في الصباح قتل جنودٌ إسرائيليون بنت القدس ومراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، وبعد الظهر في جنين ورام الله ونابلس حمل الناس الذين لطالما أرادت أبو عاقلة أن تظل بينهم جثمانها وطافوا فيه.
أثناء اقتحام قوات الاحتلال لمخيم جنين صباح اليوم، وصلت مجموعة من الصحفيين والمصورين للمنطقة، وهناك تجمع مجاهد السعدي وشذا حنايشة وعلي السمودي وشيرين أبو عاقلة بالقرب من مقبرة الشهداء، ساروا لدقائق قليلة قبل أن يبدأ جيش الاحتلال إطلاق النار لثلاث دقائق، يقول مجاهد، «لفّيت وجهي لقيت علي متصاوب، صرنا نصرخ إنه علي تصاوب، شيرين اطلعت عليه تطّمن لحقته برصاصة ثانية».
استشهدت أبو عاقلة خلال هذه الدقائق، دون أن يكون هناك أي اشتباك أو تبادل لإطلاق النار في تلك النقطة كما يقول السعدي. وتقاطعت شهادات صحفيين ممن كانوا في الموقع حول عدم وجود «اشتباكات» وغياب وجود المقاومين الفلسطينيين في المنطقة أثناء استهداف الصحافيين واغتيال أبو عاقلة.
وبينما بدأت رواية الاحتلال بـ«تحييد مخربين» في مخيم جنين صباحًا، كما نقل وليد العمري للجزيرة، تحوّلت على لسان رئيس وزراء الاحتلال لتتجه نحو الإيحاء بأن أبو عاقلة استشهدت برصاص فلسطيني وسط اشتباك، لتتراجع «إسرائيل» مرة أخرى وتقول على لسان رئيس أركان جيشها إنه لا يمكن لها تحديد مصدر النيران. في حين قال متحدث باسم جيش الاحتلال لإذاعة الجيش إنه «حتى لو أطلق الجنود النار على شخص لم يكن منخرطًا [في القتال]، فقد حدث هذا في أرض المعركة (..) مثل هذه الأشياء تحدث».
بات جثمان أبو عاقلة ليلته الأولى في المستشفى الاستشاري في رام الله، ليطوف المدينة في موكب رسمي نحو مقر الرئاسة الفلسطينية يوم الخميس، لوداعها وتكريمها، قبل نقل جثمانها للدفن الجمعة في المدينة المقدسة التي انتمت إليها.
ابنة القدس
تعود أصول عائلة أبو عاقلة إلى بيت لحم. لا يعرف أحدٌ متى انتقلت العائلة إلى بيت حنينا شماليّ القدس، يتذكّر مقدسيون أنّ بيت حنينا كانت قريةً وصارت مع السنين ضاحية سكنيّة كبيرة تجمع عائلات من الخليل والقدس، وفيها مدرسة راهبات الوردية التي تخرّجت منها شيرين.
شكّل الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين خيارات شيرين أبو عاقلة منذ البداية؛ بعد انتهاء دراسة الثانوية وحصولها على معدل مرتفع، اضطرت للسفر إلى الأردن للدراسة في جامعة العلوم والتكنولوجيا بسبب إغلاق الجامعات الفلسطينية أبوابها لاندلاع الانتفاضة الفلسطينية الأولى.
قدّمت أبو عاقلة أوراقها لجامعة العلوم والتكنولوجيا لدراسة الصيدلة وكان خيار دراسة تخصصٍ علميّ مدفوعًا بتأثير الأهل كما تقول في مقابلة سابقة لها. بدلًا من الصيدلة قُبِلت في الهندسة المعمارية وأمضت فيها سنة، قبل أن تنتقل إلى جامعة اليرموك للدراسة في قسم الصحافة والإعلام سنة 1989؛ «كنت شايفة حالي بإشي قريب من الناس».
ضمّ قسم الصحافة والإعلام في الجامعة ثلاث تخصصات فرعية: العلاقات العامّة، والإذاعة والتلفزيون، والتحرير الصحفي. اختارت أبو عاقلة دراسة التحرير الصحفي ولم تعمل فيه لبقية حياتها.
يصف الصحفي جهاد أبو بيدر الذي تخرّج في دفعة أبو عاقلة 1993 أن أحاديث طلاب الدفعة كانت توحي أن دراسة الصحافة في تلك السنوات جاءت بدافع الدخول في مهنة توفر إمكانية الدفاع عن القضايا العربية وفلسطين خاصة، وكانت شيرين ومجموعة من طلبة الضفة الغربية والقدس يحملون هذا الاتجاه العام في التفكير.
ربع قرن أمضتها الشهيدة شيرين أبو عاقلة في تغطية ما يفعله جيش الاحتلال بأهلها في فلسطين، واليوم حملها شباب المخيم الذي نقلت منه عشرات القصص للعالم.
خلال فترة الدراسة عاين مدرسوها وزملاؤها انضباط أبو عاقلة في الدراسة، حتى أنها وفي إحدى المرّات، وخلال عملها على تقرير صحفي لصحيفة الجامعة نامت في مقرّ الصحيفة كما تقول زميلتها حنان كسواني.
ثمة ارتباط بين شيرين ومدينة القدس، عاينه زملاؤها في الدفعة، ومنهم الكاتب ماهر أبو طير. إذ وفوْر انتهاء كل فصل دراسي كانت شيرين تسافر إلى القدس فورًا ولا تنتظر يومًا واحدًا. لاحقًا وخلال أكثر من مقابلة معها كانت شيرين تؤثِر تلك التقارير التي عملت عليها في القدس وتغطي أحداثًا فيها، وأن أكثر مكان تفضل شيرين تغطيته هي مدينتها القدس، وأن أكثر التقارير التي أثّرت فيها كان تقريرها عن هدم بيت في حيّها بيت حنينا.
في بدايات عام 1994، ومع تأسيس السلطة الوطنية الفلسطينية، تأسست إذاعة صوت فلسطين، التابعة للسلطة، فالتحقت بها شيرين بعد انخراطها في دورات تدريبية خارج فلسطين ساعدتها على التمكّن من التقديم والإعداد الإذاعييّن، كما يقول عماد الأصفر مدير وحدة التعليم المستمر في جامعة بيرزيت والذي كان يعمل حينها محرّرًا في الإذاعة.
قدمت شيرين في الإذاعة عدة برامج إخبارية واجتماعية، وهو ما كان ملفتًا لجمان قنيص أستاذة الإعلام في جامعة بيرزيت وزميلة شيرين سابقًا في الإذاعة. تقول قنيص كان ملفتا قدرة شيرين على تقديم برامج سياسية جادة، وأخرى اجتماعية. فيما عرفها معظم الجمهور الفلسطيني من خلال برنامج «سهرة خميس»، والذي قدمت عبره محتوى اجتماعيًا ثقافيًا ترفيهيًا، يقول الأصفر.
عام 1997، تعرّفت شيرين إلى وليد العمري مدير مكتب الجزيرة في فلسطين. في ذلك العام التحقت شيرين بدبلوم العمل الإذاعي في جامعة بيرزيت، وهناك درّسها العديد من الأساتذة من ضمنهم العمري. وعندما تحدث لها العمري عن رغبة فضائية الجزيرة بالتعاقد معها كمراسلة لهم في فلسطين وافقت في وقت كان لديها فيه أربعة عروض عمل.
شيرين في الميدان
مع بداية عملها في الجزيرة، عام 1997 عملت شيرين أيضًا كمراسلة لإذاعة مونتي كارلو الدولية، التي تبث من العاصمة الفرنسية. وعلى مدار نحو خمس سنوات استمرت في تقديم الرسائل الإذاعية للبرنامج الصباحي تحديدًا، كما يقول نائب تحرير الاذاعة حاليًا وليد عباس، الذي كان مقدمًا للفترة الإخبارية الصباحية «المصايب كلها كانت بتحصل في الليل (..) ودايمًا ما إلناش غير شيرين».
خلال سنوات عملها تلك، كان من بين ما غطته شيرين، واقعة اغتيال الاحتلال عام 2004 للشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة حماس. يقول عبّاس إن شيرين ظلّت مستمرة في بث الرسائل الإذاعية وإعطاء معلومات مهمة وفي تقديم ربطٍ تاريخيٍ وسياسيٍ للأحداث بهدوء ودقة لنحو ثلاث ساعات.
تقريبًا، لا يمكن أن تتحدث مع أيٍ من زملاء شيرين في الميدان فلا يشير لك أحدهم إلى هدوئها في العمل مهما تطوّرت الأحداث حولها، متحكمة بمشاعرها وملتزمة دومًا بالدقة في تقديم المعلومة. التحكم بالمشاعر هذا يتحدث عنه زميلها أحمد البديري مراسل تلفزيون الغد في فلسطين: «كانت تكون متأثرة، بس أول ما تطلع على الهوا أتفاجأ من الحكمة والتأني، وبس تخلص هوا أشعر إنها متأثرة، أكيد هيي إنسانة، بس كانت صحفيّة من الطراز الأول».
التقى بها المراسل الصحفي فراس طنينة عام 2000، على مداخل مدينة البيرة خلال اجتياح الضفة. كانت هذه بداية التحاق فراس بالعمل الصحفي الميداني، وكانت الأحداث تتطور بسرعة، بينما كانت شيرين قد امتلكت خبرة أكبر في التغطية الميدانية، «كانت تحكيلنا وين نوقف، وين نكون بأمان، وكيف نبعد عن إطلاق النار. كنا شباب صغار وكنا نتأثر من المناظر، وهيي كانت تقدملنا الدعم النفسي».
«أكيد هيي إنسانة، بس كانت صحفيّة من الطراز الأول».
عام 2020 التحقت شيرين بدبلوم الإعلام الرقمي في جامعة بير زيت، وكان هذا الأمر بمثابة المفاجأة للكثير من زملائها الذين كانوا يرون أنها ليست بحاجة للتعلم. قالت لها ذات مرة زميلتها قنيص «شيرين، إنتي بتدّرسي مش بتدرسي!»، فأجابتها شيرين، «في أشياء جديدة أنا ما بعرفها». كانت هذه الرغبة والعطش الدائم للتعلم رسالةً للعديد من العاملين معها في الميدان بضرورة استمرار التعلم والتطور المهني، ومؤشرًا حول شغفها بمهنتها.
يقول الأصفر إن شيرين تمكنت من كسر الهوّة بين أجيال صحفية، ودمجت خبرتها الطويلة في الصحافة، مع رغبتها في التعلم المستمر والاطلاع على التقنيات الجديدة في الإعلام الرقمي، والتي دفعتها لأن تمارس ما تعلمته حديثًا في الميدان. يقول جهاد بركات، المراسل الصحفي للعربي الجديد في الضفة سابقًا، إنه كان يلحظها تقوم بالتصوير عبر هاتفها من أجل تطبيق كل ما تعلمته في الدبلوم الجديد حتى خلال الأحداث الحساسة: «كانت متعلقة بالتطور الصحفي، رغم إنها وصلت لمحل كل الصحفيين بتمنوا يوصلوه».
في رؤيتها للعمل الصحفي، لا تعتبر أبو عاقلة أنها محايدة في قضايا فلسطين، فيما تقول إن أكثر تغطية سعدت بها هي لحظة تفكيك المستوطنات الإسرائيلية حول غزة العام 2005.
خلال سنوات عملها الطويلة غطّت شيرين القضايا الأكثر سخونة في فلسطين من اجتياحات الجيش الإسرائيلي للضفة الغربية ومخيم جنين، إلى الحرب على لبنان والحروب على غزّة من 2009-2021. مرورًا بمحاصرة كنيسة المهد، وانتهاءً بما جرى في حي الشيخ جرّاح في القدس. تقول أبو عاقلة «لمّا يصير إشي بحس حالي لازم أكون في الميدان بقدرش أكون بالمكتب، بحس هاد هون مكاني».
صحفيون ونشطاء في وقفة أمام مكتب الجزيرة في عمّان استنكارًا لاستشهاد أبو عاقلة. تصوير مؤمن ملكاوي.
وسائل إعلام تهرع لمساعدة القاتل
فور انتشار خبر استشهاد أبو عاقلة عربيًا، حرص عدد من وسائل الإعلام الغربية على خدمة الرواية الإسرائيلية، وفي مرات أخرى تفوقت عليها. فيما ساد في كثير من الوسائل ذكر الحدث دون الإشارة لجيش الاحتلال بوصفه القاتل.
وضعت بعض وسائل الإعلام هذه تفاصيل وروايات على لسان الطرف الفلسطيني لم يقلها؛ أضافت صحيفة النيويورك تايمز في خبرها الذي جاء بعنوان «صحافية الجزيرة قُتلت خلال اشتباكات في الضفة الغربية» أن وزارة الصحة الفلسطينية أعلنت أن أبو عاقلة «قُتلت برصاصة بمدينة جنين في الضفة الغربية فجر الأربعاء خلال اشتباكات بين الجيش الإسرائيلي والفلسطينيين»، فيما لم تأتِ وزارة الصحة الفلسطينية على ذكر «اشتباكات» في بيانها ومنشوراتها، إنما أعلنت في البداية عن إصابة أبو عاقلة برصاصة حية في الرأس «خلال عدوان الاحتلال الإسرائيلي في جنين»، ثم نشرت خبر استشهادها «بعدوان الاحتلال الإجرامي على جنين».
ثم لفقّت نفس الصحيفة مرة أخرى كلامًا لم تقله قناة الجزيرة عندما نقلت عن القناة قولها إن أحد صحفييها قُتل في مدينة جنين بالضفة الغربية «خلال اشتباكات بين القوات الإسرائيلية ومسلحين فلسطينيين» (قبل أن تحذف التغريدة التي جاء فيها ذلك)، فيما نقل خبر القناة أن أبو عاقلة استشهدت «عندما أطلق عليها جنود الاحتلال الإسرائيلي الرصاص الحي»، وفي بيان لها قالت شبكة الجزيرة إن قوات الاحتلال الإسرائيلي اغتالت أبو عاقلة «بدم بارد» محمّلة الحكومة الإسرائيلية وقوات الاحتلال مسؤولية مقتلها.
وأخفت «CNN بالعربية» اتهام وزارة الصحة الفلسطينية للجيش الإسرائيلي بمقتل أبو عاقلة بالقول إن أبو عاقلة «قُتلت برصاصة في الرأس»، متجاهلة الاتهام الذي وجهته الوزارة للاحتلال الإسرائيلي، فيما كانت حريصةً على إفراد مساحة للجيش الإسرائيلي كي يبرر مقتل أبو عاقلة بالقول إن قوات الأمن الإسرائيلية كانت تعمل في المنطقة «لاعتقال مشتبه بهم في أنشطة إرهابية» فيما جرى تبادل إطلاق النار معهم، مع الإقرار «باحتمال إصابة صحفيين».
وقد فعلت وكالة الأنباء الأمريكية «أسوشيتد برس» الأمر نفسه تقريبًا، حيث اجتزأت الوكالة بيان الوزارة وضلّلت القراء بنشرها خبرًا عاجلًا على تويتر عن مقتل أبو عاقلة مكتفية بالقول إن «إطلاق النار وقع خلال مداهمة للجيش الإسرائيلي في جنين»، علمًا بأن بيان الوزارة الذي استندت الوكالة إليه سبقَ نشرها للخبر، وتركت الخبر لساعة كاملة تقريبًا قبل أن تضيف إليه تصريح الوزارة أن الصحافيين أصيبوا بنيران إسرائيلية.
ربع قرن أمضتها أبو عاقلة في تغطية ما يفعله جيش الاحتلال بأهلها في فلسطين، وربمّا كان أبرز تغطياتها هي تغطيتها لما حدث في مخيم جنين، واليوم تقدّم شباب المخيّم ومقاوموه وحملوها في جنازة أولى خرجت من المخيم الذي نقلت منه عشرات القصص للعالم، ليهتف المشيعون «من جنين الأبية شيرين شمعة مضوية».