«إسرائيل» والأزمة الدائمة

الإثنين 26 أيلول 2022
أزمات إسرائيل
جنود الاحتلال في محيط قرية كفر قدوم. في 23 أيلول 2022. تصوير جعفر اشتية. أ ف ب.

تمنحنا قراءة الصهيوني لنفسه مادة زخمة للمعالجة والقراءة والتأويل، خاصة وأنه دومًا ما يتحدث عن أزمات وجودية تواجهه. فمن جهة، يعبر هذا الخطاب عن توافر عوامل أزمات حقيقة، لكنه في الوقت نفسه يعبر عن قدرة العدو على بناء معجم مرتبط بتلك الأزمات، أي فهمها وتأطيرها ومحاولة بناء تدخلات لعلاجها. بل يمكن القول إن التواجد في حالة أزمة دائمة هو أحد العوامل الهامّة في بناء مجتمع يوظف حالة ضيق النفس والشّدة في استدامة ذاته، بل أيضًا في بناء اقتصاد مرتبط بالأزمات: الأمن والأسلحة والاستخبارات والرقمنة وغيرها.

هنا، لا يمكن أن يقتصر تحليلنا على شكل وطبيعة الأزمات التي تواجه الاحتلال. فعلينا كذلك النظر للأزمة كبناء وظائفي، أي رؤية دورها في بناء الكيان واستمراريته، وأيضًا كمنظومة خطابية ومؤسساتية ولغوية وحتى أدبية-فنية وثقافية تتسلل إلى غالبية الجوانب الممكنة من حياة المستِعمر في بلادنا. 

بين القوة والضعف

كل عام، تُعقد المؤتمرات الأمنية والاستراتيجية عند العدو، والتي عادة ما تكون تنافسًا في فن تعريف الأزمات والتحديات، أي مبارزة لغوية-سياسية، وربما حتى مزايدة، في تحديد مواقع «الضعف». ليس الهدف من ذلك مجرد نشر الخوف بين صفوف المجتمع الصهيوني، حتى لو كان الخوف مهمًا في بناء متطلبات التضحية المادية والجسدية، وتشييد الأنا الصهيونية التي تصارع على البقاء في محيط معادٍ. بل هو مهم لأن ما يميز هذه الطبقة الأمنية وخطابها السياسي هو قدرة أفرادها على ادعاء مجابهة الحقيقة كما هي، أو بالاحرى تسليط الضوء على الحقيقة التي يرونها، بحيث تصبح التقييمات الاستراتيجية والسياسية الصادرة عن رؤساء الأجهزة الأمنية والشبكات النخبوية المرتبطة بالأمن والجيش هي نفسها موقعًا هامًا في بناء الشخصية القيادية العسكرية والأمنية: قادة يلتقون بالواقع العاري، ويعودون أنضج وأقدر على تقديم قراءة موضوعية غير «رغبوية» لهذا الواقع. 

يكمن أحد عناصر قوة العدو في أنه لا يخاف من الحديث حول مكامن الضعف، بل يسلط الضوء عليها بشكل يبدو هوسيًا أحيانًا، على قاعدة أنه لا يمكنك النجاة وسط محيط عدائي دون هذا الهوس بمكامن الضعف. تحيل هذه البارانويا إلى كل المخاطر الخارجية وكل الإشكاليات الداخلية النابعة من علاقة الدولة بالمجتمع الصهيوني، اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا واجتماعيًا. أي أنها بارانويا الفناء التي تولد البقاء، وهوس بمُحركات الموت التي تولد قدرة أكثر على الحياة. 

المفارقة طبعًا هي أن المجتمع الصهيوني نفسه خلق معادلة صفرية مفادها إما أنتم أو نحن. ولهذا تحديدًا، فقد سبق الفلسطيني والعربي في تحويل الأزمات إلى فضاء لإيجاد حلول تعزز من ديمومته. لذا، يصبح أي شيء في أيديولوجيا هذا الكيان «خطرًا وجوديًا» أو يشارف على كونه وجودي. 

كل عام، تُعقد المؤتمرات الأمنية والاستراتيجية عند العدو، والتي عادة ما تكون تنافسًا في فن تعريف الأزمات والتحديات، أي مبارزة لغوية-سياسية، وربما حتى مزايدة، في تحديد مواقع «الضعف».

أحيانًا، تبدو القراءة العربية لتلك القراءة الصهيونية الذاتية أحادية، بمعنى أننا نرى ونستمع لحديث الصهيوني عن نفسه وننتشي، بل ربما نستحضر من هذا الحديث لبث الأمل أو إبظهار فعاليتنا وأثر فعلنا عليه، أو لخلق رؤية مستقبلية لا يوجد «إسرائيل» فيها. كل ذلك مشروع، لكن هذه القراءة الأحادية تبقى إشكالية، فهي تتشدق بمفهوم بدائي وثنائي (وذكوري) عن القوة، تكون القوة فيه نقيض الضعف. 

لنأخذ خطاب رئيس الشاباك، رونين بار، الأخير في مؤتمر هرتسليا للسياسات الاستراتيجية في جامعة رايخمان، الذي أكد فيه على أن استعادة المبادرة لدى قوى المقاومة في العديد من الملفات والجغرافيات، بما فيها في الضفة الغربية ولبنان وغزة، يرتبط برؤية تلك القوى لضعف متزايد عند العدو، بل في شعور تلك القوى بأن التفوق العسكري الإسرائيلي النسبي لم يعد كما كان، وبالتالي يُمكن مواجهة هذا العدو بشكل أكثر جرأة. 

يشير رئيس الشاباك أساسًا إلى الإشكاليات المتزايدة في المجال السياسي الصهيوني: أكثر من خمسة انتخابات في أربع سنوات، وحالة من الخراب السياسي في دولة لا تنتظم فيها «الحرب الأهلية السلمية» ولا تؤدي إلى استقرار سياسي. علينا ألا ننسى أن هذا التخبط متاح ومباح جزئيًا لأن هناك مؤسسات اقتصادية وعسكرية مستقلة إلى حد ما وقادرة على إعطاء السياسيين فرصة خوض حروبهم وصراعاتهم الشخصية والسياسية، أي اللهو قليلًا ضمن فسحة الراحة التي تمنحها قوة الاقتصاد والجيش. لذا، يأتي هذا الخطاب ليوجه رسالة مفادها أن الفشل في السياسة له أثره على أرض المعركة، وأن التخبط والترنح عليه أن يتوقف. إنها دعوة لإيجاد مكامن الوحدة في ظل تزايد التآكل والتخبط والفرقة السياسية الداخلية. 

الجانب الثاني لفهم هذا الخطاب يكمن بالكيفية التي نفهم بها «القوة» نفسها. فقوتك هي أيضًا مقياس لعجزك النسبي، وفكرة القوة ترتبط ارتباطًا مباشرًا بمدى ضعفك أو شعورك بالضعف. لذا، فالقوة ليست غياب الضعف، بل رد فعل عليه؛ إنها الإرادة والفاعلية التي نستحضرها في مواجهة الضعف. بالتالي، يرتبط مفهوما الإرادة والفاعلية بالأمور التي لا نملك سيادة أو وكالة كافية عليها، أي أن الفعالية والإرادة ترتبطان بعلاقة حميمية مع ما لا نتحكم فيه؛ مع أمور تحتاج منا تدخلًا إضافيًا أو إرادة أكثر؛ مع أمور تشكل لنا تحديًا أو نقطة ضعف. هنا، يمكن فهم خطاب رئيس الشاباك على أنه أيضًا رسم لحدود قدرة «الفاعل» الأمني على التحكم في المجال السياسي الإسرائيلي المتأثر بالتخبط الراهن. فهو لا يملك سوى أن يقول إن علينا أن نرتب البيت الإسرائيلي، دون قدرة جادة على معالجة أزمة الانتخابات والحروب السياسية القبلية والإثنية في المجتمع الصهيوني. بتعبير آخر، نحن أمام خطاب أمني موجه للفضاء السياسي يقف على مسافة من هذا الفضاء، وفي الوقت ذاته هو عاجز عن حل ما يُشخصه. 

من جهة أخرى، يمكن رؤية هذا الخطاب على أنه يعول دومًا على ما هو «ناقص» أو مفقود رمزيًا. فمنذ نشأة الكيان، كان دومًا يعيش غمار الخوف من التلاشي مهما بلغ من قوة، وهو ما زال يعيشه. وهذا الخوف يحتاج إلى مزيد من الإرادة والتدخل والمُعالجة. بالمعنى التقني للكلمة، «إسرائيل» دومًا تجد ما ينقصها، أي أنها أنطولوجيًا دومًا بحالة من عدم الاكتمال، دون «قاعدة» أو «أرض» ترتكز عليها، ودون بناء تأسيسي يمنحها «الاستقرار» مع نفسها. لهذا، تخدش نفسها قبل أن يخدشها الآخرون. ولكنها أيضًا تُكابر عندما يتم خدشها فعلًا. فهي مثلًا تقدم انسحابها من لبنان على أنه إعادة تموضع أمني، وتقدم خروجها من غزة على أنه فصل مكاني ساهم في حماية أمن الدولة، وتُقدم حاجتها إلى وكيل أمني في الضفة على أنه عبقرية سياسية، بل تقدم عدم إقدامها على الدخول في حرب أخرى مع المقاومة في لبنان على مدى أكثر من 16 عامًا على أنه ردع للمقاومة، لا نهاية لشجاعة سابقة كانت لا تتردد معها بالدخول في معارك عسكرية مختلفة. بل بات تجنب دخول بعض المعارك يتحول إلى هدف بحد ذاته.

مقابل هذا الاتفاق على التقليد الإسرائيلي في الإضاءة على الأزمات، هناك اختلاف في شكل معالجة هذه الأزمات. فرغم إمكانية تعريف الأزمة إسرائيليًا، ما تزال الأدوات المتاحة لعلاجها قاصرة، وجميعها تطلب قرارات كبيرة ذات حزم وجزم. 

أزمة المتعاون القاصر 

الهوس بالمخاطر ومكامن الضعف كما سبق وأوردنا هو نظرة أيديولوجية دائمًا ما ترى الخطر حتى في من يتعاون معها، فحتى المتعاون هو «عدو مُتخفٍ بثوب صديق». لا توجد صداقة في المعجم الصهيوني، خاصة مع المحيط العربي، فقط يوجد عداء: قد يكون هذا العداء كامنًأ أو ظاهرًا؛ مؤجلًا أو تاريخيًا؛ ساخنًا أو باردًا. لذا، بطبيعة الحال لا يمكن للعدو أن يرتاح حتى عندما يجد «مكامن كافية من الراحة». 

يترافق مع الخطابات المتزايدة حول خطر التخبطات السياسية الداخلية، خطاب متزايد حول قصور السلطة الفلسطينية عن القيام بدور الجيش الأصلاني المتعاون، أي أن تكون السلطة جيش العدو في المناطق الفلسطينية. هذا التهافت على «نبذ» أداء السلطة بين قادة العدو وفي الإعلام الصهيوني، وإظهار عدم قدرة الأخيرة على مواجهة ظواهر المقاومة الناشئة في شمال الضفة الغربية، يعمل على إعداد المجتمع الصهيوني لفكرة مفادها أن الجيش الإسرائيلي واستخبارته فقط يمكنهم تحييد هذا الخطر المتعاظم في شمال الضفة الغربية، وفي الوقت نفسه تغذية نظرة «استحقار» للسلطة كمتعاون قاصر، وفاسد، يمثل أسوأ نزعات الفلسطيني والعربي في المخيال الصهيوني، أي الترنح بين كون العربي شخصية شيطانية وكونه غير كفؤ حتى في التعاون. 

الهوس بالمخاطر ومكامن الضعف هو نظرة أيديولوجية دائمًا ما ترى الخطر حتى في من يتعاون معها، فحتى المتعاون هو «عدو مُتخفٍ بثوب صديق».

من جهة أخرى، تأتي هذه الموجة من الانتقادات للسلطة والضغوطات عليها للعب دور أكثر حيوية في محاربة بؤر المقاومة المتشكلة شمال الضفة الغربية، في ظل تخوف من توسع دائرة الاشتباك في الضفة بحيث تخرج الأمور عن السيطرة. يظهر هنا إذن هذا التوتر ما بين حاجة الاحتلال للسلطة، وسعيه لإتمام المهمة لوحده؛ بين ثقته في قواته، واستدعائه لقوى أخرى. فهذا الخطاب يسعى لإحالة هذه الظاهرة المقاومة لقصور فلسطيني فقط، وليس لقصور السياسات الأمنية-العسكرية التي أنتجها الاحتلال. فبكل بساطة، اختار العدو مثلًا رفع مستوى المواجهة إلى اغتيال مباشر بحق العديد من الشبان المنخرطين في المقاومة، في سياقات افتقدت حتى لاشتباك بالنيران بين المقاومين وبين قوات الاحتلال، ظانًا أن هذا التعاطي الدموي سيخلق ما يكفي من ردع وسيحصر دوائر الانضمام للمقاومة. يمكن أن يفضي إرسال رسالة الدم أحيانًا إلى توقف بعض ظواهر المقاومة، لكن رفع المستوى المواجهة سريعًا يؤدي إلى تشكل أمواج أكبر. فكما صرح رئيس الشاباك في مؤتمر هرتسليا، وقعت أكثر من 130 عملية إطلاق نار في الضفة الغربية هذا العام، بزيادة حادة عن 98 عملية في عام 2021 و19 عملية في 2020.

ما حصل كان معاكسًا تمامًا لتوقعات الاحتلال الأولية. بدأت المقاومة بالتوسع الدائري حتى بعد احتدام الدم، وبدا وكأن كل عملية اغتيال تؤدي إلى توسع شبكات المقاومة، ومعها إرادة المقاومة في مناطق أوسع من شمال الضفة الغربية. لذا، بدأ الاحتلال بتصدير هذا «الفشل النسبي» بإلقائه على كاهل المتعاون القاصر، خاصة في منطقة جبل نابلس، التي تلتحم بالاستيطان وتشكل خطرًا على صيرورة الحياة اليومية للمستوطن في المنطقة. التقديرات الإسرائيلية تتحدث عن أكثر من 200 مقاوم في نابلس، وعن دخول المتفجرات ميدان المقاومة في شمال الضفة الغربية، أو بالحد الأدنى محاولات إدخالها. 

بالطبع، تريد «إسرائيل» تدخل السلطة، بل تسعى لذلك، لأن مواجهة داخلية مباشرة كهذه سترهق المجتمع الفلسطيني، وتحميها من نيران المقاومة وإمكانياتها المتعاظمة. بل بدأت بعض أوراق مراكز الأبحاث الصهيونية تتحدث عن تسليم شمال الضفة الغربية بالكامل للسلطة الفلسطينية، أي توقف عمليات الجيش الإسرائيلي في تلك المناطق، مقابل استلام السلطة؛ أي تصدير الأزمة كحل للأزمة، بحيث تتحول إلى ازمة داخلية فلسطينية. 

قبل ست سنوات، حاول البعض من داخل الأجهزة الأمنية الاسرائيلية الحديث عن «اقتلاع جذور» المقاومة في الضفة الغربية والقدس، بينما نجدها اليوم تكافح من أجل «تكسير أمواج» المقاومة. وبدلًا من ذلك، يبدو أن تلك الأمواج تكبر وتتعاظم فاتحةً على العدو خيارات صعبة، وواضعةً إياه في موقع يحتاج فيه إلى لوم الآخرين على فشله النسبي، واستحضار آليات جديدة في معركته التي يخوضها في الضفة الغربية. 

أزمة ترسيم الحدود البحرية مع لبنان

الأغرب ليس خطاب العدو حول السلطة الفلسطينية -المتعاون القاصر وغير الكفؤ- بل خطابه المفصوم بشأن ملف الحدود البحرية مع لبنان. فهو من جهة بنى سياسته الحالية على درء المواجهة مع لبنان، عقب تهديدات المقاومة بضرب منشآت الغاز الاسرائيلية في حال لم يحصل لبنان على حقوقه المائية ومقدراته الغازية والنفطية. ومن جهة أخرى، سعى في خطابه الإعلامي إلى تقزيم دور تهديدات المقاومة في تسريع حل ملف الحدود البحرية. أي أنه يريد تجنب المواجهة، وبالتالي التوصل إلى اتفاق وتقديم بعض التنازلات، وفي الوقت ذاته لا يريد أن يُظهِر أن مناورة المقاومة في لبنان، وتلويحها باستخدام القوة العسكرية، استطاعت خلق ما يكفي من إرادة سياسية لحل قضية الحدود البحرية. 

بالفعل، أصبح تجنب المواجهة ونزع فتيل دخول المقاومة في المواجهة العسكرية بحد ذاته هدفًا سياسيًا صهيونيًا، لتُقدَّم أزمة العجز (النسبي) عن توظيف القوة العسكرية على أنها سياسة محنكة تهدف إلى نزع فتيل التوتر.

فمثلًا، يُمكن للعدو أن يبدأ عملية الاستخراج من كاريش، وأن يضرب بعرض الحائط التهديدات الصادرة من لبنان. ويمكن له أيضًا أن يبادر بضربة استباقية عسكرية تستهدف الدفاعات الجوية أو بعض الأهداف التابعة للمقاومة في لبنان كما اقترح البعض في «إسرائيل»، وبالتالي قلب الطاولة على المقاومة، كما فعل في سياق استهداف الجهاد الإسلامي مؤخرًا. لكن في حالة لبنان، فإن العدو ذهب ويذهب نحو بناء سياسته على التوازن ما بين «الظهور» بمظهر القوي، وفي الوقت نفسه القبول بتأثير المقاومة على شكل ونوع وطبيعة الاتفاق المتشكل ما بين دولة الاحتلال والدولة اللبنانية. ويبدو، حسبما تفيد التقارير، أن الاتفاق ذاهب نحو تحقيق المطالب اللبنانية المرتبطة بخط 23 وبضم حقل غاز قانا برمته إلى السيادة اللبنانية (لم تتضح صورة الاتفاق حتى الآن، ولكنه أقرب إلى المطالب اللبنانية، ويتخطى خط هوف). 

بالطبع، يراهن الاحتلال على أن أفضل سيناريو ممكن في لبنان هو الواقع الاقتصادي المتأزم وتآكل اللحمة الاجتماعية وعودة الاضطرابات الطائفية، أي تحويل الأزمة نحو صراع داخلي لبناني لا يدفع فيه الاحتلال أي أثمان؛ أي مرة أخرى، حل الأزمة من خلال تصديرها، أو حلها بالتعويل على فاعلين آخرين. 

أزمة الاتفاق النووي

بينما يناور العدو في لبنان من خلال تأجيل وتصدير الأزمات، فإنه يبدو أكثر ضعفًا في التأثير على مجرى الاتفاق النووي مع إيران. فالاستثمار الهائل في توسيع رقعة الاستهداف داخل إيران، ونجاح دولة الاحتلال في القيام بعمليات اغتيال وتخريب استهدفت في السنوات القليلة الماضية مستويات مختلفة من الشخصيات الإيرانية، لم يترجم إلى نفوذ حقيقي في صياغة شكل الاتفاق النووي، أو حتى خيار الذهاب نحو اتفاق نووي من عدمه. 

عانت دولة الاحتلال من سوء توظيف أدواتها الاستخبارية والعسكرية في مجال سياسي يحتاج إلى تعاون أطراف مثل الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي وغيرهما. وأصبحت العمليات الإسرائيلية بمثابة إعلان كفاءة في مضمار الأمن، وإعلان تخبط في مضمار السياسة. فما بين تبدل رؤساء الوزراء (ثلاثة في خمس سنوات)، وما بين توظيف الملف النووي في صراعات انتخابية داخلية، أصبح الملف النووي الإيراني دلالة متعاظمة على وهن نسبي في قدرة «إسرائيل» على تحويل الضربات التكتيكية إلى تأثير سياسي فاعل.

لا شك أن سياسات «إسرائيل» كان لها أثر سلبي على إيران، فهي أقنعت ترامب بالخروج من الاتفاق النووي وتشديد الحصار المالي والاقتصادي على إيران، ووسعت رقعة ضرباتها وشكلها ومداها في الداخل الإيراني. ولكن إيران لم ترضخ، بل جعلت من السنوات الماضية فرصة لاستمرار «صبرها الاستراتيجي»، واستمرت في تخصيب اليورانيوم وتوسعة مداه، بحيث أصبحت خبراتها وما تمتلكه من مواد مخصبة أقرب من أي وقت مضى من القدرة على بناء قنبلة نووية، بل جعلت أي اتفاق يمكن أن يُوقّع اليوم أفضل بكثير مما كان ممكنًا في السابق. 

خرجت الولايات المتحدة من الاتفاق النووي واغتالت الجنرال قاسم سليماني، ولكنها لم تستطع، لا هي ولا «إسرائيل»، تخريب البرنامج النووي أو تأخيره بشكل كافٍ. كل ما حققته هو أنها وضعت إيران في موقع تفاوضي أفضل، خاصة وأن هذا الاتفاق يأتي في ظل ارتباط مصالح الولايات المتحدة بتنافس متعاظم مع الصين وروسيا، وتوتر عسكري في مناطق أخرى، خصوصًا تايوان وأوكرانيا. كما أنه يأتي في ظل حاجة أوروبا إلى مزيد من المحروقات وتحديدًا إلى الغاز، الذي تشكل إيران أحد أهم مصادره في العالم، وبعد أن عززت إيران من علاقاتها الاقتصادية مع الصين وروسيا وغيرها من دول الشرق.

لم يُوقع الاتفاق النووي حتى الآن، ويبدو أن القرار الوحيد الهام في هذا الشأن هو قرار القيادة الإيرانية تحديدًا لأنها ليست على عجل، وتكسب كل يوم خبرة وتطورًا في برنامجها النووي. يذكر تقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الصادر أوائل أيلول أن إيران تمتلك ما يقارب 55.6 كيلوغرامًا من اليورانيوم المخصب بنسب تصل إلى 60%، وهي كمية كافية لصنع قنبلة ذرية واحدة. وبطبيعة الحال، إيران وصلت مرحلة من الخبرة تمكنها من الوصول إلى العتبة النووية خلال أسابيع، بحسب العديد من التقارير المبنية على تقديرات مختلفة. 

لكن إيران تواجه إشكاليات أيضًا. فإن أجلت وصولها إلى العتبة النووية من خلال توقيع اتفاق نووي، فهي تمنح مساحة وزمن إضافيين لاستهدافها العسكري المباشر، بعد انتهاء فترة الاتفاق الحالي أو خلالها، دون غطاء نووي يحميها، خاصة بعد أن تهدئ بعض مناطق التوتر الأخرى، أي الحرب في أوكرانيا تحديدًا. وإن رفضت توقيع الاتفاق فستضطر إلى تحمل العواقب الاقتصادية، والأهم أثر هذا الرفض على توجهات السياسة الأمريكية، خاصة احتمالية تفعيل «الخيار العسكري» الأمريكي لضرب البرنامج النووي

هذا لا يعني أن «إسرائيل» لا تُعد لضربة عسكرية تنال من البرنامج النووي، أو أن خطة كهذه لم تصل إلى مراحل متقدمة، دون التعويل على القرار أو الإمكانيات الأمريكية. ولكننا أمام تأجيل للأزمة بالحد الأدنى، وظهور شقوق في السياسة الإسرائيلية التي انتهجتها منذ أعوام قليلة ماضية. فـ«إسرائيل» باختصار لم تستطع وقف البرنامج النووي، رغم إصرارها على توظيف نفوذها في واشنطن لإخراج الولايات المتحدة من الاتفاق. 

يمكنك استخدام علاقتك مع ترامب لإخراج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، ويمكنك تفعيل العديد من العمليات الاستخبارية والعسكرية، من اغتيالات وجمع معلومات وحملات تضليل. لكن في النهاية، السؤال السياسي الأهم هو: هل حققت ما أردته؟ هل توقف البرنامج النووي؟ 

خاتمة

ما سبق هو جزء فقط من الأزمات التي تعاني منها دولة الاحتلال، والتي تنبع من بطء استكمال ما بدأه المستعمِر الأول، أي الحسم الديمغرافي في الضفة الغربية، ومن التباطؤ في مواجهة العدو الخارجي وما يحمله من قوة رادعة، بالأخص محور المقاومة والبرنامج النووي الإيراني. 

وبالتوازي مع ذلك، يعيش الكيان راحة اقتصادية نسبية تجعل القرار السياسي فيه محصورًا في ملفات محدودة. فتضخم المعارك السياسية الداخلية يرتبط أساسًا بتقلص الخيار السياسي إلى مستوى «الشخصية»، أي الخيار بين نتنياهو ولابيد، وهو ما لا يعني الكثير في القضايا العسكرية والاستراتيجية، ولا يعني الكثير أيضًا على مستوى السياسات الاقتصادية. 

في هذا الإطار، تختبر «إسرائيل» حدود قوتها وإرادتها في العديد من المواقع والساحات والملفات. لذا، وعلى عكس ما قاله رونين بار، فإن الأزمة ليست في السياسة فقط.

Leave a Reply

Your email address will not be published.