قبل الساعة الثانية من فجر اليوم، وفيما الناس في قطاع غزة نيام استعدادًا لسحور سيتناولون فيه ما تيسّر من طعام، أو سيكتفون بجرعة ماء، حصل ما كان يخشاه الأهالي، وما كان يُحذّر منه، خاصة في الأيام القليلة الفائتة، إذ بدأت الطائرات الحربية الإسرائيلية حملةً جوية تكاد تكون غير مسبوقة في عنفها، رغم كلّ ما شهده القطاع من مجازر وقتل وتدمير على مدى شهور الحرب المستمرة منذ السابع من أكتوبر 2023.
بحسب مصادر طبية في القطاع، فقد وصل إلى المستشفيات حوالي 420 شهيدًا، بينهم أكثر من 175 طفلًا و89 سيدة، و32 من كبار السن. وبذا عادت مشاهد الأشلاء المقطعة والدماء المتناثرة في ردهات المستشفيات لتتصدّر المشهد من جديد، ولتعلن توقف الهدنة التي بدأت في التاسع عشر من كانون الثاني الفائت. والتي كانت شهدت هي الاخرى، وبفعل خروقات إسرائيلية، استشهاد أكثر من 177 فلسطينيًا بحسب تصريحات لمكتب الإعلام الحكومي في القطاع.
شملت الغارات كامل جغرافية القطاع من بيت لاهيا شمالًا وصولًا إلى رفح، وقد تكثفت الخسائر البشرية في منطقتي رفح وخان يونس واللتين استشهد فيهما أكثر من 160 شخصًا. وأصدر الناطق باسم جيش الاحتلال أوامر بإخلاء مناطق بيت حانون وخربة خزاعة وعبسان الكبيرة والجديدة، لتشهد بعض المناطق في شمال القطاع موجة نزوح، خوفًا من تجدّد الاجتياح البري للشمال.
ومع تجدد العدوان، أعلنت «إسرائيل» أن العملية، التي أطلقت عليها اسم الشجاعة والسيف، تجيء بناء على توجيهات من رئيس الوزراء ووزير حربه، والذي قال إن استئناف القتال يأتي «بسبب رفض حماس إطلاق سراح المختطفين وتهديدها باستهداف الجنود والمستوطنات».
كذّبت حماس التصريحات الإسرائيلية قائلة إن استئناف العدوان إنما هو انقلاب من نتنياهو وحكومته النازية على اتفاق وقف إطلاق النار، وأنه يستخدم العدوان هربًا من أزماته السياسية الداخلية.
وكانت البيانات الرسمية الإسرائيلية قد تحدثت أن العملية جاءت بعد إطلاع الولايات المتحدة على القرار، فيما كانت الناطقة باسم البيت الأبيض قد قالت إن استئناف الحرب قد اتخذ بعد التشاور مع الولايات المتحدة، مضيفة أن ترامب صرّح أن «حماس والحوثيين وإيران، وكل هؤلاء الذين يحاولون إرهاب إسرائيل، والولايات المتحدة كذلك، سيدفعون الثمن، وستفتح [عليهم] أبواب الجحيم». هذا الإقرار الأمريكي بمعرفتها وبتشاور «إسرائيل» معها قبل العودة للحرب، علّقت عليه حركة حماس بالقول إنه تأكيد على الشراكة الأمريكية المباشرة في حرب الإبادة. وبالتالي فإن الولايات المتحدة، «بدعمها غير المحدود للاحتلال، تتحمل المسؤولية الكاملة عن المجازر وقتل النساء والأطفال في غزة».
خلال ساعات النهار، نعت حماس مجموعة من قيادات العمل الحكومي في القطاع، وكان بينهم، عصام الدعليس رئيس متابعة العمل الحكومي في القطاع، وهو المنصب المشابه لمنصب رئيس الوزراء، واللواء محمود أبو وطفة وكيل وزارة الداخلية، واللواء بهجت أبو سلطان مدير جهاز الأمن الداخلي. وقد تحدثت أوساط فلسطينية من غزة، أن هذه الشخصيات تحديدًا كانت منخرطة بشكل فاعل منذ بداية الحرب في مواجهة عصابات سرقة المساعدات وفي تأمين حاجيات الناس ورعاية مصالحهم. فيما ربطت صحيفة هآرتس الإسرائيلية هذه الاستهدافات بالقول إن رئيس الوزراء يرى أنه للانتصار على حماس يجب استهداف لا قيادتها العسكرية فقط بل وقيادتها المدنية كذلك. رغم أن الاحتلال لم يوفّر منذ بداية الحرب أي قيادات مجتمعة في القطاع، سواء أكانت ذات صلة بإدارة شؤون القطاع على المستوى الحكومي أم لا.
كما نعت سرايا القدس، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، الناطق باسمها أبو حمزة، ناجي أبو سيف. ونعت ألوية الناصر صلاح الدين الشهيد محمد البطران قائد وحدة المدفعية وعضو المجلس العسكري في لواء الوسطى.
مستشفيات القطاع عاجزة
خلال فترة التهدئة، لم تتمكّن مستشفيات قطاع غزة من إعادة تأهيل نفسها، إذ لم يسمح الاحتلال بدخول كلّ ما يحتاجه القطاع الصحي من مستلزمات طبية، ولا بدخول آليات ثقيلة تسهم في رفع الأنقاض أو في ترميم المستشفيات التي أخرجت عن الخدمة، والتي بلغ عددها، بحسب تصريحات وزارة الصحة الفلسطينية 25 مستشفى من أصل 38.
ومع الهجوم الهائل فجر اليوم، والذي تمثّل في شنّ أكثر من مائة غارة، إضافة إلى القصف من البرّ والبحر، لم تكن المستشفيات قادرة على التعامل مع القدر الكبير من الشهداء والجرحى. وفي أحدث بيانات وزارة الصحة بلغ عدد الجرحى أكثر من 500، وعدد الشهداء مرشّح للارتفاع أكثر بسبب ضعف الإمكانيات الطبية.
إدانات للمجزرة وترحيب
في كيان الاحتلال، رحّب وزير المالية في الائتلاف الحكومي بتسلائيل سموتريتش بالعودة إلى الحرب قائلًا إن العملية ستكون مختلفة عما كانت عليه الحرب قبلًا، وإنه قد تم التخطيط لها منذ تعيين رئيس هيئة أركان جديد قبل أسابيع. كما ورحب الوزير السابق في الحكومة الإسرائيلية إيتمار بن غفير بالعودة إلى الحرب، وهو الذي كان قد استقال من الحكومة قبل أشهر رفضًا لوقف إطلاق النار، قبل أن يعلن حزب الليكود اليوم عودة بن غفير للحكومة.
في المقابل، كرّرت أحزاب المعارضة الإسرائيلية ما كانت تردده منذ الأشهر الأولى من الحرب، من أن نتنياهو يرى في الجنود الإسرائيليين وفي الأسرى الصهاينة مجرّد أوراق لعب في مسعاه للبقاء في الحكم، بينما قال عدد من أهالي الأسرى الإسرائيليين في القطاع إن العودة للحرب كانت أعظم مخاوفهم، وإن ما يحصل اليوم إنما هو تضحية بحياة الأسرى المتبقين في القطاع، موضّحين أن استئناف القتال قبل استعادة باقي الرهائن، «سيكلّفنا 59 رهينة لا زال بالإمكان إنقاذهم واستعادتهم».
إقليميًا أدان رئيس الوزراء الأردني جعفر حسان العملية العسكرية الإسرائيلية، واصفًا الحرب على القطاع بأنها جريمة على الإنسانية داعيًا المجتمع الدولي لضرورة وقف الحرب. وبالمثل صدرت مواقف مشابهة عن مصر وقطر والكويت وتركيا. فيما تحدثت الخارجية الإيرانية عن مسؤولية واشنطن المباشرة عن استمرار الإبادة والتطهير العرقي في فلسطين.
وتنوّعت المواقف الأوروبية من استئناف العدوان. فقالت إيرلندا إن الغارات الجوية الإسرائيلية على غزة تثير قلقا بالغ، وقالت هولندا إن الأخبار من غزة مزعجة وحزينة ونحث جميع الأطراف على الالتزام بالاتفاقات. وتبعتهما مجموعة من الدول الأوروبية بتصريحات مقاربة.
كما قالت الحكومة البريطانية إنها كانت تأمل رؤية استدامة لوقف إطلاق النار وإنها ستسخدم أي نفوذ لديها لمحاولة إعادة فرضه، من غير أن يفوتها القول إنه لإسرائيل الحق بالدفاع عن نفسها، وإنها لن تفرض أيّ حظر للسلاح عليها.
أمميًا، عبّر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش عن صدمته من الغارات الإسرائيلية، داعيًا للعودة إلى وقف إطلاق النار. بينما حذّر المفوض العام للأونروا من إشعال الجحيم على الأرض.
كيف برّرت «إسرائيل» استئناف الحرب؟
في التصريحات التي تبعت الموجة الأولى من الغارات على القطاع، صدر عن الحكومة الإسرائيلية إن استئناف الحرب جاء بعدما «رفضت حماس مرّة تلو الأخرى إعادة مخطوفينا ورفضت عروض ويتكوف والوسطاء». في إشارة للمقترح الذي قدمه مبعوث ترامب للمنطقة ستيف ويتكوف.
لكن قبل العرض لمقترح ويتكوف من المفيد العودة إلى اتفاق وقف إطلاق النار الموقع بين المقاومة الفلسطينية وكيان الاحتلال، والذي كان من المفترض أن يتكوّن من ثلاث مراحل، تبدأ مرحلته الأولى في 19 كانون الثاني الفائت، وتستمرّ 42 يومًا، فيما كان من المفترض أن يبدأ التفاوض على تفاصيل المرحلة الثانية من الاتفاق في اليوم السادس عشر من بدء تطبيقه، إلّا أن الاحتلال ماطل حتى انتهت المرحلة الأولى من دون تفاوض حقيقي حول تفاصيل المرحلة الثانية والتي كان من المفترض أن تشتمل على إعلان وقف دائم لإطلاق النار في القطاع.
ومع انتهاء المرحلة الأولى، طالبت «إسرائيل» المقاومة الفلسطينية بالموافقة على مقترح ويتكوف، وهو المقترح الذي كان ينصّ وقتها على إفراج المقاومة عن نصف الأسرى الإسرائيليين عندها في مقابل تمديد الهدنة وتعهدٍ بالتفاوض على هدنة دائمة، مع تسليم باقي الأسرى عند التوصل لاتفاق وقف إطلاق نار دائم. قابلت حماس هذا المقترح بالمطالِبة بالعودة إلى ما كان ينصّ عليه الاتفاق الأصلي لوقف إطلاق النار، والموقّع في شهر كانون الثاني، والذي كان يشمل انسحابًا إسرائيليًا كاملًا من قطاع غزة، وفتحًا للمعابر، والتوصل إلى وقف إطلاق نار دائم. يليه بدء مرحلة إعادة الإعمار.
وهنا توجه الاحتلال نحو التصعيد فمنعَ دخول شاحنات المساعدات للقطاع، وقطع الكهرباء والماء عنه. وبدأت هنا مظاهر المجاعة بالعودة لتطلّ من جديد، إذ نفدت السلع الغذائية من الأسواق خلال أيّام. وكثّف الاحتلال من غاراته على فاستشهد مدنيون وصحفيون وعمال إغاثة.
خلال الأيّام القليلة الماضية، عاد ويتكوف بمقترح جديد، أطلق عليه اسم «إطار عمل للتفاوض على وقف دائم لإطلاق النار» ينص على إفراج المقاومة عن خمسة أسرى إسرائيليين أحياء، وعدد من الجثث، في مقابل هدنة تستمرّ خمسين يومًا يتم خلالها استئناف إدخال المساعدات الإغاثية، وتُجرى مفاوضات لبحث إمكانية تمديد الهدنة، وهنا لم توافق «إسرائيل» على هذا المقترح، وطالبت برفع عدد الأسرى الأحياء إلى 11 أسيرًا، وتسليم جثامين 16 إسرائيليًا، في مقابل هدنة تستمرّ أربعين يومًا، وتشمل كذلك الإفراج عن عدد من الأسرى الفلسطينيين وعن جثامين شهداء.
في المقابل طالبت المقاومة الفلسطينية بمجموعة من الأمور بينها تعديل عنوان المقترح ليكون «آليات عمل لوقف دائم للحرب» لتحاول عبر هذا التعديل ضمان إلزامية الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار. كما طالبت بتخفيض عدد الأسرى الإسرائيليين الأحياء الذين سيفرج عنهم في اليوم الأول من الاتفاق الجديد ليفرج في اليوم الأول عن أسير واحد هو الإسرائيلي الأمريكي ألكسندر عيدان، ومعه أربعة جثث لأسرى مزودجي الجنسية، وأن تجري هذه المفاوضات على أساس نصوص اتفاق كانون الثاني الماضي، التي تضمنت ثلاث مراحل، تتضمن مرحلته الثانية التفاوض على وقف دائم لإطلاق النار. كما طالبت بأن يتم إعادة فتح المعابر لدخول المواد الغذائية وغيرها، قبل أن يجري تسليم الأسير الإسرائيلي والجثامين الأربعة.
هنا أعلن المبعوث الأمريكي أن حماس هي من ترفض الموافقة على وقف إطلاق النار، قبل أن يعود البيت الأبيض للتصريح مساء اليوم بالقول إن حماس اختارت الحرب برفضها إطلاق الرهائن. في تجاهل لكل ما تمّ الاتفاق عليه من قبل، وللخروقات الإسرائيلية للاتفاق الموقع والذي كانت الولايات المتحدة أحد ضامنيه.
في هذه اللحظة لا يبدو من الواضح مستقبل هذا العدوان، خاصة مع تصريحات وزير الخارجية الإسرائيلي من أن الهجوم على غزة ليس ليوم واحد وإنما سيستمر خلال الأيّام المقبلة، من دون تحديد كم عدد هذه الأيّام. لكن الواضح الآن أن المجزرة مستمرّة، وأعداد الشهداء مرشّحة للارتفاع مع كل دقيقة.