على مدى العدوان الإسرائيلي الأخير الذي بلغ ذروته أواخر أيلول الماضي، تكبد لبنان أضرارًا مادية ضخمة طالت بشكل أساسي الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، وإن لم تسلم من العدوان مناطق أخرى، فضلًا عن استشهاد أكثر من أربعة آلاف شخص وجرح قرابة 17 ألفًا. كانت القرى الجنوبية، خاصة البلدات الحدودية منها، الأكثر تعرضًا لدمار واسع النطاق في بنيتها التحتية والمرافق الحيوية، مما أدى إلى نزوح جماعي للسكان وترك آثارًا إنسانية واقتصادية عميقة تستدعي تدخلًا عاجلًا لإعادة الإعمار واستعادة استقرار الحياة في هذه المناطق.
إلا أن هذا الملف ما زال عالقًا على المستوى الرسمي اللبناني، ولم يشهد أي تطورات ملموسة على أرض الواقع، حتى إن هؤلاء النازحين تركوا لمبادراتهم الفردية ومبادرات جمعيات قليلة تدخلت لتعمل في الميدان.
وفقًا لتقرير حديث للبنك الدولي بعنوان «التقييم السريع للأضرار والاحتياجات في لبنان»، غطى فترة الحرب من تشرين الأول 2023 إلى كانون الأول 2024، فإن محافظات الجنوب سجلت أضرارًا هائلة. وكانت لمحافظة النبطية الحصّة الأكبر في لبنان بقيمة حوالي 3.2 مليار دولار (أي ما يعادل 47% من إجمالي الأضرار على المستوى الوطني)، تليها محافظة الجنوب بحوالي 1.6 مليارًا (23%)، ثم محافظة جبل لبنان (16%). وطبعًا تشمل هذه الأضرار كل القطاعات، لكن فيما يخصّ قطاع الإسكان، كان الضرر الأكبر لمحافظة الجنوب التي تضمّ القرى الحدودية، والتي شهد بعضها إبادة للمباني الموجودة فيها، خصوصًا في فترة الـ60 يومًا التي تلت وقف إطلاق النار وسبقت الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي اللبنانية.
لم تحضر الدولة بخطة شاملة بعد، سواء لإعادة الإعمار أو في ملف التعويضات على الأضرار الطفيفة والمتوسطة. وفي حين يُقدّر حزب الله أنه قد أنجز نحو 91% من هذه التعويضات، بالإضافة إلى بدل الإيواء للأسر التي فقدت منازلها، لا يزال ملف إعادة الإعمار مجمدًا، نظرًا لحاجته إلى تنظيم رسمي من قبل الدولة.
ما قامت به الدولة حتى الآن يتعلّق بمبادرة توفير بيوت جاهزة للنازحين اللبنانيين بعد العدوان، حيث طُرحت فكرة إنشاء «قرى النازحين» بتمويل قطري، لكنها واجهت هواجس طائفية بشأن المواقع المقترحة. نوقشت الخطة بعد أسبوعين من بدء العدوان الإسرائيلي على لبنان في أيلول الماضي، وكان من المقرر أن تتولى وزارة الأشغال تحديد الأراضي المناسبة لإقامة هذه القرى، فيما تتولى وزارة الشؤون الاجتماعية إدارتها، على أن يتم تفكيكها لاحقًا ليستفيد منها النازحون عند عودتهم إلى قراهم المدمّرة. ومع عودة معظم النازحين إلى الجنوب، يبقى التساؤل حول إمكانية تحريك الملف مجددًا لتوفير مساكن مؤقتة للمتضررين.
البلديات تعمل بمبادرة أبنائها
تؤكّد بلديات القرى الحدودية غياب الدولة عن المشهد، خصوصًا في ملف إعادة الإعمار. وتحاول هذه البلديات، بالاعتماد على أبناء بلداتها ومغتربيها، أن تغطي جزءًا من المسؤولية، على الأقل من خلال إعادة ترميم مباني البلديات، وتأمين ظروف مناسبة لعودة السكان إلى هذه البلدات.
يقول رئيس بلدية شمع، عبد القادر صفي الدين، لحبر إن «نسبة العودة إلى البلدة لا تزال قليلة، لكن هناك ثلاث أو أربع أسر، وبتمويل فردي، أتوا ببيوت جاهزة ووضعوها مكان بيوتهم». ويؤكّد صفي الدين أن «الأشغال التي تقوم بها البلدية هي عمل فردي، لا جمعيات ولا دولة ولا أحد. بدأنا بالحسينية التي كانت شبه مدمرة ونعيد ترميمها الآن. أما باقي البيوت، فالأسر القادرة وهم لا يتجاوزوا ثمانية إلى 10 بيوت، يحاولون ترميم بيوتهم غير المهدّمة بالكامل من أجل العودة، وهذا على نفقتهم الفردية أيضًا». أما بالنسبة لتواصل الدولة معهم، يقول صفي الدين «لم يتواصل أحد من الدولة معنا. هناك وفد من الأونسكو قال إنه سيأتي في الأيام القادمة ليتفقد مقام النبي شمع والقلعة الموجودة في البلدة، وكان هذا كل التواصل الذي حصل من الدولة أو الجهات المانحة».
كذلك، أكد رئيس بلدية عيترون، سليم مراد، لحبر اعتماد البلدية على المبادرات الفردية. فقد أطلقت مشروع «التعافي» بالاستعانة بأهالي البلدة والمغتربين والمتبرعين. «أمنّا حتى الآن حاجات مختلفة للبلدة، مثل الجرافات وإسعاف وتجهيز مستوصف، ونرمم البلدية المتضررة بشكل كبير جراء العدوان ومحطة ضخ مياه ومولد».
ويؤكّد مراد عدم تواصل الدولة مع البلدية حتى الآن فيما يخصّ العمل على المساعدة في إعادة الإعمار. إلا أنه «عاد إلى البلدة نحو 200 أسرة حتى الآن ونعمل على مشروع ليصبحوا 500 أسرة، من خلال تأمين حاجات المعيشة في البلدة والمساعدة في الترميم ولو بشكل جزئي. وبعد ذلك نبدأ بخطة تعافي على مستوى البلدة بإعادة الحركة الاقتصادية، وكل هذا من خلال التكاتف والتضامن بين أهل البلدة».
ومن الجدير بالذكر أن عمل البلديات هذا يأتي مع واقع صعب تعيشه البلديات في لبنان أصلًا. فمنذ بداية الأزمة المالية عام 2019، تضاءل حجم التمويل الذي تأخذه البلديات من الحكومة، خصوصًا مع الوضع المالي الصعب للدولة منذ الأزمة وانخفاض حجم الموازنة العامة.
جهود البلديات تأتي في سياق إصرار أهالي البلدات على العودة إلى قراهم، ليس فقط من أجل العودة إلى المنازل بل لتثبيت موقف بوجه العدو الذي أراد من خلال إحداث هذا الدمار الهائل كيّ وعي الجنوبيين. يقول حسن ع. من بلدة عيترون «نحن نريد العودة إلى قريتنا بأسرع وقت. بيتي مدمّر وأنا مستعد لنصب خيمة بجانب البيت من أجل العودة إلى بلدتي. الأمر لا يتعلّق بعدم وجود مسكن لدي، فقد تأمّن لنا بدل الإيواء النقدي لسنة إلى الأمام، لكن الفكرة الأساسية هي أن يرى هذا العدو أنه لم يرهبنا، وأننا باقون في هذه الأرض مهما اشتدّت اعتداءاته».
جمعيات توفر مساكن جاهزة
غياب دور الدولة الفاعل، خصوصًا في المناطق الحدودية التي شهدت دمارًا هائلًا، وإصرار الأهالي على العودة إلى بلداتهم وقراهم الحدودية، أحدث فراغًا اضطرت جمعية «وتعاونوا» إلى تغطيته من خلال مبادرة تهدف إلى تأمين منازل جاهزة لسكان القرى الأمامية المدمرة بشكل كبير. يقول عفيف شومان، رئيس الجمعية، لحبر إن المبادرة لا تهدف إلى إيواء الأسر التي دُمّرت منازلها، إذ إن حزب الله وفّر بدلات السكن والإيواء للأهالي وأغلب الأسر التي كانت تقيم في المنطقة، وهم الآن مقيمون في مناطق أخرى بسبب بدء العام الدراسي للأبناء أو ارتباطهم بنشاطات اقتصادية. وإنما تسعى المبادرة لـ«تقديم البيوت الجاهزة ضمن مشروع خاص لكل قرية، يراعي خصوصيتها الاقتصادية والاجتماعية أو حاجاتها الخدمية».
ففي بلدة راميا، على سبيل المثال، التي تنتشر فيها زراعة التبغ، والتي دمرت بالكامل تقريبًا بحيث يستحيل عودة المزارعين مع بداية الموسم لممارسة نشاطهم الزراعي، أطلقت الجمعية مبادرة «الجهاد الزراعي». يقول شومان «قمنا بتأمين البيوت الجاهزة وتركيبها في ثانوية البلدة التي تقع في منطقة وسطية بين أكبر منطقتين زراعيتين في راميا، وهي منطقة المرج والصالحاني، بحيث يتمكن المزارعون من العودة وبدء نشاطهم الزراعي، مع توفر أماكن للإقامة والاستحمام وتتوفر فيها الطاقة والمياه».
وفي قرى أخرى، عملت الجمعية على توفير مساكن جاهزة لا للإقامة وإنما لتكون «ملتقى أهلي وباحة خدمات»، بحسب شومان، خاصة في القرى التي لا يوجد فيها محال تجارية أو مهنية لتقديم الخدمات للعائدين، والتي عاد إليها عدد غير بسيط من العائلات المقيمة، فضلًا عن الزائرين في نهاية الأسبوع أو المناسبات.
كانت هذه المساكن الجاهزة أحد أهداف الاعتداءات الإسرائيلية في الأيام الأخيرة التي شهدت تصعيدًا في وتيرة الهجمات على جنوب لبنان، وخاصة على القرى الحدودية التي عاد كثير من سكانها إليها. حيث استهدفت طائرات إسرائيلية معادية يوم السبت منازل جاهزة في بلدات الناقورة وشيحين ما أدى إلى تدميرها. كما أغارت مروحيات أباتشي إسرائيلية الأسبوع الماضي على منازل جاهزة في بلدتي كفركلا ويارون، ضمن الاعتداءات اليومية لقوات الاحتلال منذ وقف إطلاق النار. وتظهر هذه الاعتداءات الإسرائيلية انزعاج العدو من المنازل الجاهزة، التي تتحدّى الخطط الصهيونية لإبقاء القرى المحاذية خالية من الناس.
منذ إطلاقها عام 2019، نشطت جمعية «وتعاونوا» في تقديم خدمات اجتماعية مختلفة، بالتزامن مع بداية الأزمة الاقتصادية، وانخفاض القيمة الشرائية للعملة اللبنانية ما أدى إلى تآكل دخل اللبنانيين، ثم جائحة كورونا التي ضاعفت الأزمة. يقول شومان هدف المبادرة بدايةً كان تعويض هذا الهبوط «عبر تأمين سلة غذائية أساسية، توفر على المواطن كلفة شراء المواد الغذائية الأساسية. ولاحقًا بعد ارتفاع كلفة العلاج والأدوية نتيجة لارتفاع أسعار الدولار، بادرت الجمعية إلى تأمين التغطية المناسبة لبدلات العلاج للأسر المتعففة، وصولًا إلى تغطية عمليات جراحية ذات تكاليف عالية».
أما اليوم وبعد عودة الأهالي الى قراهم المدمرة، لا سيما القرى الحدودية، يقول شومان إن الجمعية وجدت «أن هناك حاجات كبيرة وكثيرة، ومبادرات قليلة جدًا»، مشيرًا إلى انكفاء الدولة عن «مواكبة عودة الأهالي بالزخم المطلوب وفي المجالات الأكثر حاجة للتدخل». تنسق الجمعية مع البلديات لإحصاء الحاجات في هذه القرى، عبر جمع المعلومات وإعداد اللوائح ودراسة الحاجات والإمكانيات المتاحة، مستفيدةً من علاقاتها المحلية السابقة التي كونتها في سنوات ما قبل الحرب، ومن فريقها الميداني العامل في المنطقة.
ويؤكّد شومان أن «الجمعية ليست بديلًا عن الدولة، ولا يجب أن يكون هناك أحد بديلًا عن الدولة في توفير حاجات المواطنين والاستجابة لمتطلبات عودتهم، فنحن موجودون إلى جانب الناس حيث يكون هناك نقص أو تقصير أو قصور، وحتى الآن لم نلمس أن الدولة قد قامت بتفعيل خططها في القرى الحدودية، سواء على صعيد تأمين المدن السكنية الجاهزة أو تقديم الخدمات وتوفيرها». ويذكر النشاط المحدود جدًا للدولة في المناطق الحدودية، إذ إنه «باستثناء النشاط الملحوظ لمؤسسة مياه لبنان الجنوبي ومؤسسة كهرباء لبنان عبر شركة مراد، لم نلحظ أي تحرك أو نشاط فعلي لأي من مؤسسات الدولة الأخرى».
على المستوى الفردي، انتشرت بعض الأنباء التي تفيد بأن بعض الأشخاص قرروا البدء بإعادة إعمار بيوتها على نفقتهم الخاصّة، إلا أن الدولة منعت بحجّة عدم وجود رخص بناء. تشير مصادر أمنية لحبر إلى أن بعض الأجهزة الأمنية سطرت بالفعل محاضر ضبط في حق بعض المواطنين في قرى ميس الجبل وشقرا وكفركلا، الذين كانوا يحاولون إعادة إعمار بيوتهم بمبادرة فردية. لكن بعدما أثار الأمر جدلًا واسعًا في الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، تراجعت هذه الأجهزة عن إجراءاتها وسمحت لهؤلاء الأفراد باستكمال إعادة إعمار بيوتهم. في المقابل، أفادت مصادر من البلديات الجنوبية بأن بعض الحالات كانت تحاول أن تبني بيوتها في مشاعات الدولة، أي على أراضٍ ليست لهم، محاولةً استغلال الوضع الحالي، وهذا الأمر استدعى تدخّل الدولة من أجل منع هذه الأفعال.
بالمحصّلة، ما يزال الدمار في الجنوب، وخصوصًا في القرى الحدودية كبيرًا جدًا، وهو دمار طال بلدات بأكملها، بشكل يمنع عودة الحياة ولو بشكل جزئي إلى بعض هذه البلدات والقرى. وفي حين أن الدولة لا تزال غائبة عن المشهد، يقول البعض أن خلفية هذا الأمر سياسية للضغط على الأحزاب التي تحظى بشعبية كبيرة في هذه المناطق. لكن الأشهر الأخيرة أظهرت أن المبادرات الفردية مستعدة لتحدّي الظروف ومحاولة ملء الفراغ، خصوصًا مع وجود إصرار من سكان هذه القرى على العودة والاستقرار في أرضهم وعدم التأقلم مع الوضع القائم.