذلك.
وفق تقرير لصحيفة هآرتس، بات هناك اليوم ما يسميه جيش الاحتلال «منطقة النهب»، على بعد قرابة كيلو متر واحد من معبر كرم أبو سالم، حيث تحدث معظم عمليات السطو، وهي منطقة يسيطر على الجيش بالكامل، ويقيم فيها نقاط مراقبة تبعد بضع مئات من الأمتار، وأحيانًا أقل، عن الحواجز المرتجلة التي أقامتها العصابات. في جولة نظمها جيش الاحتلال للصحفيين، ينقل التقرير، مرت إحدى شاحنات المساعدات ليشير إليها ضابط في الجيش ويقول باعتيادية: «بعد قرابة 500 متر، سوف تُسرق».
فرق آخر شهدته الأشهر الأخيرة تمثل في هدف هذه العصابات. فلفترة من الزمن، كانت هذه العصابات، الناشطة أساسًا في التهريب من قبل الحرب، تبحث عن علب السجائر المهربة داخل شحن المساعدات. فمع منع دخولها القطاع، ارتفعت أسعار السجائر لمستويات خيالية لتصبح نوعًا من العملة في سوق سوداء. لكن مع إغلاق معبر رفح واشتداد هجمات العصابات، أصبحت تستولي على شاحنات بأكملها، لتقودها إلى مستودعات في مناطق يسيطر عليها جيش الاحتلال وتبيعها من هناك بأسعار مضاعفة. على مدى الصيف الماضي، تنقل البوست أن ما قيمته 25.5 مليون دولار من المساعدات قد سُرق.
فضلًا عن سرقة المساعدات، فرضت العصابات في كثير من الحالات خاوات بآلاف الدولارات على الشاحنات المارة، تحت طائلة تعرض السائقين للضرب أو الاختطاف، الذين يجري إيقافهم على حواجز العصابات أو تُطلق النار على عجلات شاحناتهم. وتنقل هآرتس في تقريرها عن مسؤول كبير في إحدى منظمات الإغاثة قوله «رأيت دبابة إسرائيلية، ومسلحًا فلسطينيًا يحمل رشاشًا يقف على بعد مئة متر منها. يضرب المسلحون سائقي الشاحنات ويأخذون كل الطعام إن لم يُدفع لهم».
ورغم أن علاقة هؤلاء المسلحين بقوات الاحتلال تبدو علاقة تعاون وتساهل في حدها الأدنى، إلا أنها على ما يبدو تذهب أبعد من ذلك. إذ نقل موقع عربي 21، عن مصادر حكومية وأمنية في غزة، أن كثيرًا من عناصر هذه العصابات هم من المجرمين المدانين في قضايا جنائية سابقة، وأن بعض زعمائهم عملاء معروفون، ينسقون مع جيش الاحتلال لمعرفة موقع تحرك شاحنات المساعدات وأنواعها، بل ويحصلون منه على أسلحة خفيفة وذخائر، ويسرقون المساعدات تحت عين الاحتلال، مستفيدين من عملهم «في مساحة جغرافية لا تستطيع الطواقم الشرطية التحرك فيها»، نظرًا لاستهداف الاحتلال لها. وعدد من هؤلاء سبق أن تعرض لمحاولات تصفية من قبل المقاومة.
في هذا الإطار، كان أحد أبرز الأسماء المتداولة هو ياسر أبو شباب، الذي أشارت المذكرة الأممية له بوصفه «الفاعل الأبرز والأشد تأثيرًا وراء عمليات النهب الهائلة والممهنجة»، والذي وردت أنباء عن مقتله ضمن العملية التي نفذتها وزارة الداخلية في غزة، قبل أن تشير تقارير أخرى إلى أنه كان مستهدفًا في العملية إلا أنه نجا، فيما قتل شقيقه مع عناصر آخرين في عصابته.
في تقريرها، قالت البوست إنها تواصلت مع أبو شباب الشهر الماضي، ونقلت عنه إقراره بنهب الشاحنات، رغم زعمه أن عصابته لا تقرب «الطعام والخيم وأغراض الأطفال». كما أقر بملاحقة المقاومة له، وأن «مسلحي حماس» حسب تعبيره أطلقوا النار على عصابته مرات عدة. دون أن ينفي عن نفسه تهمة العمالة، قال أبو شباب للبوست: «فليقل من يتهموننا بالعمل مع إسرائيل ما يريدون. إسرائيل لا تحتاجنا». وبحسب الصحيفة، فإن عصابة أبو شباب مسؤولة عن قتل أربعة سائقي شاحنات على الأقل منذ أيار الماضي، فضلًا عن إصابة آخرين، كثير منهم كُسرت أطرافهم.
استهداف شرطة غزة لخلق الفوضى
جاء هذا التصاعد في عمليات السطو والنهب بالتزامن مع استهداف «إسرائيل» لقوات الشرطة الفلسطينية والأجهزة الأمنية التي حاولت حماية قوافل الشاحنات، وتنظيم عمليات توزيع المساعدات، وضبط الأسواق، ومنع الاحتكار ورفع الأسعار. وهو ما أشار إليه تقرير صادر الأسبوع الماضي عن 29 منظمة دولية غير حكومية، من بينها أوكسفام وأنقذوا الأطفال والمجلس النرويجي للاجئين. إذ عزا التقرير تفاقم سرقة المساعدات إلى «استهداف إسرائيل ما تبقى من قوات الشرطة في غزة، ونقص السلع الأساسية، وانعدام الطرق وإغلاق معظم نقاط العبور، ويأس السكان الذي يؤدي إلى هذه الظروف الكارثية».
على مدى الشهور الماضية، شنت «إسرائيل» سلسلة اغتيالات استهدفت بشكل مركز قادة وعناصر في الشرطة والأجهزة الأمنية واللجان المسؤولة عن تنظيم وصول المساعدات، وإن كانت في دائرة الاستهداف منذ بداية الحرب. أحد أبرز هذه الاستهدافات كان اغتيال مسؤول قوى الأمن الداخلي في قطاع غزة، العميد فائق المبحوح، في آذار إثر محاصرته لـ16 ساعة في مجمع الشفاء الطبي، حيث اشتبك مع قوات الاحتلال إلى أن استشهد. كان ذلك بعدما أشرف قبلها بثلاثة أيام فقط على عقد اتفاق مع الأمم المتحدة والعشائر وعدد من التجار أدى إلى دخول شاحنات المساعدات إلى شمال القطاع في أسوأ أيام المجاعة فيه، بعد انقطاع دام أكثر من أربعة شهور، لتوزع حمولة الشاحنات بشكل منظم على آلاف الأسر.
في غضون اليومين التاليين على استشهاد المبحوح، اغتالت «إسرائيل» كلًا من مدير جهاز المباحث في شمال غزة، المقدم رائد البنا، مع زوجته وأبنائه إثر قصف استهدف منزله، ثم المقدم محمود البيومي، مدير مركز شرطة النصيرات، وكلاهما كانا مسؤولين عن تأمين شاحنات المساعدات، ثم مدير لجنة الطوارئ في غرب غزة، أمجد هتهت، بقصف على دوار الكويت في المدينة، أثناء إشرافه مع عدد من أعضاء اللجان الشعبية على تأمين وتوزيع المساعدات.
استمرت الاغتيالات على مدى الشهور التالية، فاستشهد رئيس شرطة جباليا، رضوان الرضوان، في نيسان، وهو رئيس لجنة تأمين المساعدات في شمال قطاع غزة. وفي أيار، اغتيل مدير مباحث شرطة المحافظة الوسطى، العقيد زاهر الحولي، بعدما بدأ لتوه حملة لضبط الأمن في دير البلح التي كانت حينها تستقبل يوميًا أعدادًا كبيرة من النازحين. وبعدها بأيام، اغتالت «إسرائيل» ثلاثة عناصر شرطة آخرين في مخيم النصيرات أثناء عملهم في ضبط الأسواق. وفي حزيران، اغتالت قوات الاحتلال ثمانية عناصر شرطة آخرين في دير البلح أيضًا.
جاء كل ذلك في إطار ما وصفته مصادر أمنية في غزة بالخطة التي تسعى إلى إحداث «انهيار أمني» في المجتمع الفلسطيني بالقطاع، خاصة عبر استهداف عناصر الشرطة خلال تأمينهم شاحنات المساعدات من أجل «خلق بيئة تساعد على سرقتها ونهبها وإشاعة الفوضى». فضلًا عن ذلك، هدفت «إسرائيل» عبر توفير الغطاء للعصابات، التي جنّدت بعض أبناء العشائر جنوب غزة، وإمدادها بالسلاح إلى «بناء قوة موازية لسلطة حماس في غزة»، بحسب مصدر أمني آخر في غزة.
لكن رغم هذه الاستهدافات، تعكس العملية الأمنية الأخيرة التي أعلنت عنها وزارة الداخلية تصعيد الحملة ضد عصابات النهب، خاصة مع تشكيل وزارة الداخلية لقوة شرطية خاصة، أطلق عليها اسم «وحدة سهم»، أوكلت إليها مهمة ضبط الأمن ومحاربة السرقات ومراقبة الأسعار، ونُسبت إليها المسؤولية عن العملية الأخيرة.
تنشط القوة الجديدة في ضبط الأمن على الطرق الرئيسية، خصوصًا التي تعبر منها المساعدات والشاحنات التجارية، وتؤمن وصولها إلى المخازن المخصصة تمهيدًا لتوزيعها، كما تعمل داخل الأسواق الشعبية لضبط الأسعار. وتتكون القوة من عناصر شرطية وأمنية وبعض المتطوعين، وتتحرك بلباس مدني، في محاولة لتفادي استهداف قوات الاحتلال لها، ولديها تعليمات بالتعامل الفوري مع عصابات نهب المساعدات، وقد تمكنت مؤخرًا من إحباط عدد من عمليات السطو المسلح، وفق ما نقل موقع عربي 21 عن مصادر أمنية.
في إطار ردود الفعل، أصدر «التجمع الوطني للقبائل والعشائر والعائلات الفلسطينية» بيانًا رحب فيه بالعملية الأمنية، مطالبًا بمزيد من ملاحقة عناصر العصابات، ومحذرًا إياهم من أنهم إن لم يعودوا إلى «الصف الوطني» فستتم «محاسبتهم من قبل أبناء شعبهم وفقًا للشرعية الثورية». كما أشاد التجمع بالموقف الوطني لشيوخ القبائل والعشائر والمخاتير والعائلات «برفع الغطاء العشائري عن بعض أبنائهم المتورطين بالأفعال المشينة».
كما أصدرت لجنة المتابعة للقوى الوطنية والإسلامية بيانًا أشادت فيه بالعملية بحق اللصوص الذين «يكملون دور الاحتلال في محاصرة شعبنا وتجويع أطفاله ونسائه وشيوخه». وحذر البيان التجار من «الكسب غير المشروع على حساب المواطن النازح والفقير».
وكانت وزارة الداخلية قالت في إعلانها عن العملية إنها حظيت بـ«مباركة وطنية واسعة»، وإن الأجهزة الأمنية قد أطلعت الفصائل على مخطط العملية. كما أشارت في بيانها إلى أن الحملة الجارية «لا تستهدف عشائر بعينها وإنما تهدف للقضاء على ظاهرة سرقة الشاحنات»، وأن انجرار بعض أفراد العشائر الفلسطينية شرق رفح لهذه العصابات لا يسيء لتاريخ عائلاتها.