قبل سنوات، تعاقد فخري أبو دياب، وهو أحد سكان حي البستان في القدس ويعيش فيه منذ ولادته عام 1962، مع أحد المهنيين لإصلاح تمديدات الصرف الصحيّ تحت منزله. وخلال الحفر استدعى العامل أبو دياب على عجل وأشار إلى ما وجده: نظام تمديدات صرف صحي فخاريّ موجود أسفل البيت منذ عهد الانتداب البريطاني على فلسطين.
وبهذا ليس البيت فقط، وإنما التمديدات الصحية المخصصة لنقل فضلات أهله كانت موجودة هناك قبل أن تُوجد دولة الاحتلال وقوانينها التي ستعتَبِر البيت بلا رخصة بناء، وبالتالي يجب هدمه. وهو ما حصل بالفعل في شباط من سنة 2024 وهي السنة التي شهدت، أكثر من أي سنةٍ سبقتها، أكبر عدد عمليات هدم بيوت في الضفة والقدس وتهجير سكّان هذه البيوت منها.
حي البستان جزءٌ من بلدة سلوان المجاورة لأسوار المسجد الأقصى، بنيت منازله الـ116 على مساحة 70 دونمًا قبل وبعد احتلال القدس سنة 1967، ويسكنه اليوم 1550 مقدسيًّا. ورغم محاولات أهالي الحيّ منذ ثمانينيات القرن الفائت الحصول على تراخيص من سلطات الاحتلال، إلّا أن هذه الأخيرة ترفض وتماطل.
في سنة 2010 توصّل أهل الحيّ إلى تفاهمات جَمّدت على إثرها دولة الاحتلال قرارات الهدم، لكنها أخلفت ما اتفق عليه سنة 2021 وسلّمت جميع مالكي بيوت الحيّ إخطارات بالهدم. يتذكّر أبو دياب عندما اجتمع عند القاضي مع خصمه مدعي عام البلدية. وقتها استرسل المدعي العام في سرد الدلائل على أن حي البستان إرثٌ تاريخي وحضاري للشعب اليهودي وأن الملك داود تجوّل فيه قبل ثلاثة آلاف عام وهو بالأساس حديقة توراتيّة، وعندما حاول أبو دياب التحدث منعه القاضي، ليدرك أن الأمر لا علاقة له بالقانون أبدًا.
اقرأ/ي أيضا:
في السنوات القليلة الماضية هدم الاحتلال تسعة بيوت في الحيّ، وبعد بدء الحرب على غزة هدم 27 بيتًا. لكن الأهالي ظلّوا إلى جوار منازلهم المهدّمة بعد ترميم أجزاء منها أو بناء غرفٍ مصنوعة من الزينكو وأخرى متنقلّة، وتمكنت عائلات أخرى من العثور على غرفة في منزلها لإيواء من هدم منزله من أقاربهم «بنعيش عشائر وحمايل وأسر كبيرة، بنكون حوالين بعض لذلك لم يغادر أغلبهم الحي» كما يقول أبو دياب الذي رمّم جزءًا من البيت وسكنه مع زوجته قائلًا: «هون ريحة أمي».
كان قانون «كمنتس» أبرز القوانين التي سنّت لتسريع عمليات الهدم وإثقال كاهل أهالي القدس بالديون والغرامات، إذ يفرض على من بنى شيئًا «مخالفًا» دفع ألف شيكل للمتر المربع في البيت المخالف، ودفع أتعاب موظفي البلدية، وبدل تصوير جوي.
وفي تشرين الثاني الفائت، جاءت سلطات الاحتلال وهدمت البيت المرمّم من جديد، وسكن أبو دياب في «كرفان»:
إن جاؤوا وهدموه ستسمع أني بنيت على بعد أمتار منه، وأنا مستعد أن أعيش في خيمة أو تحت الشجر.
– لمتى؟
– حتى أُحمل إلى المقبرة.
عقاب عائلات الشهداء
في آذار الفائت، نفذ محمد مناصرة عملية على مدخل مستوطنة «عيلي» المقامة على أراض جنوبيّ مدينة نابلس قُتِل فيها مستوطنان، واستشهد محمد في مكان العملية. وقبل أن ينتهي ذلك اليوم، كان الاحتلال قد هدم بيته في مخيم قلنديا.
في الحقيقة ليس للشهيد مناصرة بيت، البيت الذي هدمه الاحتلال مكوّن من طابقين؛ الأرضي يملكه عمّه، والثاني يملكه أبوه، وقد بنياه قبل ثلاثين سنة بعد أن اشتريا أرضًا «من شغلي وتعبي بنيناه. في ناس ساعدونا وفي ناس اشتغلوا بمصاري». يقول الأب الستيني يوسف مناصرة. يعود هذا الإجراء العقابي إلى فترة الانتداب البريطاني، يلجأ إليه الاحتلال لهدم البيوت دون الحاجة إلى أوامر قضائية أو أدلّة، بغرض معاقبة عائلة المقاوم وردع من يفكر بالمقاومة.
بعد الانتفاضة الثانية التي مارس فيها الاحتلال هذا الإجراء، شكّكت لجنة عسكرية إسرائيلية عام 2005، بنجاعة هذا الإجراء في ردع المقاومة، وتحدثت عن أنّ أضرارها أكبر من نفعها، بسبب الكراهية التي تولّدها، فأوقف الجيش هذه السياسة لكنه عاد لها عام 2014 بعد عملية خطف وقتل ثلاثة مستوطنين.
في يوم تنفيذ الشهيد مناصرة للعملية جاءوا إلى بيت عمه وأبيه وأخذوا قياسات البيت ووضعوا علامات التفجير: «ما أعطونا أي أخطار ولا تهديد، كنت في البيت لما أجوا بالليل طلعونا وبلشوا يجهزوا فيه للتفجير»، يقول والد الشهيد.
هكذا فجر البيت، وانتقلت العائلة المكونة من سبعة أفراد للعيش في بيت صغير مستأجر في المخيم.
بشكل عام يلجأ الأقارب والجيران ومؤسسات أهلية إلى مساعدة صاحب البيت المهدّم، مثل جمع مبلغ من المال، أو المساعدة في رفع أنقاض البيت، تلقى مناصرة بعض المساعدة لكنه يقول أمام حجم خسارته الكبيرة «عالفاضي شو بدها الناس تساعد تتساعد».
بشكل عام، تضاعف عدد المباني التي هدمها الاحتلال في المنطقتين ألف وباء، والخاضعتين لحكم السلطة الفلسطينية، عشر مرّات خلال العام 2023 مقارنةً بالسنة التي قبلها، وفي السنة الماضية 2024 تضاعفت الأعداد مجددًا ثلاث مرات.
ومنذ بدء الحرب على غزة، شهدت مخيمات شمال الضفة الغربية، طولكرم ونور شمس وجنين عمليات هدم واسعة للبيوت. وقد وصل عدد البيوت المهدمة في مخيمي طولكرم ونور شمس منذ بدء الحرب إلى نحو 30 بيتًا، أمّا البيوت المهدمة جزئيًا فبلغت نحو 500 بيت. يقول فيصل سلامة مدير لجنة خدمات مخيم طولكرم إن هناك نوعًا من عمليات الهدم تقوم فيها آليات الاحتلال خلال الاقتحام بتخريب أجزاء من البيوت مثل هدم واجهات المنازل وجدرانها وتدمير الأثاث ومحتويات المنزل، وبسببها يصير البيت غير صالحٍ للسكن ويضطر أهله إلى النزوح إلى مكان آخر.
في جنين مؤخرًا، أطلقت «إسرائيل» عمليةً أسمتها «السور الحديدي» اجتاحت المدينة بالآليات العسكرية، وتسببت بنزوح قرابة ألفي عائلة بحسب الأونروا، كما هدمت أكثر من 100 منزلًا ومنشأة.
المنطقة (جيم): استيطان أكبر، وهدم أكثر
من العمل في مزرعة ورثتها عن عائلتها، بالقرب من قرية الفندق شرق قلقيلية في الضفة، تنفق أم آدم على أطفالها وأختيها وأمّها. وقبل قرابة 35 عامًا، وبعد العمل لسنوات كعامل مياومة، استطاع والد أم آدم البناء على دونم واحد في أرض من أربعة دونمات، بنى غرفة معيشة وحمّامًا وساحة وبيتًا بلاستيكيًا زراعيًّا وبئرًا وخزّان مياه وبركسًا لتربية الدجاج والحمام لتعيش العائلة منها.
أمّن العمل بالمزرعة عيشة مقبولة للأخوات الثلاث، ولم يحتجن إلى معونات من أحد. لكن قبل أسبوعين اتصلت قوات الاحتلال بأم آدم وقالوا إن معها مهلة من 72 ساعة لتفكيك كل شيء في المزرعة لأنها مخالِفة لأوامر البناء. اتفقت مع عمّال بناء لتفكيك جزء من البيت البلاستيكي، وقالوا لها نكمل غدًا، وفي الغد قبل دوام العمّال جاءت جرافات الاحتلال لتهدم مصدر رزق عشرة أنفار دون أن يلتفت سائقوها لتوسلات الأم وهي تعرض صور شقيقتها المقعدة وتشرح لهم أنها تنفق عليها، لكنهم هدموا كل شيء بما فيه محصول البندورة.
تقع أرض أم آدم في المنطقة جيم من الضفة الغربية، وتبلغ مساحة هذه المنطقة حوالي 61% من مساحة الضفّة، وتقع تحت السيطرة المباشرة للاحتلال الذي يمنع البناء في الجزء الأكبر منها بحجّة وجودها ضمن تصنيف «أراضي دولة» أو «أراضي مسح» أو «مناطق إطلاق نار» أو«محميّات طبيعية» أو«حدائق وطنية» وترفض معظم طلبات استصدار رخص البناء فيها، سواء لبناء منازل أو مبانٍ زراعية أو مبانٍ عامّة أو مرافق البنية التحتيّة.
ليست تصنيفات الاحتلال للأراضي ثابتةً، قد يبنى بيتٌ في مكان في هذه المنطقة ويعد مرخصًا، ويبنى إلى جواره بيت أو مزرعة وتصنف بالمخالفة. عرضت أم آدم على سائق جرافة الاحتلال رخصة بناء الغرفة الملحقة بالمزرعة، لكنه لم يعبأ بها، وهدم الغرفة بما تحويه من أثاث، بحجّة أن الأرض تقع على شارع سيفتح من هناك، وأم آدم لا تقنعها هذه الحجج: «هدموهن عشان يرضوا المستوطنين، يرضوهم على حسابي ومن كيس خواتي وكيس أمي».
تشهد هذه المنطقة عمليات هدم مبانٍ أكثر من المناطق الأخرى في الضفة والقدس، وتأخذ في بعض الأحيان شكل تهجير للسكان في محيط المدن، وتحديدًا في التجمعات البدوية، وقد تضاعف عدد المباني والمهجرين منها السنة الماضية عن السنة التي قبلها.
اقرأ/ي أيضا:
انتقلت النساء وأولادهن إلى بيت تملكه العائلة في قرية الفندق والآن يعشن فيه دون معيل، ولم يتلقين مساعدة من أحد، «والله لحد الآن ما أجا حدا قلي شو لازمك يا أم آدم».
في القدس خاصة، يرهق الاحتلال أصحاب البيوت التي يعدها مخالفة بالغرامات المالية، وعندما يأتي موعد الهدم يخيّرهم ما بين أن تهدم سلطات الاحتلال بيوتهم ويدفعوا تكاليف الهدم أو يهدموا بيوتهم بأيديهم.
دفع أبو دياب قرابة 30 ألف شيكل في المرة الأولى التي هدم فيها بيته، و28 ألف شيكل في المرة الثانية، بالإضافة إلى غرامات من سنوات سابقة ووصل مجموع ما دفعه قرابة نصف مليون شيكل، ومع ذلك يرفض هدم بيته بيده لأنّه لا يريد -كما يقول- أن يكون مِعولًا بيد الاحتلال، والأهم ألا يظهر أمام أولاده وأحفاده وهو يهدم البيت ويصير هو العدو بنظرهم، ولا يريد أن يظهر أمام العالم كمقدسي يهدم بيته بيده حتى لو كلفه ذلك كل ما يملك.