مطلع تشرين الأول الماضي، أعلن الجيش الإسرائيلي بدء «عملية عسكرية برية» في جنوب لبنان زاعمًا تنفيذ «مداهمات محدودة ومستهدفة لأهداف لحزب الله في قرى قريبة من الحدود وتشكل تهديدًا مباشرًا للتجمعات السكانية في شمال إسرائيل». جاءت هذه العملية بعد أن وجهت «إسرائيل» ضربات غير متوقعة لحزب الله عبر تفجير أجهزة الاتصالات اللاسلكية (البيجر) التي يستخدمها عناصر الحزب، واستهداف عدد كبير من قياديي الحزب على رأسهم الأمين العام السيد حسن نصرالله، وتنفيذ هجمات عنيفة على الضاحية الجنوبية في بيروت ومناطق أخرى في لبنان.
«لن يهدأ بال إسرائيل حتى إرجاع سكانها إلى الشمال بأمان وعددهم سبعون ألفًا»، قال وزير الخارجية الإسرائيلي السابق يسرائيل كاتس تعليقًا على هذه الضربات. ولذلك، جاء الغزو البري لتستخدم «تل أبيب» كافة قدراتها لتحقيق هدف عودة مستوطني الشمال الذين تم تمديد خطة إخلائهم حتى نهاية العام الجاري، في حين ذهبت بعض الطموحات الإسرائيلية لأبعد من ذلك، معلنة «أن إسرائيل لا تريد فقط انسحاب حزب الله إلى ما بعد الليطاني، بل نزع سلاحه أيضًا» و«أن الهدف الأساسي من المعركة هو شرق أوسط جديد».
بعد شهر على بدء الغزو البري، لم تتمكن «إسرائيل» من تحقيق أي من أهدافها المعلنة، حيث ما زالت القطاعات الحيوية في المستوطنات والمدن الإسرائيلية في الشمال معطلة بشكل يعيق عودة المستوطنين الذين لا يفكر معظمهم بالعودة، وما زالت المقاومة اللبنانية قادرة على استهداف تجمعات الجنود المتوغلين برًا وضرب العمق الإسرائيلي بالهجمات الجوية والصاروخية، في حين دعا المسؤولون الإسرائيليون لمزيد من التعزيزات الدفاعية في الشمال بما فيها نشر منظومات اعتراضية جديدة عبر الرشاشات أو الليزر أو حتى مجموعات الجنود.
بحثًا عن منطقة عازلة
قبل الغزو البري، شنّ الجيش الإسرائيلي سلسلة غارات جوية واسعة النطاق استهدفت مواقع متعددة في لبنان في ما اعتبرته الحكومة اللبنانية تنفيذًا «لسياسة الأرض المحروقة»، وهي استراتيجية عسكرية تشمل تدمير البنى التحتية وهياكل الحياة الأساسية بما يستفيد منه العدو عند التقدم أو التراجع في منطقة ما. أجبرت هذه الغارات الكثيفة التي استهدفت المنازل والمراكز الصحية والبنى التحتية في أيلول الماضي آلاف اللبنانيين في الجنوب على النزوح من قراهم وبلداتهم حتى تلك الواقعة في الخطوط الثانية أو الخلفية للمواجهة، ومنها أقضية بنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا والنبطية وصور، في أكبر موجة نزوح منذ السابع من أكتوبر.
مهدّت هذه السياسة للعملية البرية التي دفعت فيها «إسرائيل» بخمس فرق قتالية مكونة من حوالي 50 ألفًا جنديًا إلى الجنوب اللبناني، أي ثلاثة أضعاف عدد الجنود الذين شاركوا في حرب تموز 2006، فضلًا عن سلاح الجو والبوارج التابعة للبحرية الإسرائيلية. دمّرت هذه الفرق القتالية في توغلها ما لا يقل عن 30 بلدة وقرية و12% من المباني على طول الحدود اللبنانية خلال الشهر الماضي، استنادًا إلى تحليل صور الأقمار الصناعية، كما بلغت الحصيلة الاجمالية للعدوان الإسرائيلي على لبنان حتى بداية تشرين الثاني الجاري 3,013 شهيدًا وأكثر من 13 ألف جريح، بحسب مركز عمليات الطوارئ التابع لوزارة الصحة اللبنانية.
تتضمن خطة «إسرائيل» للغزو البري في لبنان إقامة «منطقة عازلة» بعمق ثلاثة كيلومترات على الأراضي اللبنانية، بحيث تساعد هذه المنطقة في تأمين شمال «إسرائيل» على المدى الطويل أو الضغط لتحقيق حل دبلوماسي يخدم المصالح الإسرائيلية، بعد أن زعم المسؤولون الإسرائيليون أن الضربات الإسرائيلية قد قتلت أو هجّرت معظم قوات النخبة في حزب الله على طول الحدود. وقد أحيت «المنطقة العازلة» فكرة «الحزام الآمن» الأول الذي أنشأته «إسرائيل» في جنوب لبنان عام 1985 وحتى عام 2000، واضطرت للانسحاب منه تحت ضغط هجمات المقاومة اللبنانية. إلا أن المخاوف الإسرائيلية من تكرار فشل هذه التجربة أخذت تتزايد في ظل المعطيات الميدانية.
«إسرائيل ربما تكون قادرة على دخول أي حرب في أي مكان وكيفما تشاء، لكنها قد لا تكون قادرة على الخروج منها».
يقول الباحث في الشؤون العسكرية والاستراتيجية، عمر معربوني، إن الجيش الإسرائيلي فشل في تحقيق أي تقدم داخل العمق اللبناني أو السيطرة على أي من أراضيه، إذ أن ما حققه هو التقدّم في بعض القرى الحدودية والقيام بعمليات تفجير لإنشاء منطقة عازلة خالية من السكان والمقاومة. ويضيف الباحث في الشأن الإسرائيلي حسن حجازي إن إقامة هذه المنطقة العازلة، والتي تخلق خطوط رؤية واضحة أمام التوغلات العسكرية الإسرائيلية، لن تكون كافية في توفير الحماية الفعلية للمستوطنات الشمالية، حيث تستطيع صواريخ حزب الله ضرب المدن الإسرائيلية، وما زالت قواته تستهدف الجنود الإسرائيليين في الجنوب.
كثّفت المقاومة اللبنانية عمليّاتها ضدّ القواعد العسكرية والمستوطنات في العمق الإسرائيلي، بالتوازي مع تصدّيها واستهدافها لمحاولات التوغّل البرّي المتجدّدة في القرى الحدودية. وبين 17 أيلول الماضي والأول من تشرين الثاني الجاري، أطلق حزب الله نحو 655 عملية صاروخية، استهدفت مناطق تصل إلى عمق 105 كيلومترات شمالي تل أبيب، ما بين المراكز العسكرية والمستوطنات ومصانع الأسلحة والدفاعات الجوية. كما نفذ سلاح الجو في الحزب 76 عملية باستخدام أكثر من 170 طائرة مسيرة قصفت أهدافًا نوعية تُضرب للمرة الأولى في نهاريا والخضيرة.
من جانب آخر، استهدف المقاومون تجمّعات للقوات الإسرائيلية عند الحافة الحدودية جنوب لبنان أدت إلى مقتل أكثر من 95 جنديًا وضابطًا إسرائيليًا وإصابة نحو 900 آخرين وتدمير 50 آلية عسكرية إسرائيلية، من الدبابات والجرافات وناقلات الجنود، منذ بدء التوغل الإسرائيلي في جنوب لبنان، فيما اعتبرته الصحافة العبرية «الشهر الأكثر دموية منذ أكتوبر 2023».
بحسب تقرير لصحيفة «يديعوت أحرونوت»، فإن الفرق الإسرائيلية الخمسة بألويتها وتفوقها العسكري فشلت بعد شهر من المواجهة البرية في احتلال قرية واحدة في الجنوب اللبناني جراء «نجاعة التكتيك الميداني الذكي الذي ينتهجه حزب الله، ويقوم على تتبع مجريات الحرب على عدد من خطوط الدفاع التي تقنص المدرعات والدبابات والجنود الإسرائيليين بشكل دقيق»، حيث يسمح مقاتلي حزب الله للجيش الإسرائيلي بالتقدم تمهيدًا لمهاجمته وإيقاعه في كمائن، كما قال أحد قادة الجيش الإسرائيلي.
يقول معربوني إن استمرار المقاومة في تنفيذ عمليات نوعية على الشريط الحدودي وخلفه هو الدليل على أن الهيكلية المرنة التي بناها حزب الله وتقوم على سيناريوهات شديدة التعقيد لم تتأثر كثيرًا بالضربات المتتالية التي نفذتها «إسرائيل» على الرغم من قوتها وحدّتها. بالنسبة للخبير العسكري نضال أبو زيد، أرسى حزب الله معادلة جديدة في العملية العسكرية قائمة على التناسب والتدرج، حيث أن قصف بيروت يقابله تل أبيب وقصف الضاحية الجنوبية يقابله قصف حيفا باستخدام السلاح المناسب في الوقت المناسب.
كانت هذه المرونة ردًا عملياتيًا على الغموض الذي أحاطت به «إسرائيل» غزوها من حيث الأهداف. فرغم أنها حددت منذ البداية هدف إعادة مستوطني الشمال، وتحدث ووزير خارجيتها السابق عن «سحب سلاح الحزب»، إلا أن ذلك لم يترجم إلى أهداف عسكرية ملموسة ذات مسار تحقيق واضح. «جيش الاحتلال دخل جنوب لبنان بطريقة معاكسة فيما يتعلق بالأهداف، لأنه تعلم درسًا بأن لا يدخل لبنان بسقف مرتفع»، يقول أبو زيد، مشيرًا لسيناريو حرب عام 2006، حين تحول عجز «إسرائيل» عن تحقيق هدفها المعلن بالقضاء على الحزب إلى أبرز دليل على هزيمتها في الحرب، رغم ما خلفته من دمار واسع في لبنان. ويضيف أن الجيش «دخل بهدف واحد ذي سقف منخفض وهو إعادة سكان المستعمرات الشمالية للشمال، وأشار بكل وضوح إلى أن العملية ستكون محدودة، لكنه أراد هدفًا سقفه منخفض حتى يستطيع تحقيقه ثم إن أتيحت له الفرصة يتوسع، ومع ذلك لم يستطع تحقيق الهدف».
شروط إسرائيلية تصطدم بالواقع الميداني
في ظل تزايد القلق الإسرائيلي من «تعافي حزب الله»، بدأت الانتقادات للعملية البرية في لبنان تتزايد مطالبةً الحكومة بالتوصل إلى اتفاق لوقف إطلاق النار أو تسوية سياسية تخلق واقعًا أمنيًا جديدًا على طول الحدود، إذ أن خيار توسيع العملية البرية محاط بالكثير من المخاوف. يقول حجازي إن العمل العسكري الإسرائيلي مهما كان حجمه أثبت أنه غير قادر على توفير الظروف اللازمة لإعادة مستوطني الشمال، ولذلك فإن الاستمرار به غير مجدٍ وتوسيعه أيضًا كفيل بتوريط الاحتلال في مزيد من الخسائر البشرية، بعد أن يخرج من المناطق القريبة من الحدود وتصبح تمركزاته مكشوفة أكثر لاستهدافات المقاومة.
قبل أيام، أعلنت هيئة البث الإسرائيلية أن الجيش الإسرائيلي يقترب من نهاية المرحلة الأولى من عمليته البرية في جنوب لبنان، بعد شهر على انطلاقها، حيث بدأ بتسريح الآلاف من القوات النظامية والاحتياطية لاستراحة مؤقتة، مع بدء التخطيط لإعادة انتشار القوات على طول الحدود اللبنانية. بالنسبة لأبو زيد، يزعم هذا الإعلان اكتشاف بنى تحتية تابعة لحزب الله وتدميرها وأسر بعض عناصره، ويهيئ البيئة الداخلية الإسرائيلية للمراحل القادمة، كما يُكسِب الاحتلال الإسرائيلي مزيدًا من الوقت لتحسين وضعه الميداني وسط محادثات وقف إطلاق النار برعاية أمريكية.
تشترط «إسرائيل» لوقف إطلاق النار انسحاب حزب الله إلى ما وراء الليطاني، ونشر قوات معززة من الجيش اللبناني ووحدات أكثر نوعية من اليونيفيل جنوب لبنان، وحرية عمل كاملة للجيش الإسرائيلي في حال حاول حزب الله خرق التفاهمات. ورغم أن القوى السياسية اللبنانية ورئيس مجلس النواب نبيه بري -الذي يفاوض بالنيابة عن حزب الله- تتفق على ضرورة تطبيق القرار الدولي 1701، الذي أنهى الأعمال الحربية بين «إسرائيل» وحزب الله عام 2006، والذي يتضمن أول شرطين إسرائيليين، إلا أن البند الثالث يلقى رفضًا واسعًا لما له من أثر على السيادة اللبنانية وإلزام ضمني لحزب الله وحده بتطبيق القرار الأممي دون إلزام «إسرائيل» بشروطه.
لكن التفاصيل تظهر المزيد من الشروط الإسرائيلية التي تلقى رفضًا واسعًا، رسميًا وشعبيًا، في لبنان. إذ نقل كل من وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، والمبعوث الأمريكي عاموس هوكشتين، «مقترحات» لصيغ موسعة من القرار 1701، فيما بات يسمى 1701+، تشمل مراقبة الحدود اللبنانية السورية، لمنع الحزب من التزود بالسلاح، ونشر قوات متعددة الجنسيات، خارج إطار اليونيفيل، وهو ما أكد بري رفضه. الأهم، هو أن المقترح الإسرائيلي – الأمريكي بانخراط الحكومة اللبنانية والجيش اللبناني في تفكيك بنية حزب الله العسكرية جنوب الليطاني يعتبر في أوساط لبنانية واسعة وصفةً لصدام داخلي عنيف.
يقول حجازي إن مسار المفاوضات في لبنان قد وصل لنقاط واضحة رغم أنه لم يفض لاتفاق حتى الآن، حيث تلتزم المقاومة اللبنانية بإسناد جبهة غزة وترفض فك الارتباط معها ويتمسك الجانب اللبناني بتطبيق القرار الدولي دون تعديل. وفي ضوء عدم قدرة الجانب الإسرائيلي على تعديل هذا القرار عبر مجلس الأمن، تشير التحليلات السياسية إلى أن «إسرائيل» تحاول المناورة بالضغط إما عبر التعويل على القوى السياسية اللبنانية المعارضة و/أو تغيير واقع العملية البرية بما يمنحها من أوراق تفاوضية قد تسمح بتعديلات على صعيد التدخلات العسكرية.
يرى أبو زيد أن «إسرائيل» قد استهلكت بنك أهدافها في لبنان ولم يبق ما تنفذه لتحقق معادلتها في الردع أو الحسم السريع بعكس المقاومة التي ما زال لديها الكثير من الأوراق. ولذلك يجد الجيش الإسرائيلي نفسه مضطرًا للاستمرار في خيار العمليات الجوية المكثفة رغم أنها غير كافية لحسم المعركة، ويحاول كسب الوقت أملًا في تحقيق نتائج مجدية ضمن العملية البرية، بحسب قوله. ونقلًا عن بعض الدراسات الإسرائيلية الأمنية، «فإن الجيش الإسرائيلي في لبنان ما زال يكرر نفس أخطائه في غزة. فإسرائيل ربما تكون قادرة على دخول أي حرب في أي مكان وكيفما تشاء، لكنها قد لا تكون قادرة على الخروج منها».
* ساهمت الزميلة بتول سليمان في إجراء المقابلات المتضمنة في هذا التقرير.