«إما نحن أو هم»، يقول وزير الحرب الإسرائيلي السابق بيني غانتس في أعقاب عملية «الوعد الصادق 2» التي أطلقت فيها إيران على «إسرائيل» مطلع الشهر الجاري قرابة 200 صاروخ طالت عمق الأراضي المحتلة، معتبرًا أن إيران تخطت الخطوط الحمراء مرة أخرى، داعيًا «للعمل بقوة لضربها».
أما رئيس وزراء الاحتلال بنيامين نتنياهو فصرّح أن «طهران ستدفع الثمن»، ثم عقد مع وزرائه وقادته الأمنيين والعسكريين سلسلة اجتماعات لبحث نوعية الرد وحجمه وأهدافه، إلى جانب اتصالات ومناقشات حول طبيعة الرد مع الإدارة الأمريكية التي عبّرت عن «دعمها الكامل» للاحتلال للرد على إيران. في الأثناء، كثرت التوقعات حول خيارات الاحتلال والأهداف المحتمل استهدافها في إيران، من ذلك استهداف منصات إطلاق الصواريخ، أو مواقع عسكرية واستخباراتية وقيادية، أو بنى تحتية نفطية، وهو ما شجع عليه زعيم المعارضة الإسرائيلية يائير لابيد معتبرًا أن «منشآت النفط هي نقطة ضعف إيران»، وهو ما أثار قلق مسؤولين أمريكيين من احتمالات رد إيراني لاحق يطال حقول النفط في الخليج.
إلى جانب الخيارات السابقة، طرح مسؤولون إسرائيليون خيار استهداف المنشآت النووية الإيرانية، وكان من بين الداعين له رئيس وزراء الاحتلال سابقًا نفتالي بينيت مطالبًا بتدمير البرنامج النووي الإيراني وتوجيه ضربة قاتلة لقيادات إيران واقتصادها معتبرًا أن هذه «فرصة لن تتكرر». من جهتها أعلنت منظمة الطاقة النووية الإيرانية تأمين المنشآت النووية ضد أي هجمات محتملة، أمّا الولايات المتحدة فأعرب رئيسها جو بايدن عن وجوب أن يكون الرد الإسرائيلي «متناسبًا» مع الهجمة الإيرانية، فيما قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن إن بلاده تريد من «إسرائيل» تجنب خطوات قد تؤدي لتصعيد جديد من قبل الإيرانيين، ومع ذلك، لم تستبعد حكومة الاحتلال هذا الخيار حتى الآن. لكن، في حال اتخذت الحكومة الإسرائيلية هذا القرار، فهل يستطيع الاحتلال وحده -بدون انخراط مباشر من الولايات المتحدة- تدمير المنشآت النووية الإيرانية جويًا؟ وإلى أي مدى يمكن أن تؤثر ضربات جوية إسرائيلية في البرنامج النووي الإيراني؟
ثمة العديد من العوائق التي قد تَحول دون قدرة الاحتلال وحده على تدمير البرنامج النووي الإيراني، منها توزيع المنشآت النووية في أماكن متفرقة في بلاد مساحاتها واسعة أساسًا إذ تبلغ مساحة إيران حوالي مليون وستمائة ألف كيلومتر مربّع وتحصينُ معظم مواقع المنشآت النووية وعلى مستويات متعددة من الحماية، بدءًا من بناء بعض المصانع والبنى التحتية النووية على عمق كبير تحت الأرض يصل إلى عشرات الأمتار كما هو الحال في محطة نطنز النووية المحاطة في جانب منها بالجبال والتي تعد واحدة من أهم المواقع النووية لتخصيب اليورانيوم في إيران، والتي يعُتقد أنها تضم مباني تحتوي أجهزة للطرد المركزي تحت الأرض، والحال نفسه ينطبق على محطة فوردو للتخصيب -ثاني أهم منشأة نووية- إذ تم بناؤها في قلب جبال تحيط بها صحارى إيرانية.
بالإضافة إلى ذلك، تخضع المنشآت النووية لحراسة فيالق من الحرس الثوري الإيراني، كما يتم حمايتها بمضادات للطيران، وهذه المضادات جزء من منظومة دفاع جوي أوسع تشكل تحديًا آخر يقف في وجه الطيران الإسرائيلي، حيث تشتمل هذه المنظومة على صواريخ اعتراضية بعيدة المدى قادرة على رصد الأهداف على بعد 400 كم وإصابتها على بعد 250 كم، بالإضافة إلى صواريخ قصيرة ومتوسطة المدى بمديات تتراوح بين 40 كم إلى 180 كم على التوالي.
ورغم أن المقاتلات الإسرائيلية كانت قد أجرت عام 2021 تدريبات تحاكي الهجوم على المنشآت النووية الإيرانية وقطع مسافات طويلة تصل إلى 1500 كم، لكن في ظل هذه الظروف الدفاعية والجغرافية المعقدة في إيران، ثمة شكوك حول قدرة سلاح الجو الإسرائيلي وحده على «تدمير» البرنامج النووي الإيراني، إذ يتطلب تنفيذ هجوم من هذا النوع -بحسب تقارير غربية- استخدام ما لا يقل عن 100 طائرة (ما يعادل ثلث الطائرات الإسرائيلية المقاتلة تقريبًا) في هجوم واسع يتضمن عددًا كبيرًا من الغارات، بالإضافة إلى توفير الحماية من أجل التوغل في عمق الأراضي الإيرانية، وأن تقطع هذه الطائرات قرابة 1500 كم للوصول إلى أقرب المفاعلات النووية، ومثلها للعودة إلى مطارات الكيان، ما يعني كذلك استنزاف كل القدرات الإسرائيلية على التزود بالوقود على الطريق.
هذا عدا عن حاجة المقاتلات الإسرائيلية لعبور المجالات الجوية لبعض الدول قد يكون من بينها السعودية والأردن والعراق وسوريا وتركيا. وفي هذا السياق، قال مسؤولون إيرانيون إن طهران أبلغت دول الخليج بأنه لن يكون مقبولًا السماح للاحتلال باستخدام مجالاتها الجوي ضد بلاده، وأن أي تحركات من هذا النوع، سواء باستخدام المجال الجوي أو القواعد العسكرية، سيستدعي ردًا إيرانيًا.
الأهم ربما هو أن تدمير المنشآت المقامة تحت الأرض بواسطة سلاح تقليدي يحتاج إلى قنابل عملاقة، على شاكلة قنابل GBU-57A/B القادرة على اختراق 60 مترًا من الأرض قبل أن تنفجر، وقد طوّرت الولايات المتحدة هذه القنبلة لتدمير منشأة فوردو النووية الإيرانية خصيصًا، وذلك بعدما شكك مسؤولون أميركيون في قدرة القنابل التقليدية الموجودة لديهم على تحقيق هذا الهدف. لا يبدو أن «إسرائيل» تمتلك مثل هذه القنبلة، لكن حتى لو كانت تمتلكها فثمة معيق آخر هو حاجة مثل هذه القنابل الثقيلة إلى قاذفات متطورة يمكنها نقل وإسقاط القنبلة (مثل طائرات بي-2 سبيريت الأمريكية)، والتي لا تمتلكها «إسرائيل» ولن تكون طائراتها من طرازات إف 15 و16 و35 قادرة على حمل هذه القنبلة.
وكان رئيس وزراء الاحتلال سابقا، إيهود أولمرت، أطلق في شباط الماضي تصريحات تتوافق مع هذه التشكيكات، إذ اعتبر أن «إسرائيل» لا تمتلك الوسائل اللازمة لتدمير البرنامج النووي الإيراني لأنها تفتقر إلى الطائرات ذات المديات الكافية: «لا تمتلك طائرات إف-35 المدى الكافي للطيران إلى إيران والعودة لأننا لا نملك ما يكفي من طائرات التزود بالوقود». بالإضافة إلى افتقار الكيان للقنابل ذات القدرة على تدمير المخابئ الجبلية خصوصًا عندما تكون على بعد عشرات الأمتار. يُذكر أن حكومة نتنياهو طلبت من الولايات المتحدة مرارًا الحصول على هذا النوع من القنابل لمساعدة «إسرائيل» في الحفاظ على تفوقها العسكري النوعي في الشرق الأوسط، إلا أن ذلك يستدعي إلغاء أو تعديل القانون الفيدرالي الأمريكي الحالي الذي يحظر بيع مثل هذه القنابل الخارقة للتحصينات.
إن ما سبق لا يعني أن البرنامج النووي الإيراني محصّن تمامًا من أي هجوم إسرائيلي، إذ سبق أن استهدفته «إسرائيل» عبر هجمات إلكترونية طالت عام 2010 منشآت نطنز النووية ومفاعل بوشهر، وسرقة أسرار نووية، كما تتهمها إيران بهجمات تخريبية أصابت شبكة الطاقة الكهربائية في بعض المنشآت عام 2021، فضلًا عن اغتيال علماء نوويين آخرهم فخري زاده عام 2020. وحاليًا، يُعتقد أن الطائرات الإسرائيلية وحدها قد تكون قادرة على تعطيل مواقع نووية إيرانية من خلال استهداف بعض البنى التحتية فيها كمداخل الهواء أو أنظمة الطاقة أو مرافق بحث وتصنيع فوق الأرض، وهو ما من شأنه إحداث انتكاسات قصيرة الأجل أو تقليل كفاءة أجهزة الطرد المركزي مؤقتًا، لكنه لن يدمر البرنامج النووي؛ إذ أن «تدميره» وإلحاق أضرار جسيمة فيه يحتاج قوة جوية لا تمتلكها إلا الولايات المتحدة الأمريكية، أي أن هجومًا من هذا المستوى «يتطلب دعمًا أميركيًا واسع النطاق، إن لم يكن مشاركة مباشرة». وحتى هذا «لن يضمن التدمير الكامل» للبرنامج النووي الإيراني، بحسب تقرير للفايننشال تايمز.
ففي تقرير صادر عن جمعية مراقبة الأسلحة في واشنطن، صار البرنامج النووي الإيراني متقدمًا ومنتشرًا على نطاق جغرافي واسع لدرجة لا يمكن معها إبطاله بغارات جوية أو تدميره بالكامل بضربة واحدة محددة. إذ أن البرنامج الإيراني يعتمد -بحسب تقرير للجزيرة- على أجهزة طرد مركزي صغيرة موزعة على عدة مناطق في البلاد، ما يسمح لها باستعادة قدراتها النووية خلال وقت قصير في حال تعرضها للضربات، خصوصًا مع المستوى المعرفي المتراكم لدى إيران.
في التقرير نفسه، يقول جيمس أكتون، الخبير في السياسة النووية، إن مهاجمة «إسرائيل» أو الولايات المتحدة للمنشآت النووية الإيرانية ربما تدفع طهران للانسحاب من معاهدة منع الانتشار النووي وتسريع خطواتها النووية واختراق المستويات المسموحة للتخصيب من أجل الحصول على رادع نووي.
وفي هذا السياق، يُذكر أن نوابًا إيرانيين وجهوا مؤخرًا رسالة إلى المجلس الأعلى للأمن القومي يدعون فيها لمراجعة العقيدة النووية الإيرانية القائمة على عدم إنتاج الأسلحة النووية واستخدامها. فيما تظل احتمالات التصعيد العسكري مفتوحة خصوصًا أن رئيس أركان الجيش الإيراني، بعد الضربة الصاروخية على الاحتلال، قال إنه في حال ردّت «إسرائيل» فإن الهجوم الإيراني «سيتكرر بقوة أكبر، وكل البنى التحتية للكيان الإسرائيلي ستكون مستهدفة».